رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسادس والسبعون 276 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسادس والسبعون


كأن صفعةً غير مرئية دوّت في روحها؛ إذ فجأةً شعرت سيرين أنّ حياتها كلّها لم تكن سوى مسرحية هزلية تُسدل سـ,ـتائرها على سخرية القدر… ث. اني سنوات قضتها زوجةً لظافر منحت فيها آل نصران كلّ ما ملكت ولم تطلب يومًا مالًا أو جاهًا ومع ذلك ها هم اليوم يرتابون في نواياها كأنّ قلبها يضمر طمعًا في ثرواتهم فتسلّلت إلى وجهها ابتسامةٌ باردة تحمل سـ,ـخريةً مرة والتفتت إلى شادية تقول بتهكّمٍ يشبه حـ,ـدَّ السـ,ـكـ,ــ,ـين:

«هذا الأمر يقرّره القاضي، لا أنا».

لم تكن سيرين تريد درهمًا من تلك الثروة لكنها في تلك اللحظة لم تشأ أن تهب شادية نشوة انتصارٍ زائف وكما توقعت فقد ارتعشت نظرات شادية خـ,ـوفًا وهي تتابع سيرين تغادر المكان بخطواتٍ واثقة وما إن اختفت حتى التقطت شادية هاتفها بارتباكٍ وقلق واتصلت بظافر.

ولم لا؟! فثماني سنوات من زواجٍ متشابكٍ كخيوط الحديد نمت خلالها مجموعة نصران من شركة محلية متواضعة إلى إمبراطورية اقتصادية تتسيّد العالم ومجرد التفكير في أن تُقسم تلك الإمبراطورية يكفي ليقلب القلوب فلو حكم القاضي لسيرين بنصفها فذلك يعني مئات المليارات وربما أكثر.

ارتعش صوت شادية وهي تقول على عجل بمجرد أن سمعت صوت ظافر عبر الخط:

«ظافر، أين أنت الآن؟»

جاء صوته واثقًا كأنه صادر من غرفة تحكمٍ لا تهتز فيها الأعمدة:

«في الشركة».

كان ظافر قد اطّلع بدوره على الأخبار وأصدر أوامره فعلًا بالبحث عن أولئك الذين سرّبوا الخبر فبادرت شادية تقول متشبثةً بخيوط غضبٍ يختلط بالفزع:

«التقيتُ بسيرين قبل قليل… ما جاء في المقال حقيقي… إنها تريد أصولنا… طموحها لا يُصدَّق».

توقّف ظافر لحظة لكن صمته لم يدم طويلًا إذ ألقى كلماته ببرودٍ يحجب ما يضطرم داخله:

«فهمت… لا تقلقي أمي… سأتدبر الأمر».

أنهى المكالمة بلا مزيد من الشرح وفي أعماقه قرارٌ صارمٌ يلمع كالنصل:

لن يوافق على الطلاق.

أغلق ظافر الهاتف ببطء كأنّ في أصابعه جليدًا يلتصق بالحديد ثم رفع بصره إلى الرجل الجالس قُباله فكان الآخر متّشـ,ـحًا ببرودةٍ أنيقة… بدلةٌ داكنة مرسومة على جسده كظلّ الليل وابتسامةٌ عابرة لا تقول شيئًا.

قال ظافر وجاء صوته يقطر حذرًا:

«سيّد ليـ,ـوناردو… أنت لست من يقف خلف تلك المقـ,ـالة، أليس كذلك؟»

أجاب ليوناردو ببرودٍ متعالٍ كأنّ السؤال لا يستحق التفاتًا:

«لا».

حوّل ظافر نظره إلى الأفق نافثًا أنفاسه بتأنٍّ ثم رمى عبارته وكأنها سكينٌ يُلقيها عرضًا:

«لقد مرّ على وجودك هنا أسبوعان… ألا تفكّر في زيارة كوثر حبيبتك القديمة؟»

كان في نبرة ظافر شيء من الامتحان… شيء يلمح إلى لعبةٍ أكبر فهو ما زال يرفض أن يقاضي سيرين وما عاد يحتمل فراغ الانتظار ومرارة الشوق لذا فكر أن يستغل حضور ليوناردو لعلّ الماضي الذي يجمعه بكوثر يوقظ في قلبها ما قد يثنيها عن دفع سيرين إلى المحكمة.

لكن ليوناردو بعينين تشعّان وعيًا لا يخدعه ابتسم ابتسامةً مقتضبة وقال بلا مواربة:

«كوثر امرأة تعرف وجهتها فإذا عزمت أمرًا لا قوّة على الأرض تغيّر قرارها».

