رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثامن والسبعون
تدفّق خبر الدعوى التي رفعتها سيرين على ظافر كالسـ,ـيل حتى غمر المدينة وأشعل فضول الناس… فالقضـ,ـية الأضخـ,ـم من نوعها صارت نجمة الشاشات وصفحات المواقع تتناقلها العناوين العاجلة كأنها حكاية أسطورية خرجت من كتاب قديم.
أمام بوابة المحكمة الكبرى احتشد مراسلو كبريات الصحف والقنوات… ميكروفوناتهم مشرعة كحراب الضوء يتسابقون لاقتنـ,ـاص أول ومضة من الخبر… كان الهمس يعلو ويهبط مثل موجٍ متوتر فيما تتأهب العدسات لكل تفصيل يخرج من القاعة الثقيلة الأبواب.
في الداخل استعادَت كوثر هدوءَها الواثق وانتصب صوتها كخيطٍ من نارٍ باردة وهي تقدّم للمحكمة كل ما جمعته من دلائل على زواجٍ يتداعى تحت وطأة الصمت.
إقتربت كوثر من منصة الشهود وخاطبت ظافر بنبرةٍ حادة تخفي تحتها بركانًا مكبوتًا:
«سيد ظافر… أليس صحيحًا أنك طوال ثلاث سنوات من الزواج، لم تمارس أي علاقة زوجية مع موكلتي؟»
انعقد حاجباه للحظةً لكن صوته خرج واثقًا كحدّ السيف:
«نعم.»
لم تدعه يلتقط أنفاسه، فواصلت:
«وهل تؤكد أيضًا أنّك مارست ما يُسمّى بالعنف البارد تجاهلتها عمداً، وتركتها تعاني وحدها؟»
رفع ظافر عينيه نحو سيرين بنظرة عابرة حملت شيئًا من اعترافٍ لا يحتاج إلى كلمات ثم أجاب بهدوءٍ صاعق:
«هذا صحيح.»
اقتربت كوثر أكثر كمن يضغط على جرحٍ مكشوف:
«والآن، سيد ظافر… ألقِ نظرة على هذه الصور… منذ أن عادت حبيبتك الأولى دينا نادراً ما كنت تعود إلى منزلك… أيمكنك تأكيد ذلك؟»
عرضت الصور، وارتجف ضوء القاعة على وجوه الحاضرين… كان كل شيءٍ مُهيأً بعناية حتى ليونارد محامي الدفاع لم يستطع أن يتدخل على الأقل في الوقت الحالي.
صحيح لم تذكر كوثر أنّه كان يبيت عند دينا كل ليلة لكنها تركت لهيئة المحلّفين أن ينسجوا الخيوط بأنفسهم أما ظافر فظلّ واقفًا وجاء صوته هذه المرة أهدأ من السكون نفسه وكأن الاعتراف قدرٌ محتوم:
«نعم.»
تردّد الصدى في القاعة كأنه إعلان سقوط إمبراطورية فيما ارتفعت أنفاس الحاضرين كعاصفةٍ مكتومة تُدرك أنّ لحظة الحقيقة قد انكشفت بلا قناع.
لم تكن كوثر تتوقع أن يخرج الاعتراف من فم ظافر بهذه السهولة فمن حضر ظنه كان ينتظر لحظة الانهـ,ـيار منـ,ـذ زمن… تماسكت كوثر وأكملت وصوتها ينحت الهواء كالنصل:
«زواجك من موكلتي يا سيد ظافر لم يكن سوى تحالفٍ باردٍ من أجل صفقة… لقد اتخذتها جسرًا لتصعد فوقـ,ـه ثم ألقيت بها في العراء… أليس كذلك؟ لقد توفي والدها ولم تنل ما وعدتك به عائلتها من مكاسب فاستبد بك الغـ,ـيظ… ولم تكتف بالأذى العاطفي والنفسي بل أسقطتَ مجموعة تهامي نفسها وابتعت ممتلكاتها جميعًا حجراً فوق حجر… هل هذا صحيح؟»
ساد القاعة صمتٌ كئيب لا يقطعه سوى خفق الأجفان… فأجاب ظافر وعيناه تفلتان من وجه سيرين كأنهما تخافان الحقيقة:
«نعم.»
