رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثالث والثمانون 283 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثالث والثمانون


خارج النوافذ كان الليل يلفّ المدينة بوشاحٍ من بياضٍ لا ينتهي إذ ما زال الثلج يتساقط في صمتٍ كثيف كأن السماء تنفض أسرارها على الأرض وفي عمق السكون تماوج حلمٌ طويل في ذهن سيرين، حلمٌ مموّهٌ كضباب فجرٍ بعيد حتى أن ملامحه تلاشت قبل أن تتمكن من الإمساك بها ولم يبقَ سوى أصواتٍ مبعثرة تهمس حولها.

وهناك صوتٌ خافت كأنه يأتي من وراء غلالةٍ من غيوم:

«هل هي… حامل؟»

وجاء الجواب بوضوحٍ قاطع:

«نعم، ثمانية أسابيع كاملة.»

ارتجف هواء الغرفة لحظةً مع ارتعاشة قلب شادية التي تألّق في عينيها نورٌ خفيّ، مزيج من ذهول وفرحٍ مكبوت. ثمانية أسابيع! أي إن ما ينمو في رحم سيرين ليس سوى دمٍ من دم ظافر… حفيدٌ يسري في عروقه ماء ابنها.

اقتربت شادية من الطبيب وفي صوتها رجاءٌ ممزوج بصلابة الأم:

«دكتور لويد… اعتنِ بها جيدًا وأحط الطفل بكل عناية… لا أريد ظلّ خطرٍ يمرّ بهما.»

أجابها الطبيب بثقةٍ وهدوء:

«اطمئني سيدة شادية… لن يصيبهما أذى.»

لكن القلق ظلّ يثقل صدرها كحجرٍ بارد فكيف سيهدأ لها قلب وظافر يرقد خلف جدران العناية المركزة بين الحياة والموت؟ لذلك لم يكن بوسعها أن تدع أي سوء يقترب من الحفيد الذي تحمله سيرين ذاك الامتداد الخفي لروح ابنها ما إن فارق الحياة فسيبقى أثره في رحم سيرين.

وحين غادرت شادية إلى جناح العناية انبلج ببطءٍ باب الوعي أمام سيرين ففتحت عينيها المنهكتين لتستقبلها أضواء باهتة تتراقص كنجومٍ في ضباب وها هي ترفع يدًا مرتجفة كأنها تتحقق من حلم ثم وضعتها على بطنها بحنوٍّ غريزي لتتلمس النبض المستر بينما لُفت ساقيها بالشاش بياضه كثلج الخارج… لمحتها الممرضة فتهللت ملامحها قائلة:

«أوه… آنسة تهامي! استيقظتِ أخيرًا.»

قالتها واقتربت بخفةٍ لتبدل الضمادات فهمست سيرين بشفاهٍ جافة كأرضٍ عطشى:

«طفلي…؟»

ابتسمت الممرضة ابتسامةً مطمئنة وقالت بنبرةٍ دافئة:

«الطفل بخير… إصاباتك سطحية وبعض الجروح في ساقيكِ فقط… لقد حماكِ السيد ظافر بجسده… لولاه لكانت العاقبة أدهى فمقعد الراكب كان أخطر ما في الحـ,ـادث.»

ارتجف قلب سيرين وتدفقت الكلمات من فمها قبل أن تسال:

«كيف حال ظافر؟»

كان صدى حديث الأطباء أثناء جراحتها لا يزال يطن في أذنها—ذلك الهمس المروع:

*قد لا ينجو.*

خفضت الممرضة بصرها وأجابتها بحذرٍ:

«السيد ظافر ما زال في العناية المركزة… حالته حرجة.»

حاولت سيرين النهوض لكن يد الممرضة أمسكت بها برفقٍ حازم:

«لا، لا تتحركي… حتى لو استيقظتِ الآن لن يُسمح لكِ برؤيته في الوقت الحالي… أنتِ بحاجة إلى راحة لأجل طفلك أيضاً.»

أغمضت سيرين عينيها من جديد ورأسها يدور كدوامة فلم تجد أمامها سوى أن تستلقي مجدداً على الفراش فيما الثلج في الخارج يواصل هطوله كأنه يكتب على الأرض دعاءً صامتًا.

