رواية ظل البراق الفصل التاسع 9 بقلم مريمة


 رواية ظل البراق الفصل التاسع 

"لم تكن الحياة سهلة، لكنها لم تكن تنوي أن تشتكي.
اعتادت أن تخبّئ الوجع خلف ابتسامة، والخذلان خلف كوب شاي تعدّه بإتقان.
في عينيها بريق امرأة لم تأخذ وقتها لتتدلل، وفي قلبها صبر أنضجته المسؤولية مبكرًا."
......

في الحياة تتباين الصور كما تتباين الألوان، فما بين حارةٍ شعبية تضج بالحركة والوجوه المألوفة، إلى أماكن أكثر هدوءًا ورُقياً، يتضح الفارق الكبير بين العوالم التي لا يفصلها أحيانًا سوى شارع أو اثنان.
في أحد الأحياء الراقية التي تسكنها الطبقة فوق المتوسطة، بدا المشهد مختلفًا تمامًا. شارع طويل، مصطف على جانبيه صفوف من الأشجار الخضراء التي أضفت ظلًا وارِفًا، تتخلله رائحة أوراقٍ مبللة بندى الصباح. السيارات الحديثة تقف في صفوفٍ منظمة على الجانبين، وكأنها جزء من صورة محسوبة بعناية. على ناصية الشارع تنتصب عمارة عالية تتوسطها لافتة مضيئة تشير إلى صيدلية كبيرة، وبجوارها سوبر ماركت فخم لا يكاد يخلو من زبائنه طوال اليوم.

وبين تلك المباني الحديثة، برزت عمارة مختلفة، لا هي شاهقة الارتفاع كغيرها، ولا هي متواضعة الحجم؛ بل كانت متفردة وسطهن، تحمل طابعًا خاصًا ميّزها عن البقية. بابها الرئيسي أنيق، من الحديد المطلي باللون الأسود اللامع، يجاوره لافتة محفور عليها بخطٍ أنيق: "عمارة الدكتور محمد الهاشمي". أمام الباب جلس البوّاب على مقعدٍ خشبي صغير، يراقب الداخل والخارج بعينٍ يقظة.
العمارة مُحاطة بسورٍ متوسط الطول، وبداخل السور حديقة صغيرة تملؤها الورود الملونة والزرع المُهذّب بعناية، تعكس ذوقًا رفيعًا واهتمامًا مستمرًا. كان المبنى مكوّنًا من خمسة طوابق متناسقة، طُليت جدرانه بلونٍ بيج فاتح، تعلوها شرفات بحديد مشغول متشابك، يمنح المكان هيبة وأناقة.

في الطابق الأول، حيث المساحة أقل من البقية بعدما اُقتطع جزءٌ منه ليُضاف إلى الحديقة، يعيش البوّاب مع زوجته وولديه. أما الطابق الثاني والثالث فكانا مختلفين عن النظام المعتاد؛ إذ اتخذا شكل "الديوبلكس"، فهما مفتوحان من الداخل على بعضهما، يربط بينهما سُلَّم داخلي أنيق، يضم بين جدرانه العائلة الأساسية لمالك العمارة.
الطابق الرابع ظل فارغًا، أُعدّ خصيصًا ليستقبل الضيوف متى شاءت العائلة أن تستضيف أحدهم، فغُرفه مؤثثة بعناية ومغلقة أغلب الوقت. أما الطابق الخامس فكان في طور التجهيز، أُعدّ ليكون عشًّا جديدًا لابن العائلة حين يتزوج، وكأن المكان يترقب حياةً جديدة ستُبث في جدرانه قريبًا.
في ذلك البيت الأنيق، في الطابق الثاني المتصل بالثالث عبر سُلّم داخلي خشبي لامع، تنبض أجواء الدفء العائلي. الأرضيات مكسوّة برخام فاتح اللون، يتخلله بعض السجاد الشرقي الذي يضفي لمسة من الحميمية. الأثاث مُرتّب بدقة، وستائر ناعمة بلون بيج فاتح تسمح بمرور الضوء الصباحي ليغمر المكان براحةٍ وهدوء. الهواء يحمل عبير الزهور القادمة من الجنينة الصغيرة أسفل العمارة، وكأن البيت يتنفس مع أهله.
 يعيش هُنا اللواء" هاشم الهاشمي"، الرجل الذي ترك الخدمة بعد أن فقد زوجته منذ اثنتي عشرة سنة. رغم حزنه الكبير وقتها، أصرّ على البقاء بمفرده في شقةٍ أخرى ، وكأنه أراد أن يظل متمسكًا بذكرياته القديمة بعيدًا عن ضوضاء الآخرين. لكن تقدّم العمر والمرض الذي داهمه مؤخرًا جعلاه يلين أمام إلحاح ابنه، فانتقل ليعيش بينهم في هذا البيت الكبير.
هاشم، رغم بلوغه الثانية والسبعين، لا يبدو عليه عمره؛ جسده لا يزال رشيقًا، وملامحه قوية، وصوته يحمل حزمًا لا يخفى. رجل اعتاد القيادة والانضباط، لكنه أيضًا يحمل قلبًا محبًا لأولاده وأحفاده، يفيض حكمةً وتجربة.
إلى جانبه يعيش ابنه الدكتور محمد الهاشمي، أستاذ كبير في كلية التجارة، له سمعة طيبة بين طلابه وزملائه، معروف برقيّ معاملته وحرصه على مساعدة طلابه في أي أزمة، كما اشتهر بحبه العميق لزوجته ووفائه لها.
زوجته عائشة، امرأة هادئة الملامح، يزينها نقابها الذي لم تخلعه منذ اختارت ارتداءه. جميلة القلب والروح، حنونة لدرجة أن دفئها يملأ البيت، عملت معلمة في سنوات سابقة لكنها تركت عملها طواعية حين رأت أن بيتها وأولادها يحتاجونها أكثر.
– مروان الهاشمي، معيد في كلية طب الأسنان، يبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا، شاب حسن الخَلق والخُلق، جاد في عمله، محبوب بين زملائه، وموضع ثقة والديه وجده. يتميز بوقاره وهدوئه، لكنه في الوقت نفسه قريب من القلب.
– هُدي الهاشمي، أصغر أفراد الأسرة، في عامها الأخير بكلية الصيدلة. فتاة هادئة الطباع، رقيقة الأسلوب، قريبة من أمها وجدها، وهي الصديقة المقربة من نور المهدي، تقضي معظم وقتها بين كتبها ودروسها، لكنها لا تفقد روح المرح والحنان.
هكذا كان هذا البيت يجمع بين ثلاثة أجيال: الجد، والابن وزوجته، والأحفاد. أجواء من الألفة والحب والسكينة، حيث يلتقي الجميع حول مائدة الطعام كل صباح ومساء، في مشهد يعكس قوة الروابط العائلية وعمقها.

