رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والرابع والسبعون
كانت الليلة تُلقي بعباءتها الثقيلة على المدينة، حين جلس زكريا أمام شاشةٍ تتوهّج بوميضٍ أزرق بارد أصاـ,ـبعه ترقـ,ـص على لوحة المفاتيح بإصرارٍ يضاهي ارتعاشة قلبه فخطته هذه المرة جريئة:
التسلّل إلى حاسوب ظافر نفسه.
لكن القدر كان أسبق من أنفاسه ففي الطرف الآخر كان ظافر يقبع في مكتبه كصـ,ـقرٍ يسهر فوق عرينه يحدّق في سطورٍ من بياناتٍ معقّدة وفجأةً ارتعش المؤشر على شاشته كطيفٍ هارب يتحرك من تلقاء ذاته… انكمشت عيناه في ومضة حادة وبدأ ينساب على لوحة المفاتيح بسرعةٍ كمن يلحق برقًا أدركه حدسه فورًا:
**اختراق**.
في غرفةٍ بعيدة كان جبين زكريا يتصبّب عرقًا تتساقط قطراته فوق الطاولة كحباتٍ من فضة مـ,ـذعـ,ـورة وبجـ,ـواره تمدّد نوح على بطنه يراقب الأخ الأكبر بدهشة.
“ما بك يا زاك؟” همس نوح بنبرةٍ قلقة.
ابتلع زكريا ريقه وعيناه معلّقتان بالشاشة التي بدأت تغيم كسحابةٍ سوداء:
“يا إلهي… لقد انكشف أمري.”
تسارعت النبضات ثم انطفأت الشاشة فجأة كشمعةٍ داهمتها ريح فهو لم يكن يهاجم بعد الآن… بل صار مطاردًا.
على الجانب الآخر من شبكة الخيوط الخفية ارتسمت ابتسامةٌ باردة على شفتي ظافر وهو يهمس:
“أنت بالتأكيد تتمنى الموت.”
بخفة صيّاد التقط ظافر عنوان الـIP في طرفة عين ثم أرسله إلى ماهر مرفقًا بأمرٍ صارم:
“تقصَّ أثره فورًا… لا تدع خيطًا يفلت.”
ارتجف زكريا ولفح قلبه شعورٌ بالعجز فتمتم ساخطًا:
“اللعنة!”
أما نوح الذي لا يعرف من دهاليز التقنية إلا أضواء الألعاب رفع رأسه بقلق:
“لم أتوقع أن يكون أبونا اللعين بهذه البراعة.”
زفر زكريا بحدة وأغلق الجهاز دفعةً واحدة:
“يجب أن نمحو كل دليل قبل أن يصل إلينا.”
تسمرت عينا نوح وذكريات غضـ,ـب ظـ,ـافر تلسع ذهـ,ـنه، فسأل مرتعشًا:
“ألا نهرب؟”
تنهّد زكريا وهو يتفحّص الظلام خارج النافذة:
“لا داعي… ليس لديه موقعنا المحدّد بعد.”
عاد نوح إلى فراشه كطفلٍ يبتلع الخوف يندسّ تحت بطانيته وكأنها درعٌ ضد العاصفة وتبعه زكريا… في هدوء الغرفة انسابت من شفتي نوح دندنةٌ خافتة لحنٌ يائس يحاول طرد الصمت والألم الذي يداهمه كل ليلة فيما بقى الليل يواصل حياكة مكيدته حولهما.
بدا الزمنُ أمام سيرين يتثاءب في بطءٍ سرمديّ… لحظاتٌ متشابكة كأنها دهرٌ ممتدّ قبل أن تُفتَح أبواب الدعوى القضائية… كانت السماء شاحبة تتناثر فوقها ندَف الثلج حين سارت بخطًى ثابتة إلى قبر والدها ومن ثم انحنت وأزاحت بيديها الدافئتين ما تراكم من بياضٍ فوق شاهد القبر ثم جلست أمام صورته التي يعلوها صقيع الذكرى تهمس بنبرةٍ متهدّجة:
“لم أرك منذ زمنٍ يا أبي.”
أغمضت عينيها وأخذت شهيقًا عميقًا ليتسرّب إلى رئتيها برد الجبل البعيد المكسو بالثلج في حين أن ارتسمت ملامحه في مخيلتها كما كان يقول لها دومًا:
*أخبِريني بأي شيء… سأصغي مهما كان الألم*.
واصلت وكأنها تحادث صدى صوته:
“اليوم جئت لأخبرك أنني… مستعدة لرفع دعوى الطلاق… لم أتخيل أن أصل إلى هذه العتبة لكن ما حدث بعد رحيلك يفوق كل تصوّر… أشياء كثيرة يا أبي كأنها دهور من الغياب.”
كانت كلماتها تتساقط على الصمت ولم تدرك أن هناك عينين تترصدانها من بعيد خلف زجاجٍ داكن لسيارةٍ سوداء مركونة على حافة الطريق.
في المقعد الخلفي جلس رجل نحيل يوشك لون بشرته على الشفافية يسعل بين حينٍ وآخر وعلى يده آثار إبرٍ حديثة كوشمٍ من ألمٍ قديم.
تمتم السائق وهو يراقب سيده عبر المرآة:
“علينا أن نغادر سيد جاسر.”
أجاب الرجل بصوتٍ خافتٍ يقطر وهنًا:
“حسنًا…” ثم أرخى جفنيه كأن الليل انسدل في عينيه بينما ظلت سيرين عند القبر وقتًا آخر حتى استنفد الحزن لغته ثم غادرت المقبرة بملامحٍ ساكنة كثلجٍ لا يذوب.
لم تكد تبتعد حتى اهتز هاتفها يعلن اتصالاً من رامي الذي قد عاد إلى المدينة بالتزامن مع عودتها القسرية مع ظافر قبل أيام قليلة.
جاء صوته هادئًا عبر الأثير:
“آنسة تهامي هبطت طائرتي للتو… السيد كارم أوصاني أن أتابعك مجدداً… أين أنت الآن؟”
أرسلت له موقعها بكبسةٍ مقتضبة وما هي إلا دقائق حتى توقفت سيارته قربها… وحين اقترب تنبّهت سيرين إلى ظلالٍ تتحرك في الخلف لم تحتج أن تلتفت لتعرف: رجالا ظافر يراقبونها.
رفع رامي عينيه بقلقٍ واضح فارتسم على وجهه شيء من الذهول لمحته سيرين عن بعد فابتسمت ببرودٍ مرّ وقالت له عبر الهاتف بصوتٍ واثق يخترق البرد:
“هل تخاف؟ إن كنت تخشى ظافر فلستَ مضطرًا للعمل معي بعد الآن… سأبلغ كارم بانسحابك.”
ظل رامي صامتًا يكتفي بنظرةٍ غامضة ثم دون كلمةٍ واحدة ضغط على دواسة البنزين فاندفعت سيارته إلى الأمام كأنها إعلانٌ عن قراره الوحيد حتى كاد أن يصطدم بالحارس المختبئ خلف المبنى… وكان ذلك رده بلا حروفٍ ولا وعود… بل جواب قاطع.