رواية ظل البراق الفصل الثامن
"ليست كلّ الحكايات تُروى، ولا كلّ الأوجاع تجد من يُنصِت…
هناك في حاراتٍ يضيق فيها الضوء، ويمتدّ الظلّ طويلًا خلف كلّ جدار، تعيش قلوب لا يعرفها أحد. قلوبٌ تُصلح ما كسرته الأيام بصمت، وتجمع فتات أحلامها كلّ مساء كي تعيش به نهارًا جديدًا.
هناك فتاة، تُدعى "رقية"، لا تُشبه الزهر في رقّته، بل في صلابته حين ينمو من بين التشققات. لا تملك رفاهية السقوط، لأن على ظهرها تقوم حياة بأكملها. تتحرّك بخفّة امرأة معتادة على الحِمل، وتبتسم في وجه الحياة كأنها تقول: "أنا أقوى منكِ."
وهناك رجل، يُدعى "مهاب"، لا يتقن الحكي، لكنه يُتقن النظر بصمت. رجلٌ يبدو للناس شديدًا، حادّ القسمات، قويًّا في حضوره… لكنه حين تمرّ رقية، ينحني ظلّه قبل رأسه، ويضطرب قلبه دون أن ينهار.
وفي الخلف، تتقاطع الأقدار، وتتشابك الخيوط… يوسف الذي أحبّ امرأةً لا ترى فيه إلا ظلًّا عابرًا. ونادين التي حلمت بعالمٍ أكبر من الحارة، لكنّ قلبها لم يكبر بما يكفي ليحتوي من أحبّها.
الرواية ليست عن الحب وحده، بل عن الصراع من أجل الكرامة، عن الحيرة بين ما نريده وما يُتاح، عن الوجع المكتوم خلف العيون، عن الأحلام التي تُركن جانبًا كي يمشي إخوتنا في طريقٍ مستقيم.
"ظلّ البرّاق"… ليست قصة عن مهاب ولا عن رقية، بل عن كلّ من ظنّ أن الضوء بعيد، فقرّر أن يصبح هو النور لمن يحبّ."
_______________
كان النهار ما يزال مشتعلاً بحرارته، رغم أنّ الشمس بدأت تميل قليلًا ناحية الغرب، ترسل خيوطًا صفراء متكسّرة عبر فتحات البيوت العالية المحيطة بالحارة. الهواء محمّل برائحة الخشب والنشارة، وصوت المناشير اليدوية والكهربائية المتقطّع يأتي من الورش المجاورة، فيختلط الصدى بوقع خطوات يوسف وهو يقترب من ورشته.
مشى بخطوات واثقة، رغم أنّ داخله لم يكن بتلك الصلابة. قضاها أربع ساعات كاملة بصحبة مهاب، يلفان بلا هدف في شوارع بعيدة، يتحدث مهاب كثيرًا، ويحاول أن يُخفف عنه، بينما هو يكتفي بالصمت أكثر مما يتكلّم. لم يكن يوسف من الرجال الذين يُظهرون ضعفهم، ولا من الذين يسمحون لأحدٍ أن يراهم منكسرين، حتى أقرب الناس إليه عدا صديقه. بدا على وجهه سكونٌ متماسك، وجبين مشدود لا يُفصح عمّا وراءه، وكتفان عريضان يهتزان بثبات وهو يدفع باب الورشة الخشبي الكبير ليدخل.
الورشة استقبلته كعادتها بروائحها المألوفة؛ مزيج من خشب الصنوبر المحلوق، ورائحة الغراء، وبقايا الدهانات القديمة. الغبار كان معلقًا في الهواء، يتراقص في الضوء النافذ من شبابيك صغيرة عالية، فيما تصطف الأخشاب إلى جانب الجدران، بعضها طويل لم يُقطّع بعد، وبعضها ألواح نصف مصنّعة تنتظر أن تمتد إليها يد يوسف.
ما إن لمح "حسن"، الصبي الذي يعمل عنده، ظلّ يوسف وهو يدخل، حتى أسرع إليه يجري بخفّة، ووجهه الصغير تعلوه لمعة قلق صادق، ويديه المتّسختين بالنشارة تمسحان في بنطاله الزيتي. قال بصوتٍ لاهث، وهو يرفع عينيه البريئتين ليوسف:
– "أنتَ اتأخرت ليه كده يا معلم؟ أنا قلقت عليك."
وقف "يوسف "في مكانه لحظة، ينظر إلى الصبي بعينيه السوداوين الثابتتين، قبل أن يرفع يده ويمسح العرق عن جبينه بإبهامه، وقال بهدوءٍ مقصود:
– "كان عندي مشوار مهم."
لكن نبرة صوته الهادئة لم تُقنع حسن تمامًا. الفتى كان ذكيًا، يعرف أنّ يوسف لا يتأخر عادة دون سبب. لكنه ابتلع فضوله، ثم تذكر فجأة ما جرى منذ قليل، فمدّ رقبته قليلًا وقال بحماس:
– "على فكرة… الباشمهندس مهاب جه هنا وسأل عليك."
رفع" يوسف" حاجبه الأيمن بخفة، ثم ردّ وهو يتحرّك ببطء نحو منضدة العمل المليئة بالأدوات:
– "عارف… كلّمني."
هزّ" حسن" رأسه بإيماءة سريعة، ثم ما لبث أن أضاف وهو يحكّ مؤخرة رأسه بارتباك:
– "والأبلة رقية كمان سألت عليك."
توقّف يوسف لحظة، كانت يده قد امتدت لتلتقط مطرقة صغيرة من على الطاولة، لكنه ثبت مكانه، ورفع بصره إلى الباب المقابل للورشة حيث يظهر جزء من مطعم رقية. عيناه مرّتا على الواجهة لكنه لم يطيل النظر. أعاد عينيه إلى المطرقة في يده، وقال بصوتٍ هادئ:
– "ماشي… هبقى أروح أشوفها."
ابتسم" حسن" ابتسامة صغيرة، ثم اقترب أكثر وسأله بجدّية صبيانية:
– "طب والنهارده نعمل إيه؟ الخشب اللي اتسلم من امبارح لسه موجود، وأنا خلصت الجزء اللي قلتلي عليه."
جلس يوسف على المقعد الخشبي العريض، مسنودًا بذراعه على الطاولة، ثم ألقى نظرة فاحصة على الأكوام المرتبة: ألواح مقطوعة، أرجل كراسي نصف مُصنّعة، وصندوق مفتوح فيه أدوات متفرقة. حرّك رأسه ببطء كأنه يراجع بعينه قبل عقله، ثم التفت إلى حسن وقال:
– "كويس… وريني أنتَ خلصت إيه."
