رواية للهوى رأي اخر الفصل التاسع والعشرون
_أسيل
كان صوته، نبرته الخاصة بها في نطق اسمها، تلك الرنة الخاصة بها، ارتعشت يدها وتمسكت بالهاتف بيديها الاثنتين، فكرر ندائه بصوت آقر للاحتياج:
_أسيل، وحشتيني
صمت لحظة وقال بألم:
_بعذب في نفسي في بعدي عنك، مش عارف بعدي كان قرار صح ولا غلط، لكني محتاج أشوفك، وأشوف عينيكي، وأسمع صوتك
ضمت شفتيها بعذاب، واغمضت عينيها وهمست متسائلة:
_انت كويس
استمعت لتنهيدته وقال:
_أبدًا، مش كويس أبدًا، قوليلي انتي عاملة إيه
_أنا كويسة
كانت كاذبة وهو يعلم، فقال ياسين:
_تستاهلي تكوني بخير يا أسيل
التمعت عينيها بالدموع فارفعت عينيها لأعلى حتى لا تسمح لهم بالسقوط، لكن قلبها تساءل:
_هاترجع!
_مش هاسيبك، أنا بس، خايف أذيكي تاني
بأيدي مرتعشة مسحت جبينها قائلة:
_انت مش عارف انت عايز إيه يا ياسين
_كل اللي عارفه إني ندمان، وإني بحبك، وإني خايف أوجعك، ومش عايز أخسرك
خرجت منها صرخة معنفة فجأة هادرة به:
_يعني إيه، إيه المطلوب مني، أفضل برضو مستنياك، في الأول استناك ترجعلي بعد خيانتك، ودلوقتي استناك ليه، لما تخلص ندم، انتي أناني أوي
عم الصمت عليهما، ثقيل ومؤلم، ياسين وبعلاقاته التي لا تعد، يقف متحير ومشوش في علاقته في أهم ما لديه، ربما كان مخطئًا بابتعاده، أو لم تفهم هي رغبته، في أن يقوّم نفسه، يعمل على أن يستحقها، يتحمل مسؤولية فعلته بها.
خرج صوته ثقيلًا وباهتًا:
_دايمًا كنتي الأوفى في علاقتنا، رغم كل حاجة عملتها، لكن قلبي عمره ما كان ملك حد غيرك، لو أناني، فأنا أناني بيكي وغصب عني، افهميني أنا بغير في نفسي علشان أستاهلك، خلي بالك من نفسك أنا دايمًا معاكي.
أغلق الاتصال، هكذا؟!
وضعت رأسها بين راحتيها، تحبه، وتتألم، متحيرة إن كانت على خطأ أو الصواب، ربما هو محق!
هو الأعلم بحال نفسه وتقويمها، ورغم ندمه وتوسلاته في انتظاره، القرار إليها، أن تنتظره وترى تغيره، أم تبتعد وتفتح صفحة جديدة من حياتها ليس له وجود بها، لكنها دائمًا ما تتراجع لأهم شيء وأكثره صعوبة، أنها تحبه.
رفعت رأسها على يد الممتدة إليها بمنديل ورقي، ولا تدري بحالها أنها كانت تبكي، بخجل أخذه من عدي، زميلها في المكتب المجاور، ومسحت عبراتها بارتباك، رفعت عينيها إليه، رأته يبتسم لها قائلًا:
_كفاية ده ولا أجيبلك علبة
ابتسمت له وحركت رأسها بالنفي، فاتجه لمكتبه وبدأ عمله، دون أن يتطفل ويتساءل وهذا ما وُدّت أن تشكره عليه في هذه اللحظة، فقط تريد أن تنفرد بنفسها قليلًا، فأوقفت أسيل وأخذت حقيبتها خارجة من المكتب متجهة إلى فيروز.
....................
بعد مجهود شاق في البحث عنها، دخل موسى الغرفة خالي الوفاض، نظر للمرأة التي كانت تقف أمامها وتأملها في انعكاسها، كانت من اللحظات الجميلة القليلة بينهما دون التفكير في أي حواجز.
