رواية الرساله الاخيره الفصل الثاني 2 بقلم أيات عاطف

 

رواية الرساله الاخيره الفصل الثاني بقلم أيات عاطف

تاني يوم روحت البحر، لقيت نوح قاعد مستنيني كأنه عارف إني هاجي،
ابتسم أول ما شافني وقال:
-كنت متأكد إنك هتيجي

رديت وأنا بقعد جنبه:
_مابحبش حد يستناني

ضحك وقال:
-ما استنتش، أنا جيت زي كل يوم.

قعدنا ساكتين شوية، البحر قدامنا صوته عالي والبرد بيخلي نفسي يطلع متقطع،
هو طلع من شنطته علبه عصير ومدهالي:
-فكرت إنك محتاجاها.

مسكتها وأنا ببصله باستغراب
_انت ليه بتعمل كده؟

قال بهدوء:
-عشان شكلك محتاجه حد يسمعك، مش أكتر.

سكت ومقدرتش أرد،
يمكن لأنه صح.

بعد دقايق لقيته بيبصلي وسألني:
-هو يوسف كان إيه في حياتك؟

بصيت للبحر ودموعي نزلت غصب عني:
_كان كل حاجة ضحكتي، أماني، حتى أحلامي معاه.
ومن يوم ما مات وأنا مش عارفة أعيش من غيره،
كنا متجوزين علي فكره.

نوح هز راسه كأنه فاهم وقال:
-عارفة، الذكرى مش بتموت…
 بس ينفع نعيش معاها من غير ما نفضل مربوطين بيها.

كلامه لمسني بطريقة غريبة، كأنه بيحاول يفتحلي باب صغير أنا مقفلاه من زمان،
بس خوفي خلاني أغير الموضوع:
_طب وانت؟

بص للبحر وقال:
-مفيش البحر بيريحني.

حسيت قلبي بيرقله شوية،
مش عشان عايزة أنسى يوسف،
لكن عشان لقيت حد فاهم الإحساس اللي أنا فيه.

قبل ما أقوم أمشي، نوح قال:
-أنا هكون هنا بكرة برضو هستناكِ.

بصيتله من غير ما أوعده بحاجة
_ما اوعدكش.

مشيت وأنا جوايا لخبطة كبيرة،
لسه بفتكر يوسف كل لحظة.
بس يمكن في نفس الوقت،
 ابتديت أصدق إن الحياة مش لازم تقف.

---

تالت يوم، كنت قاعدة على سريري ماسكة الدفتر،
صفحات كتير مليانة كلام عن يوسف…
بس المرة دي مش عارفة أكتب ولا كلمة.
كل ما أمسك القلم، ألاقي عقلي يرجع لجملة نوح:
"الذكرى مش بتموت، بس ينفع نعيش معاها من غير ما نفضل مربوطين بيها."

قعدت حوالي نص ساعة مترددة،
مرة أقول لنفسي "ما تنزليش"، ومرة تانية أحس إن البحر بيناديني.
وفي الآخر قمت بسرعة، لبست سوت واسع، رميت شعري كده من غير ما أبص في المراية،
ونزلت.

الساعة كانت ستة ونص،
الشوارع هادية بشكل يخلي الواحد يسمع خطواته،
الجو أبرد من امبارح، والهوا داخل في وشي لدرجة حسيت إنه بيفوقني بالعافية.

وصلت نفس المكان اللي بقعد فيه…
بصيت حواليّ ملقتوش.
قعدت وسحبت نفسي تنهيدة طويلة،
طلعت الدفتر من الشنطة وفتحت صفحة جديدة.
كتبت سطر: "هو البحر بيسمعني أكتر من الناس."
وبعدين وقفت، معرفتش أكتب غير كده.

قعدت أراقب الموج، صوت البحر كان عالي قوي،
وكل موجة رايحة جاية كأنها بتحكي حاجة مش راضية توصل لي.
فضلت سرحانة لحد ما سمعت صوت خطوات ورايا.

قلبي دق بسرعة،
لفيت لقيت نوح جاي ناحيتي…
كان لابس جاكيت أسود،
وفي إيده جيتار.

