رواية للهوى رأي اخر الفصل السادس والثلاثون والاخير
فتح موسى عينيه وتقلب بجسده الجهة الأخرى ليمس الطرف الآخر من الفراش، وبرويته جعلته ينتبه لغياب دهب، فتح عينيه وبتكاسل اعتدل على فراشه، وليلة أمس تعصف بعقله، فأبتسم دون أن يدري، لم ولن تتوقف دهب عن إدهاشه، رغم جرأتها، إلا أن ليلة أمس كانت بريئة وناعمة، متخبطة تنظر إليه وكأنها تتلمس الأمان منه لاستكشاف عالم آخر تخطو إليه للمرة الأولى، فما كان منه إلا أن أودعها حبه الوليد واشتياقه لها.
خرج من الغرفة في نفس وقت خروجها من المرحاض، مرتدية ملابس بيتية مريحة والتي لا تملك غيرها هنا، وشعرها المبتل يتساقط من أطرافه قطرات الماء دون اهتمام منها، شهقت متفاجئة لظهوره المفاجئ، رجل في صالة منزلها يقف بثقة، عار الصدر يبتسم لها. لو كان أحد أخبرها بحدوث هذا يومًا، لسخرت منه وأكدت له أنه ضرب من الجنون.
لكنه واقع، وموسى رشيد واقف في صالة منزلها بالفعل.
قال لها بمرح:
_سلامتك من الخضة.
على غير عادتها ارتبكت قليلاً قائلة:
_أصل لسه مش أخده إن في حد معايا، وخصوصًا إنك طالع من الأوضة كده.
_كده إزاي؟
بتردد أشارت لصدرة العالي وهي تمر بجانبه الغرفة:
_من غير هدومك.
شهقت بعد ما شعرت بمن يحملها من خصرها قائلاً:
_والله أنا حر، وبعدين إيه قومك من جمبي.؟
ضحكت دهب بعدما ألقي بها على الفراش وقالت:
_استني بس، كنت عايزة اعملك زي الستات وأحضرلك الفطار.
ارتفع إحدى حاجبيه بعبث يقول:
_ودهب هانم بتعرف تطبخ أصلاً؟
صححت له ورفعت أصبعها السبابة:
_فطار، هو الفطار طهي؟
سقط فوقها وداعبها موسى:
_بلاش أحسن، يجيلنا تلبك معوي.
ضربته بكتفه بقوة وبغيظ هتفت:
_تلبك معوي ليه؟ إن شاء الله، هو انت فاكرني ست فاشلة؟
مال عليها أكثر وقال هامسًا:
_قطع لسان اللي يقول إنك فاشلة، بس برضو انتي شاطرة في حاجات وحاجات.
تساءلت وهي منحنية لقربه وبخفوت صوته:
_إزاي؟
_شاطرة في إنك حلوة، وواثقة في نفسك، شاطرة في إنك عرفتي تخليني أدور حوالين نفسي لما غبتي عني، وإني وقتها عرفت إنك ما ينفعش تبعدي، وإنك عرفتي تخلي موسى رشيد يسيب بيته وشغله اللي رقم واحد في حياته، ويظل معاك هنا ومش عايز يمشي.
أغمضت دهب عينيها، وكلماته تنساب لأذنيها فتلمس روحها، لامست جانب وجهه بحب ظاهر في عينيها. هل التعبير عن الحب تحكيه نظرة واحدة؟
هذا ما شعر به موسى من عينيها التي زلزلته، وبنهم أراد موسى المزيد، ونسى الأشياء الأخرى...
.....................
كانت سعيدة، تستمع إليه وهو يسرد على مسامعها ما فعله في اجتماع اليوم، قراره كان صائبًا وأيدته على الفور، ربما بدأ بالفعل في إصلاح ما حوله، من علاقته لشقيقته، وتجنب العدوات والإحساس بالآخرين، وعمل ما بوسعه في جعلها راضية وتحسين علاقتهم.
انتهى قاسم من حديثه، فقالت فيروز مشجعة:
_أحسن حاجة عملتها بصراحة، تكسب محبتهم أحسن بكتير ما تكسب عداوتهم.
ابتسم لها بهدوء وقال بحب:
_عملت بنصيحتك.
