رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والخامس والسبعون
توقّف رامي أمام سيرين بانعطـ,ـافة حادّة تشبـ,ـه مشـ,ـاهد المطاردة في أفلام الأكشن فارتجّ الهواء حول السيارة كأنّه يصفّـ,ـق مهارته ومن ثم فتح الباب لها دون كلمة فأطبقت هي على معطفها ودخلت تقول بصوتٍ عميق يشي بقوّةٍ لا تخلو من الفخر:
> “رامي سأكون في رعايتك من الآن فـ,ـصاعدًا.”
لم تتردّد وكأنها تركب قدَرًا تعرف أنّه ينتظـ,ـرها.
في تلك الأثناء كان ظافر يتابع الخيط البعيد من وراء ستار المدينة فمنذ أن لمح رامي قبل أيام دفع برجاله للبحث في ماضيه فاكتشفوا أنّه كان الحارس الشخصي لكارم ثم تحوّل ليكون ظلًّا يحـ,ـرس سيرين… الفكرة وحدها أشـ,ـعـ,ـلت في قلبه شرارةً من ريبة وغيرة لم يرد أن يعترف بها.
فسأل تابعه الذي أخبره بشأن عودة رامي يقول بصوتٍ يقطر برودةً حاـ,ـدّة:
> “هل هما معًا الآن؟”
قالها وارتسمت في ذهنه مـ,ـلامح رامي؛ وجهٌ وسيم يحمل نظرةً حازمة كأنها سيفٌ يلمع في عتمة… لم يكن رامي يبدو مجرد حارس بل رجلًا يحمل حضورًا لا يُقاوَم.
أجابه أحد رجاله ونبرة الحذر تتلوّى في صوته:
> “السيدة سيرين تقيم في منزل كوثر وهو يبيت في سيارته قربها.”
تنفّس ظافر ببطء وانفرج حاجباه كمن يلتقط خيـ,ـطًا من الطمأنينة بعد عـ,ـاصفة:
> “حسنًا… واصلوا مراقبتهما.”
ردّ الرجل على الفور وجاء صوته حازم كصدى إجابة لأمرٍ عسكري:
> “أمرك سيدي.”
وخلف صمته ظلّ ظافر يشعر بأنّ العيون التي تلاحق سيرين ليست عيون رجاله فحسب… يطارده هاجسٌ لا يعرف إن كان خوفًا من فقدها أم شيئًا أشدّ عمقًا.
انطوت سيرين على سرّها كما ينطوي البحر على أعماقه المظلمة وأخفت قرارها بمقاضاته للطلاق كمن يخفي جمرةً تحت رمادٍ بارد؛ لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها ومن تسرّب إليه الخبر آثر الصمت فالقضية تمسّ ظافر نفسه ووراءه إمبراطورية آل نصران التي يُخشى بأسها.
لكنّ الصمت لا يبقى أبدًا إلى الأبد وحين دنت ساعة رفع الدعوى اشتعلت الشائعات في الفضاء الإلكتروني كحريقٍ في هشيم يتصدّرها عنوانٌ يلمع بفضيحة:
> «زوجة وريث عائلة نصران تعود من الموت لتقاضيه طلاقًا… وأصولٌ بمئات المليارات على المحك».
تسلّل الخبر إلى كل شاشة يروي أن المرأة المعنيّة من آل تهامي وأن العائلة الثرية هي نصران العريقة كما أُرفقت صورةٌ لظهر سيرين كأنها علامةٌ على فضيحة لا تُحجب كما تحدّث المقال عن إهمال ظافر لها وعن قسوة شادية وعن سنواتٍ اضطرّت فيها إلى ادّعاء موتها لتفرّ بجرحها إلى بلادٍ بعيدة قبل أن تعود الآن لتطالب بما هو حقّ لها.
وفي لحظةٍ واحدة هوت أسهم مجموعة نصران في البورصة كطيرٍ جريح واشتعلت المنتديات والتعليقات:
> «كنت أظن أن ظافر يواعد دينا… لم أتخيّل أنه متزوّج!»
> «ألم تسمعوا؟ زوجته تعاني من ضعف السمع…»
> «لا أصدق أن يكون خسيسًا إلى هذا الحدّ!»
