رواية ظلام الصعيد الفصل الثاني
انقشع الصمت عن الغرفة الثقيلة حين نهض جبل من فوق السرير... عاري الصدر، يتصبب من هيبته ظلام لا يقل عن سواد الليل. كان جسده متماسكا كالجدار، والندوب الباهتة على جلده تحكي حكايات معارك قديمة. أما غفران، فقد ارتجفت وهي تلملم جسدها بالملاية تختبئ فيها كعصفور مذعور، والدموع تنهمر من عينيها الغارقتين بالرعب فصرخت بصوت مختنق، كأن الهواء يخذلها:
انت مين؟! إزاي… إزاي اتجوزتك
ابتسم جبل بسخرية باردة، وصوته خرج عميقا كأنه يقتلع روحها:
أنا جبل الجبالي… ابن عم جمال. أول مرة تشوفيني، علشان طول عمري مكنتش بظهر. بس أهه… دلوجتي اعتقد حلينا مشكلتك. هتجولي للناس إزاي إنك لسه بنت بنوت؟… وهتثبتي إزاي إن جمال كان عاجز؟
شهقت غفران، وانهارت بالبكاء، تشهق وتضرب صدرها بيديها المرتجفتين ورددت :
هجولهم… هجولهم إني اتجوزتك انت!… وإنت ال عملت اكده! هجول الحق
اقترب منها ببرود و عيناه الرماديتان لا تعرفان الرحمة، وردد بسخرية:
وأنا هجول للكل إنك مكنتيش بنت بنوت من الأول… ومحدش هيصدجك. هيصدجوني أنا، ويكدبوكي انتي.. مين دا ال هيتجرأ يكدب ابن الجبالي
ازدادت دموعها غزارة، وكأنها تغرق في بحر بلا نجاة. فـ اقترب منها أكثر، وقال بصوت جاف لا يحمل سوى السخرية:
تحبي دلوجتي أطلجك؟… وأرميكي زي الكلبة بره
نهضت غفران فجأة واقتربت منه بارتباك وانهيار وأمسكت ذراعه ترجوه بعينين دامعتين:
انت عايز مني إي؟! فين جمال وليه كل دا.. ابوس يدك سيبني في حالي
أبعدها عنه بغلظة ودفعها حتى سقطت أرضا على ركبتيها. وصرخ بصوت جهوري:
أوعي تلمسيني تاني… أنا بقرف منك. وهتتعاقبي على كل ال عملتيه
رفعت رأسها نحوه وشفتاها ترتجفان وهتفت:
أنا عملت إي؟! ده أنا ال كنت بنضرب… وبتعذب… إي ذنبي مش فاهمه.. انا اي ال عملته
اقترب منها بخطوة، وانحنى قليلا كأن كلماته سهام:
بسببك… جمال انتحر. ووالله… لهتتعاقبي على كل دا.. ابن عمي مات بسببك.. بسبب واحده زي متسواش اتنين حنيه علي بعض
تجمدت عيناها بالصدمة وانفتح فمها دون أن تخرج الكلمات، وكأن روحها انسحبت منها. أما هو، فاعتدل واقفا، وأدار ظهره متجها نحو الباب، خطواته ثابتة، يعرف كل زاوية في المكان رغم عماه... كأن الظلام نفسه ينحني له وتركها ملقاة على الأرض، قلبها ينهشها الرعب، وعقلهـا يصرخ: هل حقا مات جمال؟ وهل سيبتلعها قدر أشد سوادا مع جبل وفي صباح يوم جديد كانت صفية ام جمال جالسة على المقعد الخشبي العريض، كفاها متشابكان فوق حجرها، والقلق يطل من عينيها كشرر مكتوم. وأمامها جلست نجاة أخت زوجها الراحل، ترفع رأسها بكبرياء مصطنع فتنهدت صفية، ثم قالت بحزمٍ حاولت أن تخفي به ارتجاف صوتها:
المفروض جبل مبدخلش في حاجه زي دي يا نجاه
رفعت نجاة حاجبها بسخرية، وابتسمت ابتسامة باردة كأنها سكين تخترق القلب وهتفت :
يعني نتفضح بسبب بنت ملهاش لازمه؟ وبعدين انتي ابنك مات... ابنك انتحر يا صفيه وانتي لسن جاعده تتكلمي
ارتجف جسد صفية، وكأن كلماتها صفعتها على وجهها، لكنها تماسكت وأجابت بعينين دامعتين وصوت متحشرج:
ـأنا أكتر واحدة مقهوره على ابني يا نجاة... بس جبل كمان ابني، وأنا ال مربياه من صغره. وهو تعبان، كل يوم يأجل العملية ال ممكن تخليه يشوف تاني... علشان مشاكلنا وخلافاتنا. بدل ما يركز على حياته وأمله الوحيد، احنا ندخله في متاهات وحوارات