ابتسم أول ما قرب وقعد جنبي من غير ما يتكلم.
فتحت شنطته الصغيرة، طلع منها 
علبه العصير ورماها جنبي.
قال ببساطة:
-قولت يمكن هتحتاجيها.

بصيتله باستغراب من غير ما أرد،
وشربت العصير بهدوء.

هو ماستناش مني كلمة،
بدأ يظبط أوتار الجيتار، وبعدين عزف لحن هادي…
اللحن كان ماشي مع صوت الموج بشكل غريب،
 كأنه متفق معاه.

بعد ثواني، صوته دخل مع العزف.
كان صوته مش احترافي ولا حاجة،
بس فيه دفء يلمس القلب.
غنى حاجة عن البحر وعن الناس 
اللي بتمشي وتسيب وراه ذكريات.

أنا قعدت أبصله مندهشة…
ولقيت نفسي، من غير قصد، بضحك.
ضحكة صغيرة، بس طالعة من جوا قلبي…
ضحكة ما سمعتهاش من نفسي بقالها شهور.

هو وقف عزفه وبصلي مباشرة،
وقال وهو لسه مبتسم:
-كنت مستني أشوف الضحكه دي.

اتكسفت، بسرعة بصيت للبحر تاني،
وحاولت أعمل نفسي مش واخدة بالي.
بس جوايا كان في حاجة بتتغيّر.

سكتنا لحظات طويلة،
أنا ماسكة الكباية، وببص للموج،
وهو قاعد يهز في أوتار الجيتار بهدوء
 كأنه بيسيبني أتنفس.

جوا دماغي صوت يوسف لسه عالي…
بس لأول مرة حسيت إن في مساحة صغيرة…
صغيرة جدًا، بتتفتح عشان نور يدخل منها.

---

سكتنا شوية بعد ما خلص عزفه،
أنا ماسكة العصير وببص للبحر كأني بهرب من كلامه،
بس في الحقيقة كان كلامه لسه بيرن في وداني.

هو كسر الصمت وقال:
-إنتي عارفة إن الضحكة دي مش قليلة؟
ضحكة زي دي ممكن تغيّر يومي كله.

بصيتله بسرعة وبعدين رجعت عيني للبحر:
_ما تتعودش تعلق على أي حاجة بعملها…
 مش بحب ده.

ضحك وقال:
-أنا مش بعلق، أنا بلاحظ.
وفي فرق كبير.

سكت شوية وبعدين سألت وأنا مترددة:
_إنت بتيجي هنا كل يوم ليه؟
ما زهقتش؟

بص بعيد وقال:
-البحر الوحيد اللي بيخليني أفتكر 
إن الدنيا لسه ماشية.
عُلا أختي كانت بتحبه جدًا، ومن يوم ما راحت…
بقيت باجي هنا كأني بلحق جزء منها.

فضلت أبصله من غير ما أقول حاجة.
يمكن لأنه حسسني إني مش الوحدي اللي موجوعة.

هو بصلي وقال:
-طب إنتِ، إيه اللي جابك هنا النهارده تاني؟

اتنهدت وقلت:
_يمكن عشان هنا بحس إني مش مضطرة
 أمثل إني بخير.
أنا قدام البحر بطلع كل حاجة،
من غير ما أحتاج أشرح أو أجاوب على أسئلة تقيلة.

نوح هز راسه وقال:
-عارفة يمكن ده اللي خلاني أجي النهاردة برضه.
أنا محتاج أسمع صوت البحر،
 وأشوف ضحكة زي بتاعتك.

ابتسمت ابتسامة صغيرة وبعدين سألت:
_يعني إنت جاي عشان تضحكني؟

ضحك وقال:
-مش بالظبط، بس يمكن محتاج أفتكر إن الضحك لسه موجود، حتى وسط الوجع.

قعدنا ساكتين تاني، الموج عالي، والبرد بيخلي نفسنا يبان في الهوا.
 سألته فجأة:
_هو الوجع بيتنسي؟

نوح رد بسرعة:
-لا.
بعدين زود:
-بس بيعلّم الواحد يعيش جنبه، 
من غير ما يسيطر عليه.
الوجع زي البحر موجود طول الوقت،
بس إنتي اللي بتختاري تغرقي فيه أو تفضلي على الشط.

