رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والخامس والثمانون
اندفعت شادية خارج الغرفة بخطى مسرعة تسبقها رجفةُ قلقٍ مكلوم فهرعت سيرين خلفها مـ,ـدفوعةً بنداءٍ لا تستطيع كبته لكن قبل أن تبلغ ممرّ العناية المركّزة في الطابق الثاني اعترضها أحد الحُرّاس بصرامةٍ تشبه صليل الحديد:
«أعتذر يا سيّدتي،» قال وهو يقف سدًّا بشريًّا أمام المصعد، «أمرت السيدة شادية بألا يصعد أحدٌ إلى الطابق الثاني سواها.»
توقفت سيرين وصوت قلبها يضرب في صدرها كطبلٍ مبحوح فلم تجد مهربًا سوى أن تعود إلى جناحها تحبس أنفاسها في قفص الانتظار.
جلست هناك يداها متشابكتان في حـ,ـضـ,ـنها، تتسع عيناها في ظلامٍ داخليٍّ لا يبدده ضوء، وظلت تترجّى بلا اعترافٍ ولا صلاة أن تبقى عينا ظافر في مأمن من العطب ليس لأن الحب ما زال يربطها به بل لأنها لا تريد دينًا جديدًا يُثقل ميزانها نحوه؛ دينًا لا فكاك منه.
مرّت الدقائق بلا ملامح حتى طرق الباب طرقةً خافتةً لكن حادّة:
«سيدة تهامي،» قال أحد الحراس الشخـ,ـصيين، «السيـ,ـدة شادية تطلب حضورك حالًا.»
نهضت سيرين كمن يخطو داخل كابوس قميء واتجهت نحو المصعد… هناك بدا الطابق الثاني كما وصفـ,ـته كوثر من قبل:
حراسةٌ صارمة… صمتٌ كثيف يقطعه أزيز الأجهزة الطبـ,ـية ووقع الأحذية العـ,ـسكرية… لا أحد سوى شـ,ـادية، والحرس، وطاقمٍ طبيٍّ يتحرّك كالأشباح.
تقدّم أحد الحراس نحو شادية وقال بنبرةٍ متحفظة:
«سيدتي، الآنسة تهامي وصلت.»
استدارت شادية ببطء وملامحها شاحبة من السهر والدمع، وعيناها مشتعلة بحمرةٍ توحي بليلةٍ من القلق والعتاب ومن ثم همست بصوتٍ متكسر:
«ظافر… يريد أن يراكِ.»
اكتفت سيرين بإيماءةٍ قصيرة كأن الكلمات لا تصلح لما يعتمل في صدرها وتقدّمت.
عندما انفتح باب الجناح انكشفت أمامها لوحة من الضوء البارد والمعدن… كان ظافر مستلقيًا وسط عالمٍ من الأجهزة والأسلاك، رأسه وعيناه مغمورتان في طبقات من الشاش الأبيض كأن الغيب قد لفّهما بليلٍ أبديّ.
توقفت سيرين عند العتبة تتأمله كما لو كانت تحدّق في أطلال رجلٍ كان يومًا عاصفة… انقبض قلبها على صورةٍ قديمة لوالدها حين سقط ذات يومٍ تحت عجلات القدر، ذاك الضـ,ـعف الذي يسـ,ـكن كل جـ,ـسد مهما ادّعى القوة.
في تلك اللحظة بدا ظافر أقلّ من أسطورة وأكثر من بشرٍ مكسور كتمثالٍ عظيمٍ تهـ,ـدّمت عيناه وبقيت روحه تصـ,ـارع الصمت.
توقّفت سيرين عند العتبة تتردّد قدماها كأن الأرض تحتها هاويةٌ من زجاج… لم تجرؤ على الاقتراب من ظافر واكتفت بمسافةٍ لا تتعدّى بضع خطوات… مسافةٍ تشبه حاجزًا من خوفٍ قديم وارتباكٍ جديد… لم يطاوعها لسانها بكلمةٍ واحدة حتى بدا الصمت أثقل من كل الآلات التي تطنّ حوله.