أشاحت نجاة بيدها بازدراء، وقالت بصرامة:
ملكيش صالح في ال بيوحصل، أنا عارفه كويس أنا بعمل إي
لكن قبل أن تكمل، ارتفع صوت سلمى ابنتها التي كانت تتابع الحديث بصمتٍ ثقيل، فكسرت حاجز صبرها وهي تقول بعينين دامعتين:
ـبتعملي إي يا ماما؟! روحتي جوزتيه عادي اكده كأني مليش لازمة؟ مليش مشاعر.. انتوا ليه كلكم بتعاملوني كاني مليش اي اهميه
استدارت نجاة نحوها بسرعة، وصوتها يرتفع كأنها تدافع عن موقفها:
مش انتي سيبتيه بعد ما بجى مش بيشوف وخسر نظره
ارتعشت سلمى، واندفعت كمن يخرج من سجن صمت طويل وهتفت:
والله أبدا يا ماما... هو ال سابني! هو ال جالي خلاص مبجاش ينفع... وأنا كنت مستعدة أعيش معاه العمر كله، كنت هشيل معاه وجعه وهمه، بس هو ال مرضاش. اشمعنا دلوجتي وافج يتجوز
ساد صمت ثقيل، حتى تقدمت صفية قليلا، وكأنها أرادت أن تمد يدها لتمسح على قلب الفتاة، وقالت بنبرة حزينة:
علشان مش بيحبها يا بنتي... جوازه بيها انتجام، بس هو كان بيحبك انتي... عشان اكده محبش حياتك تتدمر
انفجرت سلمى في بكاءٍ حارق، ثم صاحت كأنها تكشف سرا مؤلما:
هيحبها يا مرت خالي... طبيعي يحبها.. هو دا ال بيوحصل دايما. ال بنحبهم بيمشوا لغيرنا، وأنا كده كده مسافره
شهقت نجاة بدهشة، وقالت بعصبية:
مسافره فين يا بنتي؟
مسحت سلمى دموعها بكف مرتجف، ثم رددت بعزمٍ كاذب يخفي انكسارها:
هروح أعيش عند عمي في القاهرة... مش هجعد اهنيه ولا هطلع بدور الشريرة ال بتدمر حياة غيرها. أنا همشي خالص علشان مضطرش اعمل حاجه غلط وانا شايفه الشخص الوحيد ال حبيته في حياته مع واحده تانيه
القت سلمي كلماتها ووقفت فجأة، وسحبت طرحتها لتخفي دموعها، واندفعت نحو الباب بخطوات سريعة، تاركة وراءها صدى بكائها يملأ المكان أما صفية، فقد انحنت برأسها، والدموع تنساب على وجنتيها بصمتٍ موجوع، بينما جلست نجاة مذهولة للحظة، تحاول أن تبرر لنفسها ما فعلته وفي الخارج، كان جبل واقفا في الظل مستندا إلى الحائط ملامحه متجهمة، وصدره يعلو ويهبط مع كل كلمة سمعها. لم يتحرك، لم ينطق، فقط ترك قلبه يتفتت وهو يراقب سلمى تبتعد بخطواتٍ مكسورة، فيما عيناه الكفيفتان تحاولان أن تتخيل ملامحها وهي تبكي، وسمعه ينقش صوتها في أعماقه نقشا لا يمحى وقي المساء كان الليل حالك السواد لا يرى فيه سوى ألسنة النار المتطايرة من فوهات البنادق. وأصوات الطلقات النارية تملأ الأجواء، والصرخات تتعالى من هنا وهناك. حيث داهمت قوة من رجال الشرطة مخبأ أحد أخطر تجار المخدرات في قلب الجبل، وتوزع الجنود كالأشباح خلف الجدران، يطلقون النيران ويمشطون المكان بدقة. وفي المقدمة، كان يقف ضابط طويل القامة، ملامحه حادة كسيف مسلول، وعيناه المتقدتان تعكسان صرامة قائد يعرف تماما ما يفعل. اسمه أسد الرفاعي قائد العملية، رجل اعتاد أن يرى الدماء ولا يرتجف، وأن يسمع الرصاص ولا يهتز. رفع سلاحه، وصوته الجهوري دوى في المكان مرددا:
اوعوا تسمحوا لحد يهرب... اضربوا النار علي أي حد يرفع سلاح ولازم يتمسكوا باي طريجه