> «وهي؟ امرأة تطالب بالمليارات وهي شبه عاجزة… أيّ جشعٍ هذا؟»
اختلطت الأصوات بين سخريةٍ وشفقة كأنّ الإنترنت صار ساحة محاكمة بلا قاضٍ.
وكوثر حين وقعت عيناها على المقال شهقت وكأنّها تلقت صفعة تتمتم بذهول:
> «أيّ يدٍ خفية تجرؤ على كشف هذا؟ ألا يخشون بطش ظافر؟!»
أطبقت هاتفها بسرعة تخشى أن يصل ذلك السمّ إلى سيرين واقتربت منها بهمسةٍ حازمة تحمل رجفة قلق:
> «سيرين عليكِ أن تبقي ساكنةً الآن… أهمّ ما نحتاجه هو عبور هذه المعركة بسلام… الطلاق أوّلًا».
أومأت سيرين بصمتٍ يشبه الليل تدرك أن نصيحتها صائبة لكن قلبها كان يغلي؛ فالعالم كله صار فجأةً مرآةً تعكس ندوبها التي كانت تظنها مخفيّة فقد اتطلعت على الخبر بدورها.
وفي مكانٍ آخر كانت شادية تقلب هاتفها حتى وقعت عيناها على الخبر المتصدر…. في تلك اللحظة فقط أدركت شادية الحقيقة المروّعة التي كانت تسري تحت قدميها منذ زمن… سيرين و ظافر يقفان على حافة قطيعةٍ لا رجعة فيها.
في تلك الليلة التي أثقلت سماءها غيومٌ متربّصة خـ,ـرجت شادية كمن يسعى إلى إخماد حريقٍ يتّقد في قلب الإمبراطورية التي تحرسها لتتبع أثر سيرين حتى وجدتها جالسة في ركنٍ هادئٍ من مطعمٍ يغشاه ضوءٌ خافت كأن المكان يتهيأ لاعترافٍ لا مفرّ منه.
جلست أمامها بابتسامةٍ تنضح بودٍّ مستحدث وقالت بنبرةٍ حاولت أن تُسكب فيها العاطفة:
«سيرين… رأيت الأخبار… أحقًّا تنوين تطليق ظافر؟»
أجابتها سيرين بهدوءٍ يشبه صمت الجبال تحت الثلج:
«نعم».
ارتجفت ابتسامة شادية ثم همست بنبرةٍ يغمرها قلق مكتوم:
«كان بوسعكِ أن تنهي الأمر سرًّا… لماذا تركتِ العالم كله ينهش هذه الحكاية؟ ألا تدركين ما تفعله هذه الضجّة بظافر؟ إنه ليس رجلًا عابرًا إنه العمود الذي تسند عليه مجموعة نصران… لا يليق به هذا العار».
رفعت سيرين عينيها وفي نظراتها حدّةُ من عرف مرارًا معنى الخذلان:
«لو كان ظافر مستعدًا لتسويةٍ خفيّة لما لجأتُ إلى القضاء أصلًا».
فهمت شادية ما بين السطور وكأنّ سيفًا باردًا اخترق صمتها فمدت يدها فجأة وأمسكت بكفّ سيرين بحرارةٍ متوسّلة:
«أرجوكِ يا سيرين… أسقطي الدعوى… أقسم لكِ إن فعلتِ لن أتدخّل في حياتك ثانية… وسأقبلكِ كما أنتِ».
تجمّدت سيرين لحظة يتناوب قلبها الدهشة والحذر ثم سحبت يدها ببطءٍ حاـ,ـسم:
«آسفة… لكنني لن أتراجع».
قالتها ووقفت لتغادر فبدت شادية كمن تتشبّث بخيطٍ أخير أطبقت قبضتيها وتلاشى ما تبقى من قناع المودة وهي تقول برجاءٍ ممزوج بتهديدٍ خفي:
«اسمعي يا سيرين… خذي الطلاق إن شئتِ، لكن انسَي مجموعة نصران… تلك الشركة بناها ظافر من رماد العدم ولن تُقسم بينكما أبدًا».
حينها فقط أضاء في ذهن سيرين سبب هذا التحوّل المفاجئ في لهجة شادية وقد أدركت أن المرأة لم تأتِ مدفوعةً بشفقةٍ أمومية بل بهلعٍ على ثروةٍ تقدّر بمئات المليارات… تلك التي دوّى ذكرها في المقال الذي ألهب المدينة وأيقظ أطماعها.