رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والواحد والتسعون 291 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والواحد والتسعون


تحت ستارٍ كثيف من الصمت غادر الاثنان مبنى المحكمة خاليي الوفاض وكأن الأقدار قد أطبقت عليهما بإصرارٍ لا فكاك منه إذ فشل الطلاق…

تجمّد وجه ظافر بينما بدا على ماهر الذهول فتلك المرأة التي عرفوها رقيقةً كنسيم الفجر تحوّلت في القاعة إلى لبؤةٍ شرسة مخالبها من كلماتٍ حادّة أربكت الجميع.

في تلك الأثناء لم يسمح الحشد الغاضب ولا عدسات الفضوليين بخروجٍ آمن فشقّوا ثلاثتهم طريقهم بين الحراس وصدى الكاميرات يلمع كوميض البرق في عتمة يومٍ ثقيل حتى الطريق إلى السيارة صار ممرًّا من همساتٍ لاذعة ولا أحد يعرف ما ستحيكه غدًا عناوين الأخبار.

جلست سيرين إلى جوار النافذة بعينين يطوفهما الاحمرار كقنديلين على وشك الانطفاء فيما جلس ظافر بجانبها، ساعداه على فخذيه يقيّد ارتعاشةً خفيّة.

مرت لحظات طويلة قبل أن يشقّ السكون صوته الأجش:

«لا بدّ أنّكِ عانيتِ كثيرًا بسببي في الماضي.»

لم ترد بل شدّت شفتيها كمن يحبس سيلًا من الكلمات فأدرك وهو يتلمّس الفراغ أنّ صمتها نصلٌ غائر في قلبه.

قال ظافر بعد وقفةٍ ثقيلة وصوته يتهدّل بندمٍ مبهم:

«ممّا أتذكّره… كنتِ تحبّينني بصدق… وأنا أيضًا…»

ثم ابتلع ما تبقّى ولم ينطق بكلمة «أحبّك» فقد سمع في قاعة المحكمة ما أدمى داخله؛ اعترافاتٍ تنضح بالخذلان، شكاوى تراكمت كسنين من الصقيع… فجأةً انعكس في وعيه أنه كان يومًا قاسيًا معها وأنها لم تجد فيه الحامي الذي توهّمت.

أطبقت سيرين صمتها كدرع ترفع ركبتيها إلى صدرها وأخفت وجهها بينهما تتكور على نفسها في مقعدها تمنع شهقاتٍ متكسّرة من أن تفضح ضعفها إذ كانت سنواتها الماضية حلبةً من الألم بينما ظنّ العالم كلّه أنها تنعم ببريق اسمه وثروته.

والآن بعد أن انطفأ ذلك البريق وغشي بصره الظلام ها هي تُرمى بالجاحدة تتدلّى عليها أحكام الناس كأغلالٍ من نار ولا يسمع أحدٌ أنين قلبٍ أثقلته الخسائر.

ازداد سمع **ظافر** رهافةً بعد أن خفت نور عينيه إلى الأبد؛ فصار يلتقط ارتجافة الهمس كما تُلتقط الذبذبة في الفراغ، يسمع ارتعاشة قلبها كما لو أنها طبول تضرب على جدار صدره… يلتقط بكاءها المبتور ذلك البكاء الذي حاولت أن تخنقه لكنه اخترق صمته كخنجرٍ في خاصرته فمد يده المرتجفة كمن يستنجد بظلٍ بعيد ووضعها على كتفها بحنوٍّ مرتبك يقول وصوته يتهدج كاعترافٍ متأخر:

**”أنا آسف.”**

تجمدت **سيرين** كمن تلقت صاعقةً من المستحيل؛ فهي لم تسمع منه تلك الكلمة طَوال سنواتٍ مريرةٍ نزفت فيها روحها، ترفع رأسها في دهشةٍ تتلوّى في عينيها، وحدّقت بالرجل الذي أمامها، ويده المرتجفة تستقر على كتفها كأنه يتشبث بها خشية السقوط في هاوية لا قاع لها تهمس بشفاه مرتعشة، بمرارةٍ وشجن:

**”ظافر… لماذا فقدتَ ذاكرتك؟”**

عجز عن الرد وتحولت الكلمات إلى رماد في حلقه فلم يكن الصمت اختيارًا بل عجزًا أعمق من الجراح فأزاحت يده بقسوةٍ وقالت:

**”لا تلمسني.”**

ظلّت يده معلّقة في الهواء كمن تُرك دون يدٍ ولا سند… ثبتت يده هناك طويلاً ثم سحبها ببطء وهو يبتلع غصّته ويتمتم بانكسارٍ خافت:

**”حسنًا…”**

تلك الكلمة وحدها كانت انحناءً مذلولًا لقلبه لكنها أيضًا كانت محاولة يائسة ليخفي حقيقة أنه لا يزال يتشبث بها كما يتشبث غريقٌ بخشبةٍ في بحرٍ هائج ومن ثم التفت إلى ماهر والسائق وأمر ببرودٍ زائف:

**”أوقفا السيارة، وانزلا.”**

امتثلا تاركَيْن خلفهما فراغًا يغلي بالتيه.

