رواية للهوى رأي اخر الفصل الخامس والثلاثون
دون أن يطرق وجدته أسيل أمامها، أغلق ياسين الباب من خلفه، وخلت الغرفة إلا منهما. التوى فمه بابتسامة مريبة أمام عينيها المترقبتين وقال بخفوت مميت:
_إيه مافيش، حمدلله على السلامة، لو اتكسفتِ تقوليها قدام أبوكي فأنا قدامك أهو.
تنفست بعمق، وبابتسامة باردة اتقنتها أسيل قالت:
_مع إني ما اتكسفتش أقولها قدام بابا لأنها كلمة عادية، لكن لو مهم أوي كده، فأنا حمدلله على السلامة، تؤمر بحاجة تانية.
نظر لها لثوانٍ دون أن يتفوه بشيء، لكنها استمرت على ثبات ملامحها الجامدة أمام عينينه المتربصتين لكل إنش بها، لا يدري علام يبحث بها، عن وجوده أم عن لمحة اشتياق إليه تجيد وئدها، أم عن حلم لم يعد يملك منه شيء وأصبح لغيره.
تململت أسيل بجلستها ورفعت عينيها إليه، وتمسك بها، كان ينظر لها قاضبًا الجبين، كأنه يفكر بمعضلة ما استحوذت على جم عقلها. كسرت الصمت بينهما قائلة:
_في حاجة تانية؟
_نسيتيني؟!
التوت فمها وأجابته:
_لو نسيت فأنت سافرت وماكنش فيه بيني وبينك أي حاجة.
أقدم عليها فجأة ونحنى مستندًا بكفيه على سطح المكتب وقال ببطء:
_أنا سافرت وبينا وعد.
_وعد! بلاش أنت تتكلم عن الوعود.
نظر لها بألم وهمس:
_بس أنا التزمت به.
بسخرية مريرة أجابته أسيل:
_وأيه يثبت؟
بحرارة أجابها وعينيه تنظر إليها بصدق مشاعره:
_إني هنا، إني رجعت، بعد ما مرّيت بأكثر من موقف قدرت أثبت فيه لنفسي قبل ما أثبت ليكي إني فعلاً اتغيرت.
اخفضت عينيها عنه وبخفوت مقررة:
_ياسين لو سمحت خلاص.
ضرب على المكتب بقبضتيه هاتفا لها:
_مش خلاص، أنا سافرت لاني متمسك بيكي، وهافضل متمسك بيكي يا أسيل، والواد الملزق ده خليه يبعد عنك بدل ما أشلفط وشه.
أشارت له بإصبعها بحدة هاتفه بغضب:
_مالكش دعوة بعدي، مش كل الرجالة بيفكروا زيك.
_والله يا أسيل لو فيه راجل فكر يقرب منك هاخد روحه بأيدي.
هدرت به غاضبة منفعلة بوجهه:
_زي ما أنت أناني وعندك حب التملك.
ضرب بقبضتيه على المكتب مرتين متتاليتين وصرخ بوجهها:
_أنانية إيه وزفت إيه، أنا بحبك، نايم صاحي بشتغل بفكر فيكي، بفكر إزاي أصلح اللي بينا، إزاي أعوّضك وأنسيكي الإحساس اللي عشتيه بسببي، إزاي أكون إنسان فعلاً يستاهلك.
صمت ياسين يتنفس بانفعال، وعينيه على تلك التي تنظر لأسفل، تفتح فمها وتغلقه، يشعر بحيرتها، ومقدرًا قلقها، وأنه خذلها في يوم، لكنه لن يكف عن المحاولة.
رفعت رأسها وبجمود بعينيها قالت:
_في مرة قولتلك علاقتنا بتستهلك روحي، لكنك كنت واثق إزاي إني هافضل في إيدك.
وبرسميّة مقززة كانت إجاباتها عليه الواضحة:
_آسفة يا ياسين، أنا مش عايزة العلاقة دي.
بهتت ملامحه، ونظر إليها عدة ثوانٍ، ثم دون أن يتفوه بشيء خرج من الغرفة وهو يزيح ربطة عنقه شاعرا بالاختناق.
تنفست بعمق ووضعت رأسها بين كفيها تحاول السيطرة على أعصابها، مهئنة نفسها على ثباتها، ثباتها الخادع!
استمعت لتلك النحنحة أمامها، فارفعت رأسها تسائلت بخفوت:
_إنت هنا من إمتى؟
تصنع عدي التفكير قليلاً ثم قال:
_من بداية الواد الملزق اللي وشه هايتشلفط.
