رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثاني والسبعون
ما إن أغلقت سيرين الخط حتى هبط صمتٌ ثقيل في المكان… لوهلة تصلّب وجه ظافر ثم انطلقت يده بعنفٍ خاطف قاذفًا الهاتف الأرضي نحو الجدار فارتطم الجهاز بقوةٍ مزلزلة ليتفتت كحجرٍ ينهار من قـ,ـمة جبل ومن ثم تناثرت شظاياه في أرجاء المكتب وصوت زئيره الغاضب يقطع نياط القلوب.
تراجع ماهر خطوةً إلى الوراء كظلٍ يخاف أن يلامس النور وعينيه تتجنبان التقاء النظر بسيده… لم ينبس بحرف، حتى الأنفاس بدت محرّمة… أما ظافر فكان صدره يعلو ويهبط كبحرٍ هائج يختنق بكتلةٍ من غضبٍ وحزنٍ لا اسم لها ومن ثم ضغط كلماته من بين أسنانه كمن يطحن حجراً:
“كم من الوقت… لدينا؟”
أجاب ماهر يحاول أن يواري ارتجاف صوته خلف قناعٍ من الثبات:
“نصف شهر يا سيدي.”
نصف شهر فقط—عبارة سقطت في الأرجاء كجرسٍ بارد تعلن عدًّا تنازليًا لا مهرب منه… كان ذلك هو المهلة التي تمنحها المحكمة لاستكمال أوراق الطلاق.
في داخله راح ماهر يعيد حساباته فهو لم يتخيل أن تكون سيرين قادرة على مثل هذه القسوة… كان يظن أن الأيام ستمحو خلافهما وأنها ستعود لتصبح السيدة نصران كما تتوقع الحكايات التي تُحاك حول العائلات العريقة. ألم يكن اسم نصران في حد ذاته تاجًا يليق بها؟!
بعد لحظات تراجع زخم العاصفة قليلًا في ملامح ظافر لكنه ظل كجمرٍ تحت الرماد… مسح على جبينه براحته ومن ثم سأل بنبرةٍ باردة تخفي حدةً مبطنة:
“من يتولى رفع الدعوى عنها؟”
قال ماهر متحسسًا كلماته:
“صديقتها… كوثر.”
أمال ظافر رأسه بينما عيناه تتوهجان بوميضٍ قاتم.
“أتذكر حين طلبتُ منك البحث عنها من قبل؟ كان صديقها القديم محاميًا أيضاً… أليس كذلك؟”
أدرك ماهر المغزى في الحال وارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ صغيرة تنمّ عن فهمٍ صامت.
“أجل… إنه محامٍ بارع يُدعى ليونارد… سأهتم بالأمر فورًا.”
أومأ ظافر إيماءةً مقتضبة وكأن خطته قد وُلدت الآن من رماد الانفجار بينما غادر ماهر المكتب على عجل تاركًا خلفه هواءً مشحونًا كأن الجدران نفسها تحفظ أنفاس الغضب الذي لم يُنفث عنه بعد.
في ساحات المحاكم كان اسم نصران يُشبه سيفًا مسلولًا؛ لا يواجهه خصمٌ إلا انكسر فخبرةُ ظافر في الدعاوى القضائية جعلته كمن يقرأ الخصوم كما تُقرأ خرائط الطقس:
نظرةٌ واحدة تكفي ليكتشف مواطن الضعف ويقلب الطاولة لكن هذه المرة بدت اللعبة مختلفة… خصمه لم يكن شركةً أو منافسًا غريبًا بل سيرين نفسها.. المرأة التي كان قلبه يعرفها أكثر مما يعرف نفسه.
قاد ظافر سيارته السوداء الفاخرة ذات الإصدارٌ المحدود تلمع كنيزكٍ هبط إلى الأرض متجهًا إلى الشقة التي تقيم فيها كوثر وما إن أوقفها في الجراج السفلي حتى انعكست الأضواء على هيكلها المصقول فالتفتت الأنظار نحوه كأن المدينة بأكملها قد حبست أنفاسها للحظة.
لم يلتفت ظافر إلى الحشد الذي بدا كأشباح عابرة في عالمٍ لا يخصه ومن ثم أخرج هاتفه وضغط الرقم الذي يعرفه عن ظهر قلب.
جاء صوته عبر الخط مزيج من أمرٍ مكتوم وجرس حنين:
“تعالي… نحتاج إلى حديث.”
مرّت عشر دقائق امتدت كسنين قبل أن يُفتح باب المصعد وتطلّ سيرين بسترتها الصوفية الثقيلة التي التفت حول جسدها وفي عينيها بريقٌ يختلط فيه التحدي بالخوف وحين وقعت نظراتها على ظافر الواقف بجوار سيارته تلاقت العيون فارتجف الصمت بينهما كوترٍ مشدود وبلمسةٍ خفية شغّلت سيرين جهاز التسجيل المثبّت على ثيابها ومن ثم قالت بنبرةٍ حاولت أن تُخفي ارتجافها:
“عم تريد التحدث؟”
فتح ظافر لها باب السيارة وصوته يقطر أمراً ناعماً:
“ادخلي أولاً.”