تساءلت بباستغراب مشيرة لنفسها:
_نصيحتي أنا؟
_أيوة، فاكرة يوم ما قلتيلي إن والدك كسبهم بحبهم ليه، وأنت كسبت عداوتهم، أنا لأول مرة أكون مهتم بحياتي لأني ما بقيتش لوحدي، عايزك تعيشي بأمان وأكون أنا كمان مطمئن.
أومأت برأسها متفهمة، ولكن بعينيها حيرة من شيء ما، وما أوضح عينيها لقاسم الذي تساءل:
_مالك يا فيروز، حاسس إن فيه حاجة شغلاكي؟
_بصراحة أيوة، ياسين بيحاول يصلح علاقته بأسيل لكنها خايفة ترجع له.
حكم ذقنه بحيرة وتساءل:
_ليه؟ أنا مش عارف إيه اللي حصل بالضبط، بس لو الموضوع يهمك أنا ممكن أتدخل وأساعدها.
بانتباه قالت له فيروز:
_بجد يا قاسم، تقدر تساعدها؟
وضع أصبعه طرف أنفها قائلاً بعبث:
_مش مقدرة، انتي قدرات جوزك.
كان وقع الكلمة على أذنها غريبًا خصوصًا مؤخرًا، فاتوهحت وجنتيها، ثم ابتسم لها بحنان قائلاً:
_مش عايز حاجة تشغلك أو تشيلي همها، أنا هنا، وربنا يقدرني وأنسيكي كل اللي فات.
كانت تنظر إليه بأمل، ترسم حياة قادمة معه، مع رجل مثله، يملك كل شيء، وعكسه ينظر إليها وكأنها الآن الوحيدة بالكون، فاتبتسم وتداري وجهها عنه، ولكنه خرج صوته يداعبها:
_اعملي حسابك، جاي لينا ضيف.
_ضيف؟ مين؟
أشار إليها من خلفها، فالتفتت وشهقت عندما وجدت عمها يدخل بسيارته من البوابة الكبيرة، والتفتت إلى صوت قاسم قائلاً:
_على فكرة أنا طلب إيدك منه.
اتسعت عينيها بدهشة، ضحك على أثرها قاسم وغمز لها بأحدى عينيه، وكأنه يقول لها: لقد مر الكثير من الوقت وحان وقت الحديث المفيد...
.....................
في قصر آل رشيد
تقابلت دهب بالسيدة رقية للمرة الأولى بعدما علمت بكل شيء، ابتسمت لها رقية برقة تملكها في أقل تصرف منها وأشارت لدهب بالجلوس أمامها، امتثلت دهب وجلست قبالتها، وقد قررت الحديث معها. لم يكن الهروب أبدًا من طبعها رغم خجلها من فعل والدتها وما وضعتها به، لكن لابد من الحديث بينهما، كل منهما يلقي ما بقلبه الآخر، وهي منتظرة أن تستمع لتلك السيدة الوقورة القوية كيف تقبلتها هي... هي بالذات.
قالت السيدة رقية مبتسمة:
_حمدالله على السلامة، ما تعرفيش قلقنا عليكي إزاي.
هتفت لها دهب:
_مين قلق عليا؟
_موسى وأنا.
ضيقت دهب عينيها متسائلة باستعجاب:
_ليه تقلقي عليا؟ ليه أصلا تهتمي بوجودي من عدمه؟ وإزاي تقبلتيني بالسهولة دي وإنتِ عارفة أنا بنت مين؟
استقامت السيدة رقية وتحركت تجاه نافذتها الواسعة وقالت:
_موسى قالي إنك قرأتي مذكراتي.
رمشت دهب بعينيها، رغم أهمية حدوث ما بعد قراءتها المذكرات، إلا أنه خطأ خصوصًا أنها لم تكن دهب فضولية يومًا.
فقالت دهب مبررة:
_ماكنتش أعرف إنها خاصة بيكي لأني لاقيتها بمكتب موسى، وبصراحة ماقدرتش أسيبها، وحقايق لأول مرة أعرفها. إزاي كملتي بعد كل الكلام اللي كتبتيه ده وإزاي تقبلتيني؟
استدارت لها رقية وقالت:
_خالد كان أول راجل في حياتي، مهما وصفت لك علاقتنا كان شكلها إزاي مش هاتفهميها. وقت ما حصل بينا اللي حصل، عمل أقصى ما عنده علشان يرجعني ليه تاني، رغم أني كنت معاه تحت سقف بيت واحد بس كنت بعيدة عنه جدًا.
