رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسادس والثمانون
ظلّت سيرين مأخوذةً بالذهول عاجزةً عن تصديق أن ذاك الرجل الذي اعتاد أن يقرأ الوجوه كصـ,ـفحةٍ مفتوحة قد غـ,ـرق الآن في عتمة النسيان… الفكرة نفسها ارتدت في ذهنها كحجرٍ في بئر:
**فقدان ذاكرة؟** هي التي جرّبت حيلةً كهذه من قبل تعرف كيف تبدو لذا سحبت يدها من قبضته على الفور وحدّة الشـ,ـكّ في صوتها تقطع سكون الغرفة:
«كفى يا ظافر… أعلم أنّك تمثّل، أليس كذلك؟»
لكن ظافر المنهك حتى العظم مدّ يديه من جديد كطفلٍ يتلمّس طريقه في ليلٍ أعمى يبحث عن دفء اسمها في الفراغ:
«أين أنتِ يا سيرين؟»
كان الطبيب قد بدأ لتوّه في تضميد جراحه فخشي أن يتفجّر النزف من جديد إذ أن إصاباته كانت أخطر مما تسمح به تلك الحركات المضطربة لذا ألقى نظرة ذات مغـ,ـزى إلى الممرضة التي التقطتها على الفور وفجأةً ارتخت عضلات ظافر كأن صخرةً هوت على رأسه وقد خدرته الممرضة فانطفأت أنفاسه في نومٍ قسري وقبل أن يبتلع السكون صوته تمتم مبحوحًا بالكاد يُسمَع:
«سيرين…»
أشار الطبيب بحزمٍ منخفض:
«أرجوكما إلى الخارج الآن.»
خرجت سيرين وشادية معه إلى الممر ورائحة المطهّرات تحاصر الهواء فالتفت الطبيب نحو سيرين، وجاءت نبرته تجمع بين الصرامة والشفقة:
«سيدة تهامي لا يجوز لكِ استفزازه بعد الآن… وفقاً لتشخيصنا فإن السيّد ظافر يعاني ارتجاجًا شديدًا في الدماغ إذ أصابت الصدمة بعض أعصابه فتسبّبت بفقدان الذاكرة وهذا ليس ادّعاءً… لقد رأينا حالات مماثلة من قبل.»
ارتجف عقلها وهي تستعيد تصرّفاته؛ ارتباكُه، نداءُ اسمهـا المتكرّر، خوفُه الأعمى فهمست مترددة:
«لكن… لماذا يتذكّرني أنا بالذات؟»
أجاب الطبيب وهو يطالع ملاحظاته:
«أثناء الجراحة ظلّ يتمتم باسمكِ كأن ذكراكِ أوّل ما تمسّك به… ربما لهذا بقيت صورتكِ الوحيدة في ذاكرته المعتـ,ـمة.»
كلماتُه سقطت كحجرٍ آخر في صدر شادية التي حدّقت في الفراغ والغيرة تتسلّل إلى عينيها رغم قلقها إذ لم تستطع منع نفسها من استرجاع كلّ مرّة أبعـ,ـدها فيها ابنها عنها وهم في الداخل ليختار يد سيرين دون سواها ومن ثم قالت بصوتٍ مخنوق:
«دكتور… هل يمكن أن يستعيـ,ـد ذاكرتَه؟»
زفر الطبيب بنديكت تنهيدةً طويلة وعينيه تلمعان بصدقٍ متحـ,ـفظ:
«الأمر رهينُ حالته… إصابات الدماغ غامضة وعلومنا لم تبلغ بعد ما يضـ,ـمن الشفـ,ـاء.»
قالها وانفرط الصمت من جديد.. صمتٌ يتأرجح بين أملٍ هشّ وخوفٍ أثقل من الجـ,ـدران بينما هوت كلمات شادية في الفراغ كحجرٍ يرتطم ببحيرةٍ راكدة تخنقها الحيرة:
«وماذا عن عينيه يا دكتور؟ هل ثمة أمل أن تُشفى؟»
أطبق بنديكت شفتيه وأومأ بالنفي برأسٍ مثقلٍ بالأسى فكانت تلك الإيماءة وحدها كافيةً لتُشعل في قلب شادية فوضى الذعر؛ فالآن وقد سرق الحادث من ظافر بصره وذاكرته معًا بدت الشركة التي ورثها عن آبائه سفينةً بلا دفةٍ في بحرٍ غادر فبالفعل كان المساهمون يترقبون الخبر كنسورٍ تتحيّن لحظة السقوط وفجأة، اخترق صمت الطابق السفلي صخبٌ حادّ، صوتٌ مألوفٌ لشادية تمامًا:
«أنا هنا فقط لأرى ابن عمي، أليس من حقي ذلك؟»
أتى ردّ الحارس متينًا كجدارٍ بارد:
«عذرًا، لا يُسمح لأحد بالدخول دون إذن السيدة شادية.»
لكن الصوت عاد أكثر حدّة يهدر كريحٍ عنيدة:
«ألا تعرف من أنا؟»
ثم ارتفع هديره كزئيرٍ يقاوم الكبت، وصوتُ اشتباك: إذ أمسك زيدان بياقة الحـ,ـارس، يضـ,ـغطها بقسـ,ـوةٍ حتى كادت أن تتمـ,ـزق بين قبضته.
«دعني أعبر… أو أقسم أنني سأجعلك حبيس كرسيٍّ متحرك!»
