رواية مع وقف التنفيذ الفصل الثامن والعشرون
عاتق كل منهما والدته في لهفة وشوق كبيرين وقبلا رأسيهما وأبديهما بدموع العيون ... كانت كل منهما تنظر إلى ولدها غير مصدقة أن الله سبحانه وتعالى قد مد في عمرها حتى رأت ولدها حي يرزق من جديد ... كان العناق بالقلب والعيون أكبر شوقاً من عناق الأجساد ... جلسوا بجوار بعضهما البعض غير مصدقين هذه اللحظة التي جاءتهم منحة من الله عز وجل في عز أزمتهم المظلمة بين جدران السجون ... صافح الدكتور حمدي ، بلال، وهو ينظر إليه بإعجاب شديد
بينما ريت على كتف فارس مشجعاً وهو يقول يتاثر :
أنا عارف انك راجل يا فارس وهنتحمل الأزمة اللي بتمر بيها وهتخرج أن شاء الله انت
وصاحبك قريب أوى
أوماً فارس برأسه ممتناً وهو يقول :
متشكر أوى يا دكتور على اللى عملته معانا
ريت حمدى على يديه وهو يشد عليها قائلا:
هو أنا لسه عملت حاجة يا راجل .... أجل الكلام ده لما تطلعوا أن شاء الله من هذا
مال بلال على والدته قائلاً :
عبير والولاد عاملين أيه يا ماما ... كويسين ؟
عاتقت يدها يده وهي تقول بإشفاق :
كويسين يابني وزي الفل متقلقش عليهم أبدا .. وييسلموا عليك أوى.. وعبير بتقولك رسالتك
وصلتها وانت كمان وحشتها أوى ومستنياك على نار
شرد قليلاً وهو ينظر أمامه بوجوم قائلاً :
- وحشوني أوى
ثم أعاد النظر إليها قائلا :
كلكوا وحشتوني أوى يا أمي
لمعت الدموع في عينيها وهي تقول :
عبير كانت عاوزه تيجى معانا بس انا مرضتش أجيبها معايا علشان عارفة رأيك في الحكاية دی کویس
قبل يدها وقال بحنان
كويس يا أمى انك عملتي كده.. أنا محبش مراتي وولادي يجوا مكان زي ده ولا حد من اللي
هنا عينه تقه عليها
نظر الدكتور حمدي الفارس وقال باهتمام
في حد حقق معاكوا با فارس
هر فارس رأسه نفيا وهو يقول :
لا يا دكتور مشوفتش أي محقق خالص من ساعة ما روحت أمن الدولة لحد دلوقتي ...
ثم مال عليه قليلا وقال :
مفيش غير واحد صاحبي ربنا بعته لينا هناك وهو اللي جابنا هنا
نقل الدكتور حمدي بصره بين فارس ووالدته وقال موجهاً حديثه الفارس :
هو انت في عداوة بينك وبين حد معين يا فارس
اعتدل فارس وهو يفكر بتركيز شديد ثم قال :
أنت عارف شغلنا يا دكتور ممكن يبقالك أعداء مش راضين عن طريقة شغلك لكن حتى لو في
عداوة معتقدش حد يفكر يبهدلنا بالشكل ده
نظر الدكتور حمدي لوالدته نظرة ذات معنى ثم قال :
غربية
حاولت أم فارس تغير مجرى الحديث قائلة :
على فكرة.. عمرو ومهرة بره وبيسلموا عليكوا أوى
نظر بلال إلى أم فارس قائلاً :
ايه ده بجد وعمرو جاله قلب يرجع هنا ثاني
نظر له فارس وابتسما سويا في وقت واحد ولكن فارس تغيرت ملامحه وانتبه فجأة وهو
يلتفت لوالدته متفاجاً وقال :
وايه اللي جاب شهرة هنا يا ماما .. ازاى تجيبيها معاكي يا ماما بس
تابع بلال الحديث باهتمام عندما قالت أم فارس :
والله يابني أنا وعمرو غلبنا فيها واتحايلنا عليها كثير السنني في البيت ... بس هي اللي كانت مصممة تيجي تشوفك وتطمن عليك.. حتى لما عرفت انها مش هينفع تدخل علشان مش من
قرايبك برضة صممت تيجى وقالت هستناکوا بره ....