كانت الكلمات كحجرٍ أُلقي في بركة السكون يشي بما بينهما من معرفةٍ قديمة عندها فقط أدرك ظافر أنّ الرهان على ليوناردو محض سراب وفي صمتٍ داخليّ بارد وجد في نفسه قناعةً حادّة:

رجلٌ بهذا الذكاء لا يؤتمن وانفصال كوثر عنه لم يكن سوى حكمٍ منطقيّ صادر عن بديهة امرأة تعرف كيف تحمي قلبها.

بعد انصراف ليونارد ظلّ صدى خطواته يتلاشى في أرجاء المكتب كأنّه أثر حلمٍ يبتعد.

سكون عم للحظات قبل أن يخرج ظافر هاتفه من جيب سترته وأخذ يحدّق في اسم سيرين الذي يسطع على الشاشة كجرحٍ قديمٍ يرفض الإنطفاء ورغبةٌ عارمة اجتاحت صدره ليتّصل بها لكن الخوف من أن يُقابل صوته بالرفض كبّل أصابعه… تردّد لحظاتٍ طويلة كمن يقف على حافة هاوية لا يدرى إن كانت ستحتضنه أم تبتلعه ثم حسم أمره وضغط زرّ الاتصال.

لم تكن مكالمة فيديو ومع ذلك انتصب أمام المرآة يعدّل ياقة قميصه كما لو أنّها قد تراه عبر صوته… بينما قلبه يدقّ كطبولٍ في عاصفة وهو يُصغي إلى رنين الهاتف.

وأخيرًا جاءه الصوت الذي يعرفه حدّ الوجع:

«ماذا تريد؟»

شعر ظافر بفرحٍ خفيّ يندلق في عروقه لمجرّد سماع نبرتها وقال على عجلٍ مرتجل:

«هل… هل رأيتِ ما يُقال على الإنترنت؟»

أجابته ببرودٍ يقطر وضوحًا:

«رأيته… ولم أكن أنا من سـ,ـرّبه.»

زفر نفَسًا طويلاً وهو يتقدّم نحو النvافذة… عينيه معلّقتين بالبvياض الهاطل:

«أعلم.»

صمتٌ ثقيل انسدل بينهما قبل أن تسأله بنبرة متحفّزة:

«إذًا، ماذا تريد؟»

كانت تتوقع تحقيقا… مؤاخذة… شيئًا يُشبه استجواب أمّه شادية لكنه لم يأتِ على ذكرها قط بل تمتم بصوتٍ بدا كحنين العشاق:

«الثلج يتساقط الآن بكثافة.»

في الجهة الأخرى كانت سيرين تقف في بيت كوثر فالتفتت نحو النافذة لترَ الثلج يتهادى في صمتٍ مهيب كأن السماء تكتب رسائلها البيضاء للأرض.

«أجل،» همست سيرين.

تجرّأ ظافر أخيرًا وسأل كمن يمدّ يده عبر المسافة:

«هل… نلتقي؟»

أجابت بلا تردّد:

«سأفكّر… إن لم يكن لديك ما تقوله فسأغلق الخط.»

ثم قطعت الاتصال تاركةً خلفها فراغًا يئنّ في أذنه وإلى جوارها كانت كوثر تُقلّب أوراقًا على الطاولة، فالتفتت إليها بدهشة متسائلة:

«كان ظافر، أليس كذلك؟»

أجابتها سيرين بقلب يئن وجعاً:

«نعم.»

انعقد حاجبا كوثر يعلوهما استغرابٌ ممزوج بريبة مستفسرة:

«غدًا موعد المحكمة… ما الذي يدفعه للاتصال الآن؟»

هزّت سيرين رأسها بخفة تتأمل معنى الصمت أكثر من الكلام:

«لا أدري… كل ما قاله إن الثلج يتساقط.»

ضحكت كوثر بمرارة صغيرة:

«يا له من رجلٍ غريب الأطوار.»

عادت كوثر بعدها لترتيب الملفات بعناية تدرك أن قضية الطلاق ستثير ضجيجًا واسعًا فتضاعف حذرها لكن ما لم تكن تعرفه بعد أن قاعة المحكمة لن تجمع سيرين بظافر فحسب بل ستفتح بابًا آخر للقدر:

لقاءٌ غير متوقّع بحبّها الأول بل مواجهةٌ مؤجلة كأنها عرضٌ كبير يستعدّ ستاره للارتفاع.


تعليقات