لا تعرف كيف أتت تلك الابتسامة المفاجئة على شفتيها، لكنها قالت بعتاب:
_وسمعت كل اللي اتقال.
جلس قبالتها قائلًا بصدق:
_لا والله، أنا سمعت الكلمتين دول وبعدت شوية وفضلت واقف لحد ما خرج، أنا كنت حاسس إن في حاجة على فكرة، نظرته العدائية ليا كانت غريبة بصراحة، بس فهمت.
_ياسين كان صفحة واتقفلت.
_لا يا شيخة!
نفخت أسيل وهتفت به بحنق:
_بلاش طريقتك دي.
التوى فمه غير مصدقًا وتحدث:
_باين في عنيكي يا أسيل.
نفخت بحنق وهتفت برغبتها بإنهاء النقاش:
_مش حابة أتكلم في الموضوع ده.
_تمام، وأنا موجود لو احتجتي أي مساعدة.
ابتسمت له بدون رغبة حقيقية في الابتسام، لكنها ممتنة له. عدي شخصية طيبة، تلك التي تقابلها صدفة في مشوار حياتك، من الناس الغير مؤذية، ربما يظهرون في حياتك في وقت محدد لمهمة معينة ثم يرحلون بسلام، وفي تواجدهم تجد السلام.
.....
_كنت بنزل مصر على فترات متباعدة، ماكنتش عايز أكون هنا. في كل مرة بدخل القصر ده قلبي بينقبض، لحد ما عمتي أصرت تستقر إجازة الصيف هنا. حاولت أتأقلم بكل الأشكال ورغم صعوبة الأمر عليا لكني تأقلمت. عمتي ما سباتش إيدي غير يوم وفاتها، كانت صارمة ومنظمة وليها قوانين لازم نمشي عليها. يمكن عمرها ما قالت لي إنها بتحبني، لكنها طول الوقت كانت بتثبت ده. كنت بحس أنها في مهمة ولازم تكمل على أكمل وجه، من غير غلطات أو أخطاء، وأنا كنت طفل هادي جدًا وبسمع الكلام من غير مشاكل. علاقتي هناك كانت مختصرة، على عكس الشباب وعلاقاتهم الكتيرة.
لحد ما رجعت مصر بشكل نهائي، وكملت اللي عمله أبويا وكبرت شغله واسمه، وفضلت في طاحونة الشغل والصفقات.
كانت فيروز منصتة لحديث قاسم، تتأمله باهتمام، ترق عينيها للحظات وحدة عايشها، افتقده للحنان والدفء، ولمحة ابتسامة متخيلة طفل صغير بأعين ملونة هادئًا، ثم الشباب وهيئته التي تجذب الفتيات إليه. تعترف لنفسها بوضوح أنه وسيم، تلك القسمات التي تجعله رجل جميل لدى الجنس الآخر، لم تكن تتمعن بها من قبل، تتوقف عينيها فقط عند عينيه الملونتين وتفقد القدرة على استكمال تجولها بوجهه، ذو اللحية التي طالت من بعد الحادثة، لونه القمحي، ضحكته وابتسامته... حركت رأسها لتنفض أفكارها الجديدة والغريبة عليها.
وكان مسترسلًا ينظر أمامه وكأنه يرى ما عايشه أمام عينيه، مستكملًا وهو ينظر لها، وكانت هي أجمل من كل الورود المحيطة بها في الحديقة، والشمس تعكس أشعتها عليها في ذلك الوقت من المغيب، فكانت كالسحر:
_لحد ما ظهرت لي بنت من بنات الحور، سحرتني وهربت، وفي كل مرة القدر بيوقعها في طريقي، وأنا فضلت متمسك بيها. في كل مرة الواقع يقولي إني خسرتها، إلا قلبي يقولي ماتقفش، تفتكري هايجي اليوم اللي هاحقق فيه انتصاري وتكون معايا بقلبها...
أغمضت عينيها بتأثر، ثم تنهدت مدركة حقيقة الإجابة بداخلها، أنها تحب ذلك الرجل الماثل أمامها، تحزن من قلبها لصعوبة ما تعيشه، والتي ظنت في يوم أن رجل مثله لا يعرف معنى كلمة الحرمان، وهي التي ظنت أنها خسرت الكثير لكنها كانت محاطة بدفء والدتها وحنانها وربما أخذت رقة القلب منها. تنظر إليه وهو منتظر إجابة منها، كأن في ردها ردة لروحه، لقد أبدى ندمه بكل الطرق، وظل يحاوطها بشخصه الهادئ المحب لها، لم يمل ولا تعتقد أنه سيفعل يومًا. لقد باتت تدرك جيدًا أن ذلك الرجل يحبها.