ثم نظرت إليه نظرة ذات معنى وهي تقول :
حتى علاء معرفش يمنعها
التفت يلال إلى فارس الذي ظهر الضيق على وجهه وهو يقول :
مكنش ينفع تيجى يا ماما ... كان لازم انت اللي تمنعيها من الواد اللي اسمه بتاع ده
ابتسمت والدته وهي تقول قاصدة :
- اذا كانت مخافتش من تهديده بالطلاق وصممت تيجى معانا حتى لما طلقها ولا همها حاجة ونزلت و سایته واقف برن
عقد فارس ما بين حاجبيه وهو ينظر في عينيها التي كانت تحمل معانى كثييرة وقال ببطه :
!!طلقها .... ؟
نظرت إلى عينيه وهي تقول :
ابوا طلقها
ثم قالت مؤكدة :
كل ده علشان تجيلك
ألقى بلال نظرة سريعة على فارس ثم أعاد رأسه إلى والدته وأكمل حديثه الخاص معها تاركاً فارس في حيرته .... أمسكت والدته يده بشكل تلقائي حتى لا يلاحظ أحد ووضعت الصورة
المطوية في راحت يده ثم همست له وهو ينظر ليده بدهشة :
وباعنالك الصورة دى
فيض فارس على الصورة المطوية داخل قبضته ثم تابع حديثه مع الدكتور حمدي بشكل طبيعي ولكن عقله كان يعمل في اتجاه آخر .....
أنتهت الزيارة وتفرق الأحرار فمنهم من خرج لعالمه ومنهم من عاد لجدران سجنه الكتيبة ....
جلس فارس على فراشه وأخرج الصورة من راحته وفتح طياتها بهدوء .... نظر إلى الصورة وابتسم ... كانت ملامحهما المشاكسة في الصورة كفيلة بجلاء صدره من أي هم وحزن يعتمل به ... طفلة وصبى يتشاكسان بطريقتهما الخاصة ... اتسعت ابتسامته وهو يتأمل في الصورة جلس بلال بجواره وهو ينظر لا يتسامته الواسعة التي احتلت شفتيه تم مال عليه وقال بخفوت :
مش هتقرى الرسالة اللي ورا الصورة دي
قلب فارس الصورة على الجانب الأبيض منها ومرر عينيه بين سطور كلماتها وهو يتمتم ها مسا بما خطت يدها الصغير .... قراها مرة ثانية وثالثة في صمت ما إن تحمل عينيه إلى آخر كلمة فيها
حتى تعود إلى أولها من جديد محاولاً فهم ما بين سطورها بصعوبة شديدة
وضع بلال يده على ذراع فارس وهو يقول بخفوت :
ها با فارس
رفع رأسه إليه وقال بعينين حائرتين :
نعم !
اقترب بادل منه أكثر وقال هامساً:
أنت قولتلي من كام يوم انك هتنفصل عن مراتك بس مقولتش أيه السبب ساعتها
حاول فارس استجماع شتات نفسه الحائرة وهو يقول:
مشاكل يا بلال .... مشاكل مالهاش دوا .. ومش هينفع يبقى ليها حل غير الانفصال وعموما أحنا متفقين على كده من زمان وهي موافقة ومرحبة كمان ... الموضوع منتهي خلاص
نظر بلال إلى عينيه بعمق وقال بجدية :
قهرة ليها علاقة بالمشاكل دى ؟
رفع فارس حاجبيه متعجباً من سؤاله وهو يقول :
وأيه علاقة شهرة بالموضوع ده
حرك بلال رأسه بلامبالاة وهو يقول :
یعنى ممكن تكون مراتك أصلا مضايقة من اهتمامك بشهرة واهتمام شهرة بيك
تبسم فارس ساخراً ثم قال :
لالا الموضوع مش كده خالص الحكاية أكبر من كده بكثير
تم نقض رأسه وهو يقول بثقة :
وبعدين يعنى اهتمامي بقهرة شيء عادي.. ده انا اللي مريبها وهى بتعتبرني مثلها الأعلى في الحياة
نظر إلى التوقيع وأشار إليه بأصبعه وهو يقول له :
شايف موقعة ايه تحت .... الفارس الصغير
أبتسم بشرود وهو يقول بإعجاب :
طول عمرها بتحب تقلدني من وهي عندها سنتين
وأردف ضاحكاً وهو يكمل حديثه بشجن :
عارف يا بلال لما بقى عندها ثلاث سنين كانت بتشد التيشرت بتاعى من دولابي وتقعد تلبس فيه ساعة لحد ما تنجح تلبسه في الآخر.. ويبقى طويل عليها وتقعد تتكعيل بيه وهي ماشية ....