استمرت:
_أه، كملت في الأول لأني ماكنتش عندي حلول كتير، والطلاق في عيلتنا صعب، وكنت بموت من جوايا، لكنه كمان عمره ما بطل يكفر عن وجعه ليا، خالد حبني بجنون وماقدرش أنكر ده... كمان ماقدرش أنكر خيانته.
_سامحتيه؟
ارتسم على وجهها الحنين وقالت:
_سامحته، لأني بحبه ولأني شفت ندمه وفضل ندمان لحد ما الموت خده مني. كل ما يوحشني أبص في وش موسى وأقول إمتى أروح له، لان بعده صعب عليا أوي.
ثم ابتسمت رغم حزن ابتسامتها قائلة لدهب:
_أنا وخالد ما افترقناش غير وقت الموت بس.
التقطت دهب نفسًا عميقًا، قوية السيدة رقية وعاطفية وجميلة، كيف لرجل ألا يقع في غرامها وتكن مميزة له، وخالد كفّر عن ذنبه، وكعادت الحكايات الجميلة هناك ما يفسدها دائمًا..
اقتربت رقية ووقفت، دهب منتظرة استماع المزيد، قائلة:
_يوم الحفلة عرفت إنك بنتها، ما أنكرش صدمتي من المفاجأة، لكن موسى دخل علي وقال لي: "أمي، أنا مش عايزها تمشي معايا". سألتُه سؤال وعارفة إن إجابته هتكون كافية: دهب تشبهها؟ رد عليا بقوة وقال لي: مستحيل. وده زود اليقين بأحساسي جوايا إنك مختلفة.
التأمت لأول مرة العبرات بعيني دهب، وبتأثر قالت:
_ووجعك؟
_وانتي إيه ذنبك فيه يا دهب؟
_مافيش حد هايفكر زيك كده.
ربتت على وجنتها وقالت بحنو:
_لما أحس إن ابني بيحبك ولأول مرة يتمسك بالطريقة دي، يبقى لازم أفكر كده.
ردّت دهب من خلفها باستغراب:
_بيحبني! موسى وقتها ماكنش؟
قاطعتها السيدة رقية مؤكدة:
_أيوة، من يوم الحفلة. حتى لو اعترف لك بده متأخر، لكني أم وأعرف إحساس ابني.
ثم صمت كلاهما بعد حديث طويل،
فقالت رقية بحنو:
_ليه شايفة التردد ده بعيونك؟
لا تعرف هل تخبرها أنها لأول مرة تخشى شيء، وأن أهم ما تخشاه هو خسارة تلك العائلة، وأقسى ما تخشاه هو والدتها التي لن تهدأ لفكرة نبذها عن حياتها، وأن ما تملكه من غضب سيطفو على السطح ربما يتحول للهب يحرق أمانيها الوليدة...
لم تجد دهب إجابة منمقة لتخبر بها تلك السيدة الجميلة أمامها، فترسمت ابتسامة حقيقية إليها قائلة:
_موسى أخذ قوة والده... وحنانك.
بادلتها رقية ابتسامتها وهي تعدل من وشاحها الأبيض حول رأسها:
_انتي وموسى، كل شخص فيكم جواه شيء محتاج إنه يتكمل ومفتقده، متهيألي ده سبب انجذابكم اللي أنا شايفاه مختلف.. وزي ما قولت قبل كده، أنا مش بحب أقف مكاني، برمي ورا ضهري وأكمل حياتي، انتي كمان اعملي كده يا دهب.
.......
كانت تركض خلفه تحاول إيقافه وعدوله عن القرار الذي اتخذه في وجود عمها، فبمجرد ما أبدت موافقتها حدد ميعاد الزفاف على الفور بعد ثلاثة أيام. هتفت به بضيق ليتوقف، فالتفت إليها متصنعًا عدم الفهم وقال:
_في إيه يا فيروز؟ إيه معصبك كده؟
جزت على أسنانها بغيظ وهتفت به:
_إيه معصبني؟ وانت شايف إن مافيش حاجة تعصب، إزاي تحدد ميعاد الفرح من غير ما ترجعلي؟
اقترب منها قاسم، فارتدت للخلف بمنتصف الممر حتى اصطدمت بالحائط خلفها، وأجابها بخفوت:
_علشان لو اعتمدت عليكي مش هنعمله غير بعد سنتين تلاتة، أنا بحاول أكسر حاجز قلقك وناخد الخطوة دي.
