رواية للهوى رأي اخر الفصل الواحد والثلاثون
مر يومان وحالة قاسم أصبحت مستقرة، يستيقظ للحظات ثم يغيب عن الوعي في أوقات متفرقة، وهي ما زالت بجانبه، حتى موسى لم يغادر مطلقًا، لكنه عمل على راحتها بمكوثها بغرفة خاصة بها لترتاح قليلًا، لكنها كانت نادرًا ما تغيب عن غرفة قاسم. بعد ما انتهت فيروز من تبديل ملابسها بأخرى جلبتها لها أسيل، خرجت متجهة لغرفة قاسم، الذي لازمته اليومين الماضيين. قابلت موسى الذي خرج للتو من غرفته، لم يفارقه هو أيضًا، كان يتابع أي تطور لحالته مع الأطباء باهتمام شديد، يبدو أنهم تربطهم صداقة قوية، ولجهلها بحياة قاسم لم تعلم به أو حتى تنتبه لاسمه.
رأته يومئ لها برأسه فبادلته التحية، ودخلت لغرفة قاسم.
كان ساكنًا على حالته، اقتربت منه وبأحدى المناشف الصغيرة كانت تمسح على جبهته ووجنتيه بلطف، ثم قالت بخفوت كما اعتادت أن تحدثه:
_النهارده اليوم الثالث، وانت لسه ما صحتش، الدكاترة بيقولو إنك بتصحي تقول إسمي وتنام تاني.
تنهدت بيأس وأخفضت رأسها، والمنشفة بيدها تخبره:
_عمي كلمني، بيجي بس يطمن ويمشي، مش عارفة يطمن عليا ولا عليك، لكنه زعلان وظاهر ده في عينه، تفتكر ممكن يسامحني؟ عمي كان أول حد يمد لي إيده من غير أي مقابل.
بللت المنشفة وعادت تمسح بها على وجهه وجبهته وفوق عينيه، ثبتت يدها للحظات، وتمنت أن يفتح عينيه الخضراوين الخطيرتين وينظر إليها، يخبرها أن كل شيء سيكون على ما يرام.
كانت تحدثه كما أخبرها الطبيب أن تفعل حتى تنشط ذاكرته ويستعيد تركيزه، تقول ما يجول بخاطرها، تخبره بما تفكر به بعشوائية دون أن ترتب أي حديث.
_أول مرة شوفتك ماكنش يوم ما خبطتني، كان يوم الحفلة، شدتني من إيدي وطلعتني السما، عنيك بسحر غريب حاوطتني، جريت منك، لكنك لاقيتني، في كل مرة بشوفك كنت بهرب منك، لحد يوم ما استسلمت، وكلمت عمي وطلب نأجل الكلام، لو كان سألني كنت هاقوله موافقة، موافقة على راجل غريب عمري ما حلمت أتجوز حد يشبه، محاوطاه هيبة وقوة، ولما بيبصلي بتخطف…
بهمس اختلط بقلق وخوفًا من تلك المشاعر التي تحتاجها كل ما تكون معه بمفردها قالت وكأنها تفكر بصوت عالي:
تفتكر الي جاي علقم.. ولا شهد، هاتخذلني يا قاسم؟!
وجدته يفتح عينيه، وقد استعاد إدراكه من قبل دخول موسى، لكنه أراد أن ينعم بقربها واهتمامها الذي حكى عنه صديقه، أرادها تتصرف براحة دون أن تترقب أفعاله بقلق، كان مستمتعًا بحديثها، غير مصدق أن تلك الكلمات موجهة إليه. من حظه أنها كانت شاردة بحديثها ولم تنتبه لصدرة الذي ازدادت ضرباته من كلماتها المؤثرة، حتى سكتت، وقتها أدرك أنه يجب عليه أن يطمئنها. اصطدمت عينيها بعينيه فجأة، فانتظرت أن يغفو كما اعتادت، لكنه لم يفعل، وأعينهم في تشابك غريب متصلة، لا يحيد بعينيه عنها ولا هي تخفض عينيه كالعادة، حتى شهقت فجأة واضعة يدها على فمها بصدمة، وقبل أن تتحرك مسك يده بقوة مناسبة لوضعه الحالي ورفع رأسه قليلًا، بخفوت أشبه برجاء قال:
_مش هاخذلك، أوعدك، بس خليكي جمبي.
نظرت ليده ثم إليه، تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها. هل استمع لكل شيء؟ تساءلت بتلعثم وارتباك:
_انت صاحي من إمتى؟
عاد برأسه على الوسادة وبهدوء قال وهو ما زال متمسك بيدها خوفًا من أن تهرب كعادتها:
_من أول ما دخلتي.
اتسعت عينيها، فضحك وقال بصراحة:
_كنت عايز تفضلي جمبي من غير ما تهربي.
سكتت دون أن تجد ما تقوله، فغيرت دفة الحديث متسائلة:
_انت كويس؟
_أنا هاكون كويس لو فضلتي جمبي، بإرادتك يا فيروز.