هرع حسن إلى الركن، وأحضر قطعة خشبية مصقولة جزئيًا، رفعها بيديه كأنها شيء ثمين، وعرضها على يوسف بفخر طفولي. قال وهو يبتسم:
– "دي الرجل اللي كنت بعملها للكرسي. أخدت وقت، بس ظبطتها زي ما وريّتني."
مدّ يوسف يده، أخذ القطعة وقلبها بين أصابعه، ثم حرّكها بعينيه الناقدتين. لم يتكلم في البداية، بل ظلّ يتأملها بصرامة هادئة جعلت قلب حسن يخفق بتوتر. وأخيرًا قال "يوسف" بصوتٍ منخفض:
– "تمام… محتاجة شغل بسيط كمان، بس شغلك حلو يا حسن. شد حيلك."
انفرج وجه الصبي عن ابتسامة عريضة، وهزّ رأسه بسرعة وقال بحماس:
– "حاضر يا معلم… حاضر."
أعاد يوسف القطعة إلى مكانها، وأسند ظهره إلى المقعد، يزفر زفرة طويلة لكن مكتومة، كأنها خرجت رغماً عنه. يتابع بعينيه حركة حسن الذي عاد إلى شغله، يُنفض النشارة عن المنضدة بيديه الصغيرتين، ويغني بصوتٍ خافت أغنية قديمة متقطّعة.
كان المطعم لا يزال محتفظًا بنشاطه المعتاد في ذلك التوقيت؛ روائح الزيت الساخن والخبز الطازج تمتزج مع بخار الشاي، رقية جلست خلف الطاولة الخشبية، دفتر الحساب أمامها، والقلم في يدها يتحرك بخفة، بينما وجهها مشدود بين التركيز والشرود.
على الطرف الآخر، كانت ناهد واقفة تراقب حركة الزبائن بعين يقظة، تتابع خروج الطلبات وتدوّن في ورقة جانبية ما ينقص للغد. وجهها متعب لكنه ثابت، تحاول أن تُبقي النظام قائمًا مهما تعبت الأيدي.
في الخارج، كان "محمود"، الصبي النشيط، ينهمك في تجهيز طلبات أخيرة؛ يضع الأكياس في صناديق مرتبة، ويتأكد من كل شيء قبل أن يسلمها للرجل الذي سيأخذها للتوزيع. وبين حركة وأخرى، التفت بعفوية ناحية الورشة المقابلة، فإذا بعينيه تقعان على يوسف وهو جالس بداخل الورشة تجاه الباب المفتوح، ويبدو غارقًا في تفكير عميق.
شهق "محمود" بخفة، ثم رفع صوته بحماس وهو يلوّح بيده:
– "ده الباشمهندس يوسف وصل!"
رفع رأسه نحو المطعم، يوجّه كلامه إلى ناهد ورقية. التفتت ناهد بسرعة، وكأن قلبها كان ينتظر تلك اللحظة. وضعت ما بيدها من أوراق، ومسحت يديها في طرحتها، ثم قالت بنبرة فيها لهفة:
– "أنا رايحة أشوفه."
أما رقية، فقد ظلّت في مكانها، عينيها معلّقتان قليلًا باتجاه الورشة، لكن ملامحها ثابتة، كأنها تعرف مسبقًا ما يحدث أو حدث. اكتفت بهزّة رأسٍ صامتة، وعادت تنظر في دفترها وكأنها تُخفي اضطرابًا داخليًا لا تريد أن يظهر.
خطوات ناهد أسرعت نحو الورشة، وكل خطوة تحمل معها قلقًا صادقًا على يوسف الذي كانت تعرف مقدار ما تحمّله في الأيام الماضية. رائحة الخشب والغراء غلّفت أنفاسها، وهناك كان يوسف جالسًا كما هو.
قالت" ناهد" بسرعة، وصوتها مشوب بخوف واضح:
– "إنت كويس يا بني؟"
رفع" يوسف" عينيه إليها ببطء، حدّق فيها لحظة، وقال بصوتٍ هادئ أقرب للدهشة:
– "أه يا ناهد… كويس."
لم يطمئنها الجواب، بل زاد من فضولها وقلقها. تقدمت خطوة، وقالت بنبرة مترددة:
– "أنا قلقت عليك النهارده… ما ظهرتش من الصبح. مهاب جه هنا، ورقية كمان سألت."
أدار "يوسف" وجهه قليلًا ناحية الباب، وكأن عينيه تبحثان عن المطعم المقابل من خلف الخشب، لكنه لم يُطِل النظر، بل أعاد بصره إلى الأرض وقال:
– "ما تقلقيش. كان عندي مشوار… مشوار مهم."
وقفت" ناهد" أمامه، ذراعاها متشابكتان على صدرها، عينيها تحدّقان فيه كأنهما تريدان أن تفتّشا خلف الجملة القصيرة التي قالها. ثم تمتمت وهي تحاول أن تستشفّ أكثر:
– "المهم إنك بخير."
"يوسف "ابتسم ابتسامة صغيرة، لم تصل إلى عينيه، وقال وهو يحاول تحويل دفة الكلام:
– " الشغل ماشي إزاي معاكوا في المطعم؟"
ردّت سريعًا، بعينين ضيّقتين من الاستغراب:
– "هو ده اللي مهم دلوقتي؟ أنا جايّة أسأل عليك مش على الشغل."
ضحك بخفوت، ثم اعتدل في جلسته وربّت على الطاولة الخشبية بيده القوية، وقال:
– "ما تشغليش بالك. أنا بخير، وبكرة كل حاجة تبقى تمام."
تأملته ناهد طويلًا، وكأنها لم تقتنع تمامًا بما يقول، لكنها في النهاية قررت ألا تُلحّ أكثر. زفرت بهدوء وقالت:
– "ماشي يا يوسف… زي ما تحب."
ثم استدارت ببطء، متجهة نحو الباب، وعندما خرجت وعبرت الطريق عائدة إلى المطعم، كانت الحيرة لا تزال على وجهها. دخلت إلى الداخل لتجد رقية ما تزال في مكانها، رأسها مطأطأ على الدفتر. توقفت ناهد عند الباب، وأسندت يدها على الخشب، ثم قالت بنبرة ممتزجة بالدهشة والعتاب:
– "ما جتيش ورايا ليه؟"
رفعت" رقية "رأسها بهدوء، نظرت إليها نظرة قصيرة، ثم عادت إلى دفاترها وقالت بجملة مقتضبة:
– "ما فيش داعي."