——————-

تساقط الثلج في الخارج كثوبٍ أبيض يكسو المدينة يلوح في الأفق كرسائل صامتة من السماء وفي أروقة المستشفى الموشّاة برائحة المطهّرات وضوء المصابيح الشاحب هرعت كوثر ورامي حين سمعا بأن سيرين قد استفاقت تتعجّل خطواتهما وكأن القلق يطارد أنفاسهما فرامي قد شهد الحادث من بعيد بينما كان يتعقب سيارة ظافر بحذرٍ لا يكفي لصدّ القدر وحين دوّى الاصطدام لم يملك إلا أن يرسل رجاله يقتفون أثر الفاعل ويبحثون عن اليد التي دفعت بسيرين وظافر إلى هذا المصير.

اقتربت كوثر من سرير سيرين وعينيها تتلألآن بوميض الدموع:

«سيرين… كيف حالكِ الآن؟ هل تشعرين بالألم؟»

أومأت سيرين برأسها في هدوءٍ:

«أنا بخير…»

تقدّم رامي يقول بصوت يحمل مزيجًا من الحذر والصرامة:

«تمّ القبض على السائق الذي صدمكما… إنّه توني ذلك الأجنبي… لقد فعلها انتقامًا من ظافر.»

ثم روى لها كيف قام ظافر بسلب أعمال هذا التوني في الخارج وكيف ارتدّ الغدر كطلقةٍ تبحث عن صدره وحين اكتملت الصورة أمامها شعرت سيرين بثقلٍ رماديّ يضغط قلبها لم يكن ظافر سوى الحامي الذي بادر بالقصاص لها ممن تواقـ,ـح وتتطاول ولم يكن توني سوى وجهٍ آخر للانتقام.

مدّت كوثر يدها تلامس أصابع سيرين المرتجفة وهمست بحذرٍ يشوبه الأسى:

«كان القاضي على وشك أن يوافق على طلاقكما اليوم… لكن ليونارد أخبره بما حدث فتبدّل الحكم… خفضت كوثر رأسها بخزي وأضافت:

“لقد رُفض الطلاق.»

لم ترتعش ملامح سيرين كأن الصدمة باتت صديقًا قديماً:

«أتفهم ذلك… لكن لا تخبري فاطمة والأولاد بما جرى معي… لا أريد لهم قلقًا لا طائل منه.»

أومأت كوثر سريعًا:

«اطمئني، لن يعرفوا شيئًا.»

وقف رامي حارسًا عند الباب فيما ظلّت كوثر إلى جانبها حتى سمعت خبرًا آخر يتسلل كنسيمٍ ثقيل:

شادية علمت بأمر الحمل.

همست كوثر بنبرةٍ مشوبة بالحيرة:

«وماذا سنفعل الآن؟»

أطبقت سيرين جفنيها للحظة تبحث عن جوابٍ في غياهب روحها:

«لا أعلم… علينا أولًا أن ننتظر لنر إن كان ظافر سيستيقظ.»

قالت كوثر بصوتٍ منخفضٍ يقطر بالقلق:

«ألقيتُ نظرة على وحدة العناية المركّزة… الحراس يطوّقون المكان ولا أحد يُسمح له بالدخول… كما أنني سألت الطبيب فالتزم الصمت فظافر هو نبض مجموعة نصران ومن الطبيعي أن تُحاط حالته بجدارٍ من الأسرار.»

أومأت سيرين برأسها في تيه وقالت:

«كوثر اذهبي لترتاحي أنتِ ورامي… سأتصل بكِ إن احتجت إلى شيء.»

اعترضت كوثر برفق:

«لكنّكِ وحدك هنا…»

طمأنتها سيرين بصوتٍ متماسك:

«أخبرني الطبيب أن إصابتي سطحية لا خطر فيها… غدًا بعد ليلة من الراحة سأستطيع الخروج.»

تنهّدت كوثر وأومأت:

«حسنًا… سأعود صباحًا.»

وغادرت أخيرًا فيما بقي رامي يحرس الممرّ بعيونٍ لا تنام.

ظلت سيرين وحدها تحدّق من خلف زجاج النافذة في عتمةٍ تكسوها خيوط الثلج والغربة تسري في عروقها بينما الصمت يهمس في أعماقها:

إن رحل ظافر إلى الأبد فلن تجد سلامًا وسيبقى قلبها رغم كل شيء مثقلاً بندبةٍ لا تندمل.


تعليقات