تراجعت خطوة والبرد يعضّ وجنتيها تقول بتوجس:
“دعنا نتحدث هنا.”
لكن صوته ارتفع فجأة زمجرةٌ مكتومة أفلتت:
“ادخلي الآن!”
ثم تنبّه إلى حدّته فخفض نبرته على الفور:
“ألستِ تشعرين بالبرد؟”
استسلمت لحظةً وصعدت إلى المقعد الأمامي بينما جلس ظافر خلف المقود وأدار المحرك وانطلقت السيارة بهدوء بلا كلمةٍ واحدة إذ أن الصمت بينهما كان أكثر جلبةً من أي جدال.
تأملت سيرين الطريق المبتلّ والثلج يتناثر كرقائق من زجاج ومن ثم قالت بصوتٍ متردد:
“هل يمكننا التوقف في مكانٍ ما ونتحدث؟”
لم يلتفت بل زاد ضغطه على دواسة الوقود فاندفعت السيارة أسرع والعجلات تعانق الأسفلت… صاخبةً كصرير معدني يمزق السكون فتصلّبت أصابعها على حافة المقعد والخوف يزحف في أوصالها.
رفعت سيرين صوتها وقلبها يخفق كطبلٍ في عاصفة:
“أوقف السيارة يا ظافر!”
لكن عينيه ظلّتا مثبتتين على الطريق والسرعة تزداد والثلج يلمع تحت الأضواء مثل سهامٍ منجرفة فصرخت مرةً أخرى والدموع تحرق عينيها:
“هل تحاول قتلنا؟ أوقف السيارة!”
لم يجبها.
فأخذت نبضاتها تتسارع والرؤية تذوب في خيوط من الضوء تعرف أنها النهاية فأطلقت أخيرًا صرخةً تشق الليل:
“ظافر! أوقف السيارة… أنا خائفة!”
كانت كلماتها كرجاءٍ يائس يتردد في هوة مغلقة فيما العالم خارج النافذة يتلاشى إلى خطوطٍ من لهبٍ أبيض.
اندفعت السيارة فجأة إلى الأمام مع صريرٍ حادّ حين ضـ,ـغط ظافر على المكابح بكل عنف فارتجّت الأرض تحت عجلاتها كوحشٍ يختنق.
بينما ارتطم قلب سيرين بجدار صـ,ـدرها، ولولا حزام الأمان لاصـ,ـطدم رأسها بالزجاج الأمامي.
لكن ظافر كان أسرع من الخطر؛ فقد ألقى بجسده أمامها كدرعٍ بشري، وذراعه تطوّقها بقوةٍ أربكت أنفاسها يحجب عنها ارتجاج السيارة كمن يريد أن يبتلع الخوف عنها هامساً بنبرةٍ تجمع الغضب والرجاء وعيناه كجمرتين في عتمة الليل:
“ها قد ارتجفتِ أخيرًا… أما قلتُ لكِ عودي إلى البيت بدل أن تُشعلي الحرائق؟”
رفعت وجهها نحوه وعيناها محمرّتان من البكاء تتلاطم فيهما نيران الغضب وخيوط الارتباك… تمدّ يدها لتصفعه، كأنها تريد أن تحطم الصمت بكل ما عجزت عنه الكلمات لكنه توقّع هجومها فكبل معصمها قبل أن يلمس صدغه بقبضة كقيدٍ من حديد.
“أنتَ… مجنون!” انفرجت شفاهها بالكلمة الحادة كالسهم فضغط على رسغها أكثر وصوته خرج كزمجرةٍ مكتومة:
“اتركي تلك الدعوى… ألغِيها حالًا.”
أحسّت سيرين بألمٍ يسري في عظامها لكن عنادها اشتعل كجدارٍ من نار فهزّت رأسها بتحدٍّ تقول:
“لن أفعل أبدًا… أنتَ تُثبت جنونك كنت تقود السيارة كأنك تستدعي الموت لتخيفني وهذا وحده يكفي ليشهد عليك العالم.”
كانت تعرف أن كل كلمة تقولها تُسجَّل خفيةً عبر الدبوس المثبّت على ثوبها؛ فاستفزّته عمدًا كمن يسلّط الضوء على جرحٍ.
لكن ظافر لم يُمهلها؛ ففجأةً أسكتها بفعلٍ خاطف إذ انحنى إليها يلتهم شفتيها بقبلةٌ عاصفة كالصاعقة تخطف الأنفاس وتغرقها في دوّامةٍ من الدهشة والرفض بينما صوته ينساب مبحوحًا كأنه اعترافٌ واتهام في آنٍ واحد:
“نعم… مجنون… وإلا فبأي عقلٍ أريدكِ بعد أن خنتِ وحملتِ من رجلٍ آخر وأنتِ زوجتي؟”
توقفت أنفاس الليل للحظة والهواء داخل السيارة امتلأ بارتعاشٍ ثقيل كأن الزمن قد تجمّد على حافة هاوية… ثم…