وتبسم ضاحكاً وهو يقول :
أصلها طول عمرها أوزعة .... وبرضة مكنتش بتحرم أبدا.. ترجع تاني تلبس قمصاني وهدومى ابتسم بلال رغماً عنه بتأثر وهو يخفى ضحكاته الخافتة ويستمع إلى نبع ذكرياته المتدفق قائلا: مفيش يوم كنت يرجع فيه من بره إلا والاقيها واقفالي على السلم مستنية العسلية والحلويات بتاعتي
التفت إلى بلال وهو يقول مؤكداً:
ولعلمك هي رغم حبها للحلويات والعملية لكن عمرها ما اخدتها من حد غيري أبدا
تم شرد مرة أخرى ناظراً للفراغ وقال :
هي كده على طول في كل حاجة ... مبتسمعش كلام حد غيري مبتستناش هدايا غير مني عمرها ما فرحت بهدية قد ما تكون هدية انا اللى جايبهالها علشان كده لما كانت تعبانة بعد ما اتجوزت دنيا كل اللى فكرت فيه ساعتها الى اجبيلها هدية علشان افرحها بيها .... ساعتها مجاش في بالي خالص اني مينفعش أجيبلها هدية دلوقتي كل اللى كان في بالي اني أدخل السعادة
على قلبها وبس .
ظهر الضيق على ملامحة فجأة ويتابع حائقاً :
المرة الوحيدة اللي مخدتش رأيي فيها فحاجة تخصها .. هي المرة اللى وافقت فيها على الواد اللي اسمه علام ده ... ومش عارف ليه عملت كده ... يمكن انكسفت .. مش عارف
حرك بلال رأسه بتعجب شديد ومال للأمام وهو يضع يده على الصورة بين يدي فارس قائلاً: أنا مش عارف ازاى راجل ناضج زيك عنده 28 سنة ومش قادر يحكم على مشاعره ويفهمها
ونظر إلى عينيه بنقة وأردف قائلاً :
شوف يا فارس انا واحد بالى من الحكاية دى من ساعة ما قهرة تعبت يوم جوازك وانت مكنتش عاوزني ادخل اشوفها .. ومن ساعة ما كانت واقف قدام قاعة المناسبات وعروستك قاعدة في العربية مستنياك وانت مش عاوز تسافر وتسيبها تعبانة لوحدها .. وحكاية ضربك العلاء على السلم مكنش علشان شوفته بيتعامل معاها وحش وبس لاء .....
قال كلمته الأخيرة ونظر بعمق داخل عينيه وهو يقول :
أنت كنت غيران منه ... ومستنى أي فرصة علشان تعمل فيه كده ونقش علك فيه .
اتسعت عینی فارس وهو يستمع إلى بلال الذي تابع قائلاً :
أنا من وقت ده ما حصل وانا كنت يفكر اقولك بس كنت متردد الى افتح معاك الموضوع ده ..... أولا لأني مكنتش اعرف حكاية الطلاق اللى انت ومراتك كنتوا متفقين عليها دي و خصوصا كمان انها مجاتش النهاردة مع والدتك وانت مسألتش عليها ... ثانياً أنها كانت وقتها متجوزة هي كمان و مكنش ينفع بأي حال من الأحوال نجيب سيرة واحدة متجوزة في كلام زي ده .... رغم اني كنت متأكد من مشاعرها ناحيتك ..
هتف فارس قائلاً بحيرة ممزوجة بلهفة واضحة :
يعنى ايه عرفت مشاعرها ناحيتي
ابتسم بلال وهو يرفع حاجبيه قائلاً :
هقولك يا سيدي ... يوم فرحك لما كانت تعبانة وسخنة وانا دخلت أشوفها هي حمى ولا سخونية عادية .. كانت بتهلوس باسمك وبتقول متسبنيش يا فارس.. بس صوتها مكنش باین وامها من كثر العياط اللى كانت بتعيطة مكنتش واخدة بالها.. لكن اللى انا متأكد منه أن والدتك خدت بالها هي كمان زبي بالظبط .
أخذ بلال نفساً عميقاً يملا به رأتيه وقد شعر أنه بلغ جهدا مضنياً وهو يحاول أن ينتقى كلماته وفى نفس الوقت يقرأ ملامح فارس وردود فعله السريعة الواضحة التي كانت تظهر عليه على أثر كلماته ثم زفر ببطء وقال :
وأظن بقى بعد كل اللى حصل ده وبعد ما هي اطلاقات وانت كمان هنسيب مراتك زي ما قولتلي يبقى مينفعش بعد كده غير الحلال .
