رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والواحد والثمانون 281 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والواحد والثمانون 

حين دقّت ساعة استكمال الجلسة كانت كوـ,ـثر قد مسحت آخر أثرٍ للدموع عن وجهها تجفف روحها قبل وجنتيها كأنها تُعلن تحدّيها أمام الزمن وأمام عينيّ ليونارد فلن تمنحه متعة أن يراها منكسرةً أو ضعيفة… وجلست مستقيمة الظهر متماسكة كجدارٍ يرفض الانهيار وفي داخلها ما زالت الأعاصير تصرخ.

من جديد أعادت كوثر للمحكمة سرد الحكاية الموجعة:

وكيف انفرط عقد زواج ظافر وسيرين، وكيف اعتمد معها قسوةً جافةً لا سند لها ومع غياب أي أدلةٍ جديدة بدا القاضي كمن يتهيأ لوضع الخاتمة كاتبًا سطور النهاية على ورقٍ باهت.

لكن الصوت جاء مفاجئًا رقيقًا ومتهدجًا في آن واحد:

«أريد أن أقول شيئًا.»

التفتت كل العيون نحو سيرين فأشار القاضي برأسه كإذنٍ لها… ارتجفت لحظةً ثم رفعت بصرها نحو ظافر تحدّق فيه بعينين تحمّلان تاريخًا من الحزن والخذلان ثم التفتت نحو الحضور وصوتها يتشقق كزجاجٍ تحت المطرقة:

«لقد خنته.»

انفجر الهمس في القاعة كهدير بحرٍ يضرب الصخور بعد أن تكسّرت الكلمات على الجدران وتحوّل صمت ظافر العميق إلى نظراتٍ معقّدة متشابكة الخيوط لكن سيرين لم تتوقف، كأنها قررت أن تُخرج كل ما حُبس في صدرها لسنواتٍ طويلة.

«لم تربطني بالسيد ظافر علاقةٌ حقيقية يومًا. صحيحٌ ما ذكره السيد ليونارد… نعم لقد مارستُ الجنس معه في الأشهر الأخيرة لكن الأمر لم يكن حبًا بل انتقامًا… أردت أن أطعنه في كبريائه كما طعن روحي لسنوات…. لقد كان يراني دائمًا بعين الازدراء… لم يُعاملني قط كزوجة… أكرهه وأحلم بهجره لكن الكوابيس كانت تلاحقني أينما ذهبت… خمس سنواتٍ قضيتها بعيدة عن هذه المدينة ولم أنجُ من وجهه كان يطاردني في أحلامي… يتركني دائمًا من أجل امرأة أخرى… الكحول كان الملجأ الوحيد الذي يُسكت الألم.. يُخدّر الذكريات ويكبت صرخات قلبي.»

عمّ الذهول القاعة وانحنت الهمسات على الوجوه كالرياح السوداء أما ليونارد فقد صُدم للحظة قبل أن يلتقط زمام نفسه فجأة يلوّح بكلماته كسيفٍ مصقول:

«هذا اعترافٌ جليّ لكنه لا يُدينكِ… بل يثبت أنكِ ما زلتِ تُحبين السيد ظافر حبًا غائرًا… حبًّا عميقًا يُغرقكِ في بحرٍ من الغضب والانتقام.»

كانت كلماته كمن يُحاول أن يخلط السمّ بالعسل… يلوّن القسوة بطلاء العاطفة ويقلب موازين المشهد بكلمةٍ واحدة.

ضحكت سيرين ضحكةً قصيرةً متكسّرة تحمل في طـ,ـياتها مرارة السنين لا خفة اللحظة فارتجّت القاعة لصوتها بينما ارتفع حاجبا القاضي دهشةً وأصغى الحضور كما لو أُلقِي في أفواههم حجر حتى قالت سيرين بنبرةٍ مشبعة بالسخـ,ـرية:

«الحب؟ أتدرك يا سيد ليوناردو ما تعنيه هذه الكلمة حقًا؟»

تردّد صدى سؤالها بين الجدران كأن القاعة تحبس أنفاسها ثم تابعت وصوتها كنسمةٍ باردة تسبق عاصفة:

«الحب ليس سوى موجة عابرة من الهـ,ـرمونات… صاعقة كيميائية تخدع القلب وما إن تنحـ,ـسر يبهت كل شيء ويتلاشى السراب.. الحب يختفي كما يولد.»

قالتها ومن ثم أدارت وجهها نحو ظافر فالتقت عيناها بنظراته وسريعاً غرست كلماتها كخناجر في كبريائه:

«وقد اختفى الحب يا سيد ظافر… تلاشى كما تتلاشى الظلال عند أول ضوءٍ فجرٍ قاسٍ.»

وبينما تتدفق الكلمات انحدرت دمعة حارقة على وجنتها… دمعة تحمل في عمقها صراخ الأعوام:

«كنتُ أحبك… أحبك حتى الاختناق لكنك كنتَ تعود في كل مرة لتسحق قلبي حتى صار حبي لك جمرًا من كراهية بعدما كشفتَ لي كم كنتُ بائسة، مجرد ظلٍ يتبعك… لقد عدتُ اليوم لا لأستجدي قلبك بل لأبرهن لك أنك لستَ ذلك البطل الذي توهّمتَه… أردتُ فقط أن أثبت أنك مجرد رجل يمكنني الوصول إليه متى شئت ثم أتركه كما يُلقى حجرٌ رث على قارعة الطريق.»