_هاتفرق معاك!
أجابها بقوة وصدق:
_أكيد هاتفرق، إجبارك كان من خوفي إنك تبعدي عني، اتصرفت بأنانية مش هانكر، لكنه كان بدافع حبي مش تجبر مني.
أخفضت رأسها وشردت في كلماته، وكان يتابعها بترقب، يخشى أخذ تلك الخطوة، ربما سيكون عليه تحمل نتائجها مهما كانت قاسية عليه، يريدها ولا يتمنى أي شيء من بعدها، لكن بإرادتها.
_عايزة تمشي؟!
رفعت عينيها إليه بسرعة البرق، انحنى حاجباها باستغراب، فأكمل بخفوت شديد لا تعلم من مرضه أم من ثقل الكلمات عليه:
_أنا ما حبتش في حياتي غيرك، وندمان على كل أذي سببته ليكي، بديكي الحرية يا فيروز، لأني عايزك بإرادتك مش بالإكراه.
كانت ملامحها جامدة، كلمات كانت تتمنى سماعها، ظنت أنها ما إن تسمعها ستقفز هربًا من النافذة، لكنها جامدة مكانها، ولم تتحرك قيد أنملة، هاتف بداخلها يحثها فعليًا على الهرب دون أن تلتفت برأسها للخلف، وآخر يمنعها، يتشبث بها دون أن يمنحها فرصة أن تكون صاحبة القرار.
...................
ابتسم ياسين بانتصار، بعد ما انتهى من إجراء آخر أوراق التعاقد في الصفقة التي أتى من أجلها، كان تحديًا لنفسه أن ينجح، بعيدًا عن اللهو والعبث، يتحمل مسؤولية عمل وإدارة بمفرده، يهذب من شخصه ويقويها، وميسون دون أن تدرك بنفسها كانت تلاحقه، تراقب أفعاله وتصرفاته، ويزداد إعجابها به، كان جادًا مع بعض اللمحات المرحة التي تطغى أحيانًا على شخصه.
تنحنح ياسين ليخرجها من شرودها دون أن تدرك أنها تحدق به، ابتعدت بأنظارها عنه وابتلعت ريقها بحرج، وهو كعادته تعامل وكأنه لم ينتبه لشيء، وهذا ما يثير حيرتها وحنقها في آن واحد.
قال ياسين وهو يفتح مجموعة أوراق أمامه:
_اليوم كان طويل النهارده يا ميسون، لو حابة تروحي بدري ما عنديش مانع.
أبدت رفضها وجلست قبالته:
_لا أبدًا، أنا مش تعبانة.
ابتسم لها بود وقال:
_فاجئتيني الحقيقة، ما كنتش متوقع تكوني شاطرة كده.
_يمكن لو المدير حد غيرك ماكنتش هابقى كده، لكنك الحقيقة قادر تحبب اللي بيشتغل معاك في اللي بيعمله.
أوما براسه دون أن يعقب، فاتسائلت ميسون:
_انت جاي شغل بس ولا ناوي تستقر هنا، ولا لسه هربان زي ما قلت؟
التوى فمه بابتسامة باهتة وأجابها بغموض:
_صدقيني مش عارف، جيت هربان، وبعافر أنجح، دلوقتي هاموت وأرجع.
قضبت جبينها وقالت ببهوت:
_يعني إيه، هاترجع؟
_أنا مش هاقيم هنا يا ميسون.
أخفضت عينيها بألم، خوفًا من أن يرى بهما ما يجرح كبريائها، ثم بخفوت:
_هربان من حب مش كده؟
هرب من الإجابة وقال لها وهو ينظر لساعة يده:
_كفاية كده النهارده، أنا كمان تعبت ومحتاج أروح.
أومأت براسها وتحركت لخارج الغرفة بخطوات مرتبة، مدركة هروبه من الإجابة. مسح ياسين على وجهه بتعب، وضغط على أنفه مهدئًا من صداع رأسه، ولا يحتاج لشيء الآن سواها، يريد أن يخبرها بنجاحه بمفرده، وأنها السبب والدافع ولأجلها يفعل أي شيء.
................
بدهشة نظرت أسيل لتلك العلبة الموجودة على سطح مكتبها، لم تجد عدي بالغرفة بعد، فابتدرت بدءت بفتحها، حتى ارتفع أحدى حاجبيها مع بسمة غير مصدقة، لقد كانت تحتوي العلبة على ساندوتشات بيتية شهية، شكلها نظيف ومرتب، وبجانبها مجموعة من الخضروات المقطعة الطازجة، وصوتًا من خلفها يقول بود:
_حمدالله على السلامة، يالا بسم الله.
التفتت إليه وعلامات الاستغراب على وجهها وقالت:
_انت اللي جايب ده؟
رأته يجذب إحدى الكراسي وبيده علبة تشبه التي على مكتبها، وضع الكرسي مقابلها وفتح علبته وقال ببساطة:
_ده عمايل إيديا، ما بحبش أنا آكل الشارع.