شد على يده وهو يقول بجدية :
عجل بالحلال یا فارس أول ما تخرج من هنا إن شاء الله ... أنا لولا اني عارفك و عارف أخلاقك مكنتش قلتلك كل ده وكنت خفت عليك من تصرفاتك ومشاعرك معاها .. لكن انا علشان عارفك كويس و عارف انت هتعمل ايه لما اصارحك بمشاعرك دى ... قولتلك ونبهتك وعارف الك هناخد الخطوة الصح
نظر فارس لبلال بدهشة وهو يتابعه بعينيه وبلال ينهض واقفاً ويقول مداعباً :
أصلا انتوا بصراحة حالتكوا صعبة أوى مينفعش فيها غير الحلال
ترکه بلال واتجه إلى فراشه وفارس مازال يتبعه بعينيه في حالة ذهول شديدة، يقاومة عقله بشدة وهو يتردد داخله كلمات بلال ....
خفض رأسه إلى الصورة مجدداً ومرر عينيه على حروفها ثانية لتتسلل إلى عقله وتفتح أبوابه المغلقة ليهرع قلبه إلى أجراس عقله يدقها في صخب عنيف منادياً مستصرخاً ثائراً قائلاً:
آیا عقلی فصدقه حبيساً بين قضباني .... أنا المسجون لو تعلم وأنت الآن سجاني
ضممت حبيبتي دوماً سنيناً بين جدراني ... فكيف الآن تأمرني بكبح جماح وجدانی فدعتى أنطلق شوقاً إلى سكنى وعنواني .... ودعنى أرتوى عطشاً وأسكن نهر بستاني فلا تعجب على قلب كنت أظنه ينساني .... فرسم اليوم لي نبضاً فأصبح كل الحالي
و خط اليوم لى شعراً فأطربني وأشجاني .... وأرسل لي بصورته فأيقظني وأحياني
صفعت صفعة قوية أردتها إلى صدر أمها وهي تبكي بشدة ووالدها يصرخ بها مهدداً :
أطلقتي يا مهرة ... أنطلقتي .. وعلشان أيه .. علشان عاوزة تمشى كلامك على جوزك علشان دماغك ناشفة وعاوزة تنكسر ستين حنة .. أنا بقى هكر لك دماغك دى و هر جعك لعلاء غصب عنك
هتفت أمها باكية وهي ترجوه قائلة :
مش كده يا ابو يحيى حرام عليك البت هتموت في ايدك
صرخت شهرة وهي تشهق بقوة وتلتقط أنفاسها بصعوبة:
مش هر جعله حتى لو قطعتنى مش هر جعله حرام عليك يا بابا أنا بكرهه بكرهه حرام عليك جذبها من شعرها إليه بقوة جعلتها تصرخ بشدة من الالم ونظر إلى عينيها بتحدى هاتفاً بغضب :
ماهو يا ترجعيله يا هحسبك هنا في البيت .. مفيش محاضرات ... مفيش جامعة ولا دراسة ثاني
من أساسه ... وأبقى شوفى بقى دماغك الناشفة دي هتوديكي لفين ....
لم يكتفى بألقاء توعده لها فقط وأنما ألقاها هي الأخرى بعنف وقوة جعلتها ترتطم بالجدار لتسقط مغشياً عليها في الحال .
كانت الساعة الثامنة صباحاً وبدت قاعة محكمة الجنايات خاوية إلا من بعض المنتظرين لقضاياهم التي سوف تنظر اليوم ... وكان من بين هولاء محامي المجنى عليها الذي جلس في الصف الأمامي وقد شرد بعقله قليلاً وهو يتذكر اليوم الذي دخل فيه على سكرتير المحكمة وأطلع على أوراق القضية وقام بتصويرها وقد اكتشف أن محضر الشرطة تم تزويرة ومن بينهم أقوال الشهود حول الحادثة وقد تأكد لديه دون شك أنه تم تزويرة عمداً ولكنه تأكد أيضاً أن لكل مجرم لابد أن يترك خلفه أثراً ما يدل على حرمه وابتسم ابتسامة انتصار وقد وقعت عينيه على مقدمة محضر تحقيقات النيابة والذي كانت هناك فيه جملة تشير إلى الأقوال الحقيقية للشهود ولكن المزور لم يلتفت إليها .