وبعد دقائق مشتعلة انتهت المواجهة، وألقي القبض على تجار المخدرات واحدا تلو الآخر، بينما الجنود يجرونهم كأكياس خاوية سار أسد بخطوات ثابتة نحو سيارته المصفحة يخلع سترته الثقيلة، ويزيح عن جبينه عرقا لزجا قبل أن يفتح باب السيارة. لكن هاتفه اهتز فجأة، نظر إليه بضيق وزفر قائلا:
هو أنا ناجص صداع دلوجتي؟
ثم أغلق الهاتف دون أن يرد، وألقى بنفسه على مقعد القيادة، لتنطلق السيارة نحو المديرية وحين وصل إلى هناك كان الليل قد انتصف واقترب من نهايته. والمبنى بدا كقلعة غارقة في الظلام إلا من بعض الأضواء الخافتة. صعد أسد بخطوات متثاقلة إلى مكتبه في الطابق العلوي. وما إن فتح الباب، حتى تفاجأ بفتاة تجلس على المقعد المواجه لمكتبه، ساقاها متشابكتان، وعيناها تقدحان شررا فرفعت رأسها، وقالت بحدة:
مبتردش ليه؟
تجمد أسد للحظة، ثم زمجر بصوت غاضب، والصدمة ترتسم على وجهه:
انتي؟! إي ال جابك اهنيه في وجت زي ده؟ إحنا الساعة 3 الفجر! إنتي عبيطة
اعتدلت الفتاة في جلستها، وضربت كفا بكف وهي تقول بانفعال:
صاحبك الواطي اتجوز غفران… ووالله ما أنا سيباه
ضاقت عيناه، وانتصبت قامته بغضب، وقال بصرامة:
الزمي حدودك واتكلمي عنه كويس
ابتسمت بسخرية، وردت متحدية:
هتكلم براحتى! هو أنا مرتك ولا هو؟ وبعدين أنا جاية أعمل محضر في الفاسد ده
قطب أسد حاجبيه بشدة، واقترب خطوة وهو يهتف:
محضر إي يا حبيبتي... أولا إحنا مش في القسم … وثانيا محضر في إي علشان اتجوز واحدة؟ إنتي مالك؟ متدخليش نفسك في ال ملكيش فيه
رفعت حاجبها بسخرية لاذعة، وقالت بصوت حانق:
طيب… يارب يفضل مش بيشوف اكده علشان ميرجعش يبجى ضابط تاني! ولما هو مش بيشوف وبيعمل كل ده، أمال كان بيعمل إي وهو شايف
هنا فقد أسد أعصابه، فضرب بقبضته على المكتب حتى ارتج وصاح بعنف:
حووريه... الزمي حدودك! ومتتكلميش اكده تاني جومي يلا روحي من اهنيه.. يلا علشان اوصلك
حدقت فيه بعصبية، ثم فجأة تحولت ملامحها إلى هدوء غامض. ونهضت ببطء، واقتربت منه حتى صارت أمامه مباشرة. ورفعت يدها، ولمست وجهه بخفة، عيناها تتلألأ بخبث وهي تهمس:
أنا هساعد صاحبتي… غصب عنك.
وبحركة ماكرة، سحبت من جيب سترته مفتاح السيارة بخفة يد بارعة، ثم تراجعت خطوتين. وفي لحظة خاطفة، استدارت وانطلقت نحو الباب تركض كالغزال فـ تسمر أسد مكانه لثواني مصدوما مما حدث، ثم صرخ بغضب وهو يندفع خلفها:
حوريه... يخربيتك... إرجعي اهنيه يا مجنونة انتي.. حوريه
وبهد فتره من الوقت خرجت غفران من الغرفة بعد فترة طويلة، عيناها تتنقلان في أرجاء الممر بقلق، كأنها تخشى أن يداهمها شيء مجهول. خطواتها كانت مترددة، وصوت أنفاسها يسبقها. حتي توقفت فجأة حين التقطت أذنها صوتا مكتوما من غرفة الجيم. فـ اقتربت ببطء، ووضعت كفها على الباب، وانحنت تنظر من خلال الفتحة الصغيرة فـ اتسعت عيناها دهشة وصدمتها تزداد إذ رأت جبل عاري الصدر، يتصبب العرق من جبينه... ويتدرب بعنف غير مألوف، يرفع الأثقال بصرامة، ويهوى بقبضاته القوية على الكيس الجلدي كأنه يفرغ غضبا متراكما منذ سنين. وحركاته دقيقة، متقنة، لا يقوم بها من حرم نعمة البصر. فـ ارتجفت شفتاها، وهمست في نفسها:
إزاي... إزاي مش بيشوف؟ بيتعامل عادي كأنه شايف كل حاجة و
