رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع والسبعون 277 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع والسبعون

كانت المدينة كلّها تضجّ بالخبر كأنّ الريح حملت حكاية الطـ,ـلاق على أجنحتها لتطرق كل باب فقبل أن يخـ,ـطو ظـ,ـافر وسيرين نحو قاعة المحكمة تردد اسمهما على كل لسان وصار رهان الغرباء وقودًا لفضولٍ لا يشبع.

وفي ركنٍ من نادٍ فاخرٍ يتلألأ تحت أضواء الليل التفّ طارق وكوينتين وعددٌ من الأثرياء حول طاولة من الرخام تتناثر عليها كؤوس الشراب وأوراق المراهنات فارتفع صوت رجلٍ متخمٍ بالمال والملل قال وهو يلوّح بسيجارٍ غليظ:

«سيفوز ظافر بلا أدنى شك.»

كانت عيونهم تلمع بإعجابٍ معلن فظافر بالنسبة لهم أسطورة تُروى… رجلٌ يعرف كيف يربح حتى وهو يبتسم.

ابتسم كوينتين ابتسامةً مراوغة وقال بثقةٍ لافتة:

«أنا أراهن على سيرين.»

ارتفعت حواجب الحاضرين في دهشةٍ ممزوجة بالاستهزاء، فقهقه أحدهم قائلاً:

«أنت دائمًا تراهن على المستحيل يا كوينتين.»

ثم التفتوا جميعًا نحو طارق الذي جلس في طرف الطاولة كظلٍّ متحفّز يراقب شرود أفكارهم في كأسـ,ـه فسأله أحدهم بنبرةٍ فضولية:

«وأنت يا طارق، على من تراهـ,ـن؟»

ضحك آخر بخبث وهو يجيب عن طارق:

«سؤالٌ بديهي! إنه بالتأكيد مع ظافر… أليس هو أكثر من يكره تلك الصمّاء؟»

لكن قبل أن تكتمل ضحكته التقت عيناه بعيون طارق الباردة بنظرة حادة كحدّ السكين قال طارق بهدوء يقطر تحذيرًا:

«لا تُسمِّها بهذا الاسم من الآن فصاعدًا.»

ساد الصمت الطاولة فجأة كأن الهواء قد توقّف عن التنفس فحتى لو لم يكن ظافر حاضرًا ليشهد لكن طارق لم يجد بعد اليوم داعيًا لإخفاء موقفه.

ارتشف كوينتين رشفةً بطيئة من كأسه محاولًا تبديد الجليد الذي بدأ يتكوّن في الجو، ثم قال بنبرةٍ متزنة:

«هو مُحق… مهما حدث تظلّ سيرين زوجة ظافر حتى هذه اللحظة.»

هزّ الجميع رؤوسهم في صمتٍ متردد وكلمات كوينتين قد وضعت حدًّا للرهان أو لعلّها كشفت أن ما سيجري في قاعة المحكمة ليس مجرّد لعبة أرقام بل مواجهة قلوبٍ تتأهّب للانفجار.

حين انسكبت أول دفقةٍ من الشراب في الكؤوس زحف صمتٌ خفيفٌ فوق الطاولة كأن الليل يحبس أنفاسه مترقبًا في هذه الأثناء انحنى كوينتين قليلًا نحو طارق وصوته يتخلله عبق السخرية المموّهة:

«ما بك يا طارق؟ أأنت ما زلتَ مثقلاً بذاك الخطأ؟»

كان يقصد تلك الحكاية التي طالما طافت في الأونة الأخيرة حين ظنّ طارق أنّ زكريا ابنه. ابتسم طارق ابتسامةً عريضةً بدت أقرب إلى قناعٍ فولاذي ثم رفع كأسه كمن يعلن تحديًا:

«ولِمَ أغضب؟ الأمر كان مجرد سوء فهم… لكن… يثير دهشتي أن تطلب سيرين الطلاق فجأة.»

ارتجف شيءٌ عميق في قلبه وهو ينطق اسمها كان يحمل ذنبًا ينوء به صدره منذ سنوات فهو لا يعرف كيف يسدّد دينه إليها بل وإعجاب لم يستطع إخفاؤه فمن أجلها أستعد للإمساك بمشرط الجراحة يحاول بعناد أن يتعلّم أسرار علاج ضعف سمعها لكن الطبّ ظلّ يراوغه تارة يمدّ له الأمل وتارة أخرى يسحبه كخيط دخان… والآن وهي على وشك الانفصال عن ظافر راحت هواجس جديدة تعصف بعقله:

من سيحرسها إن غادرته؟ كيف ستمضي وحدها في عالمٍ يلتهم من يتعثر؟

أطرق كوينتين برهةً ثم رفع عينيه وقد تلألأ فيهما بريقٌ مريب:

«ربما… استفاقت أخيرًا… أتعلم؟ من العسير أن تهيم بقلبٍ لا يبادلك سوى الصمت.»