ازدادت دهشة ناهد، تقدمت إليها بخطوات سريعة، جلست أمامها وقالت بصوتٍ منخفض لكنه مشوب بالاستغراب:
– "إنتِ عارفة اللي بيحصله صح؟"
توقفت رقية عن الكتابة، أغلقت الدفتر ببطء، وتنهدت كأنها تحمل سرًا ثقيلًا، ثم قالت أخيرًا بصوتٍ عميق:
– "طلق نادين."
شهقت ناهد ووضعت يدها على فمها بدهشة حقيقية، ثم قالت بارتباك:
– "إيه؟ طلقها فعلًا؟!"
أومأت رقية برأسها ببطء، وفي عينيها لمعة أسى:
– "خالتي كلّمتني النهاردة بعد ما فضلت تتصل عليه كتير وبعد وقت طويل رد عليها وقالها ، وهي بقي قالتلي ."
ظلّت ناهد تحدّق فيها لثوانٍ طويلة، وكأنها غير مصدقة. ثم قالت بذهول:
– "ده كان بيحبها قد إيه… كان بيشيلها فوق راسه. أنا عارفة يوسف… مش أي حاجة عنده بتيجي بالساهل. إزاي يسيبها كده؟"
أغلقت رقية الدفتر، وأسندت القلم فوقه، ثم شبكت يديها فوق الطاولة وقالت بجدية:
– "هو ما سابهاش يا ناهد. هي اللي غرورها خلاها تسيبه. نادين كانت شايفة نفسها أعلى من الناس وأعلى من الحارة… كانت بتقابل كل طيبته بعناد. والغرور ده… بيهدّ أي بيت."
تأملت ناهد كلماتها، وأطرقت برأسها للحظة، ثم قالت:
– "يمكن عندك حق… بس برضه، اللي بين الاتنين مش بيتقاس بكلمة غرور ولا كلمة طيبة. في ناس بتفكر إن الحب وحده كفاية… وفي ناس شايفة إن الكرامة قبل أي حاجة."
ابتسمت رقية بسمة حزينة وقالت:
– "الحب محتاج كرامة… لكن مش كبرياء. نادين كانت بتعامل يوسف بكبرياء، مش كرامة. الفرق كبير يا ناهد. الكرامة تحفظ الودّ… الكبرياء يهدمه."
صمتت ناهد، وبدأت تفرك أصابعها بعصبية، بينما تراقب رقية التي استرسلت تقول:
– "أنا شوفت يوسف النهارده بعيني وهو مكسور… بس برضه واقف. مش هيسمح لحد يشوف ضعفه. هو من النوع اللي بيتألم لوحده، ودي أصعب أنواع الرجولة."
أطرقت ناهد، ثم رفعت رأسها فجأة وقالت بصدق:
– "بس هو كان بيحبها يا رقية… ماينفعش ننكر. وأنا… مش قادرة أستوعب إزاي هي فرّطت فيه بسهولة كده. يعني إيه واحدة تخسر واحد زي يوسف؟"
ردت رقية بحزم:
– "لأنها ماقدّرتوش. وكل واحد في الجواز بيشوف الدنيا بعينه. يوسف كان شايف الجواز مودة ورحمة وبيت يتبني بالحب. نادين كانت شايفاه وسيلة تطلع بيها برا الحارة. اختلفوا في الأساس… ولما الأساس يتهدّ، البيت كله بيقع."
ظلّ الصمت يخيّم بينهما لحظات، فقط أصوات الأطباق من المطبخ وصوت محمود يعلو من بعيد وهو ينادي أحد الزبائن.
ثم قالت ناهد بصوت متردد:
– "يعني شايفة إن خلاص… مفيش رجعة؟"
ابتسمت رقية ابتسامة واهنة، وهزّت رأسها قائلة:
– "في جوازات ما ينفعش تتصلح يا ناهد. مهما حاولتِ ترجع الأحجار لمكانها، هتفضل فيها شروخ. وده واحد منهم."
تنهدت ناهد بعمق، وأسندت ظهرها إلى الكرسي، وقالت:
– "سبحان الله… العند والغرور ممكن يضيعوا بيت كامل."
أجابتها رقية بهدوء:
– "ويخلقوا جرح جوّه قلوب ناس ما يستاهلوش… زي يوسف."
جلست رقية مكانها بعد هذا الكلام، أصابعها تعبث في الورق أمامها دون تركيز. كان قلبها مثقلاً وهي تسترجع صورة يوسف في ذهنها، بصلابته المعتادة وصمته اللي يخلي أي حد يحس إنه جبل. همست في نفسها: "يا خسارة… الراجل ده ما يستاهلش اللي حصل معاه. نادين كانت معاها نعمة، بس كبرياءها ضيعها."
أما ناهد، فعادت لحسابتها وهي حاملة هم يوسف في قلبها. رفعت نظرها للسقف كأنها بتحاول تلاقي رد، وقالت في سرها: "يا رب… أنا مش قادرة أصدق اللي سمعته. يوسف كان بيحبها بجنون، وهي بكل برود سابت بيتها! الغرور ممكن يهدّ جبل… وأنا مش عايزة يبقى جوايا نفس الداء."
...............
جلس رزق في صالة بيته، مستندًا على كرسيه الخشبي العريض، يحرّك سبحة بملل، وعينه زائغة ناحية الباب كأنه ينتظر زادًا لشروره القديمة. فجأة اندفع الباب، ودخلت سعاد بخطوات سريعة، وعلى وجهها ابتسامة متشفّية لا تخفى.
قالت وهي تلهث من شدّة الحماس:
_"رزق… عندي ليك خبر يفرّح قلبك!"
رفع رأسه، وارتسمت على ملامحه لمعة شريرة، وقال بنبرة متعجّلة:
_"خير يا سعاد؟ إيه الجديد؟"
اقتربت وجلست مقابله، وانحنت بجسدها للأمام كأنها تسرّ إليه بسر عظيم:
_"أول مصيبة وقعت في بيت عامر… نادين، بنتهم، اطلّقت."
لحظة صمت ثقيل مرّت في المكان، قبل أن ينفجر رزق ضاحكًا ضحكة عميقة خشنة، كأنها خرجت من صدره حاملة سنين من الكيد:
_"اتطلّقت؟! … يا خيبة عامر ويا خيبة بنته!"