فلم تملك القدرة أمام عينيه إلا أن تهديه إجابة طال انتظارها، راغبة في بداية حياتها معه.
بصوت خجول وعينين مبتسمتين قالت فيروز متغلبة على ضربات قلبها السريع:
_افتكر.
ضيق عينيه بتساؤل واعتدل أمامها برقب:
_يعني إيه؟
لا تعرف لما ترقرقت الدموع بعينيها الآن، همست باسمه، فاقترب بلهفة حقيقية وعينيه تنتظر المزيد، فقالت فيروز:
_عايزة أكمل معاك حياتي، تعوضني اللي راح، وأعوضك اللي افتقدته، افتكر إني مش عايزة أبعد عنك.
صنم مكانه ينظر لعينيها، قاضبًا جبينه، وكأن ما قالته ظن يومًا أنه لن يسمعه. ضحكت فيروز وهي تمسح دمعة سقطت على وجنتها، وهمست باسمه بحنان:
_قاسم.
تحرك قاسم وجذبها بحركة مفاجئة بين ذراعيه، رفع عينيه للسماء زافرًا نفسًا وكأنه وصل لنهاية السباق، وضحكه خافتة وهو يدخل برأسه داخل عنقها هامسًا باسمها، ببطء حاوطت يديها خصره، وأغمضت عينيها تنشد الراحة، تاركة روحها التواقة للشعور بالأمان والحب والاستقرار. لو أردنا يومًا أن نكمل حياتنا، فلابد من تجاوز الماضي أولًا.
....................
تملمت بنعومة ورفعت ذراعيها لأعلى بتكاسل، فتحت عينيها وعقلها بغير وعيه الكامل، مالت برأسها للجهة الأخرى، فاصطدمت برأسه ووجه المقابل لها، وتوالت ذكرى الأمس في عقلها دفعة واحدة. اعتدلت على جانبها لتصبح قبالته، تتأمل سكونه، عينيه المغمضتين، وجهه المرتاح، لحيته التي نمت مؤخرًا، تقاسيمه الرجولية الجذابة...
مالت بشفتيها بابتسامة عاشقة واعتراف أمس يتردد على مسامعها بصوته مرة أخرى، دست رأسها بجانب وجهه، فاشعرت بقبلته على مقدمة رأسها وهو يجذبها من خصرها إليه أكثر، وصوته المتحشرج قائلا:
_ده إيه الصباح الحلو ده؟
استمع لضحكتها الخافتة تقول متنهدة:
_مش مصدقة إنك نمت هنا.
أجابها موسى:
_مش مصدقة ليه؟ ده اللي المفروض يحصل من أول ما اتجوزنا، بس انتي فجأة طلعتِ لي في جملة أصل جوازنا مش طبيعي.
وقال آخر عبارته مقلدًا طريقتها بمزاح، لكزته بكتفه ورفعت رأسها مواجهته قائلة:
_كنت عايزاك تحبني.
أزاح شعرها عن جانب وجهها للخلف متسائلًا:
_وكنتي عارفة إني ها حبك؟
_كنت بقول لنفسي يمكن، لحد يوم ما اتجوزنا، وقتها قلت مستحيل طريقنا يبقى واحد.
سكت كلاهما، وقال موسى وهو يتلمس شعرها:
_وإنتِ يا دهب، موسى بالنسبة لك إيه؟
نظرت إليه قليلاً، ثم قالت قبالة عينيه:
_موسي، لو يعرف قدرة بقلبي ها يتأكد إن مافيش حد في دنيته حبه قدّي. حبيتك إمتى! مش من بعد جوازنا ولا لما عيشت معاك في بيت واحد. حبيتك أول مرة شوفتك في مكتب المنشاوي، وقفت قصادي وطلبت أقابله...
أومأ موسى برأسه بخفة وكأنه يقول إنه يتذكر...
بعدها حصل اللي حصل معاه وسبت الشغل، قعدت في بيتي شهور أحاول أبعدك عن تفكيري، بمنع نفسي أني أجي وأقدم لشغل عندك، وبدل ما أحاول أنساك لاقيت نفسي أبحث عن أي معلومات عنك، لحد ماعرفت بالإعلان ما ترددتش أقدم لأني عارفة أني هاتقبل...
كانت تتحدث ويديه تتحرك على وجنتها وشعرها بهدوء، سارحًا في تفاصيل لأول مرة يعرفها، ومستمتعًا بذلك الحوار الأول بينهما، ولا نية له بالتوقف الآن.
فقال مداعبًا:
_عارفة إني ها أقبلك! واثقة أنتِ في قدراتك يا دهب.