لم يكن يدرك أنها لعنة الغرام.
لم يظن أن يعرف الحب يومًا، لكنها سحرته، وعندما كانت تتحداه في أن يقاوم سحرها كان ينظر لها بثقة موسى رشيد.
سحرته بشخصيتها وكبريائها، بعينيها بأغوائها ورقتها، لكنها رحلت، دون أن يفضي كل منهما بكل ما يعتمر قلب الآخر، ويعوضها عن حنان افتقدته يومًا، دون أن يخبرها أن قلبه يعرف أنها لا تشبه كامليا، دون أن يخبرها بسِره وأسبابه، دون أن يخبرها، بأنه وقع بسحرها.
لكن امرأة مثلها لن تنتظر قدومه ليشرح لها ويخبرها عن زواجه وأسبابه، ستندفع بالنمرة المجروحة تداويها بعيدًا عن الأنظار، ثم تظهر محددة وقت ما تريد هي أن تفعل.
نظر لنفسه في المرآة، كان مشعث الشعر، مرهق الوجه، ذلك الرجل القوي الصلب مفتول العضلات، الواثق بشخصه الثابت مع جميع النساء، كان للهوي رأي آخر معه، ووقع في لعنته وانتهى الأمر.
...................
توقفت فيروز مع أسيل أمام البوابة الكبيرة بعد أن انتهت أسيل من زيارتها، ابتسمت لها وقالت بامتنان:
_كل مرة بجيلك تعبانة، بس بمجرد ما بفضفض معاكي بحس إني ارتحت
احتضنتها فيروز قائلة بود:
_ما تتردديش أبدًا إنك تيجي، إحنا مالناش غير بعض
_طب وانتي يا فيروز
_أنا إيه؟!
_هاتفضلي كده لأمتى، حساكي لا قادرة تكملي ولا عارفة تبعدي
نظرت فيروز أمامها بحيرة قائلة:
_حاسّة إني هانجرف مع مشاعري للمرة التانية، وده مضايقني، لأني خايفة ومش عايزة أتخذل تاني
قالت أسيل:
_قاسم اتغير، وأنا حاسة بده، وانتي بتقولي بيحاول يصلح اللي عمله، فاكرة لما قولتِلي في علاقتي مع ياسين، لو عارفة إن المرار من بعديه شهد يبقى يستاهل الفرصة التانية
_ياسين مش زي قاسم يا أسيل، في فرق كبير بينهم
_فعلاً، لكن قاسم ما هربش، وبيحاول يصلح اللي عمله، انتو الاثنين اتحطيتوا في اختبار صعب
أومأت فيروز برأسها وعينيها مثبّتة على أسيل التي قالت ناصحة:
_فرصة أخيرة، أنا عارفة إن قاسم بيحبك
لم تجبها فيروز، بل التفتت الفتاتان لبوق سيارة قاسم ومن خلفه سيارة حراسته، ترجل قاسم بعد ما ابتعدت الفتاتان عن البوابة، فاقترب منهن مرحبًا بأسيل:
_إزيك يا أسيل، ليه واقفة ما دخلتِش
أجابته بأدب:
_متشكرة، أنا هنا من شوية وكنت مروحة
نظر إلى فيروز قائلاً:
_لو كنت أعرف، كنت جيت بدري واتغدينا كلنا مع بعض النهارده
شعرت فيروز بالألفة دفعة واحدة، غداء وابنة عمها، في جلسة شبه عائلية، وعائلتها تدخل وتخرج من منزلها في ود وصلة أرحام لم تعرفها، وزوج صاحب ذوق ومرحب بعائلتها بكرمٍ ودفء لم تشعر به يومًا.