في قلب هذا المكان، كانت عائشة، واقفةً في المطبخ تضع أطباق الطعام على الصينية الكبيرة بيدين متمهلتين، وابتسامة راضية لا تفارق وجهها.  
دخل الدكتور" محمد الهاشمي"، بملامحه الوقورة ونظارته الطبية الرقيقة التي تُعطيه هيئة المثقف الرزين، ليقف إلى جوار زوجته
ويحمل عنها الطعام ليضعه علي السفرة. ابتسامته كانت عريضة، وصوته يحمل حنان الزوج المخلص وهو يقول وهو يمد يده ليمسك بطبق:
– "سيبيه يا عائشة، أنا هحطه ."
رفعت رأسها تنظر إليه بعينيها اللامعتين ، وقالت بصوتها الرقيق:
– "يا دكتور، هو أنا ماسكة حاجة؟ أنت كل مرة تيجي تساعدني، وأنا عارفة إن عندك شغل ومشغولياتك كتير."
ضحك بخفة، واقترب منها أكثر كأنه يريد أن يبوح بسرٍ لا يسمعه أحد، وقال بنبرةٍ فيها غزل لطيف:
– "مشغولياتي كلها ولا تسوى لحظة وأنا واقف جنبك… وبعدين، هو أنا كنت بتجوزك عشان أسيبك تعملي لوحدك؟ وأنا روحت فين يا عائش."
تنفست" عائشة "بارتباكٍ خفيف، ووضعت الطبق من يدها ثم تمتمت وهي تطرق برأسها حياءً:
– "ربنا يخليك لينا، ويبارك فيك… دايمًا بتعرف تقول كلام يلين القلب."
في تلك اللحظة، انفتح باب المطبخ ودخل اللواء هاشم  بخطوات ثابتة
وقف أمام الطاولة ينظر إليهما، ورسم على شفتيه ابتسامة دافئة، ثم قال بنبرةٍ مازحة وهو يرفع حاجبه:
– "هو أنا لو ما دخلتش دلوقتي، كنتوا هتنسوا الأكل وتفضلوا تتغازلوا؟"
ضحك "محمد "وهو يشيح بيده كأنه يُبعد التهمة عنه:
– "يا والدي، ده غزل محترم، ما فيهوش حاجة!"
قال جملته بمرح وحمل الطعام ليرتبه علي السفره
أما "عائشة "فقد توردت وجنتاها كفتاة مراهقة، وأخفضت رأسها خجلًا وهي تتمتم:
– "الفطار جهز خلاص يا بابا… لسه العيال ما نزلتش؟."
ذهب هاشم تجاه السفره وجلس على مقعده، ثم مد يده ليمسك كوب الماء ويرتشف قليلًا منه قبل أن يقول بنبرةٍ فيها دعابة ممزوجة بالجدية:
– " نادي على العيال اللي لسه نايمين فوق سريرهم دول يا عائشة… ولا أنا اللي لازم أطلع أصحيهم بكوباية الميه؟"
قبل أن تجيبه عائشة، انقطع صوتها بوقع خطواتٍ من السُلّم الداخلي. ظهر مروان الهاشمي، طويل القامة، عريض المنكبين، ملامحه هادئة لكن مفعمة بالثقة. بشرته السمراء الخفيفة تضفي على وجهه وسامةً خاصة، وعيناه الهادئتان تُشعان بالجدية. كان يرتدي قميصًا بسيطًا وبنطالًا داكن اللون، وبيده كتاب صغير لا يزال ممسكًا به وكأنه كان يراجع شيئًا قبل أن ينزل.
ابتسم وهو يلمح جده جالسًا على السفرة، وقال بصوتٍ واثقٍ مطمئن:
– "صباح الخير يا جدي… صباح الخير يا أمي… صباح الخير يا بابا."
رفع اللواء هاشم نظره إليه، وأشار بيده نحو الكرسي بجواره وهو يقول:
– "صباح النور يا مروان… تعال اقعد جنبي يا بطل. شكلك صاحي من بدري ."
ضحك "مروان "بخفة وهو يضع الكتاب على الطاولة:
– "صاحي من الفجر يا جدي، كان عندي شوية محاضرات براجعها. أنا بحب أبدأ يومي بدري."
تدخل "محمد" وهو ينظر بفخر إلى ابنه:
– "هو دا اللي متعود عليه منك، الدكاترة عندك في الكلية بيشكروا في شغلك قوي."
نظر "مروان " له وقال بغرور مصطنع:
_" ده شئ طبيعي يا بابا ، ده أنا مروان الهاشمي برضوا!"
ولم يكد مروان ينتهي من جملته، حتى انقطع حديثهم بخطواتٍ أخرى رقيقة، ونزلت من السُلّم هدي الهاشمي، ترتدي ثوبًا فضفاضًا بلونٍ سماوي، وحجابًا أنيقًا يغطي شعرها. كانت هادئة الملامح، بعينين كبيرتين مليئتين بالبراءة، وابتسامة صغيرة لا تفارقها. 
قالت بصوتٍ مرحٍ وهي تنزل آخر درجة من السلم:
– "المعلم مارو يا ناس."
تعالت الضحكات ونظر لها مروان برفعة حاجب وقال بضيق:
_"معلم!! حسبي الله يا مشوهه شخصيتي."
ابتسمت عائشة من قلبها، وقالت:
– "اقعدوا افطروا بس ، وكملوا خناقكم بعدين."
جلس الثلاثة حول السفرة، الجد في صدر المجلس، محمد بجواره، وعائشة تراقب بحب، بينما جلس مروان وهدي متقابلين. كان الجو مليئًا بالسكينة، والضحكات الصغيرة التي تخرج بين الفينة والأخرى، كأن هذا البيت لم يعرف يومًا إلا الألفة والمودة.
بعد أن انتهوا من تناول الطعام، جلسوا قليلًا يتسامرون حول السفرة. كان الجو مليئًا بالطمأنينة، الأطباق نصف ممتلئة، وضحكات خفيفة متناثرة. ثم وضع "مروان" الكوب جانبًا ومسح فمه بمنديل وقال وهو ينظر إلى والده وجده:
– "يلا يا جماعة، أنا لازم أتحرك… عندي محاضرات بدري."
ثم التفت نحو أخته بابتسامة:
– "يلا يا هدى، قومي أوصلك معايا الكلية قبل ما أتأخر."
ابتسمت "هدي " وهي تضع الكتاب جانبًا وتستعد للقيام:
– "ماشي ياعم ، يلا قبل ما الدكتور يدخل ويقفل الباب."
في تلك اللحظة، رفع الدكتور" محمد" ساعته ينظر إليها وقال بنبرة جادة:
– "وأنا كمان لازم أتحرك… عندي محاضرة الساعة تسعة."
وقف وهو يسحب كرسيه للخلف، ثم مال نحو زوجته عائشة وقبّل جبينها بلطف، قائلاً بصوتٍ خافت يكاد لا يُسمع إلا لها:
– "ادعيلي."
ارتسمت ابتسامة حنونة على وجهها وهي ترد بهمس:
– "ربنا يحفظك."
ثم التفت محمد نحو والده، انحنى يقبّل يده باحترام عميق، وقال:
– "في رعاية الله يا بابا."
ربّت اللواء هاشم على كتفه بحنو:
– "ربنا يسهلك يا بني، ويزيدك علم ونور."
غادر الدكتور محمد بخطوات واثقة، وبعده نهض مروان بدوره، اقترب من أمه فقبّل يدها، ثم وقبّل يد جده أيضًا، وقال بمرح:
– "استودعكم الله يا أجمل عيلة."
ضحك الجد وربت على ظهره:
– "استودعك الله يا حبيبي"
أمسك مروان بحقيبة ظهره، وأشار لأخته كي تتبعه. تقدمت هدي بخطوات هادئة، اقتربت من والدتها فقبّلت يدها ثم قبّلت جبين جدها وهي تبتسم ابتسامة رقيقة:
– "دعواتك يا جدي."
أمسك الجد يدها لحظة وقال:
– "ربنا يوفقك يا حبيبتي ويحميك."
ثم خرجت مع مروان، وأصواتهما تختلط بالمداعبات الخفيفة والنقاش حول الكلية والمحاضرات، حتى أُغلق الباب وراءهما.
عمّ الصمت فجأة، وكأن البيت ابتلع الضوضاء دفعة واحدة. نظر اللواء هاشم إلى عائشة بمرح وقال وهو يضحك:
– "وأخيرًا… البيت رجع هادي."
قهقه بخفة وهو ينظر بزوجة ابنه ثم أضاف ممازحًا:
– "تعالي بقى نلعب دورين شطرنج"
ضحكت عائشة بمرح محبب وهي تهز رأسها:
– "عينيا يا سيادة اللواء… أعملنا كوبايتين قهوة واجيلك."
قال بمزاح وهو يرفع حاجبه:
– "كوباية قهوة من إيدك دي تساوي بطولة."
ضحكت أكثر، وغادرت نحو المطبخ بخفة، بينما جلس هو يعدّ الشطرنج على الطاولة الصغيرة بجوار الشرفة، ينتظرها كأنها رفيقة معركة وليست مجرد زوجة ابنه.

في صباحٍ باردٍ من صباحات الجامعة، كان المدخل الرئيسي يغلي كخلية نحل. سيارات تتوقف وتنطلق بسرعة، طلبة يسيرون في جماعات متفرقة، أصوات ضحكات، ونداءات الأصدقاء تتعالى. الهواء محمّل برائحة البنزين الممزوجة برائحة القهوة التي يبيعها أحد الباعة الجائلين عند الرصيف، مع حفيف أوراق الأشجار التي تصطف على جانبي الطريق المؤدي إلى الكليات.
توقفت سيارة سوداء أنيقة عند البوابة، محركها ما زال يعمل بخفوت، وبداخلها جلس مروان ، يده تستريح على المقود وعيناه ثابتتان على الطريق أمامه. إلى جواره، جلست شقيقته هُدى، ترتّب حقيبتها وتتفقد أوراق محاضراتها.
وقعت عيناها على شخص يسير غير بعيد وكانت نور المهدي. نظرت للحظة، ثم قالت اسمها بصوت شبه مرتفع واشارت يدها مشيرة نحوها، فتوقفت نور عن الحركة ونظرت يمين ويسار حتي رأت هدي فابتسمت لها، قالت "هدي " بفرحة:
ـ "مروان… خلاص هنا، أنا هنزل مع نور."

أوقف مروان السيارة مرة أخرى بهدوء، التفت بعينيه ليتبع إشارتها، وهناك لمح نور.
كانت تمشي بخطوات ثابتة، ترتدي فستان واسع، تحمل بعض الكتب في يدها. للحظة، شعر مروان أن الوقت قد تباطأ؛ ارتسمت على وجهه ملامح تشتّت عابر، ثم تدارك نفسه بسرعة. غمره شعور غريب، فخفض بصره سريعًا، وتمتم في سره باستغفارٍ صامت، كأنما يذكّر نفسه بالحدود التي لا يتجاوزها.
هُدى فتحت الباب، لكن قبل أن تنزل التفتت لأخيها بابتسامة مرحة:
ـ "خلي بالك من نفسك يا مروان، ما تتأخرش علي محاضرتك."
ردّ عليها بنبرة ثابتة، ناظرًا إليها بجدية أخوية:
ـ "إنتِ خلي بالك من نفسك… ولو احتجتي حاجة كلميني فورًا."
هزت رأسها بالموافقة:
ـ "حاضر، حاضر، متقلقش."
ثم نزلت بخفة، وأسرعت نحو نور التي توقفت فور أن رأت صديقتها تشير لها. ابتسمت نور بفرحة صافية، فتحت ذراعيها لتعانق هُدى بحرارة. تبادلتا ضحكة قصيرة، ثم اتجهتا معًا بخطوات متسارعة بداخل الجامعة، تتحدثان كأن الزمن لا يكفيهما لإفراغ ما في قلبيهما.

من داخل السيارة، ظل مروان يتابع المشهد للحظات، شفتاه ارتسمت عليهما ابتسامة خفيفة، لم يستطع منعها. كان في داخله شعور بالارتياح الغريب، شعور كأنه نسمة صافية وسط زحام اليوم. ضغط بيده على المقود، ثم تنفّس بعمق وأدار السيارة متجهًا نحو كلية طب الأسنان. ومع كل لفة لعجلات السيارة، كانت ابتسامته البسيطة تتعمّق أكثر، كأنه أخفى في قلبه سِرًا لا يريد أن يبوح به لأحد.
……………..

الصُحبة قد ترفع الإنسان أو تجرّه إلى قاعٍ لا قرار له؛ فالكلمة التي تُلقى على المائدة ربما تُغيِّر مسار عقل، والضحكة الماكرة قد تُزحزح قلبًا عن ثباته. وسيف، الفتى الذي لم يتجاوز السابعة عشرة، لم يكن يظن أنّ الجلوس المتكرر في الكافيه ذاته، مع الرفاق الجدد، قادر أن يبدّل من طباعه يومًا بعد يوم، حتى صار لا يكاد يعرف نفسه
في ذلك الصباح، العاشرة تمامًا، كان الموعد المعتاد لدرس الإنجليزية. لكن سيف، مثلهم، لم يذهب. اجتمعوا في الكافيه نفسه الذي صار مجلسهم الدائم؛ الطاولات في أماكنها المعتادة، والموسيقى الخافتة تعبث في الأجواء، والدخان يتصاعد في حلقات رمادية كسقفٍ غير مرئي.
جلس سيف معهم، أمامه كوب شاي ساخن لم يمدّ يده إليه بعد. رامي وإسلام وإيهاب كانوا قد أشعلوا السجائر، يتناوبون على النفخ والحديث، كأن الأمر عادة أزلية.
مدّ رامي يده نحو علبة السجائر، أخرج واحدة، وأمسكها بين أصابعه ثم مدّها لسيف بابتسامة واثقة:
رامي وهو يميل بجسده لقدّامه، ضاحك:
_ "يلا يا باشا، جرّب.. إيه يعني؟ مش هتاخد منك حاجة"
"سيف"، رمش بعينيه وتردّد، شد نفسه في الكرسي وقال بصوت خافت:
"لأ يا عم.. مش لازمة، أنا كده تمام."_
ضحك "إيهاب "بسخرية، وهو يضرب كفّه على الطاولة بخفة:
_"آه طبعا.. خايف من أخواتك البنات، صح؟ أصل البنات أكيد هيزعلوا لو لقوك بتدخن."
ارتبك "سيف"، هزّ رأسه نافيًا:
_"لأ يا عم.. بس مش حابب."
قهقه "إيهاب"، مالت شفته السفلى باستهزاء:
_"مش حابب ولا مش راجل؟"
ابتلع" سيف" ريقه بصعوبة، شعر بحرارة في وجهه، كأن الدم تدفّق فجأة لرأسه. حاول يضحك بخفّة عشان يغيّر الجو:
_"يا جدع سيبك.. أنا ماليش في الكلام ده."
ارتسمت ابتسامة جانبية على فم" إسلام"، مال برأسه وقال بنبرة مستفزة:
_"يا جدع، دي سيجارة.. مش مخدرات! دي حاجة كل الناس بتعملها، وبتخلّي الواحد رايق."
شعر سيف بشيء ينقبض في صدره. عقله يهمس له: "هو أنا بعمل حاجة غلط؟ مش يمكن عندهم حق؟". لكنه تراجع سريعًا وقال:
_"أنا مش ناقص مشاكل مع رقية.. لو عرفت، هتقطعني حتت."
في داخله، صوته القديم يصرخ: " رقية قالت إن التدخين حرام.. وإنه بيهلك الصحة. أنا وعدت نفسي أبقى غير."
قهقه" رامي":
_"رقية إيه يا عم!؟ إنت مش طفل علشان تقعد تستأذن. دي سيجارة يا راجل، يعني هتبقى راجل بجد ولا لأ؟"
ظلّ "سيف" صامتًا لحظات، عيناه معلّقتان بالدخان الكثيف أمامه، وصوته الداخلي يصرخ: "أنا مش ضعيف.. أنا مش صغير."
إسلام قرب السجارة أكثر، صوته منخفض لكن ملئ ب الإصرار:
_"جرّب مرة واحدة، وبعدها احكم. ولو مش عاجباك، ما تمسكهاش تاني. بس على الأقل تبقى جربت بنفسك."
بدأ قلب" سيف "يدق أسرع، يده ترتعش قليلًا، ثم مدّها متردّدًا، أخذ السيجارة من بين أصابع رامي. نظر لها كأنه يراها لأول مرة.
رامي، بابتسامة انتصار: 
_"آهو كده! برافو يا وحش."
أشعلها له إسلام بولاعة صغيرة، وعندما نفث سيف أول نفس، صدره التوى بعنف، عينيه دمعت، ضحكوا بصوت عالي.
"إيهاب" صرخ وهو يصفق بيده:
_"الله ينور! كده تبقى بقيت واحد مننا رسمي."
 حاول"سيف" أن يتماسك، مسح دموعه بكُم قميصه وقال بخجل ممزوج بعناد:
_"عادي يعني.. مش فارقة."
وضع "رامي" يديه على كتفه، أقترب منه وقال بنبرة فيها مكر:
_"لا فارقة يا حبيبي. إنت كده خطيت أول خطوة.. وبكرة تبقى زينا وزي أي شاب طبيعي."

ظلّوا يتحدثون بعدها عن الحياة، وعن البنات، وعن أحلامهم الكبيرة التي تنتهي دائمًا بضحكات عالية، بينما سيف كان يسمع ويضحك معهم، لكنه في أعماقه كان هناك حيرة؛ بين شعور خفي بالفخر أنه صار "راجل" في عيونهم، وشعور آخر ثقيل أنه بدأ يبتعد خطوة عن صورته القديمة التي تعرفها رقية وإخوته.
 صورة نور وهنا و—الأكثر—رقية، تومض في ذهنه. تذكّر تحذيراتها، ملامح وجهها وهي تقول دائمًا: "خليك راجل بحق، الراجل مش اللي يجرب الغلط، الراجل اللي يعرف يقول لأ."
..............
لم يكن قرارها سهلاً. فكرة أن تفتّش وراء سيف كوت قلبها كالنار، كأنها تعترف في داخلها بأنها لم تعد تثق فيه. ذلك الصغير الذي حملته على كتفيها منذ كان طفلًا، الذي كانت تسمع منه كل أسراره قبل أن ينطق بها لغيرها، صار اليوم يبتعد حتى صارت تضطر أن تسير خلفه في الظل لتفهم ما يحدث.
وقفت رقية أمام باب "السنتر"، ترددت لحظة، كأن الأرض تشد قدميها لتمنعها من الدخول. رفعت عينيها إلى اللافتة القديمة المعلقة أعلاه، تنهدت تنهيدة ثقيلة ثم أسرعت الخطى للداخل، تحاول أن تبدو واثقة، بينما قلبها يتسارع في صدرها.

في الداخل، كان الجو مشغولًا بحركة الطلبة وهم يتنقلون بين قاعات الدروس. اتجهت مباشرة نحو المكتب حيث يجلس شاب تعرفه جيدًا، محمد، مساعد مدرس الإنجليزي، ابن جارتهم القديمة وأخو إحدى صديقاتها. رفع رأسه فجأة، وما إن وقعت عيناه عليها حتى نهض واقفًا بلهفة صادقة:
ــ "أبلة رقية! نورتِ السنتر والله."
ابتسمت ابتسامة باهتة وهي تحاول إخفاء اضطرابها:
ــ "تسلم يا محمد. أخبار أختك ووالدتك إيه؟"
ــ "الحمد لله بخير."
هزت رأسها في هدوء، ثم قالت وكأنها تتساءل عرضًا:
ــ "سيف لسه ما خلصش الدرس؟"
تغيرت ملامحه في لحظة، انعقد حاجباه بدهشة:
ــ "سيف؟!"
نظرت إليه بتوتر، قلبها انقبض:
ــ "أيوه يا بني… أخويا. مالك؟"
ابتلع ريقه، بدا مترددًا للحظة، ثم قال بصوت خافت:
ــ "بس هو… هو مجاش النهارده يا أبلة."
كأن الكلمة سقطت عليها كصاعقة. جمدت مكانها للحظة، عيناها اتسعتا، والفراغ صار يطن في أذنيها. همست بصعوبة:
ــ "إزاي يعني؟"
تنحنح محمد، وكأنه يختار كلماته بحذر:
ــ "هو بقاله ٣ حصص ما بيحضرش درس الإنجليزي خالص. وكمان… ما حضرش آخر امتحان. درجاته بدأت تنزل في المواد التانية برضه."
شعرت كأن الأرض تميد بها. تمسكت بطرف المكتب كي لا تسقط، وابتلعت غصتها. سألت بحدّة مرتبكة:
ــ "متأكد يا محمد؟ يمكن غلط؟"
ــ "والله يا أبلة… أنا متأكد. اسألي المدرسين التانيين، كلهم بيشتكوا إنه تغيّب أكتر من مرة."

ساد صمت قصير. بداخلها، آلاف الأفكار تتزاحم. إزاي؟ إزاي سيف اللي ربّيته، اللي كان بيحكيلي عن كل تفصيلة في يومه… يخبي عليا كده؟ هو إيه اللي حصل فجأة؟ هو أنا قصّرت؟ ولا هو اللي اختار يبعد؟
حاولت أن تستعيد رباطة جأشها، رفعت رأسها وقالت بهدوءٍ مزيّف:
ــ "ماشي يا محمد… لو سمحت متقولش لسيف إني جيت النهارده. اعتبرني ما ظهرتش هنا."
ــ "حاضر يا أبلة."
استدارت لتغادر، لكن صوته لحق بها:
ــ "أبلة رقية!"
توقفت، التفتت إليه بنظرة متسائلة. بدا محمد متردّدًا، ثم قال بصوت جاد:
ــ "بصراحة… أنا بعتبر سيف زي أخويا الصغير. وهو بقاله فترة مصاحب عيال مش كويسة. أنا وحسن وواحد صاحبي حذرناه كتير… لكن مفيش فايدة."
كلمة "عيال مش كويسة" ارتجّت في قلبها، نبضاتها تسارعت. اقتربت خطوة منه، عيناها تتوهج قلقًا:
ــ "مين العيال دي؟"
أطرق رأسه قليلًا:
ــ "أساميهم رامي… إسلام… وإيهاب. دول ما بيحضروش دروس، وأغلب وقتهم في كافيهات. حاولت أوصل لأهاليهم، الأرقام اللي سايبنها في السنتر كلها مش بتاعتهم… أرقام كافيهات، مطاعم… أي حاجة غير حقيقية."

ظلّت صامتة للحظة، كأنها تسمع كلمات غريبة لا تصدّقها. أومأت برأسها ببطء، عيناها تلمعان بغصّة:
ــ "ماشي يا محمد… شكراً على اهتمامك. أنا هتصرف."
خرجت من "السنتر" بخطوات متثاقلة، وجهها شاحب كأنها فقدت دمها في لحظة. سارت في الشارع لا ترى المارة من حولها، عيناها معلقتان بالأرض، وداخلها عاصفة هوجاء.
سيف… أنت ليه بتبعد كده؟ هو إيه اللي ناقصك؟ هو أنا قصّرت؟ هو البنات أخواتك قصّروا؟ ولا أنت اللي قررت تجرب وجع الدنيا بدراعك؟
الطريق بدا أطول من أي وقت مضى. ضجيج السيارات صار باهتًا، المارة مجرد ظلال تتحرك. حتى وصلت إلى شارع جانبي شبه خالٍ، لم تستطع أن تكمل. جلست على رصيفٍ بارد في ركن قصي، دفنت وجهها بين كفيها، والدموع انسابت رغم محاولاتها كبحها.
كانت تشعر كأنها أم فقدت فجأة صلتها بولدها. قلبها يتمزق بين غضب وجرح عميق: غضب من سيف لأنه خان ثقتها، وجرح لأنها ظنّت أن تربيتها لم تكن كافية لتحميه من السقوط.
رفعت رأسها إلى السماء، شفتيها تتمتمان بدعاء صامت: "يا رب… ما تضيّعوش من إيديا. ما تخلّيش اللي ربيته عمر كامل يضيع في لحظة."
ثم مسحت دموعها بكفها، تنهّدت تنهيدة طويلة، ونهضت بصعوبة. كان عليها أن تعود إلى مطعمها… إلى حياتها… لكنها لم تعد هي رقية نفسها بعد تلك اللحظة.
دخلت رقية المطعم بابتسامتها المعتادة، تلك الابتسامة التي تحفظها كدرعٍ تقيها من انكشاف ما يعتمل بداخلها. رفعت صوتها بتحية سريعة وهي تعبر بين الطاولات، تتفقد بعينيها تفاصيل المكان بعادةٍ ترسخت فيها منذ سنوات. كان يوسف جالسًا على الكرسي الخشبي أمام ورشته، بجانبه مهاب، يحتسي كوب شاي وهو شارد.

ألقى" مهاب" نظرة سريعة نحو يوسف، صوته جاء خافتًا ممتزجًا بحماس واضح:
ــ "أنا هدخل دلوقتي."
ابتسم "يوسف" وهو يتكئ على مسند الكرسي:
ــ "اهدَى يا عم، لسه واصلة. سيبها تلحق تندمج في الشغل شوية… ما تتهورش فتصرخ في وشك."
رمقه مهاب بنظرة ضيقة، شفتيه انعقدتا بامتعاضٍ لم يحاول إخفاءه، ثم أعاد بصره إلى كوب الشاي وأكمل رشفه ببطء، كأنما يخفي غليانه تحت هذا التماسك الظاهري.

في الداخل، كانت ناهد،  تراقبها عن كثب. صحيح أن رقية دخلت بابتسامة، لكن العينين لا تكذبان. اقتربت منها وهي تمسح يديها في المريلة، صوتها منخفض لكنه مباشر:
ــ "رقية… كنتي فين؟"
التفتت" رقية" نحوها بسرعة، وكأنها توقعت السؤال، وقالت بهدوء متعمد:
ــ "في مشوار يخصني يا ناهد."
تأملتها "ناهد" لحظة، قرأت خلف عينيها ما لم تنطق به، ثم قالت بجدية هادئة:
ــ "أنا هنا لما تحبي تحكي."
سكتت رقية، تنهّدت بعمق وأغمضت عينيها لثوانٍ، ثم فتحتهما وقالت بصوتٍ محمّل بصدقٍ شفاف:
ــ "أنا عارفة."
ربتت ناهد على كتفها برفق دون أن تزيد كلمة، فعادت رقية لحركتها المعتادة، وانشغلت في تحريك الأطباق وترتيب الطلبات.

لم تمر خمس دقائق حتى كاد مهاب أن ينهض من مكانه متجهًا إلى  المطعم، وإذا بشخصٍ يتجه قبله، طويل القامة، ملامحه مألوفة ومزعجة في آنٍ واحد: خالد البرّاق.
توقف "مهاب" كمن صُدم بطلقة. التفت سريعًا نحو يوسف، صوته متوترٌ مكتوم:
ــ "جاي ليه ده؟ أنا هروح."
مد" يوسف" يده بسرعة وأمسك بذراعه، نظر إليه بعينين ثابتتين وصوتٍ حاسم:
ــ "اقعد وخليك عاقل. ده داخل مطعم عام… مش بيتكم. اثبت… لما نشوف آخره. ما تعملش مصيبة هنا."
أدار مهاب وجهه للحظة، أسنانه تنطبق بغضب، كف يده يقبض على نفسه حتى بيّنت عروقه. ثم جلس بعصبية، حركة جسده توحي بأنه يحترق من الداخل، وعيناه لم تفارق خالد وهو يتقدم بخطوات واثقة داخل المطعم، كأن المكان ملك له.

أما يوسف فظل ممسكًا بذراع مهاب ، ثم تركه ببطء وهو يراقب الموقف، مُدركاً أن أي حركة متهورة الآن قد تنتهي بانفجارٍ لا تحمد عقباه… وأن من سيدفع الثمن في النهاية لن يكون خالد فقط، بل رقية نفسها، الواقعة في المنتصف دائمًا
دخل خالد البرّاق المطعم بخطواتٍ واثقة كأن المكان ملكه، وابتسامة جانبية معلّقة على وجهه، فيها استعلاء ممزوج بجرأة. وما إن لمحته ناهد"، حتى رفعت حاجبها وقالت بضيقٍ لم تُخفه:"
ــ "الأكسجين قلّ في المكان."
التفت إليها "خالد "ببطء، نظرته مليئة بالتهكم وهو يردّ:
ــ "يبقى اخرجي شمّي هوا برا يا ناهد… وسيبيني مع القمر."
ارتفعت أنفاس رقية فجأة، أغمضت عينيها بضيق وهي تحاول أن تكتم انفجارها. كانت مشحونة من الأصل، مثقلة بالهموم، وأقل كلمة كفيلة أن تشعل بركانها. التفتت نحو نادية وقالت بصوتٍ مبحوح من العصبية:
ــ "اشتغلي مكاني… وإوعي الطعمية تتحرق."
أما ناهد، فخطت خطوةً تجاه خالد، عينيها تضيقان بحدة، وردّت بصرامةٍ تحمل ثقل السنين:
ــ "اسمي مدام ناهد. مش بلعب معاك في الشارع، ولو جاي تقول كلامك البايخ ده يبقى اخرج."

لكن خالد تجاهلها كأنها غير موجودة. ثبّت بصره على رقية، نظرة جريئة، فاضحة، ثم غمز لها بعينيه وقلبه يقطر وقاحة وهو يقول:
ــ "القمر مش هيحن؟"
رفعت" رقية" عينيها إليه بسرعة، نظرتها قاطعة كالسيف، وقالت بحزمٍ وهي تكاد تزمجر:
ــ "مش قالتلك اخرج؟"
قهقه "خالد" بسخرية قصيرة، وهز كتفيه وكأنه يستمتع باستفزازها:
ــ "لأ… هي مش مهمة عندي. أنا جايلِك إنتِ."
ضاقت عيناها أكثر، وارتفعت نبرة صوتها الحادة:
ــ "وأنا بقولك: اطلع برا."
شدّ" خالد" على أسنانه، صوت ضحكته صار باردًا وهو يضغط الكلمات:
ــ "إنتِ مش قدي يا رقية… فلمّي الدور."
تقدّمت خطوة نحوه، عينيها تشتعلان نارًا، وقالت بصلابةٍ نادرة:
ــ "أنا ما فتحتش الدور عشان ألمّه يا ابن رزق البرّاق. لآخر مرة بقولك،طلبك مرفوض. والحركات الرخيصة اللي بتعملها مش هتيجي معايا سِكة. فاخرج من هنا… ويستحسن ما تدخلش المطعم ده تاني."
ارتفع صوته ساخرًا، نبرته متعالية:
ــ "إنتِ بتقوليلي أنا كده؟! أنا خالد البرّاق… اللي البنات تتمنى إشارة منه؟"

قاطعتْه بنبرة واثقة، لا تحمل أي ارتعاش:
ــ "روحلهم… رقية المهدي ما تتمناش منك حاجة."
تبدّلت ابتسامته إلى ملامح غامضة، عيناه تلمعان بوعيدٍ مكتوم، اقترب خطوة حتى كاد صوته يلامس أذنها:
ــ "بُكرة تتمني يا روقة… بس خليك فاكرة إن مش أنا اللي انطرد من مكان… يا حلوة. سلام."

استدار خالد بخطواتٍ ثابتة نحو الباب، وفي اللحظة نفسها كان مهاب قد ترك يوسف خلفه ودخل بعصبيةٍ مكبوتة، غير قادر على الصبر أكثر. اصطدم به عند المدخل، والتقت العيون.
نظرة طويلة، حرب صامتة، خالد يبتسم ضحكة صفراء فيها تحدٍّ واستفزاز، بينما وجه مهاب جامد، خالٍ من أي تعبير، لكنه يقطر صلابة. لم يتحرّك أي منهما، كأن الزمن توقف بينهما، ثم مرّ خالد، وترك وراءه أثرًا ثقيلاً.

دخل مهاب، وخطوات يوسف تتبعه مباشرة. رحّبت بهما ناهد بصوتٍ مُرحب، بينما رقية ظلت واقفة مكانها، تحدّق إلى الباب كأنها تحاول أن تستوعب أثر كلماته. قلبها يعرف أن وراء كلامه شيئًا أكبر، شيئًا مريبًا قادم.

انتفضت قليلًا حين قطعت "نادية" الشرود بصوتها:
ــ "خلصت الطلبات دي يا أبله."
أومأت "رقية "ببطء وقالت بصوتٍ متماسك رغم الاضطراب في عينيها:
ــ "ماشي… كمّلي إنتي شُغلك… ونادي محمود يقف مكاني شوية."
وبالفعل، تركت رقية مكانها، وسط صمتٍ خفيف، كأن المطعم كلّه التقط أنفاسه بعد العاصفة.

ساد المطعم صمت ثقيل بعد خروج خالد، كأن الهواء نفسه أصبح أثقل من أن يُستنشَق. كانت ملامح مهاب متشنّجة، العروق بارزة في عنقه، وعيناه تتقدان بغضب مكتوم، ذلك الغضب الذي لم يحاول أن يخفيه. يوسف وناهد، وقد اعتادا قراءة لغة جسده، كانا يعلمان تمامًا أن شيئًا داخله على وشك الانفجار.
حاولت" ناهد" كسر هذا التوتر، فمالت بجسدها إلى الأمام وأسندت يدها على الكاونتر، متصنّعة خفة لم تكن حقيقية، وقالت:
–" ها بقى يا هندسة، تحبوا أعملّكم سندوتشات إيه؟"
يوسف التقط الخيط سريعًا، وكأنه ينقذ الموقف، فرد بابتسامة متكلّفة:
–" آه والله يا ناهد، جعان موت. هاتي كل اللي عندك."
ابتسمت" ناهد" وقالت بخفة:
–" عيوني يا واد، هجبلك أحلى أكل."
لكن" مهاب" لم يستطع مجاراتهم، فقاطعهم بحدة، صوته يقطّع الصمت كالسيف:
– "خالد كان بيعمل إيه هنا يا رقية؟"

تبادلت ناهد ويوسف نظرات سريعة، قبل أن يوجها أبصارهما إلى رقية. كانت جالسة خلف مكتبها، الدفتر مفتوح أمامها، وعيناها مثبتتان على الورق كأنها تهرب من المواجهة. أجابت بصوت بارد، لم يخلُ من التحدي:
–" مطعم وواحد داخل.. يبقى أكيد بيطلب أكل."
سارعت" ناهد" وقالت بنبرة متوترة رغم محاولتها الإخفاء:
– "أيوه.. كان جاي يطلب أكل. وخلاص مشي."
ابتسم "مهاب" بسخرية، وقال بنبرة مُحمّلة بالاتهام:
– "ولله؟ طب ما هو خارج من غير حاجة."
رفعت" رقية "رأسها نحوه، نظراتها ثابتة، وردّت بهدوء مصطنع:
–" ملقاش طلبه عندنا يا باشمهندس. حابب تعرف حاجة تانية؟"
شدّ" مهاب" على يده الموضوعة فوق الكرسي، كأنه يحاول أن يكبح بركانًا داخليًا، ثم قال ببطء:
–" حابب أتكلم معاكي في موضوع."
يوسف تدخّل على الفور، اقترب من مهاب وهمس له بنبرة جادة:
– "مش وقته خالص. صبرت كتير.. اصبر كمان النهارده عشان خاطري."
رمقه مهاب بدهشة، عينيه متسعتان من المفاجأة:
–" إنت اللي بتقولّي بلاش دلوقتي؟ إنت؟ مش إنت دايمًا اللي كنت تقولّي قولها؟"
"يوسف" هز رأسه بحزم، وواصل الهمس:
–" أيوه. بس دلوقتي لأ.  حصل هنا حوار مش قليل، ودماغها ناشفة زي الصخر. الكلام دلوقتي هيولّع الدنيا أكتر. اسمع مني، مش وقته."
أغمض مهاب عينيه للحظة، ثم زفر بعمق، كأنه يحاول أن يبتلع نيران صدره. التفت مجددًا نحو رقية وقال بنبرة مشوبة بالعصبية:
–" لو خالد بيدايقك إنتِ أو ناهد.. لازم تقوليلي."
يوسف وضع كفه على وجهه، وكأنه لا يصدق .

رفعت "رقية" عينيها للحظة، ثم أعادتهما بسرعة إلى الدفتر أمامها، وأجابت بهدوء فيه من البرود ما يكفي لإشعال غضبه أكثر:
–" تشكر يا باشمهندس. ابن عمك ما بيدايقش حد فينا. وحتى لو عمل.. إحنا نعرف نتصرّف."
ابتسم بسخرية وقال:
– "والله؟"
نظرت إليه بثبات، ثم قالت:
– "والله. تحبوا تاكلوا ولا تخرجوا عشان تهوا المكان؟"
ارتفعت ضحكة يوسف، عالية صافية كسرت بعضًا من التوتر، لكنها سرعان ما اختفت أمام ما حدث بعدها. نهض مهاب فجأة، خطواته متوترة، وقال بنبرة غاضبة:
–" كلت كتير يا بنت المهدي. وادي مكانك سايبه وماشي."
تحرك خارجًا بخطوات سريعة، "يوسف" لحقه وصرخ خلفه:
– "مهاب! استنى!"
لكنه لم يستجب، ركب سيارته وانطلق بعصبية، ترك خلفه غبارًا وصدى غضبه.
وقف يوسف في منتصف الشارع، مد يده إلى رأسه وكأنه يحاول أن يخرج منها الضغط المتراكم، وقال بصوت مرتفع يائس:
–" والله مجانين.. وجنّنوني معاهم".
عاد بعدها إلى ورشته ليكمل عمله، فيما ظل المطعم غارقًا في صمت ثقيل.
التفتت" ناهد" إلى رقية، نبرتها مليئة بالعتاب:
–" كده تمشّيه زعلان يا رقية؟"
انفجرت رقية فجأة، صوتها أعلى من العادة، ونبرتها مشحونة:
– "جرى إيه يا ناهد؟ ما يزعل.. أنا مالي! وبعدين أنا ما قلتش حاجة تزعل. ده مكان أكل عيش مش مكان للحكاوي."
تراجعت ناهد في صمت، مدهوشة من انفجار لم تعتد رؤيته من رقية، لكنها كانت واثقة أن وراء تلك العصبية ثقلًا أكبر مما يُرى.
أغمضت رقية عينيها، زفرت بعمق، ثم فتحتها من جديد، عادت إلى العمل بصمت، لكن قلبها ظلّ مثقلاً، كأن كل دقيقة في ذلك اليوم تمر كالدهر.

قاد مهاب سيارته بسرعة أكبر مما يلزم، كأن الطريق أمامه هو المتنفس الوحيد لغضبه. أصابعه تقبض بعصبية على المقود، وصوت أنفاسه يعلو داخل الصدر وكأنها تخرج محمّلة بالنار. الزحام لم يكن يعيقه، بل كان يضغط أكثر على أعصابه. كلما توقفت السيارات فجأة أمامه، كان يضرب بيده على عجلة القيادة، يتنفس بحدة، ثم يزفر بضيق.

ألقى بجسده إلى الخلف في المقعد، كأنما يريد أن يتفادى التفكير، لكنه لم يستطع. ضحكة رقية الباردة، ردها الحاد، وبرودها الذي كسر شيئًا بداخله ظل يتردّد في ذهنه. رفع صوته وهو بتحدث مع نفسه :
– "ماشي يا رقية.. ماشي! قاعد بحوشلك اللي بتعمليه ده. تمن سنين، وبتزودي عليهم كمان!"
ضغط أكثر على دواسة البنزين، وعيناه تتوهان في الطريق. عاد يتحدث مع نفسه بغيظ، وفي صوته ارتعاشة غضب وشيء من المرح القاتم:
–" بس والله.. والله العظيم.. توافقي بس! توافقي.. وأنا.."
توقف الكلام على طرف لسانه،  ضرب كفّه على المقود وضحك بمرارة:
–" بس هي توافق يا زفت! هي توافق بس!"

ارتفع صوت محرك السيارة، وتمايلت يمينًا ويسارًا بين العربات، ومهاب غارق في دوامة من الغضب والمرح الممزوج باليأس. كان كمن يحارب نفسه، يحاول أن يسيطر على ما لم يعد يسيطر عليه.
...............
خرج خالد من المطعم وهو يغلي من الداخل، خطواته سريعة، ونظراته متجهمة كأنها تحمل نارًا مكتومة. ركب عربيته وانطلق إلى حيث يعمل هو وأبوه؛ سوبر ماركت كبير يبعد عن الحارة بنصف ساعة، مكان واسع مضاء جيدًا، يزدحم بالزبائن، ويُدار بعناية ليُظهر عائلة البرّاق في صورة لامعة.
دخل خالد متجهّم الملامح، صعد إلى مكتبه في الطابق العلوي بسرعة، أغلق الباب خلفه بعنف، وألقى بجسده على الكرسي، ثم مدّ يده إلى هاتفه المحمول واتصل برقم محفوظ بعناية.
ردّ الطرف الآخر بصوت خافت لم يُسمع، فاكتفى خالد بالقول بصوت منخفض لكن يحمل نبرة أمر:
ــ "إنت فين؟"
ثم ابتسم ابتسامة قصيرة باهتة وهو يسمع الرد، وقال:
ــ "كويس… في تقدم. خليك ماشي زي ما أنا قايلك، وما تعملش حاجة من دماغك."
ساد صمت قصير، ثم عاد يعلّق بلهجة واثقة:
ــ "لا… تستحق طبعًا. عدي عليّ في السوبر ماركت، وهديك اللي إنت عايزه."
أنهى المكالمة وهو يزفر، ثم أسند ظهره للكرسي وأغلق عينيه لحظة، قبل أن يفتحها من جديد وهو يتمتم ببطء:
ــ "هانت يا خالد… ووقتها… تضرب الكل ضربة واحدة."
كان صوته ممتلئًا بالغموض، وابتسامة متوترة ارتسمت على شفتيه، كأنّه يخطّط لشيء أكبر من مجرد نزوة عابرة.
---
انقضى النهار بكل ما حمله من ثِقَل وتوتر، ومع ذلك ظلّت رقية محافظة على هدوئها أمام إخوتها، خاصةً سيف. تعاملت معه كأن شيئًا لم يكن، لم تُظهر غضبًا ولا عتابًا، بل كأنها أطفأت نارها في داخلها وأبقت ابتسامتها البسيطة على وجهها حين نادته أو طلبت منه شيئًا. نور وهنا لاحظتا ذلك، لكنهما التزمتا الصمت احترامًا لمساحتها. أما سيف، فكان في داخله يعرف أن عيني أخته تحملان ما لم تنطق به شفتاها، ومع ذلك شعر بالارتياح لأن العاصفة لم تهب بعد.

حلّ الليل على الحارة، وبيوتها غارقة في هدوءٍ نسبي، لا يقطعه إلا همسات الناس وهي تتوافد إلى بيتٍ قديم في أحد أركانها حيث نُصب سرادق عزاء.
المصابيح المعلّقة على الأعمدة تبعث ضوءًا باهتًا، وصفوف الكراسي امتلأت بالرجال، بعضهم يقرأ القرآن بصوتٍ خافت، والبعض الآخر يردد الأدعية. النساء مجتمعات في الداخل، وأصوات البكاء المكتوم تخرج من بين الجدران.

وقف الشيخ "محمود" ــ إمام المسجد المعروف بحكمته ــ يتحدث إلى الجمع بصوت هادئ لكنه نافذ، كأن كلماته تتسلل إلى القلوب بلا استئذان:
ــ "يا إخوتي… الحياة قد تبدو طويلة في أعيننا، لكن الحقيقة أنها قد تنتهي في لحظة. نخرج من بيوتنا ونحن نظن أننا عائدون، وقد لا نعود. نخطط لغدٍ وبعد غدٍ، وربما لا ندرك مساء يومنا هذا. فلا تغرنّكم الدنيا ببريقها، ولا تستصغروا الذنوب، فإن الصغيرة مع الصغيرة تصير جبلًا يوم الحساب."
صمت قليلًا، ليترك أثر الكلمات يتغلغل، ثم تابع:
ــ "اجعلوا بينكم وبين الله سترًا من عملٍ صالح، وحافظوا على صلاتكم، على أمانتكم، على أهلكم وأولادكم. واعلموا أن ما نزرعه اليوم، هو ما سنحصد ثمره غدًا. من يزرع خيرًا يجد خيرًا، ومن يزرع شرًا يجني شرًا، والدهر لا يُبقي على أحد."

أطرق الحضور رؤوسهم في صمت، وارتسمت على بعض الوجوه علامات التأثر. كأن العزاء لم يكن لصاحب البيت وحده، بل صار تذكرة للجميع، بأن الموت أقرب إليهم مما يظنون، وأن العمر مهما طال فهو ظلّ قصير يختفي عند أوّل نورٍ من الآخرة..

stories
stories
تعليقات