رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع والثمانون
تصلّبت سيرين في مكانها للحظة إذ كبلت الصـ,ـدمة أوصـ,ـالها، وعيناها تحدّقان في ظـ,ـافر الذي كان يمدّ رأسه نحو الفـ,ـراغ بلا هدى يتلمّس طريقها وحده وجاء صوته خـ,ـافتًا لكنه نافذًا أشـ,ـبه بنداء يستجدي الضوء:
«هل يمكنكِ أن ترافقيني إلى الحمّام؟»
أفاقت من شرودها على وقع رجاءه الذي ارتطم بأعماقها فتقدّمت بخطى متردّدة ومدّت يدها إليه:
«بالطبع… تعال.»
قبض على يدها كما لو أنّها الحبل الأخير في هاويةٍ بلا قاع فساندته حتى بلغ باب الحمام ومن ثم همست له بمكان كل شيء ثم تركته كي تمنحه شيئًا من الخصوصية بينما ظلّت أذنها مشدودة لأي حركة خلف الباب.
لم تمضِ لحظات حتى دوّى صوت ارتطامٍ حادّ كأنه انكسار ليلٍ في قلبها فاندفعت تُزيح الباب بعنف، فإذا بالمشهد يلسع عينيها:
كأس زجاجي محطّم على الأرض، وظافر منحـ,ـنٍ وسط شظايا تلمع كقطع من ليلٍ مكـ,ـسور، ودم يتسرّب من كـ,ـفّه في خطوط حمراء قاتمة.
شـ,ـهقت:
«لقد جـ,ـرحتَ يدك!»
أسرعت تمنعه من الحركة فقبض فجأة على أصـ,ـابعها بارتجـ,ـافٍ مريب وصوته يتشقّق في الهواء قائلاً بكبـ,ـرياء محطم:
«قولي لي… هل ترينني مقـ,ـزّزًا؟»
تجمّدت الكلمات في حلقها… لم تجب… بل سحبت يدها من قبضته برفقٍ كأنها تنتزع قلبها الذي أوـ,ـشك على الانهيار جراء تمثيله المتقن من وجهة نظـ,ـرها، وهمـ,ـست محاولة التماسك:
«سأستدعي الممرّضة لتعتني بجرحك.»
بعد دقائق دخلت الممرّضة تُنقّي آثار الزجاج وتنظّف الدماء بينما جلس ظافر على الكرسي صامتًا جسده الجريح كتمثال من صبرٍ ووجع بينما نظرات الممرّضة تتسلّل إليه خلسة؛ فحتى وسط الضمادات والندوب التي تغطي سائر جسده ظلّت وسامته حادّة تأسر البصر فاحمرّ وجهها وهي تلفّ يده بالشاش كأنها تلامس نارًا مقدّسة ومن ثم التفتت نحو سيرين تقول بصوتٍ مبحوح:
«انتهيت يا سيّدة تهامي.»
أجابتها سيرين بنبرة غامرةٍ بغيرةٍ باغتتها هي نفسها وذلك عندما لاحظت نظرات الممرضة الهامة لكنها تظاهرت بالتجاهل:
«شكرًا لكِ.»
وما إن غادرت الممرّضة حتى أسرعت سيرين تُغلق الباب.
كانت الغرفة غارقة في صمتٍ يشبه ضباب الفجر، يلفّ سرير المستشفى الذي يرقد عليه ظافر… كان جسده ساكناً إلا من أنفاسٍ متقطّعة، وجهه يلمع تحت خيوط الضوء البيضاء وكأنه لوحةٌ باهتة في متحفٍ منسيّ.
ظلّت سيرين تحدّق فيه طويلاً؛ فطوال الليلة الماضية لم تُتح لها فرصةٌ لتسأله عن حالته وحين استيقظ أخيراً بدا كمن يسير على أطراف ذاكرةٍ محطّمة فاقتربت منه وصوتها يحمل ارتجافةً تاهت في تفسيرها:
«ظافر… هل حقًّا لا تتذكّر شيئًا؟»
انفرجت شفتاه لا بإجابة بل بسؤالٍ باغتها عندما خرج صوته مبحوحاً يقول:
«هل اسمي ظافر حقًّا؟»
تجمّدت الكلمات في حلقها بينما اتّسعت عيناها بدهشةٍ عارمة تجيبه.
«نعم، ظافر» همست وكأنها تُثبت اسمه في هواء الغرفة كي لا يتبدّد.
لكنّه لم يكتفِ بل تابع يطارد الظلال:
«تلك المرأة التي كانت هنا ليلة أمس… أكانت أمّي بالفعل؟»
رغم فقدانه للذاكرة إلا أنه سيطر غريزيًا على المحادثة فلم يمضِ وقت طويل حتى أصبح هو من يطرح الأسئلة.
ارتجف قلبها وأجابت برأسٍ مائل وصوتٍ خفيض:
«أجل… هي والدتك.»
ساد سكونٌ قصير ثم راح يحدّق نحو الفراغ كأنّه يستمع لصدى بعيد قبل أن يقول بنبرةٍ بائسة:
«لا أذكر شيئًا… لا وجوهًا ولا أماكن… كل ما يطفو في رأسي… هو صوتك أنتِ، وحضورك.»
شعرت سيرين بأن الأرض تميد تحت قدميها وهمست غير مصدّقة:
«أهذا كلّ ما تتذكّره؟»
ارتسم على فمه شبه ابتسامةٍ ثم ألقى القنبلة:
«وأتذكّر شيئًا آخر… أنّك زوجتي وأنّ بيننا حبًا لا ينتهي.»
تسارعت أنفاسها وارتبكـ,ـت نظراتها كأن الغرفة ضاقت بها ولا إرادياً تراجعت خطوة وقالت بصـ,ـرامةٍ جافة تخفي زلزالها الداخلي:
«أنت مخطئ… لا حبّ بيننا… حين وقع الحادث كنّا على أعتاب الطلاق.»
لكنّ كلمتها لم تكتمل في الهواء إذ فجأةً مدّ ذراعيه يجذبها إليه بعـ,ـفويةٍ مدهشة كغريق يبحث عن طـ,ـوق نجاة يضمها إليه بقوة وهمس صوته بأذنها دافئًا ومـ,ـذعورًا:
«حبيبتي… أتتخلّين عني؟»
