رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والخامس والثمانون
انحنت أنوار الغرفة على ملامح سيرين كستارٍ من عتمةٍ لينة وفيما انحصر الثلج خلف النافذة في سباقٍ صامتٍ مع الليل كانت الممرضة قد وضعت عشاءها منذ دقائق لكن شهية سيرين كانت كطيورٍ جائعة تخشى الحَبّ؛ فلم تزد على بضع لقيماتٍ ذائبة الطعم.
وفجأةً انفتح الباب على خشخشةٍ خافتة ثم دخلت شادية وأغلقت الستائر ببطءٍ متعمّد كأنها تُخفي العالم خارج الجناح.
لم يبقَ من جمال شادية السابق سوى أطيافٍ باهتة وبدت في ذلك الضوء الرماديّ أكثر هشاشةً من أيّ وقتٍ مضى… سكن الصمت أرجاء المكان حتى صار تنفّس الاثنتين يُسمَع بوضوح ومن ثم استدارت شادية أخيرًا وعينيها تقدحان بصلابةٍ تتنازعها الخيبة:
«الطفل الذي تحملينه… هو ابن ظافر، أليس كذلك سيرين؟»
انفلتت الكلمات من شفتي سيرين كارتعاشةٍ دفاعية:
«لا.»
تقلّصت ملامح شادية ثم أطبقت جفنيها لتستعيد رباـ,ـطة جـ,ـأشها وجاء صوتها هادئ لكنه يقطر يقينًا:
«لا تحاولي إنكار الواضح… أعلم أنكِ كنتِ مع ظافر حين بدأ هذا الحمل.»
رفعت سيرين حاجبيها بسـ,ـخريةٍ مُرة وقالت بتهكّمٍ يجرح السكون:
«هل كنتِ تنامين بيننا في الليل؟»
تجمّدت شادية للحظة كأن المفاجأة أقصتها عن لسانها وبما أن ظافر لم يكن قد استفاق بعد وها هي سيرين تُصرّ على النفي، انفتحت أمامها هاوية الشكّ فتساءلت شادية دون صوت:
أتُراها تحمل في أحشائها وريثًا لا يمتّ لعائلة نصران بصلة؟
فكرةٌ كهذه لا يمكن السماح لها بأن تتنفس فتقدمت شادية بخطواتٍ بطيئة كل منها أشبه بنصلٍ يقترب:
«سيرين…» جاء صوتها خفيضًا، مزيجًا من اعترافٍ وتهديدٍ مكتوم،
«أعرف أنّني كنتُ قاسية معكِ من قبل لكن إن اخترتِ أن تكذبي في أمر كهذا، فتلك جريمة بحقّنا جميعًا… هذا الطفل—مهما كان صغره—لا يحقّ لكِ أن تنكريه عنا إن كان من دم عائلتنا.»
في ذلك الجو الملبّد ببرودة الثلج ورائحة المطهّرات بدا كل حرفٍ من كلمات شادية كحدّ سيفٍ يلمع في عتمةٍ حبيسة فيما بقي قلب سيرين ينبض بين الحقيقة والمواجهة كعصفورٍ يتقلّب في قبضةٍ من حديد.
ظلت الكلماتُ تتناوب في ذهن سيرين كأمواجٍ متكسّرة فهي تُدرك أنّ شادية امرأةٌ لا تهدأ إلا إذا أحكمت قبضتها على كلّ شيء… وتلك السيطرة المهووسة تتغذّى من خوف سيرين العميق فلو انكشف السرّ لشادية لن تترك لذلك الطفل فسحةً واحدة من الحرية كي تحتضنه سيرين بعد أن يُبصر النور لذا رفعت سيرين رأسها وصوتها ينساب كخيطٍ من حديدٍ مغطّى بالمخمل:
«سيدتي شادية… لقد شرحتُ لكِ الحقيقة مرارًا… وإن بقي في قلبكِ ظلّ شكّ فاسألي ابنكِ ظافر بنفسكِ.»
تصلّبت ملامح شادية وارتجفت نظرتها كمن اصطدمت بريحٍ باردة فلمّا انحدر اسم ظافر من فم سيرين بتلك الطريقة المهينة تلظّت عينا شادية بحُمرةٍ عاتية وقالت بصوتٍ يقطر غيظًا ووجعًا:
«كيف تجرئين على ذكر اسمه بسخرية كهذه؟! ألا تعلمين أنه ما زال يصارع بين الحياة والموت بعد أن أنقذكِ؟ الطبيب قال…» تعثّر صوتها لحظةً ثم اندفع كالسكين،
«قال إنّ شظايا الزجاج اخترقت عينيه كلتاهما… فلم يعد هناك أملٌ في إنقاذ بصره.»