ارتجّ السلم بأصداء العراك فالتفتت شادية إلى سيرين وفي عينيها بريقٌ حادّ كحدّ السـ,ـيف:
«ظافر في ما هو عليه الآن لأنه هرع لينقذكِ… ابقَي هنا واعتني به فهذا أقل ما يمكنكِ فعله.»
لم تنتظر شادية ردًّا؛ انحدرت على الدرج بخطى كمن يتبع صدى قدرٍ لا مفرّ منه… ثوان وعلا صوتها قائلة:
«لقد غفا ظافر توًّا يا زيدان… أهذا حقًا وقت الزيارة؟»
تجمّد زيدان في مكانه والذكرى القديمة لسطوة ابن عمّه تعود لتكتم أنفاسه فتراجع خـ,ـطوةً ثم أخرى والحنق يشتعل في عينيه مثل جمرةٍ تحت رماد:
فلم يجرؤ على الإلحاح بل غادر الممر متمهّلًا يجرّ خلفه ذيله المسموم من الغـ,ـيظ وبينما يغيـ,ـب صوته في دهاليز المشفى، ظلّ سؤالٌ واحدٌ يطنّ في رأسه كذبابةٍ لا تُطرد:
كيف لرجلٍ قيل إن الحادث مزّقه أن يظل حيًّا وكأنه يتحدّى الموت ذاته؟
عادت سيرين إلى الجناح كمن يجرّ خلفه ذيوـ,ـل عـ,ـاصفة وأصداء كلمات بنديكت لا تزال تطرق رأسها كطبولٍ مبهمة.
أعصاب دماغ ظافر متضرّرة… فقد ذاكرته تمامًا… لم يكن يمثل.
ترددت الجمل في أعماقها كوقع مطرٍ على زجاجٍ معتم… نعم، كان منطقيًا—كيف لرجلٍ مثله، متشبثٍ بعنفوانه، أن يتقبل بإرادته العمياء فكرةَ العمى الأبدي؟ لا بد أن النسيان هو الساتر الأخير الذي منحه القدر ليقيه صدمة الحقيقة فلو كان يذكر كيف كان لَمَا استسلم لِما هو عليه الآن.
إقتربت سيرين بخطى حذرة من السرير حيث يرقد ظافر غارقًا في سباتٍ عميق كأن الليل قد طوى روحه في عباءته السوداء تحدق في ملامحه المغطاة بضماداتٍ بيضاء فبدا لها كمدينةٍ مطموسة المعالم تحتفظ ببقايا مجدٍ ضائع.
تسللت إلى عقلها أسئلة تتناسل بلا توقف:
أيّ رجلٍ سيقوم من تحت هذا الركام؟ وأيّ ذكرى ستنجو من الحطام؟
ظلّت ساهرة إلى أن هدّها التعب فسقط رأسها على حافة السرير كزهرةٍ انحنت بثقل الندى وفي عمق صمت الفجر حين بدأ الضوء ينساب كخيطٍ فضيّ عبر ستائر الغرفة شعرت بلمسةٍ دافئة تُداعب شعرها فانتفضت عيناها على اتساعهما وإذا بيدٍ كبيرة خشنة تستقر على رأسها… رفعت بصرها فالتقت بأنفاسه اليقظة إذ كان ظافر مستيقظًا… ملامحه تسبح في شحوبٍ هادئ كتمثالٍ استفاق من حلمٍ طويل.
همست وصوتها يترنح بين الدهشة والخوف:
«أأنت مستيقظ؟»
تجمدت يده في الهواء، وتردده يفضح قلقًا دفينًا ثم خرج صوته مبحوحًا متكئًا على أنينٍ موجع:
«أنا… عطشان يا سيرين.»
ارتجف قلبها إذ لم تعتد أن تسمع صوته يلفظها بهذه الألفة وبهذا الاحتياج فأومأت برأسها سريعًا وعندما تذكرت أنه لم ولن يراها تمتمت تخونها الكلمات:
«حسنًا… سأحضر لك الماء حالاً.»
لكن يده ارتفعت مرةً أخرى كأنها تستبقيها للحظةٍ أطول في حين أن ابتعدت هي تتناول الكوب وسكبت الماء ببطءٍ يكاد يوازي خفقانها ثم قرّبته من شفتيه فأمسك هو الكوب بحذر أصابعه تلامس أصابعها كشرارةٍ خافتة وارتشف حتى آخر قطرة وكأن كل رشفة محاولة لاستعادة حياةٍ مسروقة.
ظل صامتًا لبرهةٍ تُشبه الأبد ثم همس مجددًا وصدى اسمها يتردد كنداءٍ من عالمٍ آخر:
«سيرين…»
أجابت بنبرةٍ رخيمة:
«أنا هنا.»
صمت ثانيةً ثم انفـ,ـرجت شفتاه عن طلبٍ بسيط لكنه بدا كاعترافٍ هشّ قاله وهو ينكس رأسه بخجل مكسـ,ـور… خجل وليد لطاغية لم يعرف يوماً معنى الاستجداء:
«أنا… أنا لم… أنا لم أذهب إلى الحمام منذ فترة.»
تسمرت الكلمات في حلقها لكن قلبها انحنى له حين أدركت أن الرجل الذي كان جبلًا صار الآن عالَمًا من كـ,ـسورٍ تبحث عن دفء حضورها.
