رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثاني والثمانون
كان ليونارد بحسّه الذي صُقِل بسنوات المـ,ـحاكم والمرافعات يلتقط الخيوط الخفية كصيّادٍ يعرف رائحة الفريـ,ـسة وحين لمح الغرباء ينسحبون إلى عمق الشارع انزلق خلفهم في صمتٍ مدروس، خطواته مموّهة كظلّ يذوب في العتـ,ـمة… كان عقله يشتغل كآلةٍ باردة يتتبع أنفـ,ـاسهم في الظلال ليفكّ ما وراء حـ,ـضورهم المريب.
في تلك اللحظة كانت عجلات سيارة ظافر تشقُّ الليل على إيقاعٍ ثابت بينما جلست سيرين إلى جواره كنجمةٍ تائهة في فلكٍ معتم ألقى عليها نظرة جانبية… نظرةً يختلط فيها الحنين بالغضب ثم سأل بصوتٍ خافت يثقل الصدر:
«هل ما زلتِ مصمّمة؟ أحقًا تريدين الطلاق؟»
كان يعرف الجواب في أعماقه لكنه أراد أن يسمعه يتردد في الهواء مرة أخرى فأومأت سيرين برأسٍ يكاد يذوب من الثبات، وقالت:
«نعم… ما دمتَ ستوافق أعدك ألا آخذ منك شيئًا… كل ما أريده هو حريتي.»
تسلّل الصمت بينهما كضبابٍ بارد وقتها لم يجد ظافر ما يردّ به فقط حدّق في الطريق المظلم أمامه ثم تمتم بنبرةٍ تنضح بشيءٍ لم يُسمِّه:
«هل كنتِ جادّة فيما قلته في المحكمة؟»
تردّدت للحظة تبحث عن كلمةٍ تُنقذ ما تبقى من روحها، ثم أجابت ببرودٍ متعَب:
«لم يعد لذلك معنى… أليس كذلك؟»
التفتت نحوه وعيناها تبرقان بوميض تحدٍّ حزين:
«إن كنتَ لا تزال ترفض الطلاق فسأُخبر العالم كلّه أنّ لي رجلًا آخر منذ زمن.»
كانت تلك الكلمات أشبه بخنجرٍ مسموم تعرف تمامًا أين يغرس نصله فالسمعة عند ظافر تاجٌ لا يُدنَّس وسمعة شركته بُنيت على صرامة لا ترحم لكنه رسم على ثغره ابتسامة خافتة كابتسامة صخرٍ يتهكّم على الريح وقال بهدوء يقطر تهديدًا:
«أتدرين ما الذي يحدث لمن يجرؤ على ابتزازي؟»
ضغطت سيرين على شفتيها حتى كادت تنزف بينما واصل صوته يسرد حكاية قديمة:
«قبل أعوام حاول صاحب مشروعٍ عقاري أن ينتزع منّي صفقةً بمئات الملايين مقابل قطعة أرض وقال إنه سيفضح الشركة إن لم أوقّع… وفي النهاية وجدوه طافيًا في النهر.»
ارتجف قلبها حالما تذكّرت تلك الليلة جيدًا؛ يومها كانت الصحف تعجّ بخبر الغريق المجهول وكان مـ,ـزاج ظافر يومها ساكنًا على نحوٍ غريب بعد غضب احتل ملامحه بالفترة السابقة لهذا الحدث كأن العاصفة في داخله قد سكنت.
ارتسم الخوف على ملامحها كوشمٍ بارد لكنها رفعت رأسها متظاهرة بالتماسك:
«كل ما أريده… هو الطلاق.»
انحرف صوته فجأة وجاء صـ,ـارماً كحدّ السـ,ــ,ـكين:
«وأنا لا أريده.»
ترددت الكلمة في المقصورة كرجع صاعقة لتعلّق بينهما كحاجزٍ من ليلٍ لا ينقشع.
وتحت سطوة لحظةٍ متسارعة لم يُدركا كيف انزلقت كان الحديث بينهما ما يزال معلقًا في الهواء حين انقضّ الخطر من زاوية الطريق وإذا بشاحنة هائلة قد اندفعت من تقاطعٍ غافل كوحشٍ يفترس السكون لمحها ظافر أولاً فانتفضت يده على عجلة القيادة في حركةٍ خاطفة، عيناه تلتقطان الخطر بينما يلتفت نحو سيرين كمن يحاول انتشالها من قدرٍ محتوم لكن الزمن كان قد أعلن تمرّده.
ففي لحظةٍ تتسع فيها الثواني حتى تغدو دهورًا اندفع ظافر بجسده ليغدو درعًا حيًا أمامها.
وفجأة ارتطم الحديد بالحديد بصوتٍ جلجل كالرعد فارتجّت الأرض وأظلم الأفق… شعرت سيرين برذاذٍ دافئ يتناثر على وجهها رائحة معدنية حادة تشبه الصدأ… لم ترَ سوى لونٍ واحد… لون أحمر فاقع كغروبٍ دامٍ.
صرخت والدمعة تختنق في حلقها:
“ظافر!”
لكن الصمت الذي تلا صرختها كان أثقل من الرصـ,ـاص والشاحنة أمامهما توقفت للحظة قبل أن يفرّ الأجنبيان هاربين كظلالٍ بلا ملامح أحدهما كان توني ذاك الذي طالما حمل ثأرًا فمنذ أن كسر رجال ظافر كبرياءه في الفندق وهو يتربص بلحظة انتقام واليوم وجدها.
بعد دقائق امتدّت كسنين وصلت سيارة ليونارد وعيناه اصطدمتا بالمشهد:
سيارة ظافر ممزقة، زجاجها الأمامي شظايا ليلٍ مكسور… أما ظافر فكان غائبٌ عن الوعي وسيرين غارقةٌ في دم ساقيها بوجه شاحب.
أمسك ليوناردو هاتفه بيدٍ مرتجفة يتصل بالشرطة والإسعاف فيما عقله يحاول اللحاق بالكارثة.
أما سيرين فقد بدا لها أن المستشفيات صارت قدَرها الأبدي وصفير الأجهزة الطبية يلاحقها كأنينٍ خافت يذكّرها بحادثٍ قديم خطف أباها من بين يديها والآن… ظافر.
ذلك الرجل الذي اتخذ من جسده جدارًا يحجب عنها الموت، متسائلة بين الوعي واللا وعي:
لماذا؟ ما الذي يدفعه إلى فعل هذا؟
أرادت أن تفتح عينيها، أن تتأكد أنه ما زال يتنفس لكن الجفون كانت أثقل من الجبال ومن خلال غشاوةٍ من أصواتٍ بعيدة تسلّل إلى سمعها صوت الطبيب وهو يخاطب الممرضة بحزمٍ يقطر قلقًا:
“إنه الرئيس التنفيذي لمجموعة نصران. علينا أن نفعل المستحيل… لا يمكن أن نفقده هنا.”
ارتجفت روحها منتفضة… لا، لا يمكن أن يموت.
كان القلب يصرخ داخلها صـ,ـرخةً بلا صوت:
**عُد يا ظافر… عُد بالله عليك.**