كانت كلماته تلمّح لشيءٍ أعمق مما يقال، لكن طارق آثر أن يبدّد الفكرة فرفع كأسه من جديد تاركًا الشراب يلـ,ـسع حلقه لعلّه يسكّت الصراع المتأجّج في صدره ما بين إحساسه بها وخوفه عليها إن بقت بمفردها تواجه عالماً لا يرحم.


وفي أروقة محكمة المدينة حيث تتدلى الثريات العتيقة مثل نجومٍ معلّقة وقفت سيرين بثباتٍ آسر تحفّها كوثر بملابسها المهنية القاتمة كأنها درع حماية لكن حين وقع بصر كوثر على رجلٍ يقف إلى جوار ظافر انكمش قلبها وانحسر الدم عن وجهها… هناك في الصفّ المقابل كان ليونارد—ذلك الماضي الذي حسبته انطوى—يطلّ عليها بنظرة باردة كحجر النهر للحظةٍ أدركت كوثر كم يمكن لظافر أن يكون قاسيًا فهو لم يكتفي بأن يحاصر سيرين وحدها بل يوجّه سهامه إلى من يحيطون بها أيضًا.

كانت كوثر تتوقع أن يفوض ظافر محامٍ من شركته العملاقة ولم يخطر لها يومًا أنه سيستدعي حبيبها السابق ليقف خصمًا أمامها غير أنّ ليونارد بدا متماسكًا، ساكن الملامح كأن الزمن نحت فيه صلابة الجرانيت.

أما سيرين فكانت قد سمعت عن ليوناردو ذلك الشاب الذي كان يومًا أمير قلوب مدرسة المدينة، وسيمًا حتى الافتتان وها هو يقف اليوم إلى جوار ظافر في تنافسٍ صامت ملامحه تتوهّج ببرودٍ يضاهي وسامة ظافر نفسه كأن الماضي والحاضر قد اجتمعا في قاعةٍ واحدة ليرسما ملامح مواجهةٍ لا هوادة فيها.

حين نادت سيرين خرج الاسم من شفتيها كنسمةٍ دافئة تخترق برد القاعة:

«كوثر…»

استدارت كوثر ببطء وعيناها تغمرهما حمرةٌ متعبة كأن الليل سهر فيهما طويلًا… كان جبينها يلمع بعرقٍ رقيق ووجهها شـ,ـاحبًا كقمرٍ يستنزفه الفجر.

أفاقت من شرودها فجأة ورسمت على شفتيها ابتسامةً واهنة… ابتسامةً تعرف سيرين أنها مجرد ستارٍ هشّ.

«أجل…» همست بها كوثر والحروف نفسها يتعثر في الطريق.

مدّت سيرين يدها على الفور تقبضت على كفها المرتجفة بثباتٍ حنون… تقول بدعم هي أهل له:

«لا تقلقي… أنا هنا.»

كانت سيرين تعرف تمامًا ما يدور خلف ذلك الشـ,ـحوب… تعرف كيف يلتهم الخوف قلب المرأة عندما تُضطر لمواجهة الرجل الذي أحبّته في قاعة محكمة وكيف يصبح كلّ ارتجافٍ فضيحةً للمشاعر المكبوتة فهي في نفس مكانها يرتعش قلبها بالطريقة ذاتها فالمرأة حين تعشق بعمق تصبح معادلةً عجيبة:

جرأةٌ تشبه اندفاع العاصفة وخجلٌ رقيق كارتعاشة أوراق الربيع… تقتحم المسـ,ـتحيل لأجل من تحب ثم تـ,ـذوب خجلاً حين تلتقي عيناه.

ارتجفت أصابع كوثر قليلًا لكنها تمـ,ـسّكت بالكلمات كمن يستند إلى حافةٍ ضيقة:

«أجل… أنا بخير… سنفوز لا شك في ذلك.»

ابتسمت سيرين وربتت على كتفها بلمسة فيها من الطمأنينة ما يعادل قصائد كاملة.


بعد لحظات أُغلق باب القاعة الثقيلة وأُعلن بدء الجلسة… كانت محكمةٌ محصّنة كقلعةٍ من الصمت… قضيةٌ خاصة حُجِبَت عن أعين الصحافة لكن خلف الأبواب في الممرات الباردة احتشد جمعٌ غفير يترقبون كأنهم أمام عرضٍ أسطوري… ينتظرون لحظة انكشاف الحكاية التي تسيل على ألسنة المدينة مثل نارٍ لا تنطفئ.


تعليقات