كلامه دخل جوايا اوي،
يمكن عشان أنا طول الوقت حاسة إني غرقانة
 ومش عارفة أطلع.

سألته:
_وأنت اختارت إيه؟

اتنهد وقال:
-لسه بحاول أطلع.
يمكن عشان كده لما شوفتك امبارح حسيّت إني مش الوحيد اللي بيغرق.

بصيتله ومقدرتش أرد.
كان في صراع جوايا بين إني أتمسك بيوسف، وبين إني أسمح لنور صغير يدخل.

فضلنا قاعدين سوا لحد ما الشمس طلعت
 بلون دهبي غريب،
الدفا بتاعها كسر برد الجو شوية،
وحسيت إن لحظة زي دي، أنا محتاجاها من زمان.

---

الشمس بدأت تطلع بهدوء، لونها الدهبي بينعكس على المية وبيخلّي المشهد كأنه لوحة مرسومة.
أنا ساعتها اتشدّيت، فضلت أبص للبحر كأني أول مرة أشوفه.
نوح بصلي وقال بابتسامة هادية:
-يلا نمشي الجو بدأ يسخن شوية.

اترددت، حسيت إني مش عايزة اللحظة تخلص…
 بس قومت معاه.
مشينا جنب بعض في الشارع الفاضي تقريبًا، خطواتنا ماشية بنفس السرعة، والهدوء مسيطر علينا.

بعد شوية هو كسر الصمت وقال وهو بيبص للرصيف:
-إنتِ بتكتبي إيه في الدفتر اللي معاكي طول الوقت؟

شدّيت الدفتر أكتر في حضني وضحكت بخفة:
_أسرار.

قال وهو رافع حواجبه:
-أسرار يعني إيه، رواية؟ مذكرات؟ كلام عشوائي؟

هزيت كتافي:
_كل حاجة. ساعات بكتب اللي نفسي أقوله ومش بقدر،
وساعات بكتب كلام ليوسف كأني بكلمه.

سكت شوية، كأنه بيحترم اللحظة.
وبعدين قال:
-هو أكيد سامعك، يمكن الدفتر ده جسر بينك وبينه.

بصيتله، وكلامه لمسني،
بس رديت بحدة بسيطة عشان ما أبانش متأثرة:
_وأنت بتفضفض لمين؟

ضحك وقال:
-أنا عندي الجيتار، كل وتر فيه زي كلمة
 أنا مش قادر أقولها.
أوقات بحس إني بلعب و عُلا بتسمعني من بعيد.

بصيت قدامي، حسيت إن قلبي اتأثر بيه.
مش عشان عايزة أنسى يوسف،
لكن عشان لقيت حد بيحس بنفس الفراغ اللي جوايا.

مشينا شوية وبعدين لقيته بيقول فجأة:
-طب قوليلي، إيه أكتر حاجة بتحبيها؟

اتلخبطت:
_إيه السؤال الغريب ده؟

-مش غريب، أنا عايز أعرفك.

فكرت ثواني، وبعدين قلت:
_البحر والليل. بحس إن الاتنين دول مش بيكذبوا.
البحر يورّيك الحقيقة بصوت عالي،
 والليل يورّيك إياها بسكوت.

نوح ابتسم وقال:
-حلو التشبيه ده.
أما أنا، فأكتر حاجة بحبها القهوة،
 والضحك اللي بيطلع غصب عن الواحد.

ضحكت وأنا ببص عليه:
_يعني بتحب الحاجات البسيطة.

-آه يمكن البساطه هي اللي بتخلّي الواحد يكمل.

وقفنا شوية عند محل مقفول، كان على بابه رسمة قديمة باهتة،
أنا وقفت أبص عليها وقولت:
_تفتكر الباهت بيرجع لونه تاني؟

رد من غير ما يفكر:
-ممكن، لو لسه في نور يلمسه.

الكلام بتاعه وقع عليّ زي حاجة بتحاول تفوقني.
أنا ضحكت بسخرية:
_إنت بتتكلم كأنك فيلسوف.

