رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثمانون
ضغطَ ظافر بأصـ,ـابعه على جسر أنفه يحاول كبح دوّامةٍ من الغضب تشتعل في أعمـ,ـاقه ثم رمق ليونارد بنـ,ـظرةٍ حادة تنوء بحمولةٍ من التساؤلات المربكة:
«من أين لك بهذه الصور؟»
كانت ذكرياته مع سيرين حصنًا منيعًا لا يدخله غريب… لحظاتٍ كان يحرص أن تبقى محاطةً بسياج الصمت بلا عدسةٍ واحدة تتلصص عليها.
أجاب ليونارد بلا تردّد كمن يوجّه طعنة باردة إلى قلب خصمه:
«من كاميرات المراقبة.»
كان صوته واثقًا ينضح بيقينٍ مَن لا يدخل معركةً إلا بعد أن يقيس مكاسبها بدقة فمنذ خسارته الوحيدة في الماضي لم يقترب من قضية إلا وهو مُمسك بخيوط النصر كلها.
تجمّدت نظرات ظافر والذهول يطلّ من عينيه كبحرٍ متجمد… الصور كانت كثيرة.. مبعثرة في الزوايا كقطع زجاج… ولا يمكن جمعها بهذه السرعة إلا بعزيمةٍ شيطانية وإصرارٍ لا يعرف المستحيل.
وفجأةً شقّ صوتٌ متوتر أجواء قاعة الاستراحة:
«أنا آسف آنسة كوثر لا يمكنك الدخول.»
تسرّبت الكلمات من الحارس عند الباب يتبعها صوت كوثر حادًا مكسورًا في آنٍ واحد:
«لن أدخل… فقط اطلب من ليونارد أن يخرج… أريده للحظة.»
نهض ليونارد في هدوءٍ محسوب كذئب ينهض لوليمةٍ يعرف نهايتها:
«سأتولى الأمر.»
لم ينبس ظافر بكلمة فهو يدرك أنّ طموح ليونارد لا تحدّه جدران وأنه سيغتنم هذه المواجهة ليزيد من وهجه أمام الجميع ففي دعوى كهذه كان اسما المحاميين وقودًا لفضول المدينة بأكملها.
وما إن خرج ليوناردو إلى الردهة حتى دوّى صوت صفعةٍ حادّة كبرقٌ يشقّ السكون ارتجف لوقعها جدران الممر وارتجفت معها يد كوثر وهي تُخفض كفّها ببطء كمن يطلق سراح عاصفة حبستها طويلاً.
سألها ليونارد وصوته بارد هادئ:
«هل اكتفيتِ الآن؟»
كانت عينا كوثر تلتـ,ـمعان بحمرةٍ وصوتها يتكسّر بنبرةٍ تتأرجح بين الغضـ,ـب والخـ,ـذلان:
«أأنتَ محامي ظافر ولا تعرف أيّ نوعٍ من الرجال هو؟ هل تدرك كم قاست صديقتي؟ لم يرغب قطّ في لمسـ,ـها بينما كانت أمه تدفعها دفعًا نحو الحمل… أجبروا سيرين على ابتلاع العقاقير وفحوصات لا تنتهي وكأنها آلةٌ للتكاثر… ولم يكتفِ بذلك… أحبّته بكل ما في قلبها من صدق وهو غارقٌ في حُلم امرأةٍ أخرى… دمّر إرث والدها حجراً حجراً… لم يمدّ يده ليصفعها يومًا لكن ما ارتكبه كان أفظع من أي صفعة… أشد قـ,ـسوةً من كل الضربات!»
انفجرت الكلمات من فمها كطلقاتٍ حارقة علّها تُوقظ في ليونارد بقايا ذلك الفتى الذي كان يؤمن بالعدل غير أنّه أمال رأسه قليلًا وعيناه مثل لوحين من جليد يقول بثبات:
«سيدة كوثر… أنا محامٍ لا ميزان عدالة… عملي أن أؤدي دوري لا أن أُحاكم القلوب.»
ارتعشت شفتاها وهمست والدمع يثقّل جفنيها:
«لكن… كنتَ تقول إنك تحلم بأن تصبح محاميًا لتنتصر للفقراء والمظلومين…»
تسلّلت إلى شفتيه ابتسامة ساخرة كسهمٍ يطعن الماضي يشرح كذباً:
«ألستِ بريئةً أكثر من اللازم يا آنسة كوثر؟ تلك مجرد كلماتٍ لإيقاع فتياتٍ ساذجات مثلكِ… كنتُ أُدير اللعبة من أجل عائلتك فقط وحين رفض والدك أن أكون واحدًا منكم… انتهى التمثيل.»
تقدّم خطوةً وصوته يقطر برودةً كالخنـ,ـجر:
«إن أردتِ الفوز فلتظهري حجـ,ـجكِ… لا تنتظري أن أتنازل لأنكِ تبكـ,ـين.»
كانت عباراته كالسياط تصيب قلبها في أعمق موضعٍ من الألـ,ـم فتجمّدت في مكانها يتناوبها الذهول والمرارة وهي تدرك كم كانت ساذجة إذ ظنّت أن ليونارد الذي أحبّته سيعود إلى صورته القديمة؛ ولم تدرك أن ما ظنّته مبادئ كان قناعًا وأن حديثه عن العدالة لم يكن سوى مسرحية بارعة فانكسـ,ـرت داخلها صورة القدوة التي حملتها لسنوات… هو الذي ألهمها أن تصبح محامية وجعلها تتمرد على والدها وتلتحق بعالم القانون… لأجله خاضت المعارك وباسمه منحت المساعدة لكل مـ,ـظلـ,ـوم وها هي الآن ترى تمثال أحلامها يتحوّل رمادًا أمام عينيها.
في تلك الأثناء كانت سيرين تجلس في صالة المحكمة وحيدةً تقبض على هاتفها فخطرت في ذهـ,ـنها ومضةٌ جديدة… فكرة قد تقلب موازين المعركة وتفتح لها باب النصر الذي تبحث عنه.
أبوس إيد أمك ما تفكري بتطينيها يا بت تهامي