تجمّدت سيرين في مكانها كأن الزمن تخلّى عنها وعيناها تتّسعان بذهولٍ لم تعرف له مثيلًا:
«ماذا؟!»
أردفت شادية والدماء تنبض في قبضتيها المغلقتين،
«حتى لو استيقظ ظافر من غـ,ـيبوبته، فالعتمة قدره… سيبقى أعمى.»
كان وقع الكلمات أشبه بسقوط سقفٍ حجريّ على صدر سيرين فصورةُ ظافر الذي اعتاد أن يملأ المكان بنظرةٍ واثقة بدت فجأةً كلوحةٍ يُسدل عليها ستارٌ أسود… رجلٌ وُلِد وفي فمه ملعقةٌ من فضة سيختنق الآن في ظلامٍ أبدي!! كيف لرجلٍ يفيض فخرًا وكبرياء أن يتصالح مع عتمةٍ لا فجر بعدها؟!
انسابت ذكرياتُها على غير إرادة لماضٍ كانت فيه موضع سخرية الأثرياء لضعف سمعها وكم خشي ظافر أن يصطحبها إلى حفلاتٍ تتعالى فيها همساتُ الاستهزاء فكانت تعرف أنّ تلك العلّة التي بها تجرح كبريائه وجعلته ينأى عنها… وها هي الحياة في مفارقةٍ لا ترحم تنتزع منه نور عينيه اللتين كانتا تلمعان كبريق سيف وتتركه في فراغٍ لا يحدّه سوى الظلام.
كانت شادية تحدِّق في وجه سيرين بعينين يختلط فيهما الكبرياء بندمٍ متأخر كأنهما مرآتان تنعكسان على ماضٍ أثقلته الأخطاء فرأت خلف سكون ملامح سيرين رقّةً لم تكن تدرك وجودها من قبل؛ رقّةً تُشبه حفيف نسمةٍ في ليلٍ خانق.
تقدّمت شادية خطوة أخرى وصوتها يخرج متهدّجًا كاعترافٍ يُنتزع من صدرٍ متحجِّر:
«يا سيرين… لقد أخبرني ظافر أنّكِ من أنقذتِ حياتي في البداية لم أصدّق كلمات واعتقدتُ أنّه يزيّن الحقيقة… فأرسلتُ من يتحقّق فاكتشفتُ أنني كنتُ العمياء… العمياء عن منقذي الحقيقي… لذا جئتُ لأعتذر لكِ الآن… لقد دفع ظافر ثمن خطاياي حين خاطر بروحه لينقذكِ هذه المرّة. لكن…» رفعت عينيها اللتين لاح فيهما لمعة حزنٍ وعناد واستكملت،
«لكن لا يجوز لكِ أن تجحدي هذا الجميل.»
توقّفت شادية لحظة كأنها تتذوّق مرارة السؤال قبل أن تلقيه بطريقة مختلفة:
«أخبريني يا سيرين بصدقٍ هذه المرة… من والد الطفل الذي ينمو في رحمك؟»
كانت الكلمات كحبات مطرٍ ثقيلٍ تسقط في صمت الغرفة فترددت سيرين بينما يداها تتشابكان كمن يحاول الإمرساك بفكرةٍ تتفلّت وفي أعماق شادية كانت الخطة تتشكل:
إن اعترفت سيرين بأنّ الجنين من دم ظافر فلن تتوانى عن احـ,ـتضانه وسترعاه ليكون وريثًا لاسم العائلة بل وآخر خيطٍ يربطها بالمجد.
صمتٌ طويلٌ تخلله نبضٌ مسموع وما إن فتحت سيرين فمها لتتأرجح الكلمات على حافة الإفصاح دوّى طرقٌ عنيفٌ على الباب قاطعًا لحظة الحقيقة فاستدارت شادية بارتباك ومدّت يدهـ,ـا لتفتح ومن الممرّ جاء صوتُ المـ,ـمرضة لاهثًا، تخـ,ـتلط أنفاسها العاجلة بنبأٍ يرتجف:
«سيدة شادية… السيد ظافر…»
تجمّدت الحروف التالية في الهواء كأنها وميض برقٍ لم يكتمل تاركةً الغرفة غارقةً في ترقّبٍ يشبه حبس الأنفاس قبل العاصفة.