استفاق من شروده على صوت والد المتهم وهو يحادث دنيا بنبرة قلقة مضطربة وهو يقول لها :
أومال فين الأستاذ فارس يا أستاذة مش قلتي انه هو اللي هيحضر ويترافع
قالت دنیا بفتور وهي تجلس أمامه وبجوارها وائل وتقول :
الأستاذ فارس تعب جدا أمبارح بالليل ومكنش ينفع خالص أنه ينزل النهاردة وبعدين مالك حضرتك خايف كده ليه هو أنا هترافع من دماغى هو اللى كاتب المذكرة وانا هقول اللي فيها و خلاص یعنی مش هجيب حاجة من عندي متخافش .....
بدأت وقائع الجلسة وسمحت المحكمة المحامية المتهم بالحديث وبدأت دنيا في سرد ما حفظته عن ظهر قلب من المذكرة التي أعطاها اياها باسم حتى وصلت إلى نقطة أقوال الشهود وأكدت على أن اقوال الشهود أثبتت خطأ المجنى عليها وأنها هي المتسببة في الحادث وعندما انتهت من مرافعتها سمحت المحكمة بدفاع محامى المجنى عليها والذي قال بأن أوراق المحضر قد تم تزويرها وإخفاء أقوال شهود الإثبات, وأنه قد حدث تزوير متعمد في أقوال الشهود ... ثم قدم الدليل الدامع على صدقه بأن فجر قنبلته فوق رأس دنيا مباشرة حينما ذكر للمحكمة بأنه قد ورد في مقدمة محضر تحقيقات النيابة إشارة إلى أقوال الشهود الحقيقية والمخالفة لأقوالهم في المحضر المزور وأتيت بمرافعته التناقض بينهما واتهمهم بالتزوير في أوراق رسمية.
وتم تأجيل القضية أسبوعين لاستدعاء الضابط والشهود وقعت المفاجأة مدوية على دنيا وزلزلت أركان خطتها كاملة وتبادلت النظرات الحائرة مع وائل وخرجت مهرولة من القاعة وهي تجرى إتصالا هاتفياً بباسم تستنجد به مما حدث ... أجابها باسم ببرود :
ومالك قلقانة كده ليه مفيش مشكلة .... أنا هجيبلك أرار الظابط به هو والشهود وهيئت وائل يتفاوض معاهم زي ما حصل قبل كده .
هدفت به وهي تتلفت حولها قلقاً :
وتفرض بقى الظابط ولا حد من الشهود مرديش بغير كلامه .... أنت شكلك كده حاطط إيدك في المية الباردة علشان اسمك بعيد عن كل حاجة
قال بثقة :
اللي ميرضاش بالذوق هيرضى بالعافية ... أنت باين عليكي لسه متعرفنيش كويس ... بكره هيعتلهم وائل يخلص معاهم هما الثلاثة علشان تعرف مين معانا ومين ضدنا وتتصرف على الأساس ده
شعرت بالتوتر الشديد والخوف وهي تقول بإضطراب :
يعني أيه اللى ميرضاش بالذوق برضا بالعافية دي فهمهالي
صمت قليلا ثم قال بجمود أرعبها :
هو بالظبط اللي أنت فهمتيه ده مالهاش معنی ثاني ... يا أما يحضروا ويقولوا اللي أحنا عايزينه يا اما تتقدم شهادات وفاتهم للقاضي .
وضعت عزة رأسها على صدر زوجها وقالت بحزن :
يا عمرو أنا مصدقت انك رجتعلى بالسلامة.. تقوم تسببني وتسافر ثاني
مسح على شعرها بحب وقال :
مش سفر زي ما انت فاكرة يا حبيبتي.. ده انا هاجي يومين في الأسبوع وبعدين كلها كام شهر والفندق يخلص وتطلع بمبلغ كويس تبدأ بيه حياتنا
رفعت رأسها من على صدره ونظرت إليه وقالت بغيرة واضحة :
طب واشمعنى بقى صاحبة الشركة مهتمية بيك انت بالذات بالشكل ده
نظر إليها وقال يحذر :
- تقصدي أيه
رفعت كتفيها وهي تقول يتبرم :
قصدى أنها سألت عليك ولما عرفت اللي حصلك فضلت ورا الموضوع لحد ما طلعتك وطلعتك لوحدك كمان.. وبعدين قالتلك أن دنيا هي اللي بلغت عنكم وبعدين تديك شغل مهم وفيه فلوس كثيرة كده .. كل ده ليه ؟ !