كان ظافر يدرك فداحة خطيئته ويعلم أن اللوم لم يكن يومًا على سيرين بل على والدتها سارة وأخيها ومع ذلك ترك الغضب يقوده إلى انتقامٍ أعمى… فأردفت كوثر والنبرة في صوتها كقوسٍ مشدود:
«هل تُقرّ أيضًا أن موكلتي عاشت بعيدة عنك خمسة أعوام كاملة حياةً منفية داخل زواجٍ بلا روح لا لشيء غير أنها كانت تتجنبك؟»
تردّد للحظة ثم ألقى الجواب كحجر في بئر:
«نعم.»
تنفست كوثر بعمق ثم استدارت نحو القاضي وارتفع صوتها كأنها تخاطب قاعةً بأكملها:
«سيدي القاضي، لقد انتهيت من استجوابي… أظن أن الحقائق باتت جلية للجميع… لقد كان هذا الزواج صفقة تجارية لا صلة لها بالحب… وأفعال السيد ظافر أثبتت بلا مواربة أنه غير أهلٍ لرباط الزواج… وها بين يديكم الوثائق الطبية: فمنذ بداية هذا الارتباط كانت موكلتي السيدة تهامي تراجع المستشفى مرارًا حتى شُخّصت باضطراب جراء اكتئابٍ شديد وتدهورت قدرتها على السمع إلى حدٍّ خطير.»
كانت حبات العرق تلمع على جبين كوثر تحت ضوء القاعة القاسي لكنها لم تُخفِ توهجها وعندما أنهت كلماتها عادت بخطى راسخة إلى جانب سيرين بعد أن ظنّت أن مهمتها اكتملت وأن كفة العدالة قد رُجِّحت غير أن الصمت الذي لفّ خصومها كان أعمق من التوقع كمن يُخفي عاصفةً لم يُكشف عنها بعد.
حين أذن القاضي لليونارد بالكلام نهض الرجل بهدوءٍ يشي بثقةٍ مدروسة كأن خطواته على أرض القاعة إيقاعٌ يعلن عن انقلاب الموازين بينما انعكس ضوء النوافذ على ملامحه فزادته حضورًا ثم قال بصوتٍ رخيمٍ يجرُّ الكلمات كخيوطٍ من حرير:
«سيدي القاضي إن الأدلة التي قدمتها زميلتي المحترمة ليست سوى شظايا من زمنٍ انقضى منذ خمس سنوات… كيف لظلال الماضي أن تُثبت غياب الحب بين موكلي والسيدة تهامي؟ وكيف تؤكد حقًا أنهما عاشا متباعدين طوال تلك السنوات؟»
توقّف ليوناردو للحظة وكأن الصمت نفسه صار حليفًا له ثم مد يده إلى حقيبته السوداء وأخرج رزمة أوراقٍ أنيقة… أوراقًا تحمل سرًّا يُوشك أن يبدّد ظلال الدعوى ومن ثم تقدّم بها إلى منصة القاضي وصوته يزداد ثباتًا:
«ها هي الوثائق… دلالة لا تقبل الجدل تُثبت أنّ موكلي قضى مع السيدة تهامي وقتًا ممتدًا خلال النصف الأول من العام الماضي… لقد كانا تحت سقفٍ واحد لا في منازل متفرقة… أليس في ذلك ما ينفي ادعاء الانفصال؟»
ثم التفت نحو سيرين وعيناه تتقدان بحدّةٍ كالسهم:
«سيدتي تهامي… لقد جمعتكِ بموكلي لحظاتُ قربٍ جـ,ـسديٍّ عدة طوال تلك الفترة، أليس كذلك؟»
ارتجف قلب سيرين كما لو أنّ طبولًا خفيّة تقرع في صدرها وانسابت حرارة حارقة إلى وجنتيها بينما عيناها تبحثان عن وجه ظافر كمن يستنجد بنظرةٍ تبرر المستحيل… كانت نظرتها مرتعشة يعلوها احمرارُ خجلٍ وجرحٍ دفين… وظافر بدوره لم يتوقع من ليونارد أن يشهر هذا السلاح العاري بلا تردّد لذا انعقد صوته في حلقه فتنحنح بخفة علّه يلتقط أنفاسه وسط تلك العاصفة المفاجئة… عندها توقّف ليونارد عن الحديث وكأن نبرته اكتفت بما زرعه من رجفةٍ في القلوب تاركًا القاعة معلّقةً بين دهشةٍ وصمتٍ ثقيل…
ثم……….