رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتسعون 290 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتسعون

توارَت سيرين في ظلِّ عمودٍ رخـ,ـاميٍّ تراقب المشهد كما لو أنّها شاهدةٌ على محكمةٍ خفيّةٍ في عالمٍ موازٍ بينما ظل ماهر يتبادل همسًا قصيرًا مع ظافر ثم استدار نحوها فجأةً بخطواتٍ حادّة يقترب حتى صار بينهما هواءٌ مشحونٌ لا يُرى وعدسات نظارته الطبية تخفي عينين متقدتين بحمرةٍ تشي بليلةٍ بلا نوم يقول بصوتٍ يفوح بالاتهام الصريح:

«آنسة تهامي… ألا ترين أنّكِ تُغالين الآن؟»

ارتجفت الكلمات في صدرها كونها لم تتوقع اللوم من ماهر تحديداً الذي عايش كل كسرة مرت بها في ظل عشرتها لظافر، فشعرت للحظةٍ أنّ الأرض تميد تحت قدميها.

رمق ماهر ظافر بنظرةٍ خاطفة ثم أضاف وقد انعقد صوته بغضبٍ مكتوم:

«السيد ظافر صار على ما هو عليه اليوم لأنّه حاول إنقاذك… فكيف لكِ أن تستغلي فقدانه للذاكرة كي تنتزعي الطلاق؟»

ارتفع حاجباها بدهشةٍ جارحة كأن صفعةً من باغتتها فشدّت على أنفاسها وقالت ببرودٍ متجلّد وهي تغمض عينيها كمن يتمنّى إبطال الواقع:

«استغلال؟ لقد تقدّمتُ بطلب الطلاق قبل أن يفقد ذاكرته بوقتٍ طويل.»

قالتها وخطت بعدها بخطًى ثابتةٍ تتجاوزه كنسمةٍ حادةٍ واقتربت من ظافر تحدثه بنبرةٍ هادئةٍ لكنّها ترتجف في عمقها:

«أنا هنا… يا ظافر.»

تردّد الاسم في فضاء القاعة كجرسٍ يوقظ حواسّه فخفق قلبه بعنفٍ لم يستطع إنكاره، لكنه نهض على الفور وكأن الصوت المألوف استدعى في داخله عاصفةً من الذكريات ومع ذلك ولحراسة ما تبقّى من كبريائه أدار وجهه بعيدًا عنها وصاح بحزم:

«ماااهر!»

أسرع الأخير بالاستجابة:

«أنا هنا سيّد ظافر.»

قال ظافر ببرودٍ يقطر من حوافّه جليدٌ:

«هيا بنا إلى مكتب التسجيل.»

في تلك اللحظة بدا وكأن ذاكرته قد عادت إليه دفعةً واحدة فصار يمشي بثباتٍ لافت… تقدّم الرجلان إلى الأمام في صمتٍ مهيب فيما تبعتهم سيرين من الخلف، يثقل خطاها مزيجٌ من الذكريات كمن تسير وراء سرابٍ يزداد وضوحًا كلما ابتعدت.

تقدّم ظافر بخطًى واثقة إلى منضدة المحكمة يرافقه ماهر الذي اكتفى بالصمت مثل ظلٍّ مأمور بينما جلست سيرين إلى جواره في مواجهة موظفٍ يلمع زجاج نظارته تحت أضواء القاعة الباردة.

لمح الموظف ارتباكًا غير خفيّ في حركة ظافر وارتفع حاجباه حين أدرك أنّ الرجل الذي أمامه لا يرى شيئًا.

رفع الموظف نظره إليهما متفحّصًا، ثم قال بنبرةٍ مهنيةٍ حذرة:

«وفق السجلات قد سبق لكما أن تقدّمتما بطلب الطـ,ـلاق قبل خمس سنوات ثم جرى تقديم دعوى جديدة مؤخـ,ـرًا… وقد رُفضت.»

أومأت سيرين برأسها في هدوءٍ يشبه الاستسلام، وقالت:

«نعم… وهو الآن مستعدّ للمضي في الطلاق.»

أخذ الموظف يقلب الملفات بين يديه لكن عينيه توقّفتا فجأة عند الاسم المنقوش أمامه… لحظةُ إدراكٍ بدت كشرارةٍ في الهواء فالأخبار التي غزت الشاشات عن الرئيس التنفيذي لمجموعة نصران لم تفارق ذهنه والآن يقف صاحبها أمامه، بلحمٍ ودم بنظارته السوداء وعينيه الغائرتين خلف العمى.