مسح على وجنتها بظهر يده وهو يقول بمرح :
أنت بتغير ولا ايه يا جميل
أمسكت بيده بین راحتيها بخفوت :
أن طبعاً بغير .. مالها مهتمية بيك كده
ضحك ضحكة هادئة ونظر إلى عينيها وقال :
انت عارفة اللي يتغيري منها دي عندها كام سنه 15 وبعدين انت عارفة كويس أوى أن محدش بيملى عينى غيرك .. صح ولا لاء
نظرت إليه بشك وهي تقول:
مش عارفة يا عمرو.. هدوء ك ده مش مطمنی خالص
ضحك مرة أخرى وظهر عليه الاستمتاع بالحديث وهو يقول :
- ليه بس يا حبيبي
استندت إلى ظهر الأريكة وعقدت ذراعيها أمام صدرها ثم قالت :
أصل انت من عوايدك يعنى اني لما يقولك حاجة غلط بيبان عليك انك مضايق ويتقعد تدافع عن نفسك .. لكن دلوقتی هادی کده زی ما تكون بتأكدلي أحساسي
ضرب كفاً بكف وهو يحرك رأسه متعجباً منها وقال :
والله انت مجنونة يا حبيبتي
نظرت إليه بدهشة فأوما براسه مؤكداً وهو يقول بمرح :
اه والله مجنونة صدقيني ... يعنى اذا أتعصب تقوليلي أنت عصبي وبتتخانق .. أبقى هادى
تقوليلي هدومك مش مريحتي ... أعمل فيكي أيه دلوقتي
نظرت اليه وقالت بجدية :
شفت یقی أنت بتوهنی ازاى ويتهرب من الكلام
لف ذراعه حول كيفها وجذبها إليه وقال :
طيب أنا هريحك ... أولا الست دى أكبر منى بكتير جدا ومتجوزة راجل أعمال و ملياردير ومديها الشركة دى تديرها .. وانا واحد من مئات المهندسين اللى شغالين عندها زبي زي غيري .. كل اللي يميزني أنها عارفة أني أهم الدكتور حمدى أخوها علشان كده لما الأستاذ صلاح سأل على لما غبت وده طبیعي طبعا أي موظف يغيب لازم يعرفوا غايب ليه .... وعرف منك اللي حصلي قالها وهي علشان عارفه انى أهم الدكتور حمدي أدخلت في الموضوع بمعارفها الكثير... وطبعا كده ولا كده كانت متعرف بموضوع دنيا والست كثر خيرها قالتلنا علشان تاخد بالنا منها ... أما يقى موضوع الشغل فنر شيحها ليا للسفر فدى حاجة تشكر عليها .. هي عارفة إلى في بداية
حیاتی و عاوزه برجرني علشان خاطر أخوها برضة ... ها أقتنعتي ولا لسه ...
نظرت إليه بعيون غير مطمئنة ولكنها لم تجد ما تقوله ... استطاع أن يسكنها ولكنه لم يستطع أن يقنع نفسه بما قال، دارت الشكوك برأسه مرة أخرى ولكنه نفضها جميعا عندما سمعها تقول :
- عمرو أنا يجد متشكرة أوى
التفت إليها متعجبا وهو يقول :
متشكره على ايه
قالت بابتسامة رقيقة :
علشان وافقت الى اروح الدكتورة واشوف موضوع الحمل ده اللي اتأخر .
نظر أمامه بشرود ثم قال :
أنا كنت غلطان يا عزة ... أنا كنت بفكر في نفسى وراحتي وبس ... مفكرتش في مشاعرك انت ورغبتك في انك تبقى أم زيك في أختك تمام ... نفسك يبقى عندك ولاد كده زيها تربيهم وتهتمى بيهم وتشيعى غريزة الأمومة فيهم .... لكن الحمد لله الى انتبهت لخطأى ده پدری .. اللی شوفته في المعتقل ده خلانی اراجع اموری فحاجات كثير أوى في حياتي واحس اني تافه وأناني
و مبفكرش غير في نفسي
لاحظت عزة الوجوم الذي ظهر على قسمات وجهه واحتلها بضراوة مما غير ملامحه كثيراً ...
شعر بأناملها تعبت بوجنته وهي تقول هامة:
أنا بحبك في كل حالاتك
ابتسم وهو يلتفت إليها وقد عادت إليه روحه المرحة وقال :
وبعدين الحمل متأخرش ولا حاجة.. أنا اللي مكنتش هنا !
