رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتاسع والسبعون 279 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتاسع والسبعون


أطبقت سيرين على أنفاـ,ـسها تحاول استدعاء السكينة وحدّقت من بعيد في الصور التي يلوّـ,ـح بها ليونارد لكن عـ,ـينيها لم تفلحا في التقاط تفاصيلها؛ كأن غلالةً من ضـ,ـبابٍ حائلٍ تسـ,ـكن حـ,ـدقتيها.

تقدّم ليونارد ببرودٍ محسـ,ـوب وناولها بعض الصور عن قرب فانفتحت أمامها أبواب إلى ماضٍ قريب ظنّت أنّها طوته… صورٌ توثّق خروجاتٍ متكرّرة وابتساماتٍ سرّية توحي بلحظات إغواءٍ ناعم حين كانت تحاول استرضاء ظافر أملاً في حملٍ طال انتظاره… بدا جلياً أنها صورٌ لم تُلتقط خلسة كما فعلت هي حين سجّلت حوارهما الأخير بل صور لعاشق أراد الاحتفاظ بها عامدًا كأنّه يصون ذكرى لا تعترف هي بها أو ربما تلك حيلة دبرها ليوناردو.

لوهلة ارتجفت ملامحها فأغلقت قبضتاها حتى غاصت أظافرها في لحمها إذ لم تتوقع أن يوقظها الماضي بهذه القسوة ولا أن يحتفظ ظافر بتلك اللحظات التي حسبتها طيَّ النسيان فالتفتت إليها كوثر ترمقها بنظرةٍ تحمل كل طمأنينة الصداقة كأنها تهمس لها:

*تماسكي، فهذه الصور نفسها لا تُثبت وجود حبٍ بينكما مهما تآمروا.*

لكن ليونارد كصيادٍ لا يمل التقط الخيط ليقلب الموازين من جديد… فالعنف الأسري هو معيارٌ آخر لانتصار الطلاق غير أنّه لم يترك لتلك التهمة موطئ قدم وذلك عندما رفع رأسه نحو القاضية وجاء صوته يقطر ثقةً ودهاءً:

«سيدتي القاضية لقد ذكرت الأستاذة كوثر أن موكلي مارس ما أسمته بالعنف البارد ضد السيدة تهامي… أودّ أن أسأل الجميع: ما هو *تعريف* العنف البارد؟ أهو مصطلح علمي معتمد أم مجرّد توصيفٍ فضفاض؟»

ألقى سؤاله في القاعة كحجرٍ في بركةٍ راكدة فتردّد صداه بين الجدران العالية ثم حوّل نظراته نحو كوثر… نظرةً جليدية لا تحمل سوى غربةٍ متعمّدة كأنّه يتحدّى يقينها وما إن التقت عيناها بعينيه حتى شعرت ببرودةٍ تسري في أوصالها فخفضت بصرها غريزيًا تحتمي من حدّةٍ تخترق الصمت.

تقدم ليونارد إلى الأمام بخطوةٍ واثقة حتى كاد ظلّه يبتلع كوثر وصوته يتسلّل إلى القاعة كخيطٍ من جليد:

«سيّدة كوثر، هل لي أن أعلم إن كنتِ قد استلمتِ نتائج فحص المستشفى؟»

تسارع أنفاسها كطبولٍ مكتومة وانعكس اضطرابها في ارتجاف شفتيها فهمست بصوتٍ مبحوح وقد اختلطت الكلمات برعشةٍ حنين لا إرادية:

«ألا يكفي أن موكلتي مصابة باضطرابٍ اكتئابي حاد ليكون دليلًا على ما فعله؟»

أدار ليونارد رأسه بعيدًا لحظة كأنما يتأمل سقف المحكمة ثم عاد بنبرةٍ حادة تخترق الصمت:

«بحسب ما أفهمه من الطب النفسي، ثمة خمسة أسبابٍ قد تُفضي إلى الاكتئاب: أوّلها الاسـ,ـتعداد الوراثي، وثانيها أمراضٌ كامنة، وثالثها تأثير الأدوية أو الكحول، ورابعها تكوين الشخصية، وأخيرًا الدائرة الاجتماعية للمريض. فأخبريني يا سيّدتي… كيف تجزمين بأن مرض موكلتكِ وليد علاقةٍ بموكلي؟»