_فيروز يا فيروز
انتبهت إليه ورمشت بعينيها عدة مرات، وقد لاحظ شرودها، بينما ودعتها أسيل ثم خرجت معها فيروز من البوابة من الخارج، وأشار قاسم للحرس بالابتعاد قليلًا، صعدت أسيل لسيارتها وهي تبتسم لها مشجعة هاتفه:
_على الأقل حد فينا يبقى مبسوط، بدل النحس اللي إحنا فيه ده
ضحكت لها فيروز وشاهدت سيارتها تبتعد، وشردت للمرة الثانية ولم تشعر به بجوارها متسائلًا:
_انتي كويسة
التفتت إليه ثم ثبتت عينيها عليه للحظات، ماذا كان يحدث لو لم يحدث كل ما مضى؟! وتوقفت عند آخر لقاء بينهما، بعيدًا عن وجه الغاضب وملامحه الشرسة، وعنفه المؤثر في نفسها، وخوفها منه.
كانت تراه مثل الآن، هادئ الملامح، ينظر لها بتلك الطريقة صاحبة الألف معنى، ولون العشب الأخضر المتوهج يزداد ويزداد، فتمتد جذوره بداخلها، تقارب رأسها صدره، الذي لم تستند عليه وتغفو كما تمنت ذات يوم، يبتسم لها فتخجل وتتدلل.
تنهدت وقد جرفتها كلمات أسيل لمشاعر قد دفنتها في أعماقها، مستسلمة لما فرضه عليها الواقع، خرجت من شرودها، واستعادت تركيزها لتقابل عينيه المثبتة عليها، ارتبكت وأخفضت أنظارها عنه، فابتسم بحنان قائلًا بخفوت:
_شوفي إيه يا فيروز
رفعت عينيها متسائلة، فابدّد حيرتها حين قال بحنو:
_شوفي إيه في عيوني، خوفتِ ولا اطمأنّتني، شوفي صورتك فيهم ولا ضباب، قالولك انتي بالنسبالي إيه ولا ما عرفوش
مد يده وحاوط يديها يكفيه، وبههمس كاد يذيبها:
_قالولك بحبك قد إيه
ضمت شفتيها بخجل، ولم تسحب يدها منه كعادتها، مما شجعه على لمس وجنتها بأبهامه، فتجرأ أكثر ليقترب ويلثم جبينها بقبلة طويلة معتذرة ومحبة، ابتعد ورأى وجهها المتوهج الأحمر فابتسم بخفوت، فتحت عينيها وقابلت سواد عينين واسعتين مكحلتين بصنع الخالق، وكانت أول شيء سحرته بها.
تمتم باسمها بسحر عدة مرات، كأنه يتأكد أنها حقًا أمامه بإرادتها، وكانت ساكنة رغم أنها ترتجف، لكنها لم تنفر أو تبتعد وتعنفه.
أغمض عينيه بصيق عندما علا رنين هاتفه، في ذلك الوقت تحديدًا، ابتعدت فيروز خطوة للخلف وهي تضع خصلة خرجت من رابطة شعرها، وضعتها خلف أذنها، أجاب على الهاتف، وللحظات تحولت ملامحه للقلق:
_يعني إيه ما تعرفش عنها حاجة يا موسى
صمت للحظات مستمعًا لإجابة موسى، فقال مجددًا بضيق:
_وانت إزاي ما تعرفهاش حاجة زي دي، ما كنت عارف دهب ودماغها هاتروح في مليون سكة، طب اقفل أنا جاي لك
قال لها على عجالة من أمره:
_ادخلي البيت يا فيروز، أنا رايح مشوار مهم وراجع
كان سؤالها الواضح:
_مين دهب؟!
_أختي
ردّت من خلفه بصدمة، فقال موضحًا:
_أختي من أم من كامليا، حكاية طويلة يا فيروز هاحكيلك أول ما هارجع
تحرك خطوتين ثم عاد إليها واستند جبينه بحبينها هامسًا:
_مش هاخبي عنك حاجة أبدًا، أوعدك
أومأت برأسها أنها في انتظاره، وعندما تأكدت أنها داخل أبواب منزله محاطة بحراسه، ليس لشيء سوى أن يطمئن عليها، تحرك لصديقه الذي كان يزأر في الهاتف كالأسد الجريح.
...........
