رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثاني والتسعون 292 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثاني والتسعون


لم يسمح ظافر لأحدٍ بالبقاء في القصر، وكأن العزلة صارت جدارًا يحميه من خيانة العيون وتطفل الألسنة لذا لم يكن أمام ماهر سوى أن يرضخ فوضع حارسًا عند البوابة ليكون عينه الساهرة على أي طارئٍ قد يطرق الأبواب.

أما شادية فلم يعد في جعبتها وقتٌ تضيّعه في رعاية ظافر؛ فقد كانت معركتها الأخرى مشتعلة داخل دهاليز شركة نصران حيث بلغ الصراع ذروته… وهناك تحالف زيدن مع بعض المساهمين القدامى ورفعوا راية العصيان بإعلان اجتماع للمساهمين هدفه إقصاء ظافر عن عرش مجلس الإدارة.

أما عدنان فقد وهن جسده تحت وطأة العمر ورغم رغبته في المساعدة إلا أنّ قوته خانته ولم يعد قادرًا على خوض غمار الصراع ثم إنّه لم يكن ليسمح أن تبقى المجموعة تحت سيطرة رجلٍ أعمى حتى وإن كان ذلك الرجل ابنه لذا فقد وجدت شادية نفسها في مواجهة عاصفة من الاعتراضات، تُحارب وحدها، محاطة بالخصوم من كل الجهات.

مع إشراقة الصباح التالي عند التاسعة تمامًا اهتزّت الصفحات بخبرٍ أشبه بصفعة:

“ظافر نصران يفقد بصره… ويرفض طلب زوجته بالطلاق.”

استفاض التقرير في تشريح سقوط رجلٍ كان يومًا أسطورةً تُحاك حولها الحكايات؛ ظافر الذي ارتقى سلالم المجد بسرعةٍ مذهلة بات الآن عالقًا في هاوية العجز تُعامله زوجته ببرودٍ أقسى من فقد البصر ذاته فبدا في أعين القرّاء كتمثالٍ صدئٍ في متحفٍ مهجور تتراكم عليه الأتربة بينما المارة يمرّون ساخرين.

ولم يكتفِ الإعلام بالكلمات؛ إذ سرّب أحدهم مقطع فيديو صاعقًا يحمل عنوانًا لاذعًا:

“ظافر أعمى، وليس غبيًا.”

الجملة التي أطلقتها سيرين في قاعة المحكمة قبل أيام تحولت إلى وقودٍ لنيران السخرية واشتعلت التعليقات تحته كما يشتعل الهشيم بلمسة شرارة:

“يا إلهي… أشفق عليه حقًا… كان نجمًا لامعًا في سماء رجال الأعمال وها هو اليوم يتخبط في عتمةٍ لا نهاية لها.”

“نعم لم يكن يستحق هذا السقوط… من كان سيعرف تلك المرأة لولا اسمه الذي صنع لها المجد؟”

“وأين هي دينا الآن؟ ألم يحن الوقت لتعود وتنتشل أميرها المأسور؟ ألم تكن هي حبه الأول، الهاربة من حضنه تاركةً خلفها رماد الحكاية؟”

“لم أرها منذ زمن… قيل إن شركة دينا قد توقفت عن العمل مؤقتًا.”

“أتمزحون؟ هل تعتقدون أن دينا تستحق رجلاً مثل ظافر؟ أنسيتم فضيحتها في ذلك المقطع المشؤوم؟”

تدافعت الكلمات كحجارة تُرمى على جسدٍ مُلقى في الساحة بعضها يجلده بالشفقة وبعضها يجلده بالسخرية والبعض الآخر ينهش سمعته كذئابٍ تتقاسم فريسة وهكذا ظل اسم ظافر يتردد في الأفواه كطريدةٍ مثخنة بالجراح لا يملك رفاهية الدفاع عن نفسه بينما العالم الخارجي يحوّله إلى أسطورةٍ منكسرة تُروى للتسلية لا للعِبرة.

وما إن جرى رفع النسخة الكاملة من المقطع المصوَّر حتى انفتحت أبواب جحيمٍ جديد من التعليقات كأن كل كلمة قيلت فيه تحولت إلى سهمٍ يُغرس في صدر الحقيقة.

> “لماذا أشعر بالأسى تجاه **سيرين**؟ ألم تسمعوا ما نطقت به بلسانها؟ لقد لوّحت بالطلاق قبل أن يُصاب **ظافر** بالعمى.”

جاء صوت آخر يردّ وكأنه يُزكّي النار:

> “هذا غير صحيح… إنّ دعوى الطلاق سُجِّلت من أيام معدودة إنها حقاً امرأة جاحدة.”

كانت **كوثر** تتابع سيل الكلمات المتدفقة على الشاشة وكل جملةٍ كأنها صفعة على وجهها… لم تحتمل أن ترى **سيرين** تُجلد ظلمًا أمام الملأ فاندفعت إلى لوحة المفاتيح كمن يشهر سيفه في معركة وكتبت تعليقًا طويلاً أشبه ببيانٍ ناري:

> “أنتم الذين تلعنونها، ألا ترون أنّ **سيرين** عمياء أيضًا؟ بعد أن انهارت أسطورة آل تهامي هل وقف **ظافر** إلى جانبها يومًا؟ لا… بل تركها تواجه الدمار وحدها ثم أدار لها وجهه نحو **دينا** يُغازلها وهو لا يزال زوجًا لـ **سيرين**! لا تجعلوا أبصاركم تخدعكم بما ترون… من المؤسف أن يفقد رجلٌ بصره، نعم، ولكن ألا تفكرون أنّه لا يزال مليارديرًا يملك ما لا تملكون؟ هل حقًا يحتاج إلى شفقة الفقراء؟ هل هو البطل المكلوم الذي هجرته زوجته في لحظة محنة كما تصوّره لكم الشاشات؟ أنتم جميعًا تأكلون خبزًا يابسًا وتبكون من أجل ملياردير أعمى! أي سذاجة هذه؟”

ضغطت **كوثر** زرّ الإرسال غير عابئة بما سيأتي كأنها ألقت قنبلة في ساحةٍ مزدحمة وما هي إلا لحظات حتى بدأ التعليق يشتعل انتشارًا، يتنقل بين الصفحات كالنار في الهشيم.