ضرب بعصاه على الأرض بقوّة، ونهض واقفًا يتجول في الصالة بخطوات ثقيلة، وصوته يعلو من شدّة الفرح:
_"أهو ربنا فضحهم قدام الناس. اللي كانوا شايفين نفسهم علينا، واللي بنتهم ما ترضاش تبص لابني ولا لعيالي، النهاردة مطلّقة… مكسورة."
سعاد تابعت كلامه بوجه متلذذ بالشماتة:
_"أيوه يا رزق… أنا أول ما سمعت في الحارة قلت لازم أجيلك أبشّرك. شوف بقى الناس هتتكلم إزاي عليهم. هي نادين دي عمرها كانت تعرف تمشي بيت؟ ولا تستحمل راجل؟ الكبرياء كسرها في الآخر."
وقف رزق أمامها، وانحنى بجسده قليلًا وهو يلوّح بسبابته، وقال بنبرة مملوءة بالسخرية:
_"اللي ما يعرفش يعيش بعقله يتكسر برجليه. ودي نادين مثال حي. كانوا بيقولوا يوسف غلبان وهي اللي بتتحكم فيه؟ أهه… شوف في الآخر مين اللي وقع."
قهقه مرة أخرى، ثم جلس وهو يضرب بيده على مسند الكرسي بقوّة:
_"والله يا سعاد، الخبر ده يخلّي قلبي يبرد. أهو بيت عامر بدأ يتشرخ من جوه… والباقي جاي."
بعد ما انتهى رزق من ضحكاته العالية وتعليقاته الحاقدة، قامت شهد من مكانها وهي تتحرك بخفة مصطنعة، واضعةً حجابها علي خصلات شعرها بتأنٍ، ثم قالت بنغمة لينة وكأنها تريد أن توصل رسالتها بوضوح:
_"ماما… أنا رايحة بيت عمي، أطمن عليهم."
التفتت إليها سعاد بسرعة، وابتسامة رضا متعجرفة ارتسمت على ملامحها، بينما قالت وهي تنظر في عيني ابنتها نظرة محملة بمعانٍ:
_"روحي يا بنتي… دي ساعة الخير. روحي وسندي بنت عمك، وأهو تبقي وش السعد عليهم."
قاطعهما رزق وهو يهز رأسه في رضا ويقول بصوت أجش:
_"ماشي يا حبيبتي… روحي. إنتِ وش الخير، وهتبقي في الآخر وش العز علينا كلنا."
لم تُعلّق شهد، لكنها ابتسمت بخجلٍ مُفتعل، وخرجت من البيت متوجهة نحو بيت عمها عامر الملاصق تقريبًا لهم.
"رواية ظل البراق للكاتبة مريم دياب "
دخلت شهد بيت عمها بخطوات هادئة، وكأن الحزن يغطي ملامحها. عينيها نصف مطأطئتين، ووجهها مرسوم عليه مسحة اصطناع واضحة. في الصالة وجدت مفيدة الجدة، جالسة بجلالها المعتاد، وبجوارها فريدة عمتها، بينما جلست انتصار، زوجة عمها، في المقابل، متكئة على الأريكة ببرود لا يخلو من نفور.
ابتسمت شهد ابتسامة صغيرة ثم مدّت صوتها ناعماً:
_"السلام عليكم يا تيتا…و يا عمتي… ويا مرات عمي."
ردّت الجدة بهدوءٍ حنون:
_"وعليكم السلام يا حبيبتي… اتفضلي."
أما انتصار فاكتفت بنظرة مقتضبة، تبعتها ضحكة ساخرة قصيرة لا يسمعها إلا من يراقبها عن قرب. في داخلها قالت: "جايه تتعاطفِ؟ ده انتِ وأمك بتفرحوا فينا فرحة عفاريت."
جلست شهد بينهم، وهي تتصنّع الحزن وتقول بنبرة حزينة:
_"فين نادين؟ والله العظيم زعلت أول ما سمعت اللي حصل… قلبي وجعني عليها."
رفعت انتصار حاجبها بسخرية وهي تتأملها للحظة، لكنها لم ترد. أما الجدة مفيدة، فأجابتها بنبرة دافئة:
_"نادين فوق يا بنتي."
ابتسمت شهد بخفة وقالت بسرعة:
_"طب أطلع أشوفها… يمكن كلمتين مني يهونوا عليها."
لكن قبل أن ترد الجدة، سبقتها انتصار بصوتٍ حاد بعض الشيء:
_"نادين مش حابة تشوف حد دلوقتي. خليكِ هنا يا شهد."
أحست شهد بالغيظ يعصر قلبها،هي كانت تنوي أن تقول لنادين كلام يجعلها تتعصب، لكنها غطّت ذلك بابتسامة مُتكلّفة وهي ترد:
_"ماشي… زي ما تحبوا."
تدخلت فريدة، عمتها، محاولة كسر التوتر:
_"أجبلك تشربي إيه يا شهد؟"
هزّت شهد رأسها بخفة وقالت بمسكنة:
_"ولا حاجة يا عمتي… أنا جيت أطمن بس."
ثم مالت بنظرها في أرجاء الصالة، تسأل بعفوية متصنعة:
_"هو محدش هنا غيركم؟"
أجابت الجدة بهدوء بسيط:
_"أيوه يا حبيبتي… عمك والأولاد في الشغل."
عندها انطفأت لمعة الأمل في عينَي شهد للحظة، وشعرت بالخيبة تزحف على ملامحها. كانت تنتظر أن تلمح مهاب ولو من بعيد، وها هي خطتها توشك أن تفشل.
جلست دقائق قصيرة، تردّد كلمات عامة عن الاطمئنان والدعاء، ثم نهضت قائلة بلطفٍ متكلف:
_"أستأذنكم بقى… ماما محتاجاني."
ودّعتها الجدة بابتسامة رقيقة، وأومأت فريدة، بينما اكتفت انتصار بنظرة باردة مقتضبة.
خرجت شهد من بوابة البيت بخطوات سريعة يغلفها الغضب والغيظ، وفي داخلها بركان صغير يتأجج: "كل ده وفي ما شفتوش! طب ماشي… مش نهاية الدنيا."
لكن القدر كان يخفي لها لحظة انتظار. فبينما هي خارجة، فوجئت بمهاب ومازن يدخلان من البوابة. كاد قلبها يقفز من مكانه، وانفرج وجهها بابتسامة مباغتة.
قال مازن بصوته الساخر المعتاد، وهو ينظر إليها بخبث:
_"الله! شهد رزق بنفسها عندنا؟ يا مرحب يا مرحب."