ثم برقة وصدق أكمل:
_فيروز، كفاية الوقت اللي ضاع، خلينا نبتدي من جديد ونبدأ حياتنا. لو اختياري للوقت مضايقك، مافيش مشكلة، اختاري أنتِ الوقت اللي يناسبك وأنا راضي.
سكتت فيروز لبرهة وأجابت بما تفكر به:
_حابة ناخد أي قرار سوا، في خطوة زي دي أنت اخدت القرار واخترت الوقت من غير ما ترجعلي.
_صح، عندك حق، خلاص اختاري الوقت اللي يناسبك. بس ممكن تيجي معايا مشوار مهم؟
_مشوار إيه؟
لم يجيبها بالكلام، بل تحرك بها حتى خارج القصر لوجهة غير معلومة لها. توقفت سيارته أمام أكبر الأتيليهات الخاصة بفساتين الزفاف والسهرة في إحدى المولات الشهيرة، انبهرت فيروز من الواجهة وكم الفساتين المعروضة. همس لها قاسم بأذنها:
_وافقت إنك تحددي الميعاد بمزاجك، ممكن تدخلي وتختاري الفستان، وتلبسيه الوقت اللي تختاريه.
التفتت إليه وبأعين لامعة لأي فتاة بموقفها، أومأت برأسها. كان الاستقبال كبيرًا، والمكان فارغ لهم فقط، والفتيات تساعدها في اختيار المناسب، وهي تائهة بين كم الفساتين المبهره والجميلة، وهو جالس على كرسي في انتظار اختيارها دون أن يظهر عليه التأفف أو الملل. بل طلبت منه بحيرة مشاركتها في الاختيار، فلم يترك قاسم الفرصة، وقد قرر لها الحرية دون أن يفرض عليها رأيه. فكان يشاركها ببعض الفساتين.
وأثناء ما تتجول، توقفت فيروز أمام إحدى الفساتين التي خطفت قلبها، صدره مشغول باللآلئ الصغيرة، يضيق من الصدر للخصر وينزل باتساع كبير لأسفل، بفصوص بيضاء بأحجام مختلفة، بكسرتين من الجانبين، وذيل طويل يحتاج لمن يحمله خلفها.
لم تشعر به وهو يقترب منها، حتى شاهد الفستان وتلقائيًا تخيلها به، كم ستبدو جميلة أشبه بأميرات ديزني، ونظرة عينيها كانت أجمل وأجمل. فكر قاسم لحظتها كيف كان سيحرمها من تلك اللحظات، كيف ستمر تلك اللحظات بينهما والتفاصيل دون أن يعايشوها ويتذكروها للسنوات القادمة.
شعرت به فيروز من خلفها وأشارت للفستان متسائلة:
_إيه رأيك؟
_تحفة، قد إيه هايكون جميل، بس مش عريان شوية؟
لم تنتبه فيروز أن صدره عاري وكتفيه مكشوفتين، لكن تدخلت صاحبة الأتيليه قائلة:
_عادي جدًا يا قاسم باشا، ممكن نقفله من فوق بطريقة شيك من نفس شغل الفستان.
نظر قاسم لفيروز التي قالت على الفور:
_ياريت.
أشارت زيزي لإحدى الفتيات ليساعدوها في قياسه، اختفت عن أنظاره وقتًا طويلاً، وما إن خرجت ظن أنه سيرى الفستان بها، لكنها أحبطته قائلة:
_ماما كانت بتقول فال وحش لما العريس يشوف فستان العروسة قبل الفرح.
رفع كفيه بمرح وأجابها:
_وعلى إيه نسمع كلام حماتي أحسن.
لم تنتهِ مفاجآت اليوم، فبمجرد دخولهم قصر قاسم عمران، كانت في انتظارهم إحدى الضيفات غير مُرحب بها. بحيرة نظرت فيروز للجالسة واضعة قدم فوق الأخرى، والتي ما إن رآتها حتى استقامت ببطء وشملتها من أعلى لأسفل بنظرة غير مريحة لها. وفي لحظات تبدلت ملامحها للوداعة واقتربت منها وقالت بهدوء:
_ياربي مش معقول جمالك، أخيرًا شوفت مرات ابني.
