رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثالث والسبعون
كانت الكلمات تخرج من فم ظافر كسـ,ــ,ــ,ـكاكـ,ـين مغمـ,ـوسة في لهـ,ـب فيما شـ,ـفـ,ــ,ــ,ــ,ـتاه لا تكفّان عن التهـ,ـام شـ,ــ,ــ,ـفـ,ــ,ــ,ــ,ــ,ـتيها بقبلات متواصلة شغوفة كأنها محاولة يائسة لابتلاع المـ,ـسافة بينهما يهمس بصوتٍ يخـ,ـالطه رجاءٌ مبـ,ـحوح:
“سيرين… كيف أجعلكِ تتخلين عن قضية الطـ,ـلاق؟ قولي ما الذي تريدينه… أي شيء… أقسم أن أمنحكِ ما تشتـ,ـهين فقط أوقفي تلك الدعوى.”
كان الخوف ينهش صدره كحيوانٍ جائع يدرك أنّ المحكمة إن قضت بالفراق فلن يملك بعدها سلطةً ليحبـ,ـسها في فلكه لذا تدفّقت الكلمات من حلقه حارّةً مضـ,ـطربة:
“أخبريني ما الذي تريدينه… طاـ,ـلما أملكه فسأعطيكِ إيّاه.”
تملّصت من ذراعيه بصمتٍ متوتر غير أنّه حين رأى صمتها ازداد عناقًا يشدّها إلى صدره حتى كاد يسمع ارتجاف قلبه ومن ثم سألها بصوتٍ عميق يائس كأنه يخرج من بئرٍ مظلم:
“هل تواصل معكِ كارم؟”
همست وهي تحاول إبعاد يده:
“اتركني لا أريد شيئًا منك… لا شيء.”
لم يصدّق؛ فظلّ يحبـ,ـسها بين ذراعيه والسيارة متوقفة على جانب الطريق بينما الثلج ينسـ,ـاب من السماء كرسائل بيضاء لا تنتهي.
كانت السماء تتعتم رويدًا والبرد يلتفّ حولهما كمعطفٍ جليدي ومع ذلك ظلّ يضvغـ,ـطها إليه فكلما تحرّكت قبـ,ـض ذراعيه عليها كأنه يخشى أن تتبخر إن أرخى قيدها.
خفضت سيرين بصـ,ـرها ثم رفعت وجهها إليه بجرأةٍ مرتجفة، وقالت:
“ظافر… هل بدأتَ تحبّني؟”
ذاك السؤال… سألته من قبل ولم يملك يومها إجابة… هذه المرة أحسّت أن الصمت أصدق من أي كلمة.
تجمّد ظافر في مكانه وعينيه تلتقيان بعينيها الصافيتين كمرآتين تحيلان القلب إلى فضيحة فابتلع ريقه وعجز عن الحرف فاقتربت منه أكثر وصوتها ينساب رقيقًا كأثر ناي:
“لا حاجة إلى الإجابة الآن.”
ارتسمت على شفتيها ابتسامة فيها من المرارة ما يكفي لإغراق الليل وأضافت:
“لا أريد أن تحبّني بعد فوات الأوان… أريدك فقط أن تتركني… فلننهِ هذا… أرجوك.”
شعر ظافر بشوكٍ ينبت في حلقه يجرحه حتى في التنـ,ـفس فخـ,ـرج صوته مخنوقًا:
“لا سيرين.. تركك بمـ,ـوتي.”
ارتخت كتـ,ـفاها كمن أُنهِك من قتالٍ صامت واكتفت بالصمت وفي تلك اللحظة انكـ,ـشفت روحه على فراغها؛ اشتاق إليها كما يشتاق الغريق إلى نفسٍ واحد وتمنى لو يعود الزمن إلى اللحظة التي أحبتْه فيها… لحظةٍ كان فيها كل شيء ممكنًا.
طال عناقهما حتى غلبها النعاس فاستسلمت لرؤوس أصابعه التي تداعب خصلاتها بينما ظل ظافر ينظر إلى هدوئها وهي مستسلمة بين ذراعيه وشعر بأن النوم يسرقها منه فتمنى لو يرحل معها إلى تلك الأحلام لعلّ وجوده فيها يكفي ليبقيها قربه ولو للحظةٍ أخرى.