ابتسمت شهد بخجل مُفتعل، ثم حوّلت نظرها سريعًا نحو مهاب وقالت بلطفٍ متصنع:
_"جيت أطمن على نادين… إزيك يا مهاب؟"
أجابها مهاب بهدوءٍ تام، وجهه جامد لا يكاد ينطق:
_"بخير… إزيك إنتِ يا شهد؟"
سارعت ترد بخفة، وعيناها تلمعان وهي تحدّق فيه:
_"بخير… طول ما انت بخير."
رفع مهاب حاجبه الأيسر قليلاً، في حركة تحمل إنذارًا صامتًا، فأحست بالتوتر يجتاحها سريعًا، ثم صحّحت بارتباك:
_"قصدي يعني… طول ما العيلة كلها بخير."
قال بهدوءٍ بارد:
_"ماشي."
ثم تابع طريقه للداخل، تاركًا إياها خلفه.
ضحك مازن بخبث، وهو يتنقل بعينيه بين الاثنين، ثم اقترب من شهد وقال بصوت يحمل المغزى:
_"تحبي تدخلي تاني يا شهد؟ تقعدي أكتر مع أخويا حبيبي؟"
رمقته شهد بنظرة ضيق، وقالت وهي تمشي بعصبية:
_"لأ يا خويا… مش عايزة!"
وانطلقت نحو بيتها، والغضب يكسو خطواتها الثقيلة.
وما إن ابتعدت شهد بخطوات سريعة حتى أطلق مازن ضحكة قصيرة، وأدار رأسه نحو أخيه وهو يقول بخبثٍ لا يخلو من السخرية:
_"أنا بخير طول ما أنتَ بخير يا سي مهاب!، طب إيه يا سي مهاب؟!"
كان مهاب يسير بخطوات ثابتة، ملامحه جامدة لا تتحرك، كأنه لم يسمع شيئًا. ومع ذلك، التفت نحو أخيه قليلًا، ورد بنبرة هادئة متحفظة:
_"شهد بنت عمي يا مازن… ولازم تفضل في نظرنا كده."
رفع مازن حاجبه بدهشة ممزوجة بالضحك، وقال وهو يلوّح بيده:
_"بنت عمك آه… بس يا أخويا واضحة زي الشمس، عينها عليك من زمان. هو انت مش واخد بالك؟"
توقف مهاب لحظة، عينيه تلمعان بشيء من الحدة الخافتة، ثم أجاب ببرودٍ مقصود:
_"واخد بالي يا مازن… بس مش بحب ألعب بالنار."
ضحك مازن مرة ثانية، واقترب من أخيه وهو يغمزه بعينه:
_"نار؟ هي كده نار يا مهاب؟ دي بنت جميلة، وأهلها قاعدين يدبّوا الطبول عشان يجوّزوها لك."
أدار مهاب وجهه للأمام، واستكمل خطواته في اتجاه البيت، وصوته منخفض لكنه قاطع:
_"أنا عارف هم عايزين إيه… وعارف هي عايزة إيه. بس أنا مش عايز."
ساد صمت قصير بين الاثنين، قبل أن يهز مازن كتفيه باستهانة ويقول:
_"براحتك يا أخويا… بس والله لو حد تاني في مكانك كان طار من الفرحة."
ابتسم مهاب بسخرية خفيفة، ابتسامة أشبه بالظل، وقال دون أن ينظر له:
_"أنا مش أي حد يا مازن."
ثم دفع باب البيت بيده، ودخل تاركًا أخاه يضحك وحده، بينما ارتسمت على ملامح مازن نظرة تجمع بين الإعجاب باستعلاء أخيه وبين استغراب من بروده الذي لا يتغير.
عادت شهد إلى البيت بخطوات سريعة، وجهها متورد وعينيها تلمعان بفرحة طفولية. دفعت الباب ودخلت لتجد أمها سعاد جالسة في صدر الصالة، تراقبها بعين فاحصة.
قالت سعاد بنبرة فضولية:
_"إيه يا بنتي؟ شكلك راجعة مبسوطة… مالك؟"
جلست شهد بجوارها، وقد انفرجت ابتسامتها على اتساعها، وردّت بلهفة وهي تلوّح بيديها:
_"مهاب يا ماما… قابلته ،وأتكلنا شوية ."
ارتفعت حاجبا سعاد، وتلألأت عينيها بخبث وهي تقول:
_"يعني إيه؟ كلمك إزاي؟ قالك إيه؟"
تنهدت شهد بحماس طفولي:
_"ما قالش كتير… بس طريقته يا ماما! صوته كان هادي كده، وكلامه فيه احترام… أنا متأكدة إنه مختلف معايا عن كُل مرة مابيقفش حتي يرمي عليا السلام"
ضحكت سعاد بخفوت، وربّتت على يد ابنتها قائلة بثقة:
_"ما هو أنا قلتلك قبل كده… مهاب مش زي البقّية. قلبه جامد وصعب يبان عليه، لكن اللي في دماغه بيبان من عينه. واللي في عينه يا شهد… إنتِ."
احمرّ وجه شهد أكثر، وانحنت للأمام تخفي ابتسامتها، بينما ظلّت سعاد تراقبها بعين ماكرة، وكأنها بدأت تخطّط في صمت لاستغلال هذا الخيط الرفيع الذي تتصوره طريقًا لربط ابنتها بابن عمها.
...........
كان المساء قد حلّ على بيت رقية بعد يوم طويل. أغلقت المطعم مع مدام ناهد، ثم عادت إلى البيت منهكة لتجد أخواتها في انتظارها. جلسوا معًا على المائدة يتناولون الغداء، ثم قامت بعده لتساعد الحاج عمران في البقالة قليلًا قبل أن ترتفع الأضواء ويغلق المحل. وحين انتهى اليوم أخيرًا، عادت إلى شقتها الصغيرة، حيث جلست وسط نور وهنا في غرفة المعيشة.
كان الجو بينهنّ مزيجًا من التعب والهدوء، لكن مع لمسة دفء أسري لا يفارقهنّ. جلست نور متكئة إلى الأريكة، بين يديها كوب شاي ساخن ترفعه بين حين وآخر، بينما كانت هنا تقلب بكسل في كتاب موضوع بجانبها على الطاولة، والعيون تلتقط من حين إلى آخر ملامح رقية التي بدا عليها الإرهاق.
