رواية للهوى رأي اخر الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل الثامن والعشرون 

بخطوات واسعة دخل موسى القصر، بعد أن هاتفته رئيسة الخدم بخروج السيدة دهب، خرجت دون أن تتفضل وتتكرم وتهاتفه لتخبره عن وجهتها، دخل مكتبه، مسك بتحفة صغيرة على سطحه وعينيه شارده أمامه بغضب يزداد كلما يشعر بعجزه في الوصول إليها، وهاتفها ملقيًا بالأعلى دون فائدة، انتبه لطقطقة التحفة الصغيرة التي انكسرت بين قبضته، تطلع لها ثم وقعت عينيه على المذكرة على سطح مكتبه، مسكها بين يديه، ثم ضرب بقبضته على جبينه معنفًا نفسه لسماحه بدخولها له هنا، لكن اتسعت عينيه للورقة الملقاة بجانب المذكرة، لحظة وأزاح كل ما على مكتبه بجنون، وظل يضرب بيديه على سطح المكتب بانفعال، صوتًا عنيفًا، وكلما يشعر أنها تسربت من بين يديه يزداد جنونه أكثر.
مرت دقائق وتحولت الغرفة رأسًا على عقب، وموسى مستندًا بيديه لسطح المكتب وعينيه أمامه، ينظر للورقة التي قذفها بعيدًا، إنه ربما خسرها للأبد بسبب ورقة، لكنها لم تكن أي ورقة فائقة.
ورقة زواجه!
........
كان يتحدث بالهاتف، في غرفة مكتبه، الذي يتأرجح بظهره لليمين واليسار، نبرته واثقة، وقراراته لا ترى إلا من منظوره هو فقط، رغبته في النجاح وطموحه اللامحدود، جعلت منه الرجل الأشرس في سوق الأعمال، رغم أنه يشعر بالعمال ويهتم بحقوقهم، إلا أنه مع رجال السوق حاد الطباع مما أكسبه عداوات، منها محاولة قتل نجا منها بأعجوبة، وكانت بجانبه فيروز، أمام شركته، ورغم التهديدات التي تصل إليه إلا أنه لا يبالي، وأن ما كان يردعه ولو قليلاً هو كمال، يتجنبه في لقائتهم القليلة في الفترة الأخيرة.

_يعني إيه المطلوب مني، أشتغلهم أنا، ما كل واحد وشطارته؟
أجابه الطرف الآخر:
_يا قاسم محدش يختلف على ذكائك، لكن اقتصاد البلد عارف إنه في أزمة، غير الأسعار اللي بترتفع كل يوم، فلو رجال الأعمال الكبار قادرين يواجهوا ده، فاللي لسه بيبتدي، أو تاجر صغير هايفلس.

_والمطلوب؟

بتردد قال المتحدث:
_يعني بلاش السيطرة الزيادة، الكل عارف مين قاسم عمران، سيب اللي حواليك يشتغلوا.

استقام قاسم وخرج من غرفة مكتبه قائلاً بضيق:
_أنا مش ماسك رزق حد، لكن التجارة شطارة، اللي عايز يشتغل هايهز طول ويشغل ويشتغل، أنا مش الشماعة اللي يتعلقوا عليها فشلهم.

ثم أغلق هاتفه ووضعه في جيب بنطاله، ورفع رأسه لأعلى، أخذ عدة أنفاس متتالية، ولم ينتبه لتلك الجالسة على السلم الرخامي أمام الباب المطل على الحديقة، نظرت فيروز لظهره، وبتردد أرادت أن تتحرك لتذهب لغرفتها قبل أن يشعر بها، ويظهر أن حالته المزاجية سيئة، فقد كان صوته مرتفعًا ونبرته حانقة على المتصل الذي أغلق الهاتف بوجهه من لحظات، استقامت ببطء وحذر، ثم فجأة شعر قاسم بشيء خلفه، فالتفت لها، فأجلست مرة أخرى مكانها متهربة بعينيها عنه، شعرت به يجلس بجانبها، واضعًا يديه على ركبتيه، ينظر للأمام بصمت قبل أن يتحدث:

_مش عارف أنا صح ولا غلط، لكن أنا من حقي أني أحقق اللي بحلم به.