وفجأةً انفتح الباب على خشخشةٍ خافتة ثم دخلت شادية وأغلقت الستائر ببطءٍ متعمّد كأنها تُخفي العالم خارج الجناح.
لم يبقَ من جمال شادية السابق سوى أطيافٍ باهتة وبدت في ذلك الضوء الرماديّ أكثر هشاشةً من أيّ وقتٍ مضى… سكن الصمت أرجاء المكان حتى صار تنفّس الاثنتين يُسمَع بوضوح ومن ثم استدارت شادية أخيرًا وعينيها تقدحان بصلابةٍ تتنازعها الخيبة:
«الطفل الذي تحملينه… هو ابن ظافر، أليس كذلك سيرين؟»
انفلتت الكلمات من شفتي سيرين كارتعاشةٍ دفاعية:
«لا.»
تقلّصت ملامح شادية ثم أطبقت جفنيها لتستعيد رباـ,ـطة جـ,ـأشها وجاء صوتها هادئ لكنه يقطر يقينًا:
«لا تحاولي إنكار الواضح… أعلم أنكِ كنتِ مع ظافر حين بدأ هذا الحمل.»
رفعت سيرين حاجبيها بسـ,ـخريةٍ مُرة وقالت بتهكّمٍ يجرح السكون:
«هل كنتِ تنامين بيننا في الليل؟»
تجمّدت شادية للحظة كأن المفاجأة أقصتها عن لسانها وبما أن ظافر لم يكن قد استفاق بعد وها هي سيرين تُصرّ على النفي، انفتحت أمامها هاوية الشكّ فتساءلت شادية دون صوت:
أتُراها تحمل في أحشائها وريثًا لا يمتّ لعائلة نصران بصلة؟
فكرةٌ كهذه لا يمكن السماح لها بأن تتنفس فتقدمت شادية بخطواتٍ بطيئة كل منها أشبه بنصلٍ يقترب:
«سيرين…» جاء صوتها خفيضًا، مزيجًا من اعترافٍ وتهديدٍ مكتوم،
«أعرف أنّني كنتُ قاسية معكِ من قبل لكن إن اخترتِ أن تكذبي في أمر كهذا، فتلك جريمة بحقّنا جميعًا… هذا الطفل—مهما كان صغره—لا يحقّ لكِ أن تنكريه عنا إن كان من دم عائلتنا.»
في ذلك الجو الملبّد ببرودة الثلج ورائحة المطهّرات بدا كل حرفٍ من كلمات شادية كحدّ سيفٍ يلمع في عتمةٍ حبيسة فيما بقي قلب سيرين ينبض بين الحقيقة والمواجهة كعصفورٍ يتقلّب في قبضةٍ من حديد.
ظلت الكلماتُ تتناوب في ذهن سيرين كأمواجٍ متكسّرة فهي تُدرك أنّ شادية امرأةٌ لا تهدأ إلا إذا أحكمت قبضتها على كلّ شيء… وتلك السيطرة المهووسة تتغذّى من خوف سيرين العميق فلو انكشف السرّ لشادية لن تترك لذلك الطفل فسحةً واحدة من الحرية كي تحتضنه سيرين بعد أن يُبصر النور لذا رفعت سيرين رأسها وصوتها ينساب كخيطٍ من حديدٍ مغطّى بالمخمل:
«سيدتي شادية… لقد شرحتُ لكِ الحقيقة مرارًا… وإن بقي في قلبكِ ظلّ شكّ فاسألي ابنكِ ظافر بنفسكِ.»
تصلّبت ملامح شادية وارتجفت نظرتها كمن اصطدمت بريحٍ باردة فلمّا انحدر اسم ظافر من فم سيرين بتلك الطريقة المهينة تلظّت عينا شادية بحُمرةٍ عاتية وقالت بصوتٍ يقطر غيظًا ووجعًا:
«كيف تجرئين على ذكر اسمه بسخرية كهذه؟! ألا تعلمين أنه ما زال يصارع بين الحياة والموت بعد أن أنقذكِ؟ الطبيب قال…» تعثّر صوتها لحظةً ثم اندفع كالسكين،
«قال إنّ شظايا الزجاج اخترقت عينيه كلتاهما… فلم يعد هناك أملٌ في إنقاذ بصره.»