جلست ام فارس بجوار مهرة على طرف فراشها وأخذتها بين أحضانها ومسحت على شعرها
يحتان ثم نظرت إلى والدها وقالت بغضب شديد :
انت ازاي تعمل كده في بنتك يا ابو يحيى.. مش حرام عليك
لوح والدها بيده وهو يقول بعصبية :
معلش بقی یا است ام فارس دى بنتي وانا حر فيها... أضربها اموتها محدش له عندى حاجة
أطلت من عينيها نظرات غاضبة ولأول مرة تخرج عن شعورها وتتكلم بعصبية شديدة وأخذت تهتف به قائلة :
بنك ١٢ .. تعرف ايه انت عن بنتك .. ينتك دي كانت بتقعد عندي أكثر ما كانت بتقعد في بيتك .. كانت بتلجالي وتحكيلي مشاكلها أكثر من أمها نفسها .. لما كانت بتتعب وتوديها للدكتور ويكشف عليها ويسألنا عن أسامي الأدوية بتاعتها ولا تعبت أمتى ... أمها مكانتش بتعرف.. أنا اللي كنت برد. مفيش دكتور روحناله إلا لما افتكر أن انا اللي أمها مش مراتك يا ابو يحيى ... أبنى كان بيعلمها ويوجهها ويذاكر لها وانت حتى متعرفش هي في سنة كام .... أنت كنت بتخرج الفجر ترجع نص الليل وامها كانت بتخرج تشتغل علشان تكفى طلباتها هي ويحيى وكنتوا يتسببوها لوحدها في البيت وهي عيلة ... أتريت في حضنى وكبرت في حضني ...
بكت أم يحيى كثيرا وهى تستمع لكلمات أو فارس ولقد كانت تعلم أنها محقة .. تابعت أم فارس وهي تشير إلى شهرة وتقول :
بصلها كده بعد ما كبرت وبقت عروسة.. وشوف لبسها وأخلاقها وطريقة تعاملها مع الناس علشان تعرف الى عرفت اربی صح.. وشوف كده لو كانت فضلت قاعدة لوحدها وانتوا سابينها مع اخوها وصحابه والمدرسين الرجاله اللي كانوا داخلين خارجين لما كان يحيى في الثانوية العامة وشوف كانت ممكن يحصلها ايه ... وكل ده وانت بعيد متعرفش عنها حاجة .....
ضمت مهرة أكثر إلى حضنها وهي تصيح بهما :
فيكوا عمره سألها مالك ... حد فيكوا عمره عرف حتى أسامي اصحابها أيه واصحابها شكلهم أيه .. حد فيكوا عارف قلبها في أيه.. يتحب ايه وينكره ايه ؟ ... محدش فيكوا يعرف عنها زبي آنا ... جای دلوقتي و تقولي بنتي وانا حر فيها .. أموتها واضربها أنا حر ....
وهبت واقفة بصرامة وجذبت مهرة من يدها وأخذتها تحت ذراعها وقالت لهما بقوة لا تعرف كيف وانتها حينها :
البت دى بنتي انا .. وها خدها عندي ومحدش فيكوا هيقربلها .. والواد اللي اسمه علاء ده لو هوب ناجيتها هخلى عيال الشارع يطلعوه من هنا بفضيحة.
جديتها خلفها بحسم وانصرفت بها أم فارس أمام أنظارهما المبهوتة ينظران لبعضهما البعض وكل منهما يحاول أن يحمل الآخر مسؤولية أهماله وسوء تصرفه .
استطاع باسم الحصول على رقم هاتف الضابط محرر محضر القضية وأتصل بوائل وأعطاء رقم هاتفه وطلب منه أن يقابله في مكان عام ولا يذهب إليه في قسم الشرطة .. بالفعل قام وائل بالاتصال بالضابط وأتفق معه على مقابلة سريعة في مكان عام .....
ذهب الضابط المقابلة وائل وعندما حاول وائل إغراءه بالمال ليغير أقواله رفض بشدة
و تركه الضابط وانصرف بحدة ووائل يتابعه بنظراته القلقة الخائفة وأخرج الهاتف على الفور وهاتف باسم وأخبره بما حدث .. فقال ياسم :
- خلاص سيبك منه ... هو اللى عاوز يروح القبره برجليه ... دلوقتى بقى تروح تقابل الشهود وتشوف مايتهم هما كمان وبعدين تبلغني باللي حصل بينكوا بالظبط ...