تصلّبت ملامح ظافر وتحوّلت عيناه إلى بئرٍ عميقٍ يضطرب في قاعه الغضب والحيرة… كل كلمة منها كانت طعنةً صامتة تشق صدره بل وتُسقط هيبته حجرًا بعد حجر.

عادت سيرين ببصرها إلى القاضي وصوتها الآن مزيج من التحدي والصفاء:

«ولتعلموا جميعًا الرجل الذي أحبه الآن بعيد… بعيد عن هذه المدينة لكنني أحبه حبًا يكفي ليمتد عبر المسافات ولدينا طفلان، قلبان صغيران يربطان روحي بروحه… وحتى لو حُكم عليّ بالسجن بتهمة تعدد الأزواج فلن أتراجع وأنا على أتم الاستعداد لأن أدفع أي ثمن لإنهاء هذا الزواج الميت.»

دبّت الصدمة في القاعة وارتسم الذهول على الوجوه كأنهم شهود على كسوف الشـ,ـمس بينما تقدمت سيرين بخطوات بطيئة ثابتة حتى وقفت أمام ظافر مباشرة تنظرت في عينيه قائلة ببرودٍ تقطّعه شرارات:

«سيد ظافر إن لم توقّع على الطلاق فلن أتردد في كشف كل ما قيل هنا للعلن… لن يبقى هناك سرٌ في الظل.»

في تلك اللحظة أدرك ظافر أن الأمر قد حُسم وذلك بعد أن رأى في عينيها قَسَمًا لا تراجع فيه وعلِم أنها خرجت من دائرته إلى الأبد. احمرّ وجهه بمزيج من الغضب والخذلان… أراد أن يردّ بحدةٍ تعيد له كرامته لكن الكلمات خانته وتوقفت عند حافة لسانه كحجرٍ ثقيل.

أما ليونارد فظل صامتًا يراقب المشهد ببرود محامٍ يدرك أن الفوز بالقضية صار بلا معنى؛ فالخسارة الحقيقية قد وقعت بالفعل وخسر ظافر ما لا تعوّضه محكمة ولا حكم.

في الخلف اختبأت كوثر خلف كتف سيرين تبكي بصوتٍ مكتوم فقد كانت تعلم أن صديقتها انتظرت هذه اللحظة كما تنتظر الأرض أول المطر… لحظة تحريرٍ مؤلمٍ وجميل في آن واحد وبسبب هذا الزلزال الذي قلب موازين القاعة امتنع القاضي عن النطق بالحكم في تلك الجلسة فرفع مطرقته ببطء وقال بنبرةٍ محايدة:

«سأصدر قراري غدًا.»

انفضّت القاعة لكن صدى كلمات سيرين ظلّ يتردد في الجدران كأغنية وداعٍ أخيرة… أغنية تنهي حبًا قديمًا وتفتح بابًا لحريةٍ طال انتظارها.

خرجوا من قاعة المحكمة والضجيج ما زال عالقًا في الهواء كأصداء معركة لم تُحسم.

كانت الأبواب تُفتح وتُغلق كأنها تبتلع أنفاس النهار فيما كان رجال ظافر قد اخلوا الممرات من الصحافيين والمراسلين فأصبح الخارج هادئًا على نحوٍ يثير الريبة.. تقدّم ظافر أولًا، خطواته صلبة كمن يشقُّ دربًا من جليد لكنّه لم يغادر بل توقف عند العتبة… كتلة من صمتٍ متوتر وعيناه تلمعان بشيءٍ غامض.

وحين خرجت سيرين يتبـ,ـعها ظلُّ كوثر اعترض ظافر طريقهما بحدةٍ متحكَّمة وصوته أشبه بجرسٍ مكتوم:

«سيرين… نحتاج إلى الحديث.»

توقفت سيرين تتبادل نظرةً سريعة مع كوثر… نظرةً تحمل من الطمأنينة ما يكفي ليـ,ـذيب بعض خوفها ثم همست لها سيرين:

«لا تقلقي.»

أومأت كوثر بصمتٍ متردد بينما تابعت سيرين خطواتها إلى جوار ظافر كمن يسير نحو قدرٍ يعرفه ولا يخشاه وبعد أن تلاشت خطواتهما في الممر خرج ليونارد متأخرًا بارد الملامح إلا أن عينيه تفضحان توترًا يختبئ وراء ستارٍ من الاحتراف.

لبرهة التقت نظراته بعيني كوثر التي تحولت إلى سهامٍ من جليد أرسلتها نحوه بحدةٍ تكفي لإخماد أي كلمة ثم أدارت ظهرها ورحلت بخطى سريعة كأنها تُسقطه من حياتها مع كل خطوة.

ظل ليونارد يراقبها حتى ابتلعتها المسافة فتوارى ظلها كما يتوارى القمر خلف سحابٍ كثيف عندها فقط تنفّس بعمق ولا أحد يعلم من انتقم لنفسه في تلك المحاكمة ولا من الخاسر.

اتجه ليوناردو إلى سيارته يستقلها وأدار المحرّك ببطء لكن شيئًا في المرآة الخلفية استوقفه إذ لمح على بُعدٍ سيارةً داكنة بداخلها وجوهٌ غريبة ملامحها نصف غارقة في الظلال بعيون تترصّد كوحوشٍ ليلية.

تجمّد ليوناردو للحظة وإحساسٌ مبهم يضـ,ـغط صدره إذ كان المـ,ـشهد يوحي بكمينٍ يوشك أن ينغلق كأن المدينة نفسها تحيك خيوط مؤامرةٍ لا يعرف مداها ولا موجّهة لمن.


تعليقات