_وليه عملت حسابي، أقصد يعني ماكنش له لزوم؟
_مافيش تعب ولا حاجة، أنا مش بحب آكل لوحدي، يضايقك لو أكلنا سوا.
ابتسمت له أسيل، وقبلت دعوته وجلست قبالته قائلة:
_بصراحة مش هاقدر أرفض، شكل السندوتشات يجوع، انت اللي عاملهم فعلا.
ابتسم عدي حتى ظهرت غمازته اليتيمة:
_آه والله، أمي تعبانة شويه، فامش بحب أتقل عليها وبعملهم أنا.
قضمت من الساندوتش بيدها وبمزاق شهي، وقالت بالفعل:
_تسلم إيدك.
كان لطيف عدي، متحفظًا بأدب، من الرجال ما تشعر معه بالأمان، لا الخوف والنفور. كانت أحاديثهم عفوية، تخللها بعض من التعارف، فكان سؤال عدي:
_عرفت إن عندكم حد عامل حادثة في المستشفى؟
أومأت له وأجابته:
_أيوة، زوج بنت عمي، قاسم عمران.
استمعت لضحكته الخافتة، فتسائلت باستغراب:
_بتضحك على إيه؟
_يعني هاتكونوا مناسبين مين، أكيد حد شبهكم.
_شبهنا!!
قالتها أسيل مستنكرة، فأجابها براحة شديدة معبرًا عن وجهة نظره:
_أيوه شبهكم، يعني بنت أخو كمال بيه، هاتناسب مثلا عامل ولا موظف؟ أكيد لا، هاتجوز حد زي قاسم عمران كده.
ارتفع حاجباها وهتفت به بريبة:
_آه واضح إن عندك حقد طبقي.
قهقه عدي ضاحكًا، فأعادت يظهرها للخلف وعقدت يديها أمام صدرها، حتى انتهى من نوبة ضحكه قائلًا:
_لا أبدًا والله، بس ده الواقع.
_لا على فكرة، مش كل العلاقات بتتبني على الفلوس.
التوى فمه غير مقتنعًا، مجيبها بوضوح أكثر:
_يعني لو أنا مثلا رحت واتقدمت لكمال به، وقولته عايز بنتك، هايقبل ولا هايرفض؟
رمشت بعينيها عدة مرات متفاجئة، وهتفت به:
_هو الجواز بيع وشراء في نظرك؟
أجابها بصدق مباشر:
_أبدًا، ده مودة ورحمة، مشاركة وتعاون، طبقة الأغنيا هي اللي اتعاملت معاه كده.
ضيقت عينيها وتسائلت مرة أخرى:
_انت متعقد بقي؟
قهقه مرة أخرى هاتفا بها:
_مش معقول يا أسيل، انتي عايزة تحللي شخصيتي بأي طريقة، لا ياستي أنا لا معقد ولا عندي حقد طبقي، لكني واقعي بزيادة، وأكبر دليل على ده إنك ما جاوبتيش على سؤال لو قولت لكمال عايز بنتك هايعمل فيا إيه، أقل حاجة بعد رفضي طبعا هايمشيني من هنا.
_انت ما تعرفش بابا، أنا معاك إن جزء كبير من كلامك صح، لكن مين قال إن بنت عمي غنية؟ أبدًا على فكرة، وعاشت حياتها بعيد عننا، ومع ذلك قاسم حبها وما فرقش معاه. هي معاها إيه؟ بابا مش الأب السطحي.
_طب وانتي؟
ارتبكت هذه المرة، وتململت بحرج وقد تحول الحديث لشخصي للغاية، بخفوت قالت:
_أنا؟!
_انتي بتفكري بالسطحية ولا بمنطق الحب؟
ابتسمت بتهكم قائلة:
_أنا أبعد ما يكون عن السطحية... والحب.
نظر لها لبره، ثم قال بمرح مفاجئ:
_طب كويس إنك قولتلي، لأن لو فرضنا هانتخطي السطحية، هاعمل إيه أنا في الحب؟ لا، أنا عايز اتدلع.
_تدلع؟!
_آه، ماهو شكلك انتي اللي طلعتي معقدة وحالتك حالة، وأنا بصراحة ماليش في العلاقات اللي تفرهد دي.
نظرت له قليلا، ثم انفجرت ضاحكة، ولا تتذكر متى آخر مرة ضحكت من قلبها، فقالت من بين ضحكاتها:
_لا ما أنصحكش بصراحة.
قضم من قطعة خبز كبيرة بفمه وقال:
_خلاص خليني في عمايل السندوتشات وخلاص، لحد ما ربنا يسهل وتيجي اللي تعملهم ليا.
كانت جلسة طريفة ومرحة، شعرت أنها اكتسبت زميل عمل، وقضت وقت كانت تحتاج إليه، بعيدًا عن حالتها النفسية السيئة، تأثرها بحالة فيروز ومرض قاسم، وفراق الغائب.