ساد الصمت بينهما… صمت يقطر ثقلاً حتى خُيّل لهما أن أنفاسهما تتحاور نيابةً عنهما يقول بصوتٍ متكسّر كمن يمنحها إذنًا بالتحرر من قيوده:

**”ابكي… إن أردتِ.”**

لكنها بقيت صامتة كجدارٍ أُقيم في وجهه يمد يده نحوها من جديد بلمسةٍ خجولة مرتجفة كمن يختبر حضورها ليتأكد أنها لم تهجره بعد وحين شعر بظلها باقياً قربه تنفس بارتياحٍ مكسور كطفلٍ وجد حضن أمه بعد ضياع.

قال والدمع حبيس عينيه العمياء:

**”لا تقلقي… حتى لو لم ننفصل الآن لن أكون عبئًا عليكِ… سأكون بعيدًا، صامتًا، مجرد ظلّ لا يقترب منكِ.”**

لم تجبه فاندفع يستجديها بطريقةٍ تُشبه الوعد أكثر مما تُشبه الصفقة:

**”بعد ستة أشهر دعينا نحاول مجددًا… سنقدّم طلب الطلاق… لكن هذه المرّة لن أتراجع عن كلمتي.”**

قالت أخيرًا بصوتٍ يحمل برودة النصال:

**”بالتأكيد… إنها صفقة.”**

ابتسم ابتسامةً ممزقة… ابتسامةً تتساقط منها الحروف كما يتساقط الرماد من جمرٍ محتضر وهمس:

**”نعم… صفقة.”**

لكن قلبه كان يصرخ: *”لا، ليست صفقة… إنما موتي مؤجلٌ برضاكِ.”*

وحين غادرت شعر أن صدره قد انخلع… أن قلبه ينزف دون دم وأنه قد تُرك عاريًا أمام صحراء من الوحدة فبقي مكانه يتألم بصمت متشبثًا بروحها الغائبة كمن ينسل عنه آخر ضوء في عتمته جبراً.

عاد **ماهر** إلى السيارة بخطواتٍ مترددة يختزن في عينيه قلقًا مكتومًا ثم انحنى قليلًا وسأل بصوتٍ ينضح بالاحترام:

**”هل نعود إلى المشفى الآن يا سيدي ظافر؟”**

كانت جراح **ظافر** ما تزال طرية تنزف في الخفاء كأنها ترفض الالتئام.

أدار ظافر رأسه ببطء وهزّه في صمتٍ يثقل الهواء قبل أن ينطق بنبرةٍ هادئة باردة:

**”خذني إلى المكان الذي أقيم فيه.”**

أجاب ماهر بانصياع:

**”مفهوم.”**

لكن الحقيقة التي لم يعرفها أحد أن **ظافر** نفسه لم يعد يدري أين يقيم فالبيوت جميعها فقدت معالمها في عينيه المعتمتين… لم يكن هناك مكان يسكنه أو يأوي إليه سوى صورة واحدة مطبوعة في أعماقه: **سيرين**.

كان وجهها وحده يطل من غياهب ذاكرته المحطمة وصوتها وحده يملأ خواءه كأنها آخر خيط يربطه بالحياة أما ما تبقّى من العالم فقد غرق في سديم النسيان حتى **ماهر** لم يتعرّف إليه إلا بوساطة روايةٍ جافة أخبرته بها **شادية**:

*”لقد عملا معًا سنوات طويلة.”* لا أكثر ولا أقل.

حين وصلوا إلى القصر ألحّ ماهر وقد تجمّعت في صدره رغبةٌ في الاطمئنان:

**”هل أستدعي الطاقم الطبي ليتولّوا أمر جراحك سيدي؟”**

لكن **ظافر** قاطعه ببرودٍ وصوتٍ يشق الأمل نصفين:

**”لا أحب وجود الغرباء حولي.”**

تجمّد ماهر ثم بادر بإلحاحٍ خافت:

**”في هذه الحالة… هل تسمح لي أن أعتني بك بنفسي؟”**

ارتسمت على وجه **ظافر** لمحة قسوةٍ لم تخفي هشاشته وقال بجفافٍ أشد قسوة من السيف:

**”كما قلت لك… أنا لا أحب الغرباء.”**

توقف الزمن في تلك اللحظة بالنسبة لماهر؛ لقد أدرك فجأة أنه بعد كل ما مضى ليس إلا غريبًا عند رجلٍ يراه الجميع سيدًا للعالم بينما السيد نفسه يتخبط في عتمةٍ داخلية لا تعترف بأحد.

كان **ظافر** يعامله ببرودٍ كالثلج كأن كل الوجوه من حوله فقدت معانيها ولم يبقَ في قلبه سوى صورة واحدة محفورة بالنار:

**سيرين**.


تعليقات