شيئًا فشيئًا بدأ بعض القرّاء يستفيقون من غفلتهم كأن كلماتها هزّت أقفال عقولهم وأقرّوا بأنّ اللوم لم يكن يومًا عبئًا يُلقى على كاهل **سيرين** وسرعان ما انقلبت الموجة فقد تحوّل غضب الجمهور بأسره نحو **ظافر** وتدفقت الكلمات عليه كسياطٍ حارقة:

“لقد عاش يتصفّق بأموال آل تهامي، مستدينًا من مجدهم ما أقام به عرشه الواهي.”

“إنه وغد، خان زواجه وتورط بعلاقة غرامية مع إحدى المشهورات وهو ما يزال في عصمة زوجته!”

“بل إن فقدانه للبصر عدلٌ سماوي، جزاءٌ لمن أعمى قلبه بالخطايا قبل أن تعمى عيناه!”

تراكبت الأصوات كعاصفةٍ لا رحمة فيها؛ وأصبحت ألسنة الناس كألسنة لهبٍ، تحرق ما تبقى من هيبة رجلٍ كان يُحسب له ألف حساب فصار اسمه بأفواههم أشبه بجثةٍ تتقاذفها أمواج الشماتة حتى أن بعضهم أعلن ببرودٍ مرعب أنّه **يستحق أن يكون أعمى**.

كانت **شادية** تمعن النظر في الشاشات، أصابعها ترتجف فوق الأزرار، تتمنى لو أنّ لمسةً واحدة تكفي لتمحو المقالات الإخبارية عن **ظافر** لكن خصومه لم يتركوا لها منفذًا؛ فقد أنفقوا الأموال بسخاءٍ ليبقوا اسمه مُعلّقًا في سماء الفضيحة، ليظلّ حديث الناس والجرح النازف الذي لا يندمل… كانوا يريدونها نارًا مشتعلة لا تنطفئ وموضوعًا متصدّرًا لا يسقط من قوائم الرواج.

لعنت شادية تحت أنفاسها فلو كان **ظافر** بصحته وقوته القديمة لما تجرّأت الشائعات أن تنهش لحمه بهذا الشكل البشع أما الآن وهو أعمى فاقد الذاكرة، عاجز حتى عن تذكّر اسم شركته، فكيف بما هو أعقد من شؤونها؟ صار ماضيه كله ظلالًا بعيدة وأصبح اسمه مرادفًا للعجز… في الأمس كان بارعًا، صلبًا كالسيف يُخيف خصومه بحنكةٍ لا تلين، ويُراكم الأعداء بقدر ما يُراكم الانتصارات… أما اليوم فقد انقضّت عليه الذئاب، تُهاجمه من كل جانب وكل من كان يتقي بطشه صار يتقدم ليركله وهو مُلقى على الأرض.

أما **طارق** و**كوينتين** فقد رغبا في مدّ يد العون لكنهما كانا مكبّلين؛ يملكان الرغبة ولا يملكان السلاح وحدها عائلتاهما، وبعض الشركات المتحالفة مع مجموعة **نصران** بقوا أوفياء لأنهم وحدهم يعرفون أنّ نيران ظافر في الماضي قد تركت حروقًا عميقة في صدور باقي الشركات فقد ذاق الجميع من قمع ظافر ما جعلهم الآن يتلذذون بسقوطه.

أما **طارق** فكان أشبه بنسرٍ مُقيّد فهو لم يفرض بعد سطوته الكاملة على عائلته وإلا لكان قادراً على الزجّ بثقله كله إلى جانب **ظافر** لكن كل ما استطاع فعله أن يصبّ جمّ غضبه على **توني** ذلك الرجل الذي دهس ظافر دون رحمة.

وفي مكانٍ آخر، بعيدًا عن صخب المدينة، في مصحةٍ يعبق هواؤها برائحة الأدوية الثقيلة وقفت **دينا** بين المرضى النفسيين ترتدي ثوب المستشفى الأبيض الذي بدا عليها كقيدٍ ناصع… كانت عيناها تلمعان بوحشية غريبة وما إن وقع بصرها على الخبر المدوّي حتى انفجرت تقهقه بضحكات مسمومة كمن فقدت عقلها أو كأن عقلها لم يعرف يومًا غير الجنون… كان ما بها شماتةً صافية، انتقامًا خالصًا، وكأنها تقول للعالم كلّه:

“ها هو الذي أدار ظهره لي يذوق الآن مرارة العمى والوحدة.”

هكذا ظلت **دينا** تقهقه كما تضحك ساحرةٌ وسط رماد حريقٍ أشعلته بيديها وكل من حولها من المرضى يراقبونها بذهول، غير قادرين على التمييز إن كانت واحدةً منهم أم عاصفةً حلّت عليهم لتكمل جنون المصحة.


تعليقات