لم تجبه فيروز، فأدرك أنها لن تجيبه، فقال قاسم:
_أبويا مات واسمه كان من أكبر الأسماء في السوق لكنه كان محبوب، لما رجعت حبيت أكبر اللي أبويا سابه، ما أنكرش أن كل تفكيري في السيطرة على السوق، لكني مش باخد رزق حد، عايزين يكسبوا من غير تعب، ده غير المؤامرات اللي بتتعمل عليا، ومحاولة قتلي.

ثم تنهد بعد ما أخرج كلماته، على ظنه أنها لن تجيبه بشيء، لكنها فاجأته حين قالت:
_بتقول إن والدك كان من أكبر الأسماء لكن محبوب، ما سألتش نفسك لو هدفك نفس هدف والدك ليه أنت العكس؟

التفت إليها ببطء، وحاجباه معقودان، ينظر إليها بتساؤل، فأكملت بتردد ظاهر:
_يمكن والدك كان مسالم أكتر، قوي بس حكيم، مسيطر لكنه كاسب الناس حواليه، ماهو حب الناس مش بالعافية، أنت بتفكر بس في مكسبك ومش هامك خسارتهم هايحبوك إزاي؟

_الناس بتكره الأحسن منها والناجح.

_الناس عايزة اللين، أنا مابفهمش في شغلكم، لكني لو حد جه ياخد رزقي ورزق عيالي هاكره، أنت عايز تكبر أكبر من غير ما تظلم، أنت عارف إنك ممكن توصل شخص من ناجح ومخطط مستقبله، لمجرم كل تفكيره ينتقم منك في حالة واحدة بس، لما تسرق حلمه، وتسلب منه تعبه وطموحه.

عم الصمت على كلاهما، أنفاسه تشعر أنها ثقيلة بجانبها، ورغبتها بالهروب تزداد أكثر، نظر إليها، وشعرت بنظراته تخترقها، دون أن تلتفت إليه، لكنه طال، فاتملمت فيروز، ونظرت إليه بجانب عينيها، كان يحدق بها بشرود تام، تظن أنه لم ينتبه أنها أصبحت تحدق به هي الأخرى.

خرج صوته بعيدًا وخافتًا:
_أنتي إزاي كده، بتمني المسافات بينا تقل، لكنها بتزيد، لكني هاعمل إيه حاجة علشان أقصر المسافات؟

اشاحت بوجهها عنه، فشعرت به يقف قائلاً لها:
_تعالي معايا.
تساءلت بتردد:
_فين؟
_متخافيش مني يا فيروز.

وشعر وقتها أنه طلب شيء كبير، لم يستحقه بعد، لكنه يسعى.

كان المكان من حولها مخيف، هادئ ومقبض، نزلت من سيارته، وصوتها المرتعش قالت:
_جايبني هنا ليه؟
اقترب منها ودون أن يفرض عليها أمسك يدها قال:
_تعالي بس، وخليكي ورايا على طول، متخافيش.

انفتح باب المستودع القديم، وشهقت فيروز مما رأت، زوج والدتها وأبناؤه، مقيدون، آثار الضرب ظاهرة على رامي بوضوح، بينما والده ينظر إليهما بتوسل، ومرة بنظرتها التي تشعرها أنها ستنقذ عليه فجأة، تراجعت خطوة للخلف، لكن شعرت بيده تقبض على يدها الباردة بقوة، لم تنتظر إليه، لكن ماضي مأساوي مرير يمر بعقلها، معاملة سيئة، ذل، ظلم، افتراء وغيره، سرقة، محاولة اغتصاب، وأخيرًا محاولتهم الشيطانية في تشويه سمعتها مقابل حفنة من الأموال.

أول من بدد الصمت المهيب كان رضا الذي قال متوسلًا:
_فيروز يا بنتي، حقك علينا، إحنا غلطانين، بس خلي الباشا يسيبنا أنا راجل كبير مش أحمل البهدلة أكتر من كده.

قال قاسم مشيرًا إلى مروة الصامتة:
_الهانم هي اللي كانت متطوعة وجات لحد بيتي بالصور، مضت على ورقة فاضية من غير ما تعرفي وكتبتها بعدين بصيغة الزواج العرفي، علشان كده الورقة ماكنتش مزورة والإمضاء كان حقيقي فعلاً.