داعبت أنفه بإصبعه مصححة:
_قدراتي العملية أقصد.
_بس أنت يومها قولتلي دهب، إنتِ جايه وعارفة إني هاقبلك، ليه قولتلي كده؟
أجابها موسى بهدوء:
_لأنك فعلاً جايه وعارفة إني هاقبلك، هو فيه واحدة خايفة تترفض تكون بالثقة اللي كنتي فيها دي؟
وضعت يدها على صدره وقالت:
_ماكنتش خايفة أترفض على قد ما كنت خايفة ما بابقاش جمبك. يوم جوازنا كنت مبسوطة بقربك، لكني كنت حزينة لبعد قلبك عني. بحبك يا موسى، بحبك لأنك بالنسبة لي الرجل الوحيد بالكون، يا أصعب وأجمل أمنية اتحققت.
كانت عيناه تنظر لها متأثرة لصدق اعترافها، وكتاب دهب المغلق ينفتح على مصراعيه أمامه وباستطاعته قراءة كل شيء به. وكل ما يزداد تعمقه، يزداد جنونه وشغفه بها.
اعتدل بحركة مفاجئة، شهقت دهب على أثرها بصدمة، نظرت لموضعهما الذي تغير بحركته فأصبح موسى يشرف عليها وهي أسفله، مال لوجهها وهمس برقة ظن أنه لا يملكها أبدًا:
_رصيدك من التفهم للأسف خلص.
ابتسمت والتـمعت عينيها بالإغواء، وكانت رسالة أكثر من كافية له.
.....................
في اليوم التالي، ورغم أن وجوده لم يكن ذات أهمية لطبيعة العمل اليوم، إلا أنها وجدت سيارته. بلامبالاة دخلت أسيل الشركة، حتى وصلت لمكتبها، توقفت تنظر لباقة الورد الكبيرة المحتلة مكتبها، ولم يكن الأمر يستدعي التفكير لمعرفة صاحبها. لمست أوراقها البيضاء وندى الصباح ما زال عليها، وبطاقة حمراء مكتوب عليها بخط منمق:
(بحبك يا أسيل)
ياسين
استمعت لصوت عدي يهتف بتسليّة:
_ورود وكروت وجو نحنحة على الصبح كده، ماكنتش أعرف إنه عاطفي الراجل ده.
التوت فمها بابتسامة ماكرة، ثم جذبت الباقة وتحركت للخارج فاتسائل عدي باستغراب:
_رايحة فين؟
أجابته دون أن تلتفت:
_ارجعها لصاحبها.
تمتم عدي لاويًا فمه:
_أول مرة أشوف بنت يجيلها ورد وترجعه، الجماعة الأغنياء دول عليهم حاجات يا جدع.
لحظة السيء قابلته أسيل قبل أن يدخل للمصعد، فاقتربت ودفشت الباقة بصدرتها قائلة:
_مالوش لزوم الورد، خده أحسن بدل ما أرميه أنا.
تمتم ياسين بصدمة:
_ترميه!
أجابته وهي عاقدة يديها أمام صدرها بحمود:
_مش شوية ورد اللي هايرجعوني يا ياسين.
_أنا عارف، أنا بس بحاول.
قاطعته أسيل بحنق:
_ما تحاولش.
برجاء همس لها ياسين:
_بلاش تقفلي كل أبوابك في وشي.
نظرت له لبره ثم بخفوت قالت:
_كانت مفتوحالك.
_وعرفت غلطتي وندمت.
لم تعطي لنفسها الوقت ليهتز ثباتها، فاتركته وبخطوات سريعة اتجهت لمكتبها، وبحدة هتفت لعدي محذرة:
_مش عايزة أسمع تعليقاتك دلوقتي لو سمحت.
أشار لها ولفمه أنه لم يتحدث، ثم نفخت وحاولت التركيز على الكلمات أمامها، لكن عقلها لم يستوعب حرفًا، وتركيزها بات مشوشًا، فاجذبت حقيبتها متجهة لصديقتها الأقرب إليها.
....................
مدت فيروز يدها بكوب من الماء فأخذه منها أسيل وارتشفت عدة رشفات، فقالت فيروز بهدوء:
_اهدي يا أسيل، من كلامك فهمت إنك كنتي قدامه ثابتة.
أجابتها أسيل بغصة بحلقها:
_إيه رجع، كنت تخطيته وشوفت حياتي، ليه رجع تاني يبوظ كل حاجة؟
_بلاش تضحكي على نفسك يا أسيل، لو كنتي تخطيته فعلاً ماكنش هايبقى ده حالك.