قضبت فيروز جبينها بتوجس وتمتمت بقلق:
_ابنك؟
أصدرت كامليا ضحكة خافتة حزينة متقنة:
_لكِ حق، ما تعرفينيش، لأننا عمرنا ما اتقابلنا، أنا كامليا أم قاسم جوزك.
ارتفع حاجب الماثلة أمامها، وبلحظة فكرت بقاسم، والذي قال إنه سيلحق بها بعد دقائق، فقالت بريبة:
_قاسم على وصول.
_أنا جاي ليكم انتو الاثنين.
تأملتها فيروز، اهتمامها بنفسها لم يظهر عمرها الحقيقي ليكون قاسم ابنها الأكبر، متخيلة كيف استغلت جمالها وأنوثتها في صغرها، ورغم كبر عمرها إلا أنها لم تفقد الكثير، لكن جمالها لم يكن الهادئ بل أشبه بالساحرات في الأفلام الكرتونية.
انتبهت فيروز لصوتها الناقوسي وهي تتحرك بتبختر في منتصف البهو:
_حاجات كتير اتغيرت في القصر، كان في أنتيكيات وتحف نادرة مالهاش أثر، عمة قاسم ماكنتش بتفهم في الأنتيكات.
_الأولى نهتم بالبني آدمين أفضل من الأنتيكات.
التفتت إليها كامليا فجأة، وما إن انتهت فيروز من جملتها حتى كان صوت قاسم يأتي من خلفها بصوت حاد:
_جايه ليه يا كامليا؟
أجابته بعد برهة وبتحول رهيب وتمثيل مبهر، تساقطت عبرتين دون أدنى شعور، وقالت:
_جاية أشوفك، أسأل عليك وأفكرك إن ليك أم.
التفتت فيروز لوجه القاسم المتصلب، وعينيه الغاضبة، لكنه ابتسم. كانت بسمة قاسية خالية من المرح:
_أم، ما بلاش الجو ده وتقولي جايه ليه من الآخر، مش لايق عليكي الجو ده.
ابتلعت ريقها ونظرت لفيروز موجهة حديثها إليها بتوسل:
_كلميه أنتِ يا فيروز، فهميه إن مهما حصل أنا أمه.
_مالكيش دعوة بفيروز، كلامك معايا أنا.
انتفضت فيروز أثر صوته الغاضب، فقالت كامليا:
_أختك اتجوزت موسى رشيد، وانت كمان اتجوزت، بدأتوا حياتكم الجديدة من غير ما تفكروا في أمكم، عايشة إزاي وناقصها إيه، ودهب كانت مصدر دخل البيت قبل ما تتجوز موسى، وبكلمها رافضة ترد على اتصالاتي و...
قبل أن تكمل حديثها، اقترب قاسم منها بخطوتين هادرًا بوجهها:
_نحس بيكي، عايزانا نحس بيكي؟ كنتي عملتي لينا إيه علشان تلاقينا دلوقتي؟ ده انتي خربتي كل شيء جوانا، مش قادر أحس بالشفقه اتجاهك، الحقيقة، في كل اللي عشته بسببك مش قادر أتأثر.
ضيقت عينيها وبحنق من كلماته الأذعة هتفت به بقسوة:
_يعني إيه؟ انت وأختك تعيشوا في قصور وأنا أعيش في حجر؟ معاكم فلوس تعيشكم ملوك وأنا أنزل الشارع أشحت؟
وضعت فيروز يدها على فمها، تنظر لها بصدمة، وعينيها تجوب على ملامح قاسم والنيران تشتعل بعينيه. فاقتربت منه ولامست ذراعه، فانظر لها للحظات كأنه يهدئ حاله حتى لا يتهور، يتذكر أنه لن يعود للوراء مجددًا. عاد بأنظاره لكامليا وقال بهدوء مريب:
_الفلوس، لسه زي ما أنتِ عايشة تجري ورا الفلوس.
رفع قاسم أصبعه بوجهها محذرًا بخطورة:
_ابعدي عن دهب، لو عرفت إنك قربتي منها والله لاندمك على كل اللي فات واللي جاي كمان.