ثم أشار لذلك الذي لم يستطع أن يرفع رأسه إليهم:
_حسابه معايا لسه ما خلصش.

ابتلع رامي ريقه بصعوبة وبصوت مرتعش:
_ندمت والله، وعرفت إن الله حق، حقكم عليا.
_اخرس يالا.

قالها له قاسم بنبرة شرسة جعلته يبتلع لسانه على الفور.

نظرت له فيروز بأشمئزاز، فالتفتت لصوت مروة الذي يقطر حقد قائلاً:
_جايه تشمتي وتفرحي بانتصارك.

عقدت فيروز جبينها متسائلة بحيرة:
_انتي ليه عملتي معايا كده، أنا عمري ما أذيتك؟

ابتسمت بلا حياة، وعينيها تتقافز منهما شرارات سوداء:
_مين قال إنك ما أذتنيش، وجودك في حياتي كان أكبر أذية، دايمًا أنتِ اللي ظاهرة، اللي محبوبة، الأحلى والأهدي، فيروز طيبة لكن مروة براوية، عريس يتقدملي يشوفك يبقى عايزك أنتِ، طردتك وقلت هاتترمي في الشارع، لاقيتك في فيلا وعايشة حياة الأغنياء، وأنا برضو قليلة ولسه في بيت ما يجيش قد حمام من حمامات البيت اللي عايشة فيه، قابلتي راجل بهدلنا والكل بيتحاكا عليه وعلى فلوسه، يعني لو ماكنتش طردتك كان زمانك لسه عايشة في بيتنا ولو كنت اتأخرت شوية كان زمانك مذلولة بعملة أخويا.

وضعت فيروز يدها على صدرها بذهول، شحب وجهها وشعرت بالخوف، تراها كامتصاصين الدماء، لو انفك قيدها لانقضت عليها أكله أحشائها، من حجم سوادها الداخلي.

رأت قاسم يتقدم منها ويجذبها من شعرها بقوة للخلف، هادرًا بها بالسباب والصفعات المتتالية، فارتدت فيروز أكثر وودت لو تهرب من ذلك المكان المقبض، فاركضت للخارج وتبعها قاسم بعد ما بصق عليهم هادرًا باشمئزاز:
_إيه سوادكم، دانتو عايزين يتولع فيكم بجاز وسخ.

..............

توقف بسيارته أمام ذلك المقهى، بعد ما هاتفته مايسون وطلبت مقابلته، ورغم تعجبه، ولكنه أتى ظنًا منه أنها ربما تحتاج لشيء ما.

أشارت له ميسون، ثم اتجه إليه وجلس قبالتها، وقالت:
_آسفة لو كنت هاعطلك.
أجابها بطلف:
_لا أبدًا، أنا بس استغربت إنك خرجتي ولسه جرحك جديد.
_صديقه ليه وصلتني لهنا بعربيتها وها ترجعني للسكن؟

أومأ لها دون أن يعقب، فصمتت هي الأخرى بعدما وضع النادل قهوتها، وطلب ياسين هو الآخر قهوته، تساءلت ميسون وقالت:
_بتعملي إيه هنا؟
_شغل.
_عطلتك أنا عن شغلك، أنا آسفة.

ابتسم وقال:
_لا عادي، أنا هربان.
_هربان من الشغل، ولا هربان من مصر؟

ضم شفتيه مفكرًا، وقال:
_من نفسي.

تطلعت إليه ميسون، وازداد فضولها، ولم تستطع تجاهل ذلك الشعور والرغبة في مقابلته من يوم الحادثة، ولا أن تمنع نفسها من التفكير به، ذلك الأسمر الشرقي، الشهم وابن البلد، الذي يملك حس دعابه ولكنها تشعر أنها تحت أنقاض حزن بداخله.

_ومرتاح هنا، أقصد وأنت هربان من نفسك اللي في مصر؟

ارتشف من قهوته الساخنة بعد أن وضعها النادل وقال بغموض:
_مش لازم أكون سايبها في مصر، ممكن تكون جوايا.