فتحت نور الحديث وهي تهز رأسها باندهاش:
– "يا نهار أبيض! يوسف طلق نادين فعلاً؟"
رفعت هنا عينيها بدهشة وردّت:
– "ايوه! الخبر ملأ الحارة كلها النهارده، وكل واحدة بتزود عليه من عندها."
قهقهت نور بخفّة وقالت:
– "يا بخت يوسف والله.. أخيراً خد قراره."
تدخلت هنا وهي تجلس باستقامة أكثر:
– "بس برضه حاجة تزعل، يعني مهما كانت نادين، الطلاق مش سهل، خصوصًا قدام الناس كلها."
أطرقت رقية قليلًا وهي تستمع لهما، ثم رفعت رأسها وسألت بهدوء:
– "طب قُوليلي.. سيف نام بدري كده ليه؟"
تبادلَت نور وهنا نظرات سريعة، صمتٌ قصير ثقيل خيّم بينهنّ. لم يعجب رقية هذا الصمت، رفعت حاجبها وأعادت السؤال بنبرة أكثر جديّة:
– "في حاجة حصلت النهارده وأنا معرفهاش؟"
تنحنحت نور قليلًا ثم قالت باستسلام:
– "هوّ… سيف اتخانق معايا الصبح. بقى عصبي بشكل مش طبيعي يا روقه، وكل كلمة صغيرة بيولع بسببها."
تنهّدت رقية ببطء، بينما حاولت "هنا "تهدئة الأجواء، فابتسمت ابتسامة مترددة وقالت:
– "يمكن عشان الدروس.. الضغط زايد عليه، وأنتي عارفة امتحاناته قربت."
بقيت رقية صامتة، عيناها تراقب كل واحدة منهما في صمت يختلط بالقلق. ثم قالت ببطء، وكأنها تحدّث نفسها أكثر مما تحدّثهما:
– "متغيّر! مش أنا بس اللي ملاحظة؟"
انخفضت أنفاس نور وهنا، تبادلا نظرات متوجسة، كأنهما يطلبان من بعضهما العون في الرد.
سحبت رقية نفسًا عميقًا ثم أرخته بهدوء، وأردفت وهي تحاول أن تُخفي القلق عن وجهها:
– "بلاش تقلقوا.. دي ضغوط الدراسة. يومين وهيبقى زي ما هو.. ما انتوا عارفين سيف."
اتسعت عينا نور بدهشة، وقالت وهي تنظر لأختها:
– "يعني مش هتعملي حاجة؟!"
أما هنا، فبقيت صامتة، تنظر إلى رقية وفي عينيها مزيج من القلق والتسليم.
ابتسمت رقية ابتسامة صغيرة، لكنها لم تصل إلى عينيها، ثم قالت بحسم:
– "أنا اللي عارفاه كويس.. سيف مش هيسيب نفسه للغلط، هو بس محتاج يهدى."
صمتوا بعدها، لكن الجو امتلأ بأسئلة لم تُقال، ونظرات متبادلة بين نور وهنا تُخفي خوفًا لم ينجحا في التعبير عنه. كانوا يتظاهرون أن الحوار انتهى، لكن في أعماق كل واحدة منهن كان إدراك صامت أن الهدوء الذي تُظهره رقية ليس استسلامًا، بل عاصفة مؤجلة.
لكن نور كانت أضعفهم في تحمّل الهدوء الثقيل، فابتسمت ابتسامة صغيرة وقالت وهي ترفع كوب الشاي:
– "يا بنات، أنا عندي اعتراف… بس ما تعايرونيش."
رفعت هنا حاجبها بخفة:
– "خير اللهم اجعله خير… هو إيه المرة دي؟"
ضحكت نور بخجل وفردت خصلات شعرها التي ظهرت أقصر من المعتاد:
– "قولت اقص الأطراف وبس ، ففضلت أقص أص لعند لما بقي كده."
شهقت رقية بحزن وقالت وهي تلمس خصلات نور:
_" ليه كده يانور؟ ابقي قولي لحد فينا يقصلك."
بينما "هنا" هنا وضربت كفها بكفها:
– "أحسن عشان شديتي شعري امبارح؟"
ابتسمت رقية رغم ثقل قلبها، وقالت بهدوء فيه حنان واضح:
– "بلاش شماته يابت ، بكره يطول تاني ، وبعدين دي بقت قمر ."
نور ارتسمت على وشها لمعة امتنان، وقالت :
– "إنتِ دايمًا بتشجعيني يا رقية،خدي بوسه."
واقترب سريعاً منها ، وطبعت قبله علي وجنتها ، فتعالت ضحكات رقية وهنا.
تنحنحت هنا بخفة وقالت بمرح :
– "طب ما تيجوا نقوم نعمل حاجة حلوة نختم بيها اليوم بدل ما نقعد ننكد على نفسنا بسبب شعر نور."
نظروا لها بقلة حيلة ، فقامت سريعاً وذهبت للمطبخ وعادت بعد لحظات وهي تحمل طبق صغير بِه بسبوسة .
– "يلا، نخلي يومنا مسكّر."
ضحكت نور ومدّت يديها بسرعة وخطفت أكبر قطعة وقالت:
– "أنا أخدت حصتي قبل ما حد يلحقني."
هنا ضحكت منبهرة وقالت:
– "بسم الله ما شاء الله… إيد صاروخية!"
رقية ابتسمت من قلبها وقالت وهي تهز رأسها:
– " وبتيجي الصبح تقولي عايزة أكل خفيف يا روقه عشان الدايت."
تعالت ضحكاتهم، والأصوات اتملا بها البيت الصغير، كأن الضحك يحاول طرد أي قلق أو حزن. جلست الثلاثة متلاصقات، وكل واحدة فيهم يترسم علي وجهها ابتسامة، حتى لو كان القلب يحمل هم، اللحظة نفسها كانت كافية تعطيهم دفء وسند.
هدأ البيت شيئًا فشيئًا بعد أن انطفأت الأضواء في غرف أخوتها، وكأن الليل قد مدَّ أجنحته الثقيلة على المكان. وقفت رقية عند باب غرفة سيف تتردّد لحظة قبل أن تدفعه بهدوء، خشية أن توقظه إن كان غارقًا في النوم. تسللت بخطوات حذرة، وما أن اقتربت حتى وقع بصرها على ملامحه الغافية، تلك الملامح التي ما زالت تحمل طفولةً تعرفها جيدًا، لكنها في ذات الوقت تُخفي شيئًا لا تقدر على قراءته.
