رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثامن والثمانون
عاد ظافر إلى جموده الأول كأن ما فاض منه منذ لحظات لم يكن سوى إدعاء أو سرابٍ عابر إذ انطفأ دفء صوته وتجـ,ـمّدت ملامحه في برودةٍ حادة فشعرت سيرين بأن كل توسّلاته السابقة لم تكن سوى ستارٍ واهٍ فوقفت تحدّق في ملامحه بشك وقالت بصوتٍ حاسمٍ:
«سأقدّم دعوى طـ,ـلاقٍ جديدة».
قالتها وأمسكت بحقيبتها وخرجت من الجناح تاركة خلفها صمتًا ثقيلًا.
وفي الردهة كانت شادية تنتظرها كصخرةٍ تعترض مجرى النهر رافعةً حاجبيها في تحدٍّ وقالت بسخـ,ـريةٍ لاذعـ,ـة:
«انظري إلى ذلك البائس خلفكِ… أبهذا القدر من القسوة ستغادرين؟ أما زلتِ مصرةً على الطلاق؟»
توقفت سيرين وانقلب في أعماقها بحرٌ من الغضب المكبوت تواجهها ببرودٍ يلسع قائلة:
«حين راح والدي في حادثٍ مفاجئ انزلقت عائلتي إلى هوة اليـ,ـأس وضعف سمـ,ـعي يوماً بعد يوم وشُخِّصت باضطراب اكتئابيّ حادّ… هل خطر ببالكم لحظةٌ واحدة أن تسألوا عن وجعي؟
كنتِ تعرفين أن ظافر لم يلمسـ,ـني قط ومع ذلك كنتِ تدفعيـ,ـنني دفعًا إلى أقـ,ـراص الخصوبة كأنني آلة إنجـ,ـاب… أهذا ما تسمونه حبًّا؟ أهذا ما تسمونه عائلة؟»
تراجعت شادية للحظة بعدما توهـ,ـجـ,ـت عيناها بارتبـ,ـاكٍ لكنها تماسـ,ـكت وقالت بعنادٍ ممزوجٍ بالاتـ,ـهام:
«لكنكِ تحملين طفله الآن، ولن نسمح لكِ بالرحيل… حتى لو طلـ,ـقكِ سيبقى الطفل معنا».
ارتسمت على شفتي سيرين ابتسامةٌ مرّة، كسكينٍ في ليلٍ طويل شاكرة أنها لم تزلف بالحقيقة لشادية الليلة الماضية بعد تضرع الأخيرة، وقالت ساخرةً:
«كم مرة يجب أن أذكركِ سيدة شادية؟ الجنين في أحشائي ليس ابن ظافر… وإن كان في قلبك شك فاسألي ابنكِ إن كان يذكر شيئًا أصلًا».
تجمدت نظرة شادية ثم التفتت إلى النافذة الزجاجية تطالع ظافر الراقد على سريره، نصفُ وعيه غائب، اسمه نفسه تاه منه فلم يبقَ لها سوى صمتٍ غاضب قبل أن تنفجر قائلة:
«سيرين… ما الذي جعلكِ بهذه القسوة؟ كنتُ أظنكِ تحبينه بصدق… لم تكوني أبدًا امرأةً مثيرة وبالرغم إنكِ كنتِ امرأة عادية لكنكِ كنتِ رقيقة… الآن… أنتِ باردة، قاسية، تثيرين الاشمئزاز».
رمقتها شادية بنظرة أخيرة مشتعلة ثم دفعت الباب إلى جناح ظافر تاركةً خلفها ممرًا ممتلئًا برائحة الغضب والخيبة فيما بقيت سيرين واقفةً كجبلٍ من جليد تُخفي تحت سطوحه نارًا لا تهدأ.
حين غادرت سيرين مكتب الاستقبال وقد وقّعت طلب الخروج كان الليل يرشّ المدينة بفضّته الباردة والثلج يتساقط في صمتٍ كثيف، رقائقُه تتهاوى كرسائلٍ بيضاء لا تنطق وما هي إلا لحظات حتى غمر جسدها بردٌ ينفذ إلى العظم… رفعت عينيها إلى السماء فتلقّت وجهها رقصة البلور المضيء وشيئًا فشيئًا أخذت حدقتاها تحمران؛ وثمة ضيقٌ خفيّ يتصاعد من أعماق صدرها كدخانٍ بلا لون.
