رواية للهوى رأي اخر الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل الثاني والثلاثون 

ضرب موسي كفًا بكف، وباستنكار شديد هتف بقاسم المستلقي على الفراش:
_حقيقي مش فاهمك يا قاسم، ليه عملت كده، يعني بعد ما كانت موجودة طوال الوقت مستنياك تفوق، واهتمامها بيك اللي شوفتو بعيني تبعدها عنك، انت بتفكر إزاي؟

استدار قاسم برأسه عنه، غير راغب بمزيد من الجدال، فقال:
_أنا شوفت الموت بعيني يا موسي، كنت هاموت وهي كرهاني ومش عايزة تعيش معايا، مش عايز أعيش الإحساس ده تاني، في أمور كتير محتاج أغيرها وأعيد حساباتي فيها، وأهمهم فيروز، عايزها معايا أكيد، لكن برضاها.

ثم تابع بحنق بالغ:
_أنا عايز أخرج النهارده.

أومأ له موسي ثم تحرك متجهًا للنافذة، ربما يكون قرار قاسم صائبًا، أي كان، ربما عليه أن يعطيها بعض الحرية في قرارها.

_في أخبار عن دهب؟

أغمض موسي عينيه بألم، وتنهد تنهيدة من قلبه، ثم استدار إليه ببطء، وبهدوء وقلة حيلة:
_مافيش.

كلمته المختصرة توحي بانعدام رغبته في المزيد من الحديث، وهو أيضًا لا رغبة له في شيء، ينتظر فقط رصاصة الرحمة، بسخرية مريرة تمعن في حالته هو وصديقه، فتاتين مختلفتين، متناقضتين، يتمزجن بالقوة والضعف، الرقة والقسوة، الشيء الوحيد المشترك بينهما، أنهم أوقعوا رجلين ليسوا كأي رجلين في عشقهن، فتذوقوا كل من الطرفين الحب وويلاته.

.......................

لم تغادر فيروز المشفى، فقط اتخذت من غرفتها المجاورة لغرفة قاسم مهربًا، جالسة على المقعد بهدوء، لكنه هدوء ظاهري، مشاعرها متخبطه وعقلها مشوش، متى سينتهي ذلك التذبذب بداخلها، الخذلان وما تركه في نفسها من أثر بمرور سنواتها، يجعل خطواتها أشبه بالتي تسير على اللغم، خوفًا من أن ينفجر بها ويحطم ما تبقى منها، أغمضت عينيها ولم تر سوى صورته، وصورة أخرى لعينين تتوهج وتجذبها كالفراشة للنيران، تشعر أنه صادق، ربما لو وضعت نفسها في مكانه لاندفعت كأنثى وصدقت خيانته، لقد كان معذبًا مجروحًا، رغم قوته وغضبه وقتها إلا أنها كانت تشعر به أنه على حافة الانهيار.

لا تبرر فعلته، فكبرباء الأنثى بداخلها ترفض إهانته، لكن اللعنة على قلب ظنت أنه قاسي وانتهى أمره، لكنه لم يفعل.

......................

كان ياسين غارقًا في النظر لصورتها في هاتفه، يتمعن في ملامحها ويتأمل كل تفصيل، اشتاق إليها، يتلمسها كما كان يلمسها هي، ينظر لبسمتها فيبتسم هو أيضًا، يتذكر يوم ما التقط هذه الصورة، كانت في حالة مزاجية جيدة وقتها، فأهدته تلك البسمة الرقيقة، وشعرها يحاوط وجهها الصغير، وتلك النظرة اللامعة التي تخصه وحده.

لم يشعر بميسون التي اقتربت من خلفه، تنظر لهاتفه وأصابعه التي تتلمس صورة الفتاة كأنها حقيقة، تلك الفتاة التي تمنعها من الاقتراب منه أكثر، تقف حاجزًا حتى وهي غائبة. شعر بها ياسين فجأة، لكنه لم يغلق هاتفه، وقال بهدوء:
_اتفضلي يا ميسون.
_أنا هنا من شوية بس ماكنتش حاسة بحاجة حواليك.

ابتسم لها وأشار لها بالجلوس، جلست وعينيها ثابتة على عينيه التي لا تحيد، وهاتفه المنير والذي وضعه أمامها مباشرة قائلًا:
_أسيل.

ابتلعت ريقها وهمست:
_حبيبتك.

أومأ برأسه وبعينين لأول مرة ترى بهما الحياة منذ أن عرفته، وقال:
_أيوة.
_وليه سبتها؟
_ومين قال إني سبتها؟

انحنى حاجباها بألم وتسائلت:
_لسه مع بعض؟

تنهد وأغلق هاتفه ووضعه بجانبه وقال موضحًا:
_حكاية طويلة، كنت أنا الطرف الأناني فيها، وجرحتها.

هزت رأسها ببطء هامسة بخفوت:
_انت ما تعرفش تجرح.

ببسمة تهكمية مريرة أجابها ياسين:
_أنا خنتها.

اتسعت عينيها بشدة، وبصدمه كررت:
_خنتها؟! انت؟

أخفض عينيه وابتلع ريقه مسترسلًا:
_كنت مغرور، فرحان بلمت البنات حواليا، كلهم كانوا في كفة، وهي لوحدها في كفة، كانت مميزة وعمر قلبي ما خانها، لكن عيني خانتها وتفكيري خانها، خونت كرامتها وثقتها بيا وبنفسها، كانت بتعدي وتسامح، لحد ما شافت اللي ما ينفعش تشوفه، ماكنتش في وعي ساعتها، واحد من الشلة شربني من غير ما أحس، فاتصرفت زي الحيوانات، جرحتها وبعدت عني، حاولت نرجع رفضت، لكني فضلت أحاول حتى وأنا بعيد، بغّير من نفسي، وأهتم بشغلي بعيد عن الاستهتار والسهر، اتعلم ماكنش أناني.

التمعت عينيها، وضمت شفتيها، حاولت وئد تلك الدمعه لكنها سقطت خائنة على وجنتها، مد لها يده بمنديل ورقي قائلاً بحنو:
_أنا فاهمك، ومش عايز أجرحك، انتي تستاهلي واحد ما يشوفش غيرك، ومقدر مشاعرك، اللي ممكن جدًا تكون مجرد إعجاب لشاب من نفس بلدك وديانتك بيعوضك جزء من حنينك لبلدك وعيلتك وانتي في بلد أجنبي.

بنفي همست بحزن:
_أنا مش صغيرة علشان ما أعرفش أحدد مشاعري.

ابتسم بلطف وقال:
_لا صغيرة، انتي لسه ما شوفتِش من الدنيا حاجة، انتي لسه عندك دراستك، والمنحة اللي جيتي علشانها، قدامك مستقبل عملي ممتاز، اتشرف بيكي تكوني جزء من شركتي في أي وقت، واتشرف بيكي أخ لأخت جدعة ومتفوقة، أنا دايمًا هاكون موجود وقت ما تحتاجيني.

أنسابت دمعة أخيرة أزالتها وهي تنظر إليه ربما للمرة الأخيرة، لم يحالفها الحظ أن تكسبه كحبيب، لكنها كانت مطلعة على عاشق يفعل ما بوسعه لكسب حبيبته البعيدة.

تحركت مبتعدة بكرامتها المصانة، تجربة ربما تفيدها بوقت ما، وقلب سيداوي نفسه بنفسه مع الأيام.
.......
نفخ قاسم بحنق بالغ، يضرب على الزر عدة مرات، اختنق ويريد الخروج من هنا، لم يعد يتحمل المكوث في تلك الغرفة أكثر، رائحة المعقمات تزيد من اختناقه، وتقيده بالفراش يشعره بالعجز، ويده المجبرة لا تساعده على تلبية احتياجاته خصوصًا وهي اليمنى. ارتدى بعضًا من ملابسه بصعوبة، ألم صدره يجعل تنفسه يختنق، وحركته صعبة، يحتاج لمساعدة لكنه يكابر ولا يريد سوى الخروج.

بصعوبة بالغة ارتدى بنطاله ثم جلس على طرف الفراش يلتقط أنفاسه، وعلى قدمه تيشيرت قصير الكمين ليساعد على إدخال يده المجبرة. شعر بيد ناعمة باردة ومترددة تجذب التيشيرت ببطء، ارتفعت أنظاره لأعلى، وجدها تقلبه على وجهه دون أن تنظر إليه، ثم وقفت أمامه وبلطف أدخلت رأسه بالتيشيرت وأكملت من بعدها يديه حتى ارتداه بأكمله، دون أن ترفع عينيها إليه، لكنه كان يتشرب ملامحها كالماء، عينيها الهاربة، ووجها الذي تورد، تركيزها الشديد كأنها تقوم بعملية جراحية، حتى ما أن انتهت، رأها تجلس بجانبه على طرف الفراش تلتقط أنفاسها.

بحنان ابتسم بداخله، رقيقة فيروز، ذات كبرياء وطيبة قلب، يتمنى أن ينال جزءًا من طيبة قلبها فاتعفو وتصفح. تفرك يديها ببعض، تخفض رأسها، تبحث عن بداية مناسبة للحديث، ولم تجد، وكل ما كانت حضرته بعقلها تبخر، بمجرد ما دخلت ووجدته لا يقدر على ارتداء ملابسه، ويزفر كل حين وآخر من الآم.

انتبهت لصوته الرخيم بجانبها، يبدد ترددها ويحثها على الحديث:
_أنا سامعك يا فيروز.

أخذت نفسًا عميقًا وبخفوت قالت فيروز:
_عندي طلبات، لو وافقت عليها أنا كمان هاكون موافقة.

لم تستمع لإجابة، بل وجدت من يقف ويجذبها لصدره يضمها، يشدد على ظهرها بيده السليمة، ووجهه بداخل تجويف عنها، هامسًا باسمها، فأغمضت عينيها، تستقبل تلك المشاعر بخجل، وراحة غريبة تتسلل إليها، وشعور مختلف وهي قريبة منه لذلك الحد، تشعر بضربات قلبه أسفل يدها كالمضخة، يبثها ما يشعر به من حب واشتياق وأسف.

ابتعدت فيروز ببطء، وجهها الأحمر جعلها شهية وبريئة، بتلعثم قالت:
_مش تعرف إيه هي الطلبات.

قبل جبينها قبلة مطولة وأجابها بثقة:
_موافق.

وجدها تضحك بخفوت وبتعجب تساءلت:
_يمكن ما تعجبكش؟
_هاتعجبني.

ازدادت ابتسامتها اتساعًا وبحيرة هتفت:
_يعني أقول؟
_قولي.

رفعت عينيها إليه، وأخذت بذلك السحر الذي يلقيه عليها كل ما تقابل هاتين العينين، رفع يده السليمة وعاد خصلاتها التي خرجت من ذيل الفرس للخلف، واردف مشجعًا:
_قولي يا فيروز.
_تطلبني من عمي.

رمش بعينيه عدة مرات وبعدم فهم تساءل:
_اطلبي إيه من عمك؟!

تنحنحت وبشجاعة قالت:
_لما تخف وتبقى كويس أنا هارجع لعمي، وانت هاتيجي وتطلب إيدي منه.

ارتفع حاجباه باستغراب:
_اطلبي إيدك من إيه، انتي مراتي على فكرة.

_عارفة، لكني عايزة أخرج من بيت عمي بموافقته، وأكون كمان راضية.

مسح بأبهامه وجنتها وبخفوت قال مبتسمًا بحنو:
_حاضر، هاتخرجي من بيت عمك برضاه ورضاكي، وهانعمل فرح كبير وأشوفك بفستان أبيض.

التمعت عينيها بفرحة مفاجئة هاتفه به:
_بجد هانعمل فرح؟

قبل جبينها محددًا مؤكدا:
_فرح كبير كمان، دي بس طلباتك.

بتردد ظهر بعينيها أجابته:
_حاجة كمان؟

حثها بعينيه على الحديث فتحدثت:
_عم رضا وأولاده، خرجهم من المستودع.

ظهر الرفض بوجهها فاستكملت سريعًا:
_افهمني يا قاسم، أنا مش عايزة منهم حاجة خلاص، انت خدت حقي ورجعتلي بيت أمي، سيبهم يروحوا لحالهم بعيد عننا، ونبدأ من جديد، أنا مش عايزة أفتكرهم.

زفر نفسًا وأومأ برأسه بالإيجاب، فأهدته واحدة من ابتساماتها الجميلة، فما كان منه إلا أن يقول بعبث:
_ضحكتك دي أقوى مسكن.

دفعته دفعة بسيطة لكنها جعلته يتأوه بألم مفاجئ، فوضع يدها على فمه بقلق:
_آسفة والله ماكنش قصدي.

رآه يجاهد ليتنفس بصعوبة، واضعًا يده على صدره، فأشار لها أن تجلس، فساعدته على الجلوس، ومر وقت صعب عليه حتى بدأ ينظم نفسه ويهدأ ألم صدره.

تساءلت فجأة مستنكرة:
_إزاي عايز أخرج وانت تعبان كده؟
_ما بحبش قاعدة المستشفى، اتخنقت.

جلست على طرف فراشه قائلة بهدوء:
_بس انت تعبان.

مسك يدها وقربها من شفتيه وقبلها وقال:
_في ممرض هيجي يديني العلاج والحقن اللازمة، وبعدين ده أنا بقي عندي هدف أكبر إني أخف بسرعة.

ابتسمت بخجل ودارت عينيها عنه، وكادت تتحرك مبتعدة، فما كان منه إلا أنه تمسك بيدها قائلا:
_رايحة فين؟ انتي تفضلي جمبي.

أشارت بيدها للكرسي وقالت:
_هاقعد هناك.

_لا خليكي هنا، احنا كمان شويه ومروحين.
_برضو مصمم؟

مال قليلاً برأسه وبشغب حديث عليه:
_أه، وتاخدي بالك مني أنا دراعي مكسور وعندي ضلع في صدري، غير الارتجاج.

قاطعته مشيرة بيدها ليتوقف هاتفه به بتجبّر مرح:
_إيه إيه، تعبان بكل ده يبقى تقعد في المستشفى؟

داعب إبهامه باطن كفها وبرومانسية أحبها:
_ليه مستشفى، وانتي الدوا.

لم تستطع أن تؤدي تلك البسمة، ولا تلك السعادة الوليدة، ولا أن تنكر سعادته أيضًا، عينيه لم تشبه تلك التي كانت في الصباح، منطفئة وكأن عليها سحابة من الغيوم، عكس الآن، خضارها فاتح يشبه الزرع صافية، ولو رأت فيروز أيضًا نفسها، لوجدت أن وجنتيها ازدادوا جمالًا بتوردهم الخجول، عينيها هادئة بها بصيص أمل وإيجابية، بسمتها تداعب ثغرها، فأُسعد هو وكأنه قام بأهم إنجازاته.


تعليقات