ابتلعت ريقها بخوف وتراجعت خطوة للخلف، ثم بتحذير آخر هتف بها:
_ولآخر مرة تدخلي البيت ده، بقي متحرم عليكي من يوم رجعتي ولقيتي أبويا ميت.
ثم عادت أنظاره لفيروز التي زادت من تمسكها بذراعه، وعينيها تمده بالكثير، وتربت على قلبه بحنان. أومأت برأسها كأنها تشجعه، فازفر نفسًا ثقيلًا وقال:
_هاتوصلك شهرية كل أول شهر، بشرط إنك لو فكرتي تحومي حواليا أنا أو دهب.
قاطعته بفرحة لم تستطع إخفائها، وكأن كلماته لم تؤثر بها، أو حتى تهتم بها:
_مفهوم طبعًا، أنا هامشي.
تابعتها فيروز بعينيها، ولم تستطع إخفاء ملامح الاشمئزاز على وجهها من جشعها. حبها للمال فاق فطرتها كأم في حبها لأبنائها، قاسية جدًا وقلبها أشبه بالحجارة أو أشد قسوة.
ابتعد قاسم وجلس على المقعد منهمكًا، يزفر بضيق، وملامحه جامدة، وجسده تشعر به متصلب. مقابلة ليست بوقتها، لكنه أراد أن يغلق صفحتها، فابتعادها راحة للجميع. ولو كان سبيل بعدها المال، فاليلقي لها بضع منه، لكنه لن يسمح أن تخرب حياة شقيقته بعدما بدأت في الاستقرار، أو تزعزع ما بدأ في بناءه بداخله لينعم بحياة مستقرة وهادئة مع فيروز.
لا أن تذكره بذكرى يحاول تناسيها حتى أنه فكر لو لم يستطع التغلب على الكوابيس سيطلب المساعدة من أحد الأطباء، لكنه يعرف دواؤه.. دواؤه معها، تلك التي تنظر إليه بحزن وتأثر، بشخصها الطيب الرقيق سيكون ما مر الآن من المواقف المؤثرة بها.
فرد قاسم كفه، فوضعت يدها به وأغلق كفها عليها، جذبها إليه حتى قبل يدها وأرسل لها بسمة صغيرة، كانت صعبة عليه في تلك اللحظة. جلست مقابله، ومسحت على وجهه بيدها بحنان، فأغمض عينيه واستمع لهمسها الهادئ باسمه، ويتبعه قولها:
_أنا فخورة بيك.
فتح خضرواته ونظر إليها بحيرة، بددتها فيروز وتابعت قولها بعينين شغوفتين به:
_أقوى فعل ممكن تعمله اللي بيكون صعب على نفسك تتقبله وبتجاهد فيه، وانت ورغم كل المرات اللي عانيتها، قاومت إحساس الانتقام جواك، واخترت تكون أنت الأحسن.
نظر لها للحظات ثم قال لها بخفوت:
_مش عايز الغضب والكره يسيطروا عليا تاني، علشان نعرف نعيش في البيت ده بسلام وحب، لازم أكون أنا قادر أحافظ على ده. عايز أعيش معاكي عمري اللي جاي يا فيروز في حضنك، نربي ولادنا ونعوضهم اللي ماعرفناش نجربه، مش عايز أخسرك تاني لأي سبب.
استمرت بملامسة وجنته ثم ذقنه، وصعدت لعينيه التي أغمضها، وهمست له بلمعة بعينيها وصوتًا خرج متأثرًا وخافتًا:
_أنا بحبك يا قاسم.
فتح عينيه مرة واحدة، اصطدم بعينيها الحانية، اللامعة بتأثر والدافئة. كانت عينيه في حيرة من ما استمع إليه، وقبل أن يسألها كانت تهديه إحدى الكلمات التي حلم بها:
_بحبك أوي، ومطمنة ومصدقاك.
أخذ نفسًا عميقًا وزفرة دفعة واحدة، مع ضحكة خافتة وبسمة حقيقية، وهي تمسح طرف عينيها من دمعة قبل أن تسقط. كانت لحظات دافئة وساحرة بينهما، اختتمها قاسم وهو يجذبها بين ذراعيه مشددًا عليها خوفًا أن تكون طيف، لكنها حقيقة مؤكدة، بدليل لا يمكنه نسيانها أبدًا، وختم بكلمة خرجت من شفتيها بحب ذلك الرجل....