تسمّرت أمام سريره، وعيناها تتأملانه بعمق، ثم همست في داخلها، بصوتٍ لم تسمعه سوى روحها:
«يا ترى مخبّي إيه عني يا سيف؟ كبرت للدرجة دي، لدرجة إن اللي مربياك مش قادرة تقراك؟… أنا اللي كنت أعرف كل غمضة في عينيك، كل حركة في وشك… دلوقتي واقفة ومش فاهمة إنت شايل إيه جواك. زمان كنت تلجأ لي في أي حاجة صغيرة أو كبيرة، النهاردة بتبعد وبتسكت… وأنا مش عارفة أمد إيدي ولا أسيبك…»
ارتجفت شفتاها بخوفٍ لا تريد أن تعترف به، خوف أن يكون سيف يسير في طريقٍ لا تعرف نهايته. مدت يدها ببطء، رتّبت الغطاء عليه بحنو، ثم انحنت وقبّلت جبينه قبلةً طويلة صامتة، كأنها دعاءٌ لا يُقال، ثم اعتدلت وهي تحبس دمعةً حاولت أن تفلت، وأغلقت الباب خلفها بخفة.
انطلقت إلى المطبخ، صمت المكان يزيد من ثقل الوحدة، وضجيج أفكارها وحده يملأ رأسها. أعدّت كوب قهوة سوداء، كانت دائمًا ما تراها صديقتها في السهر والقراءة والتفكير. جلست لحظة بين البخار المتصاعد من الفنجان والسكينة الممتدة في البيت، تستجمع أنفاسها، ثم نهضت متجهة إلى غرفتها.
هناك، جلست على طرف سريرها، ووضعت المصحف بين يديها كأنها وجدت حضنًا واسعًا يأويها. فتحت على وردها، وبدأت تردّد بصوتٍ خافت، ثم استعانت بفيديو تجويد يشرح مخارج الحروف. انحنت على الشاشة، تركّز بملامح جادة، كأنها طالبة أمام أستاذها، تعيد الآية مرة واثنتين وثلاثًا حتى يخرج نطقها كما ينبغي. وفي كل مرة يصحّ لسانها، كانت ابتسامة صغيرة ترتسم على وجهها، ابتسامة من يعرف أن الطريق طويل لكنه مُصرّ على قطعه.
بين آية وأخرى، بين إعادةٍ وتدقيقٍ، انسابت ذكرياتها رغماً عنها. وجدت نفسها تعود إلى ذلك اليوم البعيد… يوم رحلت أمها. كانت في نهاية امتحانات الصف الثالث الإعدادي، وقتها بدا العالم كله مظلمًا، والدهم تخلّى عنهم وكأنه لا يعرفهم، كان قد تزوج زوجة أخرى وانشغل بحياته، فلم تجد هي وأخواتها سوى جدهم لأمهم سندًا. انتقلوا إلى بيت الحارة مع الجد، وهناك شعرت لأول مرة أنها مسؤولة عن ثلاثة وجوه صغيرة تتطلع إليها وكأنها أمهم. لم يمرّ سوى ثلاثة أشهر، حتى انطفأ الجد هو الآخر ورحل.
ابتلعت ريقها، وعادت تردّد الآيات، كأنها ترفض أن تترك نفسها تنهار مع الذكريات. لكنها لم تستطع منع عينيها من أن تلمع، وهي تتذكّر اللحظة التي رفضت فيها أي مساعدة من خالتها أو زوج خالتها. كانت صغيرة، لكن عنادها يومها كان أكبر من عمرها. قالت لنفسها: «لا… دول إخواتي، وأنا هاشيلهم على كتافي.»
تذكّرت كيف دخلت الثانوية التجارية بدلًا من الثانوية العامة، قرار لم يكن سهلًا، لكن لم يكن أمامها غيره. أرادت أن توازن بين الدراسة والعمل، أن توفر لقمة عيش ودفتر وكراسة. ذهبت إلى المدرسة أيامًا قليلة تكفي فقط لتجنب الإنذارات، وكان المدرسون يعرفون ظروفها، فيغضّون الطرف رحمةً بها.
في يدها الآن مصحف، وفي أذنها صوت قارئ يشرح أحكام المدود والغُنّة، لكن في قلبها تتردد أصوات أخرى: أصوات خطواتها وهي تكنس الكوافير في أول عمل لها، أصوات الزبائن في محل الملابس، نداءات السوق حين كانت تبيع الخضار، ضحكات زميلاتها في المطعم وهي تنظف الطاولات، رائحة الزيت والدخان في الكافيهات، والإبرة والخيط مع الخياطة… شريط طويل من الأدوار التي أدّتها لتصل بأخوتها إلى بر الأمان.
ابتسمت وهي تتذكّر: رغم كل ذلك، أنهت الثانوية التجارية بمجموع مرتفع جعلها الأولى على المحافظة. كان يمكنها أن تلتحق بالجامعة، كان يمكنها أن تكتب لحياتها مسارًا مختلفًا، لكنها اختارت أن تبقى. تنازلت عن حلمها لتمنح إخوتها أحلامهم. لم يشعروا يومًا أنهم أقل من غيرهم، لم تُثقل كواهلهم بذكريات الحرمان، لم تُعايرهم يومًا بأنها ضحّت من أجلهم.
رفعت يدها تمرّرها على وجهها، ثم أغلقت المصحف بحنان، كأنها تحتضن كنزًا. حدّثت نفسها وهي تنظر إلى سقف الغرفة: «يمكن أنا تعبت كتير… بس ما اندمتش. أهم حاجة إن إخواتي يكملوا، ويحققوا اللي ماقدرتش أحققه.»
أخذت رشفة من قهوتها التي بردت قليلًا، وعادت تفتح وردها من جديد، عينان متعبتان لكن قلب لا يعرف الاستسلام.
.............
مرّ أسبوعان على هذه الاحداث، أسبوعان لم تغيّر شيئًا في يوميات الحارة لكنها غيّرت الكثير في تفاصيل النفوس. نادين غابت عن المشهد تمامًا، وكأنها صفحة طُويت من كتابٍ لم يعد أحد يرغب في قراءته. يوسف لم يعد يذكر اسمها حتى، لا مع نفسه ولا مع غيره. وحين حاول والداه أن يتدخلا ليُعيد النظر، ردّ بهدوءٍ حاسمٍ لا يقبل الجدل:
"الموضوع انتهى."