لكن فجأة، لم تدرك كيف التفت إليها، كأنه شعر بوجودها رغم صمته و في لحظة، سحبها بقوة إلى الداخل، وانغلق الباب بعنف خلفها ووقف أمامها، جسده يتلألأ بعرق حارق، وصوته الغاضب يجلجل:
إنتي واجفة تعملي إي اهنيه
ارتبكت غفران، وهي تحاول التحرر من قبضته وهتفت:
سيبني..... انت عايز مني إي إنت كداب... إنت بتشوف بعيونك وبتضحك عليا وجمال لسه عايش... وأنا متأكدة
شدها جبل نحوه أكثر وقبضته القوية تمسك وجهها، وعينيه الجامدتين تحدقان فيها بقسوة:
أنا كل ده صابر عليكي علشان مش عايز اجتلك داوجتي ... ليه بتحاولي تستعجلي موتك هاا
انفجرت دموعها وقالت برجاء:
إنت بتكدب... حرام عليك! سيبني... أنا عارفة إنك شايف
ضحك بسخرية مرة، وقال ببرود قاتل:
انتي مين أصلاً علشان أكدب عليكي؟ هخاف منك مثلا؟ إنتي ولا حاجة علشان اتعب نغسي واكدب علي واحده زيك
ارتجفت شفتي غفران وهمست باكية:
طيب... جمال فين؟
اقترب جبل منها أكثر، وصوته يقطر غيظا :
مات... انتـ*ـحر بسببك. مش مصدجة؟ هوريكي
تركها فجأة، واتجه نحو الطاولة وامسك هاتفه، وفتحه بصوته.
قال بصرامة:
جمال
فظهر المشهد أمامها على الشاشة، لكنه بدا حيّا كأنه واقع يعرض أمامها..... كان جمال يصرخ بجنون، يركل الأثاث ويكسر كل ما تصل إليه يداه، ودموعه تبلل وجهه وفي الخارج، وقفت أمه صفية وعمته نجاة، تضربان الباب وتصرخان:
جمال! افتح يا ابني! حرام عليك... افتح هنجيبها.. حسما بالله هندور علي ففران ونجيبها والله
لكن صوتهما لم يصل إليه، فقد غطت صرخاته على كل شيء وجاء أسد مهرولا، دفعهما جانبا وصرخ وهو يضرب الباب بكتفه:
"ابعدوا... ابعدوا... جمال.. افتح يا جمال
صرخت صفيه برعب :
اكسر الباب يا أسد بسرعة.. اكسروا يا ابني يلا
وفجأة دوى صوت طلقة رصاص هز المكان فـ. تجمدت الأقدام، وتوقف الصراخ ودفع أسد الباب بقوة حتى تحطم، واقتحم الغرفة ليجد المشهد المفزع كان جمال ملقى على الأرض، ورصاصة اخترقت رأسه، والدماء تنزف حوله بغزارة فـ شهقت غفران ويديها ترتعشان، وأسقطت الهاتف من بين أصابعها وهي تصرخ:
مستحيل...لع
انحنى جبل ليلتقط الهاتف، لكنه توقف فجأة، إذ انتبه إلى صوت غريب في الخارج. فـ قبض على ذراع غفران وسحبها خلفه بسرعة، وأمسك سلاحه وهو يصرخ:
يا حراااس.... فيه حاجه بتوحصل
وفي مكان آخر، كانت حورية تجلس خلف مقود سيارة فارهة، تقودها بسرعة عبر الطريق الليلي وفجأة، أوقفتها لجنة تفتيش و اقترب ضابط ونظر إلى اللوحة المعدنية، ثم رفع حاجبه باستهجان:
"العربية دي مسروقة... وصاحبها مبلغ عنها
نظرت حورية إليه بذهول وقالت:
إزاي؟! دي عربية جوزي اي ال بتجوله دا
ابتسم الضابط بسخرية وهتف؛
سيادة المقدم بنفسه هو ال بلغ إن عربيته اتسرقت. يبقي حوزك ازاي .. احنا لازم نقبض عليكي حالا
تجمدت ملامحها وقبل أن تستوعب الصدمة وقع بصرها على السيارة السوداء المتوقفة على جانب الطريق وخرج منها أسد بخطوات ثابتة وابتسامة باردة ترتسم على شفتيه. فـ صرخت حورية بانكسار:
إنت بتبلغ عن مرتك يا أسد
ضحك بخفة قاسية وقبل أن ينطق بكلمة، رن هاتفه فنظر إلى الشاشة، ثم أجاب، ليصمت لحظة ويقول بصوت متهدج بالدهشة:
ازاي؟! ... أنا جاي حالا احموا جبل والعيلة... اوعوا حد منهم يوحصله حاجه
القي اسد كلماته وأغلق الخط، وعيناه تشتعلان بقلق، فيما تجمدت حورية مكانها، لا تفهم ما يحدث و