نظرت لها أسيل وبحاجبين معقودين قالت:
_حتى لو كنت بكذب على نفسي، بس كنت هاتعود وهاتخطاه.
بحيرة قالت فيروز:
_مش يمكن اتغير؟
اخفضت أسيل رأسها وتمتمت:
_أنا مش هاقدر أجازف، مش هاقدر أدخل في العلاقة دي تاني وأكون الطرف المغفل مرة تانية.
_بس إنتِ بتقولي إنه بقي ينزل الشغل، واخد الموضوع بجدية أكتر.
هزت رأسها بالنفي وهتفت:
_مش كفاية يا فيروز.
بحيرة ورغبة بالمساعدة كانت تفكر فيروز لحل لتلك المعضلة، ربما استطاعت أن تساعدها بشيء ما.
.......................
انتهى الاجتماع المفاجئ، وعلى غير العادة خرج جميع المتواجدين بابتسامة مرتاحة، والرضا والحماس مرتسم على ملامحهم، ورغم علاقة قاسم بكمال المتوترة، إلا أن حضور كمال كان لابد منه لنسبته في شراكته مع قاسم. وما إن خرج الجميع، نهض قاسم من على الكرسي الذي ترأسه طوال الاجتماع، واتجه للأريكة الجلدية، جلس واستند بظهره للخلف لعل ألم كتفه ما زال في الجبيرة يقل حدته. ورغم تعليمات الطبيب بالراحة، إلا أنه لم يريد أن يضيع المزيد من الوقت وقام بعمل ذلك الاجتماع المفاجئ.
نظر لكمال الذي يتلاعب بقلمه دون أن يرفع وجهه إليه أو حتى يوجهه إليه أي كلام أثناء الاجتماع، فكسر قاسم الصمت بهدوء:
_كنت فاكر إنك هاتنبسط من اللي عملته النهارده؟
أجابه كمال:
_المهم تنفذه.
_كلمتي واحدة وأنت عارف، أنا مش عايز عداوات تاني، رغم إن ما ينفعش أروح أقتل المنافس اللي قصادي علشان آخذ منه صفقة ولا اثنتين.
_كتير قولت لك كده، كل عيش وخلي اللي حواليك كمان ياكلوا عيش، وأكيد ده مش مبرر إنهم يحاولوا يقتلولك.
صمت قاسم لحظة وقال:
_أنا ما عملتش كده علشان خايف على نفسي، أنا عملت ده علشان ما يوصلش الأذى لأقرب الناس ليا، لأول مرة أخاف على حد يا كمال.
وقف كمال ململمًا أشياؤه وقال:
_ياريت تخاف عليهم من نفسك كمان.
كان قاسم متفهمًا تجنب كمال منه، فقال له:
_مش عايز تشوف فيروز.
توقف كمال ونظر لقاسم، كانت نظرته بها من العتاب واللوم، وقف قاسم أمامه وتحدث:
_بلاش فيروز، أنا اللي ضغطت عليها تعمل كده.
_وتفتكر ده يفرحني؟ تفتكر هاكون مبسوط لما تجبرها على الجواز منك؟
زفر قاسم نفسًا مرهقًا قائلاً:
_الحكاية مش زي ما أنت عارف، في تفاصيل كتير أنت ما تعرفهاش واعذرني مش هاقدر أقولها، لكن اللي أقدر أقوله وأطمنك به إن فيروز معايا بأرادتها.
نظر له كمال متشككًا، فأكمل قاسم مؤكدًا:
_أنا خيرتها ما بين حريتها أو تفضل معايا، وهي وافقت تكون معايا، بس طلبت ده يكون برضاك وبموافقتك، علشان كده يا كمال أنا بطلب منك إيد فيروز وبرضاك هاعملها فرح وأسلمهالي بأيدك قدام الناس، أنا بحب فيروز.
نظر له كمال بتمهل، ولا ينكر تلك الراحة التي تسللت لقلبه لكلماته، وعينيه وحديثه عن فيروز، تلك الفتاة التي حمل همها وأصابته القلق لأيام وأيام، تستحق أن تسعد. وقاسم، ورغم ما حدث بينهما، لكن بقلبه مكان خاص بها. رفع كمال رأسه وقال:
_محتاج أقعد مع فيروز الأول، لوحدنا يا قاسم.
أومأ له قاسم متفهمًا، وبحركة منه مفاجئة بادر قاسم محتضن كمال، الذي تفاجأ لأول برهة، ثم اختفى جمود وجهه تدريجيًا وابتسم من خلف ظهره مربتًا على ظهره وكأنه ابنه الأكبر.