ببساطة، كأنها لم تكن، وكأن ما حدث كان سحابة صيفٍ عبرت. بادر بإرسال كل حقوقها دون نقاش، ثم أغلق الباب وراءها بإحكام. الشقة التي عاشا فيها معًا، بدّل أثاثها وديكورها بالكامل، وكأن ذاكرة الجدران تحتاج إلى إعادة كتابة. صار بيته بيتًا جديدًا، صار هو يوسف فقط، لا يوسف زوج نادين.
في بيت المهدي، كانت هنا ونور غارقتين في كتب الجامعة. امتحانات نصف العام بدأت، والبيت لا يكاد يهدأ من أصوات الأوراق المتناثرة، وأقلام التسطير، والهمسات الليلية عن مادة صعبة أو سؤال لا يُفهم. رقية تتابعهم بعين الأم والأب معًا، تُجهّز لهم الأكل، تُذكّرهم بالراحة، ثم تتركهم ليعودوا إلى دفاترهم من جديد. سيف ما زال كما هو، صامت، متقلب المزاج، لا يفصح عمّا يجول بداخله. كلما حاولت رقية أن تقترب أكثر، وجدت حائطًا جديدًا يُقام بينهما، لكنها لم تيأس بعد، فهي تعرف أن الصمت الطويل يخفي وراءه دائمًا شيئًا أكبر.
في بيت البراق، لم يكن رزق وزوجته يُخفون خططهم ولا أحقادهم. أحاديثهما الليلية لا تخلو من همسٍ عن "حق ضايع" و"مكانة ناقصة"، وكأن حياتهما كلها تُدار حول فكرة واحدة: كيف يسقط الآخر. شهد ما زالت تُلاحق مهاب بكل وسيلة، تظهر في المعرض أحيانًا، وفي الطريق أحيانًا أخرى، تبتسم، تُلقي السلام، تحاول أن تزرع حضورها في كل مكان يطأه. لكنه لم يكن يرى. أو بالأحرى: كان يرى ويتجاهل.
خالد البراق اختار الصمت، صمتًا مُريبًا. جلوسه الطويل، قلة كلامه، نظراته التي لا تكشف ما وراءها، كل ذلك لم يبشّر بخير. أما عبدالله، فقد غرق في كتبه في أول عام له بكلية الهندسة، لا يرفع رأسه إلا للضرورة، كأن مستقبله وحده هو المعركة التي يخوضها الآن.
الحارة من بعيد بدت كما هي: حياة يومية، أصوات أطفال يركضون، نساء يتبادلن الأحاديث، دكاكين تُفتح وتُغلق، لكن خلف كل ذلك، كان كل فرد يعيش حكاية تخصه وحده.
في بيت عامر البراق، دارت الحياة كما اعتادها الجميع. الجدة تجلس في صدر البيت، مسبحتها لا تفارق يديها، تتابع كل حركة بنظرة الحكيمة التي رأت الكثير. النساء بين المطبخ والحديثات اليومية، والرجال يتنقلون بين الورشة والمعرض. لكن وسط هذا كله، لم يَبدُ شيء جديد… إلا في قلبين مختلفين.
مازن البراق، الذي لم يزل يعيش على صدى لقاء واحد، على خناقة صغيرة بدت عابرة لكنها فتحت له بابًا على عالمٍ لم يكن يعرفه. منذ أن اصطدم بـ"هنا المهدي" وهو لا يستطيع أن يخرجها من رأسه. صار يذهب كل صباح إلى مدخل الحارة، يقف في مكان خفيّ، يختبئ خلف زاوية أو يستند إلى جدار، فقط ليحظى بلمحة عابرة منها وهي في طريقها إلى الجامعة. لا يُخاطر بأن تراه، لا يجرؤ على الاقتراب، لكنه ينتظر. ينتظر كمن ينتظر رزقًا مكتوبًا. وفي الليل يعود إلى فراشه يفكّر: كيف استطاعت فتاة واحدة أن تُشعل في قلبه هذا الحلم الكبير؟ حلم بيت معها، وأسرة معها، حياة معها… وهي لا تعرف حتى بوجوده.
أما مهاب البراق، فقد ظلّ أكثر عزلة. هو الذي يجلس فوق سطح البيت كل ليلة، بعيدًا عن الضوضاء، ممسكًا بأجندته وقلمه، يكتب ويكتب. يكتب لها وحدها، للتي ملكت قلبه منذ كان في العشرين.
جلس في تلك الليلة الشتوية الباردة، والسماء من فوقه صافية إلا من غيوم متفرقة، والنجوم تلمع كبقع من الأمل. أمامه فنجان شاي بارد لم يمد يده إليه، وبجواره أجندة مفتوحة، كتب فيها أسطرًا كثيرة.
"هي نجمة بعيدة، تختفي حين أبحث عنها، وتظهر حين أغضّ الطرف. أمدّ يدي فلا أصل، أنادي فلا تُجيب. كل ما أملكه أن أنظر، أن أكتب، أن أحتفظ بهذا الشوق في قلبي."
رفع عينيه للسماء، فوقع بصره على نجم وحيد بعيد، خافت الضوء، كأن الغيم يُخفيه عمدًا. ابتسم بمرارة وقال في نفسه:
«هي كده بالظبط… قدام عيني طول الوقت، قريبة مني… بس برضه بعيدة أوي.»
أغلق الأجندة لحظة ثم أعاد فتحها، وكتب بخط متعجّل:
"لماذا أخاف أن أبوح؟ أأخاف الرفض؟ أم أخاف أن أحمّلها همًا فوق ما تحمل؟ لكن… أليس الحب عزاءً لا عبئًا؟ أليس كلمة صادقة قد تُنقذ قلبين معًا؟"
شدّ معطفه على جسده من لسعة البرد، ووقف ببطء. نظر للحارة النائمة تحت قدميه، بيوتها الملتصقة، أزقتها الضيقة، كل شيء مألوف منذ طفولته، ومع ذلك يشعر أنها غريبة من غيرها. رفع رأسه مرة أخرى للسماء، وقال بصوتٍ مسموع هذه المرة:
– "بس ليه ما طولهاش؟! لحد إمتى أفضل ساكت؟ كده كتير… قلبي تعب."
سكت قليلًا، ثم تنفّس بعمق كأنه يُطلق سراح قرار طال انتظاره:
– "أنا هتكلم معاها بكرة. هقول لها. مش قادر أكتب أكتر من كده. الكتابة ما بقتش تكفيني… جه وقت الكلام."
أغلق أجندته، التقطها بيده كأنه يُمسك قلبه نفسه، ثم نزل السلم ببطء، تاركًا خلفه السماء والنجوم، وحلمًا لم يعد يريد أن يظل حلمًا.