في هذه الأثناء رنّ هاتف ظافر كجرسٍ يخترق سديم أفكاره فانتـ,ـشله من شروده على وقعٍ مفاجئ فأخذ يحـ,ـدّق في الشاشة وإذا بها رسالةً من ماهر:
*«سيّد ظافر… عثرتُ على ليونارد ووعدني أن يكون محامينا في هذه الدعوى وهو واثقٌ من الفوز».*
تأمّل ظافر الكلمات للحظة ثم محاها وألقى الهاتف جانبًا ليعود ويمسك سيرين بذراعٍ هادئة كأن جسدها هو مرساه الأخير لكنها أفاقت على خيطٍ من الضجيج ففتحت عينيها ببطء لتجد نفسها ما زالت محاطةً بحدود سيارته التي تتنفس البرد تهمس بصوتٍ ناعس:
“هل يمكنني العودة الآن؟”
غطّاها بسترته كأنه يكسو قلبه هو وأدار المحرك لتبدأ العجلات رحلة عودةٍ صامتة بينما كانت سيرين تحدق فيه بدهشة إذ بدا تغيره المفاجئ وموافقته لتركها تعود إلى منزل كوثر المستأجر كان كموجة بحرٍ تنقلب من صخبٍ إلى سكون.
أوصلها ظافر إلى بيت كوثر ووقف يراقب ظلّها يتلاشى خلف الباب حتى ابتلعته العتمة ولم يتحرّك إلا بعد أن غابت ثم أخرج هاتفه وأجرى اتصالاً بماهر وجاء صوته يقطر تهديدًا:
“أبلِغ ليونارد أن خسارة هذه القضية تعني نهايته… ولن تطأ قدماه عالم القانون مجددًا.”
في الداخل كانت كوثر تُقلّب حروف الشك عينيها ومن ثم سألت سيرين:
“هل حصلتِ على أي دليل يمكننا استخدامه؟”
أخبرتها سيرين بما جرى فارتسمت على شفتي كوثر ابتسامة خفيفة:
“يبدو أن مشاعره ما زالت تتأرجح… ربما نستطيع استغلال ذلك أيضاً.”
كانت الفتاتان تواصلان رسم خطط الطلاق غافلتين عن أن الماضي يتهيأ للانقضاض فما كانت كوثر تدري أن حبها الأول يشق طريقه عائدًا إلى المدينة كطيفٍ لا يموت.
وفي عتمة تلك الليلة اتصلت سيرين بطفليها وصوتها يذوب حنينًا:
“مرحبًا يا أحبابي.”
جاءها صوت زكريا يحمل قلقًا واضحًا:
“أمي… أين أنتِ؟”
ترددت لحظةً قبل أن تخـ,ـتلق كذبتها البيـ,ـضاء:
“إنها رحلة عمل قصيرة سأراكم بعد شهرٍ فقط.”
تسللت نبرة حزنٍ إلى صوت نوح:
“أمي عودي سريعًا… أنا وزاك وجدّتي نشعر بوحدةٍ قاسية.”
أطبقت جفونها على دمعةٍ حارّة ثم همست:
“أعدكما بذلك… بالتأكيد.”
دامت المكالمة طويلًا كأنهما يحاولان تخزين أنفاسها عبر الأسلاك وما إن انتهت حتى التفت زكريا إلى أخيه قائلاً بنبرةٍ تحمل عزيمة غامضة:
“أمي رجعت إلى مدينته.”
فبخطواتٍ باردةٍ من الحرفنة قد تمكّن زكريا من تتبّع عنوان الـIP الخاص بسيرين.
لوهلة ارتبك نوح وسأل بانفعال:
“لماذا عادت إلى هناك؟ هل بسبب ذلك الأب اللعين؟”
لم يُجبه زكريا عن سؤاله بل تلألأت في عينيه ومضة قرارٍ صامت يقول بشفاه مزمـ,ـومة:
“فلنُناوشه الليلة.”