ضيقت حاجبيها، امرأة، هناك امرأة في حكايته، ربما قصة حب غير ناجحة، مؤثرة به لدرجة تركه لبلد بأكملها!
_فضول البنات ده أنا عارفه، عينيك كلها أسئلة.

ابتسمت بحرج، ومسحت على شعرها القصير تهندمه، ونظرت البعيد قليلًا ثم وضعت ذلك الظرف أمامه على الطاولة، أخذه منها ياسين، وما أن رأى ما بداخله، ضحك بخفوت وهو يضعها أمامها وقال:
_عيب عليكي، ده أنتي حتى قولتلي أول مرة شوفتك ده أنا بنت بلدك، هاخد من بنت بلدي فلوس برضو.
_ده حقك، أنت مش ملزم تدفع المبلغ ده في المستشفى.
_رجعي فلوسك عيب.

كان يقولها بجديه، فامتثلت لأمره، ثم تساءل:
_انتي بتشتغلي؟
_لا، لكن بدور على شغل.

قال لها وهو يقف:
_لو حابة تشتغلي معايا ما عنديش مشكلة، كلميني وأعرف عنوان الشركة، مضطر أستأذن دلوقتي عندي اجتماع مهم.

رأته يتحرك أمام أنظارها، تتابعه بفضول وشغف لم يثيرها برجل من قبل، لكنها كاذبة، ولم تحتاج للعمل، ولكنها شعرت أنها فرصة للتقرب إليه، غير قادرة على التغلب على ذلك الشعور.

....................

خرجت من السيارة أولًا، بعد ما توقفت أمام قصره، كانت تتحرك أشبه للركض، فاستوقفها بيده حتى توقفت أمامه و شهقت ببكاء كانت تكتمه طوال طريقهم وكان يعلم، وقف قاسم أمامها فانظرت إليه بعينين باكيتين:
_أنا مخنوقة.

بتردد مسك كتفيها وقال بخفوت:
_فيروز أنا عايزك قوية، بلاش أي موقف يضعفك، دي مريضة كلهم مرضي، نفوسهم جشعة مؤذية.

ثم بعزم أكمل:
_حقك والله ما هاسيبه، أنا لسه ما عملتش فيهم حاجة، أنا بس حبيت أوريكي إن أي حد أذيكي أو ظلمك مش هايعدي من تحت إيدي.

فابتلع غصة بحلقه وردد:
_حتى أنا، عمري ما هسامح نفسي على اللي عملته فيكي.

_أنا عمري ما أذيت حد، ولا اتمنيت شر لحد، ليه اتخبط في الدنيا بالشكل ده؟

انتبهت إليه وهو يخرج ورقة مطوية من جيب بنطاله، فتحها أمام أنظارها، ووضعها في يدها، قرأتها بفضول وترقب، ثم نظرت إليه بتفاجئ فقال وهي يحرك رأسه مؤكدًا:
_حقك رجع، أنا عارف إنه سرقه من والدتك، ده حقك، وقت ما تحبي تشوفيه في أي وقت قوليلي، ولو تحبي تغيّري فيه أي حاجة اعملي اللي أنتي عايزاه.

ببهوت قالت فيروز مصدومة:
_رجعت البيت، وبأسمي!
_حقك.

ضمت شفتيها، كانت آخر دمعتين تساقطتا، فمسحهم قاسم بأبهامه مبتسمًا لها، ولأول مرة بعد ما حدث بينهما، تبتسم له فيروز، له هو خصيصًا، وتحركت شفتيها بهمس التقطته قائلة:
_متشكرة.

لفحت أنفاسه المتنهدة وجهها، غير مصدق، في الحقيقة هو لم يتوقع ردّة فعل منها معينة، كان سيتقبل ما تجود عليه برضا تام، لكنها دائمًا ما تكون الأطيب والأكرم.

_ما تقوليش كده، بسمتك دي أعمل علشان أشوفها أي حد حاجة.

ثم قال بصدق شديد:
_مستعد أعمل أي حاجة وتسامحيني، وأرجع نظرتك ليا زي الأول.

ثم قال على حين غرة:
_أنا بحبك.

اخفضت فيروز عينيها فاتنهد قاسم ولم يرغب عليها بشيء، حتى تحركت من أمامه حتى اختفت عن أنظاره.


تعليقات