تلعثم وكاد السؤال يخرج من فمه:

«أ…أأنت السيد ظافر؟ هل أنت حقًّا…»

لكنه ابتلع بقيّة الجملة حين اصطدم ببرودة الملامح التي لا تحتمل شفقة فقطع ظافر الصمت يقول بصوتٍ حاسمٍ كالسيف:

«دعنا نُنجز ما جئنا لأجله.»

تنحنح الموظف متردّدًا ثم قال بأسفٍ رسميٍّ يجرح أكثر مما يواسي:

«أخشى أنّ القانون لا يلين… بما أنّ الدعوى الأخيرة رُفضت فعليكما الانتظار ستة أشهر قبل تقديم طلبٍ جديد.»

تجمّد الهواء حول الطاولة كأن الزمن نفسه استدار يبتسم بسخرية لسيرين التي حدّقت في الفراغ، بينما بقي ظافر ساكنًا، معطفه الداكن يبتلع الضوء، وصمته يفضح عـ,ـاصفةً لا تُرى تتكسّر في داخله.

تشنّجت أنفاس سيرين كوترٍ مشدود حين دوّى صوت الموظف ببرودٍ غلّفه الرحمة وقالت بسرعة كأنها تحاول اختراق جدارٍ من الجليد:

«كما أخبرتك، نحن نختار الطلاق طوعًا… معًا وبإرادتنا.»

لكن وقع كلماتها ارتطم بصمتٍ كثيف فارتج في صدر ظافر رعشة ألمٍ لكنه أجاب بصوتٍ مبحوح كأنه يخرج من بئرٍ عميقة:

«هذا صحيح… نحن نفعل ذلك طوعًا.»

تأمل الموظف ملامحهما للحظة وفي عينيه شفقةٌ تخالطها قسوةٌ متعالية ثم وجّه نظرةً حادة نحو سيرين وقال بلهـ,ـجةٍ ناصحة تقطر اتهامًا:

«سيدتي، قانون الزواج في بلادنا يبيح لنا رفض أي طلب للطلاق إذا كان أحد الطرفين معاقًا. ألسنا بشرًا؟ أليس من الوفاء أن نصون العهد حين تنقلب الأحوال؟ لم تُطالبي بالفراق حين كان زوجك في أوج نجاحه أفلا يُعدّ ذلك قسوةً أن تطلبي الطلاق الآن بعدما أصابه العمى؟»

تسارعت أنفاس سيرين وتوهّـ,ـجت عيـ,ـناها بحمرة الغضب فاندفع صوتها يجلـ,ـجل في القاعة:

«لقد قلت بلسانك أنني قد تقدمت بدعوتي طلاق مسبقاً.. ثم ماذا تعني بالمعاق؟ إنه أعمى لا أبكم ولا عاجز عن الحياة!»

ارتفعت نبرتها حتى التفت الجميع نحوها وبدت في تلك اللحظة كمن يشقّ السكون بسيفٍ من نار لكنها تابعت وعـ,ـروقها تنبض باحتجاجٍ مكبوت:

«لقد رفعت دعوى الطلاق وهو في قمة مجده قبل أن يبهت هذا البريق الذي ترونه! أتظنّ أني لم أجرؤ إلا حين عجز؟ لقد كان غائبًا عني حتى وهو في أوج قوته، لم يمدّ لي يدًا، لم يمنحني عونًا ولا دفئًا… فلماذا يُفرض عليَّ أن أظل أسيرةً اليوم لمجرد أنه فقد بصره؟ أهذا عدل؟!»

ترددت كلماتها في فضاء القاعة كرجع عاصف وصُعق الحضور الذين ظلت أعينهم تتنقل بينها وبين الرجل الواقف بجـ,ـانبها… عندها فقط التقط بعضهم صورةً للمشهد وكأنهم يوثّقون انكسارًا لا يتكرر:

رجلٌ أعمى يطوّقه الصمت وامرأةٌ تشعل المـ,ـكان بصرخةٍ تمزّق الأقنعة.

اتلمي بقى بدل ما اقلب عليكي يا بنت ساسة الراقصة.


تعليقات