ثم كمن يُلقي حجارةً في بركةٍ راكدة أخرج حزمةً أخرى من الأوراق ورفعها أمام القاضي:

«هنا مستندات إضافية توصّلت إليها تفيد بأن السيدة تهامي بدأت تُفرط في الشرب وتناول العقاقير بعد عامين من زواجها… أما والدتها سارة فقد كانت راقصةً شهيرة شُخِّصت باضطـ,ـراباتٍ نفسيةٍ طفيفة كما أنّ موكلتكم تـ,ـعاني ضعف السـ,ـمع منذ ولادتها ألا تكفي هذه الأسباب الثلاثة لتفسير إصابتها بالاكتئاب بعيدًا عن أي يدٍ لموكلي؟»

تجمّد الهواء في صدر كوثر واشـ,ـتعلت عروقها بغضبٍ صاخب فحدّقت فيه بعينين يـ,ـشـ,ـتعل فيهما التحـ,ـدّي ثم انفـ,ـجرت:

«أنت تحرّف الحقيقة!»

أمال رأسه قليلًا والبرود ينـ,ـساب من نـ,ـبرته:

«إن كنتِ ترين أني أحرف الحقيقة… فهاتي برهانكِ يا آنسة كوثر.»

تكسّرت آخر خيوط ضبط النفس فاندفعت كلماتها كصاعقة:

«ليونارد… أيها الوغد! لا أصدق أنك قادر على بيع ضميرك مقابل المال—»

لكن صفعة صوت القاضي شقّت القاعة:

«صمتٌ حالًا!»

تردّد صدى الأمر كالرعد فيما امتقع وجه كوثر وقبل أن تُمعن في هجومها كانت يد سيرين قد أمسكت بذراعها بقوة تُقنن غضبها المتأجج بينما يعلن القاضي استراحةً قصيرة لينقذ القاعة من عاصفةٍ كادت تندلع.

خلال الاستراحة كان صدى القاعة لا يزال يعجُّ بارتجافات الأصوات السابقة بينما جلست كوثر في ركن الصالة كعصفورٍ مذعورٍ يبحث عن مأوى… أخذت تلوّح بيديها المرتجفتين وتقول بنبرةٍ تحمل كل ما يمكن للندم أن يحمله من مرارة:

«أعتذر يا سيرين… هذا كله خطئي… لم أتخيل للحظة أن يكون ليونارد هو محامي الخصم… لقد أربكني حضوره وكأنني وقعتُ في فخّ محكم منذ البداية.»

كان اسم ليونارد في أوساط القانون يُذكر كمنارٍ للدهاء فقد قيل إنه لم يخسر سوى دعوى واحدة في تاريخه ودعاوى الطلاق بالنسبة إليه مجرد رقصةٍ يعرف خطواتها عن ظهر قلب.

مدّت سيرين ذراعيها واحتوت صديقتها بحنانٍ يشبه نسيمًا دافئًا يتسلل إلى شتاءٍ قارس وربّتت على كتفها في رفقٍ يشي بقوة خفية:

«لا عليكِ يا كوثر… ليس ذنبكِ… مهما كانت النتيجة سنجد طريقنا إلى النور في النهاية.»

لكن الكلمات رغم رقتها انغرست في قلب كوثر كإبرة فزاد تأنيب ضميرها اشتعالًا واحمرّت عيناها كجمرتين يفضحهما الدمع تتمتم وهي تنهض بارتباك:

«سأذهب إلى الحمام… انتظريني هنا أرجوك.»

أومأت سيرين بابتسامة تضاعف من ثقل الذنب بدل أن تخففه:

«حسنًا… خذي وقتك.»

غير أنّ خطوات كوثر لم تتجه إلى الممر المؤدي للحمام بل انزلقت قدماها في مسارٍ آخر إلى غرفة الجلوس حيث يستريح ليونارد والآخرين وكأن قوة خفية تدفعها نحو مواجهة لا مفر منها… مواجهةٍ لم تدرِ إن كانت بحثًا عن الحقيقة أم عن هزيمةٍ جديدة لروحها.


تعليقات