تجمّدت سيرين في مكانها كأن الزمن تخلّى عنها وعيناها تتّسعان بذهولٍ لم تعرف له مثيلًا:
«ماذا؟!»
أردفت شادية والدماء تنبض في قبضتيها المغلقتين،
«حتى لو استيقظ ظافر من غـ,ـيبوبته، فالعتمة قدره… سيبقى أعمى.»
كان وقع الكلمات أشبه بسقوط سقفٍ حجريّ على صدر سيرين فصورةُ ظافر الذي اعتاد أن يملأ المكان بنظرةٍ واثقة بدت فجأةً كلوحةٍ يُسدل عليها ستارٌ أسود… رجلٌ وُلِد وفي فمه ملعقةٌ من فضة سيختنق الآن في ظلامٍ أبدي!! كيف لرجلٍ يفيض فخرًا وكبرياء أن يتصالح مع عتمةٍ لا فجر بعدها؟!
انسابت ذكرياتُها على غير إرادة لماضٍ كانت فيه موضع سخرية الأثرياء لضعف سمعها وكم خشي ظافر أن يصطحبها إلى حفلاتٍ تتعالى فيها همساتُ الاستهزاء فكانت تعرف أنّ تلك العلّة التي بها تجرح كبريائه وجعلته ينأى عنها… وها هي الحياة في مفارقةٍ لا ترحم تنتزع منه نور عينيه اللتين كانتا تلمعان كبريق سيف وتتركه في فراغٍ لا يحدّه سوى الظلام.
كانت شادية تحدِّق في وجه سيرين بعينين يختلط فيهما الكبرياء بندمٍ متأخر كأنهما مرآتان تنعكسان على ماضٍ أثقلته الأخطاء فرأت خلف سكون ملامح سيرين رقّةً لم تكن تدرك وجودها من قبل؛ رقّةً تُشبه حفيف نسمةٍ في ليلٍ خانق.
تقدّمت شادية خطوة أخرى وصوتها يخرج متهدّجًا كاعترافٍ يُنتزع من صدرٍ متحجِّر:
«يا سيرين… لقد أخبرني ظافر أنّكِ من أنقذتِ حياتي في البداية لم أصدّق كلمات واعتقدتُ أنّه يزيّن الحقيقة… فأرسلتُ من يتحقّق فاكتشفتُ أنني كنتُ العمياء… العمياء عن منقذي الحقيقي… لذا جئتُ لأعتذر لكِ الآن… لقد دفع ظافر ثمن خطاياي حين خاطر بروحه لينقذكِ هذه المرّة. لكن…» رفعت عينيها اللتين لاح فيهما لمعة حزنٍ وعناد واستكملت،
«لكن لا يجوز لكِ أن تجحدي هذا الجميل.»
توقّفت شادية لحظة كأنها تتذوّق مرارة السؤال قبل أن تلقيه بطريقة مختلفة:
«أخبريني يا سيرين بصدقٍ هذه المرة… من والد الطفل الذي ينمو في رحمك؟»
كانت الكلمات كحبات مطرٍ ثقيلٍ تسقط في صمت الغرفة فترددت سيرين بينما يداها تتشابكان كمن يحاول الإمرساك بفكرةٍ تتفلّت وفي أعماق شادية كانت الخطة تتشكل:
إن اعترفت سيرين بأنّ الجنين من دم ظافر فلن تتوانى عن احـ,ـتضانه وسترعاه ليكون وريثًا لاسم العائلة بل وآخر خيطٍ يربطها بالمجد.
صمتٌ طويلٌ تخلله نبضٌ مسموع وما إن فتحت سيرين فمها لتتأرجح الكلمات على حافة الإفصاح دوّى طرقٌ عنيفٌ على الباب قاطعًا لحظة الحقيقة فاستدارت شادية بارتباك ومدّت يدهـ,ـا لتفتح ومن الممرّ جاء صوتُ المـ,ـمرضة لاهثًا، تخـ,ـتلط أنفاسها العاجلة بنبأٍ يرتجف:
«سيدة شادية… السيد ظافر…»
تجمّدت الحروف التالية في الهواء كأنها وميض برقٍ لم يكتمل تاركةً الغرفة غارقةً في ترقّبٍ يشبه حبس الأنفاس قبل العاصفة.