يدور حول نفسه بغير هوادة، وقد هلك ببحثه عنها دون فائدة، دخل قاسم فجاء وقال:
_مش عند كامليا ولا عند أي حد تعرفه
نفخ موسى بغضب قائلًا:
_طب راحت فين، إزاي أوصل لطريقها
قال قاسم مؤنبًا:
_بصراحة غلطة ما تجيش منك انت يا موسى، كنت فاكر إنك قايل لها، بس إنها تعرف بالطريقة دي هاتتأكد إنك كنت قاصد تخبي، ودهب وانت عارفها
_أقول لها إيه، على إيدك كل حاجة، كل الدنيا ما تهدي بينا شوية تولع تاني، قولت استنى شوية في وقت مناسب وكنت هاصارحها بكل حاجة
صمت قاسم، دون أن يزيد على صديقه بحديث ليس وقته، لكن موسى قال باختناق:
_الحكاية مش على قد جوازي القديم بس
تساءل قاسم بترقب حذر:
_يعني إيه
_عرفت بموضوع كامليا وأبويا
مسح قاسم وجهه بيديه هادرًا:
_مش وقته، ما كانش وقته أبدًا
وضع موسى رأسه بين يديه بحزن، وإحساس العجز لم يشعر به يومًا، متناقضًا لموجة غضب منها في هروبها واختفائها بتلك الطريقة المعذبة له، اقترب منه صديقه وبرغم قلقه على شقيقته وحزنها بمفردها دون أن تترك له فرصة التوضيح، لكنه يعلم أنها مجروحة وبشدة.
ربت على كتفه وقال ليهدئه:
_دهب قوية، هاتظهر لما تحس إنها قادرة تواجهك، وأنا هاعمل كل حاجة علشان نوصل لها في أقرب وقت، والباقي عليك يا موسى، مهمة إقناعها أصعب من إننا نلاقيها أصلاً.
تركه قاسم بعد تجاوز الساعة منتصف الليل، دخل بسيارته، وقد ضاق نفسه فجأة، غياب دهب وقلقه عليها، وحزنه على صديقه، بدّدوا أي سعادة دخلت قلبه قبل لحظات من معرفته بأختفاء شقيقته، بتمني أن تكون فيروز في انتظاره، سيخبرها بكل شيء عن دهب، عن أشياء فعلتها ولم تعلم هي عنها، لن يخفي عنها شيء أبدًا، حتى لا يكون بينهما أي حواجز بعد الآن، حتى لا يكون هناك باب لابتعادها عنه في يوم، لا يصدق رقتها معه اليوم وتقبلها لقربه وللمسته دون أن تنفر وتبتعد، ربما رق قلبها أخيرًا وسيعمل على ألا يخذلها أبدًا.
انتبه لحركة سيارته المضطربة، فسأل قاسم السائق:
_في إيه؟؟
كانت إجابته المقلقة:
_في عربيات بيقفلوا عليا بطريقة غريبة
ثم علا رنين هاتف قاسم، استمع لإحدى حراسه في السيارة من خلفه يقول له:
_قاسم باشا في حركة غريبة، استعد لأي اشتباك
أخرج قاسم سلاحه من أسفل كرسيه، وفتح زر الأمان، وها قد حدث ما توقعه، محاولة أخرى لاغتياله، دوت أصوات طلقات الرصاص من السيارات السوداء التي تحاول أن تصطدم بهم، والسائق يحاول أن يتفادى اصطدامهم به، وقاسم من الخلف يطلق عليهم الرصاص محاولًا تشتيتهم، لكن رصاصهم كان الأكثر، وعددهم كان أكبر، فاحتجزت سيارة الحراسة بين سيارتين أصحابهم ملثمين، وتبادلوا الطلقات مع بعضهم، وسيارة قاسم تحاول الصمود وسط تلك الحرب المفاجئة، وهو يحاول أن يضرب إطارات سيارتهم ونجح في ذلك، حتى توقفت إحدى سياراتهم واصطدمت بإحدى صناديق القمامة القديمة، والأخرى اصطدمت بجانب سيارة قاسم بقوة حتى انقلبت فجأة عدة مرات، عمّ الصمت المكان، وساد الظلام.