لحظتها توقفت سيارة سوداء عند الرصيف وانفتح بابها بهدوء ومن ثم خرج رامي يحمل مظلةً سوداء وتقدّم نحوها يقول بصوتٍ منخفض يتساقط على أذنها مثل المطر:
«دعينا نرحل سيّدة تهامي».
اكتفت بإيماءةٍ خافتة: «نعم».
لكنها حين جلست إلى جواره لم ينجح دفء المدفأة في تبديد ارتجافها فقد كان البرد في داخلها لا في أطرافها.
أدارت وجهها إلى النافذة تراقب العالم المبتلّ يفرّ هاربًا وتمتمت كأنها تخاطب نفسها:
«لماذا يرفض الناس أن يتغيّروا؟ هل نُجبر على اللطف حتى يلتهمنا تنمّرهم؟ أليس من حقي أن أكون أنانية ولو لمرة واحدة؟ لماذا أعجز عن التفكير بنفسي فقط؟»
لقد أحبّت ظافر بكل ما تملكه من نبض ولم تخطئ يومًا ومع ذلك نُعتـ,ـت بالعـ,ـادية… باللطيفة… والآن وهي تتوق إلى حريتها، إلى طلاقٍ يحرّرها يصفونها بالقسوة.
ازداد الثلج في الخارج كثافةً حتى تحوّل الطريق إلى صفحةٍ بيضاء بلا ملامح لكنها لم ترَ سوى انعكاس وجهها في الزجاج، وجهٍ غطّته دموعٌ لم تدرِ متى تسلّلت.
حين وصلت إلى شقة كوثر المستأجرة وجدت الجدران تضـ,ـيق بأنفاسها… أرادت عزلةً أوسع من هذه الجـ,ـدران الأربعة، فسرت في خاطرها فكرة البحث عن مأوى جديد؛ مكانٍ يحتمل سكونها ويمنحها فسحةً لالتقاط أنفاسها وضماد جراحها بعيدًا عن عيونٍ تحاكمها وعن ذاكرةٍ تئنّ باسم ظافر.
———–
أما في المشفى كانت الأروقة ساكنة إلا من همس أجهزة المراقبة غير أنّ جناح ظافر بدا كعرين وحشٍ يرفض الترويض إذ استأجرت شادية ممرّضين ذوي خبرة لرعايته لكن غياب سيرين أشعل فيه نارًا لا تخمد؛ وصار يستشيط غضبًا عند أقلّ اقتراب، يطردهم واحدًا تلو الآخر حتى غدت الغرفة فارغة إلا من أنفاسه الحانقة.
وقفت شادية على العتبة حيرتها تتسع مع كل دقيقة تقول بصوتٍ تحاول أن تُلبسه الصبر:
«ظافر… أنت لا ترى شيئًا الآن، وهذا يرهقك… لا يمكنك البقاء بلا رعاية… دعهم يساعدونك أرجوك».
جاء ردّه كزئير أسدٍ جريح يرفض شفقة الصيادين:
«لا أحتاج إليهم».
فقد مرّت الأيام ثقيلة منذ رحيل سيرين وأصبحت يداه شاهدة على عناده؛ بجروح صغيرة تناثرت فوق جلده، بعضها من انكسار أكواب الماء، وبعضها من ارتطامه بحواف الأشياء في محاولاته العمياء للاعتماد على نفسه ومع ذلك لم يسمح لأحد بلمسه، لا ممرّض ولا حتى شادية نفسها.
تبدّد لون شادية خوفًا من أن ينهكه هذا العناد حتى ينهار فتمتمت أخيرًا كأنها تتحدث إلى فراغ الغرفة:
«سأستدعي سيرين… لعلها الوحيدة التي تقدر عليك».
وفجأة اخترق صوته السكون صافياً مستسلماً على غير عادته في الأيام الماضية كأنه استجمع كل ما تبقّى من قوته كي ينطق:
«سيدتي من فضلك أخبري سيرين ألا ترفع الدعوى… أنا… مسـ,ـتعدّ للطـ,ـلاق».
كانت تلك المرة الأولى منذ رحيل سيرين التي يُسمع فيها صوته متماـ,ـسكًا إلى هذا الحد وكأن الكلمات نفسها نزفت من أعماق كبريائه الممزّق.