قال وائل بارتباك :
پس دلوقتی با استاذ باسم معظم الفلوس معاك هند فعلهم منين
قال باسم بابتسامة متهكمة :
ملكش دعوة روحلهم بس واتفق معاهم وسيب الباقي عليا
حاول وائل أقناع الشهود بالإستجابة لطلبه وإغراءهم بالمال ولكنهما كانا مذبذبين بشدة وقال أحدهما :
يا أستاذ وائل بقولك محامي البنت القتيلة لسه نازل من عندنا قبل انت تيجي على طول وهددنا أننا لو غيرنا أقوالنا ومقولناس الحقيقة هيفضحنا قدام المحكمة ويحبسنا بتهمة التزوير
مال وائل للأمام وقال بثقة :
ولا يقدر يعملكوا حاجة ... انتوا هتقولوا اللي شفتوه
وضيق عيليه وهو يقول مؤكدا:
مش كده ولا ايه
نظرا الرجلين إلى بعضهما البعض بقلق وخوف وقال الآخر :
طيب يا أستاذ وائل سيبنا تفكر في الموضوع ده مع نفسنا
نهض وائل وهو يضع أمامهم أرقام هاتفه وقال :
كده نبقى متفقين ... تكلموني بعد يومين علشان تقعد مع بعض وتتفق على كل حاجة
غادرهم وائل سريعاً وهو يبتسم بثقة وأغلق الباب خلفه .... نظر أحداهما للآخر وقال :
هتعمل ايه دلوقتي.. الراجل ده شكله شرائي أوى وفى نفس الوقت المحامي الثاني هددنا
بالحبس بتهمة التزوير .
قال الآخر :
- طب وبعدين ......
وقبل أن يجيبه سمعا طرقاً على باب الشقة فنهض أحدهما وهو ينظر للآخر مترقباً وفتح الباب ونظر إلى القادم بتساؤل ورهبة وهو ينظر إلى حالته العسكرية وهو عاقداً ذراعيه أمام صدره ويقول بهدوء ولكن بلهجة صارمة :
ها اتفقدوا على المبلغ ولا لسه !
وبعد أسبوعين مرتقبين كانت تجلس في قاعة المحكمة وهي تنظر إلى محامي المجنى عليها, يحمل وجهها قسمات انتصار واثقة بعد أن أكد لها باسم أن الشهود سيفيرون أقوالهم و عدم حضور الضابط الذي يستند إليه محامي المجنى عليها في اثبات جناية التزوير، بدأت الجلسة وأمر القاضي حاجب المحكمة بالنداء على الشهود الثلاث ..... نظرت دنيا إلى الأوراق أمامها وهي تشعر بأن كل شي قد انتهى فيمجرد أن يشهد الشهود بنفس الشهادة التي أمام القاضي في المحضر فسوف يتغير الحكم كما قال لها باسم ... وأخذت ترسم أحلام وردية في دنياها الخاصة وترى اسمها يسطع في سماء الشهرة كنجمة متلألأة بين النجوم ... ولكن شعرت بزلزال شدید يقنت أحلامها وينثرها لتسقط من السماء إلى الأرض في لخسف الشديد وهو تستمع إلى صوت الضابط الذي وقف أمام المحكمة بهئيته وقد ألقى عليها هي ووائل نظرة استخفاف .
بدأ القاضي بسؤاله عن أقواله وبدا هو في سرد الوقائع الحقيقية التي حدثت بالفعل وعندما ناقشة القاضي في الأقوال التي بين يديه في التقرير المزيف أجاب الضابط بالنفى وأنه لم يكتب هذا المحضر وأن أقوال الشهود فيه مزيفة عن الأقوال التي أدلوا بها من قبل .
أنهى القاضي مناقشة الضابط ثم استدعى الشاهدين اللذين أكدا أقوال الضابط و أنكروا بشدة الأقوال الموجودة في المحضر المزيف .... شعرا كل من دنيا ووائل بأن الأرض قد ضاقت عليهما وأن السماء قد سقطت كسفا على رأسها ودرات بها الدنيا وهي تهمس لوائل أن يقوم ويناقش الشهود ويحاول تضليل المحكمة
ولكن الصدمات تاتي تباعاً دائماً, فجأة سمع الجميع هتاف هاني من خلف القضبان في انهيار شديد وبكاء حار وهو يعترف بجريمته ويشهق كالنساء ويرتجف خلف قضبانه بعد أن أدلى باعتراف مفصل وظل يهدف صارخاً :
- مكنش قصدى اقتلها مكنش قصدى كل ده يحصل مكنش قصدى
سقطت دنيا مغشيا عليها عندما سمعت القاضي بعد المداولة ينطق بالحكم ويأمر بغحالة أوراق هاني للملتى ويأمر بعودة أوراق القضية للنيابة العامة للتحقيق في واقعة التزويرا