ضحك وقال:
-أنا مجرد واحد بيحاول يعيش.

مشينا تاني، والشمس كانت ارتفعت أكتر،
الشارع بدأ يتحرك، أصوات العربيات والناس رجعت تدب فيه.
أنا حسيت بقلبي متلخبط…
لسه يوسف في كل لحظة معايا، بس وجود نوح خلاني لأول مرة من شهور،
 أحس إن في حياة بعد الموت.

قبل ما نفترق عند أول شارع، نوح بصلي وقال:
-أنا هعدّي بكرة برضه، يمكن تلاقي نفسك عايزة تيجي.

بصيتله من غير ما أوعدو، وابتسمت:
_ما اوعدكش برضه.

مشي وفضلت واقفة أبص وراه،
وفي قلبي خليط بين الخوف، وراحة غريبة.

---

 رجعت من بره وانا حاسة إن دماغي مليانة أصوات متلخبطة،
خطواتي كانت تقيلة وانا طالعة السلم،
صوت نوح وهو بيعزف لسه بيرن في وداني.

فتحت باب الشقة بهدوء،
بس أول ما دخلت اتفاجئت إن مريم
 قاعدة في الصالون،
لابسة إسود زي كل مرة بشوفها فيها،
 ووشها مش باين عليه أي ود.

رفعت عينيها ليا وقالت ببرود ممزوج بسخرية:
-كنتِ فين يا ليلي بدري كده؟

 اتلخبطت لحظة،وبعدين ردّيت وانا بحاول ابان عادية:
_مفيش كنت عند البحر شوية.

مريم عضّت شفايفها وقالت بصوت عالي مليان اتهام:
-لحقتي نسيتي يوسف بالسرعة دي يا ليلي؟!
ابتديتي تعيشي حياتك من تاني
 كأن ماكنش في حاجة؟

الكلام وقع على قلبي زي خنجر.
حسيت دمي بيتسحب من عروقي،
اتنهدت بوجع وقولت وانا بحاول امسك نفسي:
_أنا عمري ما نسيت يوسف يا مريم…
 عيب اللي بتقوليه ده.
يوسف مش بس كان جوزي، ده كان حب حياتي،
وأنا عمري ما أنساه طول ما أنا عايشة.

مريم ضحكت بسخرية باردة،
-ما هو واضح فعلًا!

 حسّيت الدموع بتلمع في عيني،
لكن قبل ما ارد، صوت ماما جه من ورايا وهي داخلة الصالون بحدّة:
-مريم عيب كده!
ما ينفعش اللي بتقوليه ده، وبعدين إيه يعني لو ليلي ابتدت ترجع لحياتها تاني؟
هي هتفضل على طول عايشة في الزعل كده؟

بصتلها بسرعة:
_بس يا ماما…

بس ماما ما سكتتش،
قربت خطوة وقالت بنفس الحدة بس بنبرة كلها حنان:
-لأ يا ليلي، اسمعيني…
لا عيب ولا حرام إنك تعيشي حياتك من تاني.
ومافيش حاجة في الدنيا هتقلل من حبك ليوسف أو حزنك على فراقه.
الحزن مش معناه إن حياتك تقف… 
يوسف الله يرحمه ما كانش هيرضى يشوفك كده.

الكلام قطع قلبي نصين،
بين شعوري بالذنب، وبين رغبتي إني اتنفس واعيش.

مريم وقفت فجأة، صوت الكرسي وهو بيتسحب من تحتها عمل دوشة في المكان.
بصت لماما بعينين كلها غضب وقالت:
-تمام يا طنط، متشكرة أوي.

  قومت بسرعه حاولت اوقفها:
_مريم استني، اسمعيني بس.

لكن مريم ما ادتنيش فرصة،
مسكت شنطتها وخرجت من الشقة بخطوات سريعة، قفلت الباب وراه بعنف.

 وقفت في مكاني تايهة،
دموعي أخيرًا نزلت بصيت لماما اللي قربت مني تحاول تهديها.
حسيت إن الحمل اللي على قلبي تقيل…
مش من يوسف بس، لكن من نظرات اهله و الناس، وكلامهم اللي بيخنقني أكتر من الحزن نفسه.


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات