رواية للهوى رأي اخر الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم سارة حسن


 رواية للهوى رأي اخر الفصل الثالث والثلاثون 

توجهت للباب وفتحته، ارتسمت على وجهها الصدمة، لكن ما لبث وارتدت قناع السخرية وقالت دهب:
_قاسم عمران جاي بيتي بنفسه.

نظر لها قاسم قليلاً، محاولًا إعطاء صلة الدم بينهما فرصة، دون أن يرى في ملامحها كامليا، ودون أن يرى في ملامحها معاناته.
قال قاسم أخيرًا مبادلًا سخريتها:
_هافضل على الباب، حاولي تمثلي حتى إنك مرحبة بيا في بيتك.

ارتفع أحدى حاجبيها وقالت بقسوة:
_وأمثل ليه وانت عارف مشاعري تجاهك؟ لا، أنا محتاجة أمثل، ولا انت أكيد هاتصدق.

نظرت ليده المجبرة، لبره وجهه المرهق، ثم تنحنت الجانب قليلاً وأكملت:
_لكني ممكن اسمحلك تدخل على سبيل الضيافة مش أكتر.

التوى فمه بابتسامة صغيرة ثم دخل، شقة صغيرة بغرفتين وصالة، لا أحد يعلم عن وجودها، أو هكذا كانت تظن دهب.
التفتت إليه عاقدة يدها على صدرها في رسالة منها أن يأتي بما في جعبته، لكنه استراح على الأريكة من خلفه.

قال أخيرًا بعد صمت:
_استنيت إنك تشوفيني في المستشفى.

لم تجيبه، وبالتأكيد لن تقول أنها آتت بالفعل ولم تستطع أن تراه، لكنها رأته هي.
_من إمتى بينا العلاقة دي، ليه مصمم تضحك على نفسك يا قاسم؟

وقف قبالتها قاضياً حاجبيه هاتفا:
_ولما العلاقة دي مش بينا، جيتي ليه؟ كانت خطوة وتبقى قدامي.

رغم ارتباكها من معرفته، لكنها هتفت قبالته بقسوة:
_لأنك ما تستاهلش، ما تستاهلش أي مبادرة مني في العلاقة الفاشلة اللي اسمها الأخوة اللي بينا.

مازال قاضبًا جبينه، ينظر لها يرى ذلك الألم بداخلها، لم يكن الأخ لها في يوم من الأيام، ماذا كان يتوقع مثلاً!!

كسر الصمت بينهما وقال بهدوء:
_كل واحد فينا اتألم يا دهب، كل واحد فينا شاف وحس حاجات أكبر بكتير من عمره، يمكن الغلط عندي أكبر بحكم أني الأخ الكبير، لكن…

قاطعته هي بغصة وبحدة مؤلمة:
_لكني بنت كامليا، أمك.

قست عيناه فجأة، واحتدت ملامحه وتحولت، نافياً عنها أي صلة تربطه بها، ثم هتف بقوة:
_كامليا فقدت اللقب ده من وأنا عندي 8 سنين، من اليوم اللي اختارت فيه حياتها وسابتني في أصعب ليلة في عمري، ليلة كاملة بعاني منها لحد دلوقتي.
ليلة سابتني فيها أنا وأبويا اللي مات من حزنه وقهرته، سابتني في حضنه ميت، تخيلي طول الليل نايمة في حضن ميت ومش قادرة تسبيه، عارفة إن برودته أدفي بكتير من البرد اللي هاتحسيه وانتي بعيدة عنه.

ظهر التأثر أخيرًا على ملامحها الجامدة من لحظة دخوله، نظرت له وهو يلملم شتات نفسه مرة أخرى، ويسمح على وجهه وشعره آخذًا نفسًا عميقًا.
_دهب، لتاني مرة بقولك، إني عارف إني ما قومتش بدور الأخ الكبير على أكمل وجه، لكنك ما غبتيش عن عيني، كنت دايمًا قريب منك، مش انتي لوحدك اللي ممكن أكون أصرت معاها.

ابتسم ابتسامة مريرة وعينين تنظر بعيدًا:
_أذيت ناس مالهمش أي ذنب، وجعتهم رغم طيبتهم.

نظر لها قليلاً ثم تحرك ناحية الباب وقبل أن يفتحه قال وهو ينظر لها بحنو:
_سامحيني يا دهب، أنا موجود وهافضل دايمًا جنبك.

رقت عيناها فجأة، قد أصابتها الكلمة، رغم قوتها وقسوتها، هناك بداخلها في ركن بعيد خفي، تريد سماع تلك الكلمات، مستها حتى لم تظهر ذلك.

كاد قاسم أن يخرج لكنه التفت لها مرة أخرى وقال:
_اسمعي موسي، في حقائق لازم تسمعيها وتديه فرصة إنه يشرحلك.

توحشت عينيها فجأة قائلة:
_موسي اللي انت بعته ي…

قاطعها مبتسمًا ابتسامته العذبة:
_موسي اللي انتي بتحبيه، اللي كان بينفذ طلب طلبه منه صديق عمره، ماينفعش يعمل غير كده، لكن دلوقتي، موسي اتصاب…

رمشت بعينيها عدة مرات وملامحها شاحبة خرج صوتها خافت برعب:
_اتصاب؟

غمز بإحدى عينيه وقال ضاحكًا وقد أصاب هدفه:
_بسهم الحب.
.......
ركضت إليه فور ما استمعت لصوت محرك سيارته بالخارج، رأته يخرج ببطء، وحارسه بجانبه لحين احتياجه لمساعدته، وضع يده على صدره قاضبًا جبينه، ويده ما زالت معلقة بحمالة الجبيرة.
«ما الذي يفعله قاسم بنفسه؟» قالتها فيروز لنفسها وهي تتجه إليه بخطوات أشبه بالركض حتى توقفت وقالت مباشرة بحنق:
_ليه بتعمل في نفسك كده؟ إزاي تخرج وإنت تعبان بالشكل ده؟

ابتسم لها وأشار للحارس أن يبتعد، مد يده السليمة إليها وفرد كفه في انتظار كفها، نظرت فيروز إليه ثم إلى يده، ووضعت يدها في حضن كفه، فأحتضنها وجذبها إليه، قبل جبهتها في عادة أصبحت لديه مؤخرًا، وتؤثر بها، تشعرها أنه يبث لها تقديره وحبه لها.

همس إليها قاسم بخفوت:
_مشوار مهم ما ينفعش يتأجل أكتر من كده.
_ينفع أعرف فين؟
_ينفع طبعا، بس تعالي نقعد هنا أنا تعبت.

بتلقائية منها وقفت بجانبه، وتمسكت بيده السليمة في محاولة منها لتساعده على التحرك والاستناد عليها، فاتحرك معها حتى جلسا على كراسي الحديقة. أخذ نفسًا بطيئًا ثم قال:
_كنت عند دهب.

انتظرت فيروز لسماع المزيد، فأكمل:
_لما قولتلي إنها جاتلي المستشفى، ما تعرفيش حصل جوايا إيه، يمكن ما كنتش حاسبها صح معاها هي بالذات، بس إنتي عرفتي سري، غصب عني يا فيروز. كل ما ببص لعينيها بشوف كاميليا قدامي، لكن يوم كتب كتابها، ده اليوم الوحيد اللي شوفتها فيه دهب، ما كنتش عايز أسّيبها وتمشي وهي رافضة تيجي معايا وموافقة تقعد مع الغريب. حُجة الأخوة أنا خسرتها ببعدها عني، لكني كنت في دوامي وظلامي، وهي عنيدة أوي ووحيدة، قسوتها صعبة، لكن جوّاها شيء جميل، عرفه موسي وحبها به.
كنت لازم أروح لها وأقول لها أنا موجود وطول ما ربنا مديني عمر هاكون موجود.

كانت تستمع إليه فيروز بانصات شديد، عينيها مرتكزة على عينيه بنظرتها الشاردة، حتى انتهى وتنهد بتعب، فأوقعت عينيه عليها، فابتسمت له وتحدثت:
_بكرة الأيام تصلح كل شيء، اصبر.
_واللي بينا يا فيروز الأيام صلحته.

مسكت خصلة من شعرها وعادت بها خلف أذنها وبهمس خافت:
_تقريبا كده.

استمعت لضحكته ولصوته العابث:
_لو ماكنتش مدشدش كده كنت عملت الفرح الصبح.

استقامت واقفة مبتعدة بخجل قبل أن تقول له:
_يلا شد حيلك.

رأها تهرب من أمامه كالغزالة، متمتمًا لنفسه بحسرة:
_حيلي إيه، حتى ده مش قادر أشده والله.

ثم أخرج هاتفه وكتب رسالة نصية بعدت كلمات لصديقه موسي، وما إن تم الإرسال، كان صوت رسالة أخرى تأتي من موسي، ضحك على أثرها قاسم وقد شعر أن صديقه يتأكل غيظًا، لكنه سوف يشكره عليها للأبد.

تخطت الساعة الثالثة صباحًا، وقد ساد الهدوء البيت، جافاها النوم بعد محاولاتها الكثيره في الاسترخاء. أزاحت فيروز الغطاء عنها، وبدون تفكير خرجت من الغرفة متجهة إليه، توقفت يدها على المقبض، ثم تراجعت خطوتين للخلف، وسألت نفسها بحيرة:
«ما بكِ؟ هو غارق بنومه في غرفته، وأنتِ مستسلمة لذلك القلق بلا معنى. ماذا سيقول عند رؤيتك؟»
لم تعد قادرة على البعد! كيف ستبرري دخولك لغرفته في ذلك الوقت المتأخر، ولم تكن علاقتك به بالشكل الطبيعي ليسمح لك بالدخول؟
تراجعت أكثر، فاهتف شيء ما بداخلها، ربما يحتاج لشيء ولم يستطع طلبه، نظره تلقيها عليه من بعد أفضل بكثير من الاقتراب وشعوره بذلك.

بهدوء شديد فتحت الباب، وخطوة واحدة فقط تقدمتها، إضاءة الغرفة الخافتة وضحت لها رؤيته، غارق في نومه، شفتيه تتحرك بهمس شديد لم تسمعه. القت نظره على الشرفة المفتوحة، والهواء البارد في ذلك الوقت من الفجر يقشعر الجسد من برودته، على أطراف أصابع قدميها كانت تتحرك فيروز، أغلقت الشرفة، واستدارت إليه، كان يتصبب عرقًا، قاضبًا جبينه بشدة، ووجهه متهجم. بحيرة اقتربت منه أكثر، بعينيها جالت على جسده ربما شيء يؤلمه، لكن عاد همسه من جديد، اقتربت منه أكثر ومالت برأسها عليه، وآنين خافت باسم والده ووالدته.

رفعت رأسها إليه، بحزن تأملت تقاسيم وجهه المعذبة، ورغبة بداخلها لم تدعها تلح عليه كثيرًا، رفعت يدها وتلمست جبينه لتفك تلك العقدة، ثم تحركت لوجنته تتلمسها حتى شعرت أن ملامحه بدأت بالفعل بالاسترخاء، وعلي حين غرّة، فتح عينيه قبالتها، فأصطدمت بعينين خضراوين ناعستين تنظران إليها في أول لحظة بتيه، ثم هدأت، قبالة عينين سوداويّتين واسعتين بهما راحته وسكينته.
......
---

بخطوات ناعمة يصدرها كعبا حذائها، صعدت دهب لشقتها، بعد مهمة بحث استغرقت اليوم بأكمله عن عمل بعيد عن محيط قاسم وموسى.
هي نجحت من دونهما، وتريد الاستمرار باجتهادها وخبرتها بمفردها، لكن لليوم الثاني على التوالي تعود خالية الوفاض.
عمل غير مناسب، نظرات تقييمية مستفزة وخبيثة، راتب بخس، أو من ضمن بعض الأعمال "الترفيه عن صاحب العمل"، وأخرى وأخرى...
لكنها تريد العمل بشدة، تريد أن تدور طوال اليوم كالنحلة، وتعود في نهاية اليوم تلقي بنفسها على الفراش وتغوص في سبات عميق دون تفكير...
دون تفكير في أي شيء يخص موسى رشيد.
موسى رشيد!! هنا؟

...

همس بصوت متحشرج باسمها، فقالت بخفوت:
_كنت بتحلم.
_كان كابوس.

تساءلت بقلق:
_باباك؟

تنهد بتعب وأجابها:
_نفس الليلة بتتكرر كل يوم، بأحداث مختلفة لكنها نفس التفاصيل.

مسّها ما يمر به، مسّ شيئًا بقلبها لم تعد تتجاهله، ولم يعد لديها القدرة على ذلك.
_أكيد في حل.
_طبعًا في.

ببريق أمل تساءلت:
_إيه هو؟

بابتسامة صغيرة قال بترقب رفضها:
_تنامي جنبي.

ضيقت حاجبيها وهتفت باستنكار:
_افتكرت هتقول حاجة بجد!

مسك خصلة سوداء من شعرها وجذبها قائلًا مؤكدًا:
_ومين قال إني بهزر؟ ينفع تنامي جنبي.

سؤاله كان أقرب للتمني والرجاء، ولم يكن يرغمها بالتأكيد، لكنها فاجأته بأنها استدارت، وبشيء من التردد والخجل تمددت بجانبه.
كان بينهما مسافة كافية، لكنها استدارت لتكون قبالته، فالتفت إليها برأسه... لم يعد يكتفي منها، ولا يظن أنه سيفعل يومًا.

_فيروز، إيه جابك دلوقتي؟

تهربت منه بعينيها، ولم يسعفها عقلها باختلاق كذبة، فضحك تلك الضحكة وكأنه يقول لها: "مسكتك!"، واستمر سؤاله مدّعي البراءة:
_جيتي ليه؟

تنحنحت وقالت بثبات غريب:
_جيت أدور على شاحن.

رمش بعينيه مرتين، ثم اختلطت ضحكاته مع تأوهاته المؤلمة؛ فلم يعد قادرًا على كتم الضحك، ولا على تحمّل الألم، فاقتربت منه وربّتت على صدره بغيظ وهي تهتف:
_اهدى اهدى، ضحكتك أوي.

_آه يا فيروز...

كانت "آه" فعلية، متوجعًا، لكنها قالت بفهم خاطئ:
_ما هو واضح، خلاص بقى.

أخذ نفسًا وقال ضاحكًا:
_مش قصدي، لكن بصراحة إجابتك ماكنتش متوقعها.

عادت لمكانها، وأعادت شعرها للخلف قائلة بلامبالاة:
_ليه يعني؟
_فيروز.
_نعم؟
_حجة الشاحن مش مقنعة، قولي إنك جيتي تطمني عليّا.

هربت بعينيها مرة أخرى وقالت بخفوت:
_مش هتنام بقى ولا أروح أنام في أوضتي؟

هتف بها قاسم مستنكرًا:
_أوضتك دي أصلاً أوضتي أنا، وإنتي من يوم ما دخلتيها واحتلتيها!

التوى فمها بحنق:
_من حلاوتها يعني! دي حتى كئيبة وألوانها غامقة. أنا ممكن أكون فعلًا احتلّيت ركن في الجنينة بقى بتاعي أنا وأسيل.

ابتسم بعبث وقال:
_وإنتي احتلّيتي دول بس؟
_وأنا روحت غيرهم أصلاً؟

بعذوبة وهمس قال:
_احتلّيتي قلبي.

ضمّت شفتيها بابتسامة خائنة مفاجئة، ولم تستطع إخفاءها، فأهمس مؤكدًا:
_احتلّيتي كل حاجة فيّا، واستسلمت أنا من زمان، ورايتي رفعتها من يوم ما شوفتك قدام عربيتي.

ضحكت فيروز... تقريبًا كان الحوار الألطف بينهما، لم يتخلله أي مزاح من قبل، ولم تكن يومًا بتلك الأريحية معه.
وقد لاحظ هو ذلك من حديثها وتعبيرات وجهها الطبيعية، بعيدًا عن الترقب الدائم منه.

صمت كلاهما، وكان وجود كلٍّ منهما بالقرب من الآخر أبلغ من أي كلام. حتى ثقل جفناها، والتي ظنت أنها لن تنام تلك الليلة وهي بهذا القرب منه...
نظر لها قليلًا ملتزمًا بتلك المسافة الضئيلة بينهما، مدركًا بقلب خافق أنه لم يتبقَّ سوى القليل جدًا، وراضيًا هو بكل ما تجود عليه به.

دقائق... وغفى هو الآخر، وأيديهما متشابكة، دون أن يفلتها أيٌّ منهما.

تعليقات