طال الانتظار وملأ الصمت الغرفة حتى صار كأنه كائنٌ ثالث بينهما قبل أن يرفع ظافر يده المعصوبة بالشاش بحركة مرتجفة لكنها قاطعة وصوتُه يخرج همسًا كأنه يناديها من غياهب الحلم:
«سيرين…»
كان دائمًا ينطق اسمها كاملاً بلا تصغيرٍ ولا تحريف كأن فيه سرًّا لا يليق أن يُمسّ فارتجف قلبها وسحبت قدميها ببطءٍ نحوه والهواء من حولها يضغط على صدرها وهمست أخيرًا:
«أنا هنا…»
حين التقطت أذنُه نبرتها بدا وكأن روحه استردّت أنفاسها وزفر تنهيدةً خافتةً حركت الستائر المعقودة على قلبها ثم خرج صوته من خلف الضمادات مبحوحًا ومتعَبًا:
«أنا… متألم يا سيرين…»
ارتعشت أصابعها فهي لم تعهده ضـ,ـعيفًا قط ولم تره يومًا يتحدث عن وجعه بهذه الطريقة العارية وقبل أن تتمكّن من قول شيء باغتها بكلماتٍ أربكت كيانها:
«تعرفين أنّني لا أحب الغرباء… سيرين، أخرجيهم من هنا… أنا لا أعرفهم… أنتِ… أنتِ أنا.»
تجمّدت ملامحها وكأن الجدران التهمت عقلها فالتفتت تبحث عن معنى في وجه شادية فلم تجد سوى دموعٍ حارّة تهرب من عينيها بينما قال الطبيب من طرف الغرفة… صوته يقطّع الحيرة ببرودةٍ مهنية:
«بعد الحادث فقد السيد ظافر جزءًا من ذاكرته… بل على ما يبدو أنه لا يتذكّر شيئًا على الإطلاق لكن أول كلمة نطق بها عند استيقاظه كانت اسمكِ… ولم يهدأ حتى طلب رؤيتك.»
تراجعت سيرين خطوةً، عيناها تتسعان في إنكارٍ بالكـ,ـاد يُسمع غير مصدقة:
«مستحيل…»
لكن الكلمة بالكاد ارتدّت عن شفتيها حتى امتدّت يدا ظافر فجأةً نحو الأسلاك والأنابيب يمزّق القيود الطبية باندفاعٍ غير محسوب فاهتزّ جسده بين الأجهزة ثم سقط بثقله على الأرض سقوطًا دوّى في قلبها أكثر مما دوّى في الغرفة كأن العالم كلّه انكسر في تلك اللحظة.
ارتجّت الغرفة على وقع الفوضى وصوتُ شادية يعلو مذعورًا:
«ظافر! هل تسمعني؟ أأنت بخير؟»
كان كأن الألم لا يعنيه يتجاهل أيديهم الممتدّة نحوه يرفض أي مساعدةٍ بعنادٍ أشبه بصرخةٍ داخلية يمدّ يده المرتعشة في الفراغ يتلمّس الهواء وكأنه يبحث عن طوق نجاةٍ يراه بقلبه لا بعينيه:
«أين… سيرين؟»
ذلك النداء المبحوح اخترق صدرها فشعرت أن الحروف تحمل من الرعـ,ـب ما يفوق النزيف ذاته إذ بدا ظافر في تلك اللحظة كطفلٍ ضلّ طريقه، لا يشبه الرجل الذي عرفته يومًا؛ رجلٌ مهيب تحـ,ـوّل إلى كائنٍ يائس يفتّش عن اسمها في الظلام.
حاولت شادية أن تمسكه لتثنيه عن حركته الهوجاء فدفعها بعيدًا بلا وعي وجاء صوته يائساً يتصدّع له نياط القلب:
«سيرين… أين أنتِ؟ أنا… خائف!»
التفت الطبيب إليها واستعطافٌ جليّ في نبرته:
«سيدة تهامي أرجوكِ… إنه لن يهدأ إلا بكِ، تكلّمي معه.»
كأن الكلمات صفعتها فأعادتها إلى جسدها تزيح عن قلبها سحابة الارتباك وتقدّمت نحوه بخطى مترددة حتى صارت قربه ومن ثم مدت يدها فالتقت يده الساخنة المجبولة بالرجفة، تقول بصوتٍ منخفضٍ:
«أنا هنا ظافر… عد إلى السرير، أرجوك.»
ما إن تسلّل صوتها إلى أذنه حتى خمدت عاصفته وأرخى كتفيه كمن وجد برّ الأمان ومن ثم انقاد لها كطفلٍ مطيع يسمح لها أن ترشده إلى الفراش بينما الطبيب والممرضة يسابقان الزمن لإعادة تضميد جراحه.
تأمّلت سيرين جسده الممزق:
صدره المرهق، ساقاه المشـ,ـوهتـ,ـان، يديه الغارقتين في الندوب، ووجهه المربوط بالشاش كان المـ,ـشهد لوحةً من الألم لا يطيقها قلب ومع ذلك بدا هو غافلًا عن كل ما ينهشه من وجع يقبض على يدها بإصرارٍ خافت وكأنها الحبل الأخير الذي يربطه بالحياة يتمتم بشفاهٍ جافة بالكاد تتحرّك:
«سيرين… لا أرى شيئًا الآن… أخبريني… هل صرتُ قبيحًا في عينيكِ؟»
