رواية الرساله الاخيره كامله جميع الفصول بقلم أيات عاطف
-انتِ عارفه إنّ اللي بتعمليه ده غلط، مش كده؟
و مع ذلك مكملة فيه؟
بصتلها بهدوء وانا باخد نفس:
_لا يا نور مش غلط، أنا عارفه أنا بعمل إيه كويس.
ردّت عليا بانفعال:
-لا يا ليلي انتِ مش عارفه حاجه، و بجد لو ما فوقتيش هتدمري نفسك!
خدت نفس وهي بتكمل،
كأنها عارفه إنّ اللي هي هتقوله ده هيعصبني قد إيه:
-يوسف مش هيرجع يا ليلي!
بصتلها بعصبيه ودموعي اتكونت في عيني:
_لا هيرجع، هو وعدني إنه هيرجع يا نور، وانا مستنياه، مستحيل انساه.
ردّت بدموع:
-مش هيرجع يا ليلي، عشان يوسف مات!
يوسف مات يا ليلي!
وانتِ لحد دلوقتي مش قادره تستوعبي ده.
دماغي حسّت إنها وقفت عن التفكير،
مرة واحدة لقيتني انفجرت وقعدت أعيط
و نور خدتني في حضنها تهديني.
من ساعة ما يوسف مات وانا مش قادرة استوعب
انه خلاص مشي ومش هشوفه تاني.
عقلي دخل في حالة نكران،
مش قادر يصدق إنه مات.
اقنعني إنه موجود لسه، هو بس بعيد،
و هيرجع قريب.
بس لما نور واجهتني بالحقيقة دي دلوقتي،
مقدرتش أمنع نفسي من اني أنهار،
انـهار على إنه سابني ومشي، وعلى إني مش قادرة أقبل حياتي وهو مش فيها!
---
طلعت من حضن نور ببطء،
لسه دموعي سايبة أثر على وشي،
بصّتلي وهي بتمسح دموعي وقالتلي بنبرة هادية كأنها بتحاول تثبّتني:
-كل حاجة هتبقى تمام يا ليلي، صدقيني…
انتِ لازم تشوفي حياتك، لازم تبصي قدام.
فتحت بقي أعترض، حسّيت الكلمة محبوسة في زوري ومش قادرة تخرج:
_بس يا نور…
قطعت كلامي بسرعة كأنها مش عايزة تديلي فرصة أهرب من الحقيقة:
-ليلي، يوسف عدى على وفاته سنتين!
سنتين يا ليلي، وانتِ لسه حابسة نفسك في الوهم.
لازم تغيري ده، لازم تفوقي وتعيشي حياتك من تاني.
فضلت أبصّ ليها، عيني ثابتة على عينيها بس وداني مش سامعة غير دقات قلبي.
هزّيت راسي بهدوء، ماعرفتش أرد، ماعرفتش أقول غير حركة صغيرة كأني موافقة،
بس جوايا كل حاجة كانت بترفض.
رجّعت عيني للفراغ اللي قدامي.
الحوائط اللي كنت شايفاها من دقيقة بقت مجرد ضباب، كل حاجة بقت ساكتة،
كأني دخلت في عالم تاني.
جوايا صوت بيهتف:
"هتنسيه إزاي؟ ده يوسف حبك الأول، ضحكتك معاه، أحلامك اللي بنيتيها على صوته، حتى خوفك كنتي بتحسيه أمان وهو جنبك."
إزاي أنسى؟! هو كان الدنيا كلها بالنسبة لي.
كان الروح اللي مكنتش أعرف إنها موجودة لحد ما هو لمسني بحبه.
بس عقلي، عقلي الغتيت رجع يرد عليا:
"ليلي، لازم تفوقي، ماينفعش تفضلي كده.
العمر بيجري، واللي راح مش هيرجع. لو فضّلتي حابسة نفسك في الماضي هتضيع منك حياتك كلها."
حسّيت إني متقطّعة بين قلبي وعقلي.
قلبي ماسك في يوسف زي الطفل اللي ماسك في إيد أمه ومش عايز يسيبها.
وعقلي واقف بعيد، شايفني وأنا بتأذى، وبيصرخ فيا: "سيبي، سيبي وإلا هتغرقي."
بصراحة أنا مش عارفة أسمع مين فيهم.
مفيش يوم بيعدي إلا وصوت يوسف بيرن في دماغي: "متخافيش، أنا معاكِ."
وكأنّي عايشة على الصدى ده بس، مش قادرة أصدق إنه مات.
حتى ريحته لسه موجودة في هدومه اللي محتفظة بيها في الدولاب، حتى رسائله اللي قريتها آلاف المرات ولسه حافظة كل كلمة فيها.
نور كانت قاعدة جنبي، ساكتة، ي
مكن مستنية مني أي كلمة.
بس أنا فضّلت في صمتي،
غرقانة في دوامة جوا دماغي.
سألت نفسي سؤال وجعني:
"يا ترى هقدر أنساه يوم؟"
والإجابة جت أسرع من دموعي:
"لا مش هقدر. ازاي أنسى وأنا لسه بنام على ذكراه وبصحى على حلمه؟"
بس في نفس اللحظة، جزء صغير جوايا، ضعيف وصغير أوي، قالي:
"لازم تحاولي، حتى لو مش هتقدري،
لازم تحاولي عشان تعيشي."
وساعتها حسّيت إني في معركة مش بتنتهي،
معركة بين قلبي اللي لسه عايش مع يوسف،
وعقلي اللي بيشدني للحياة…
بس الحقيقة الوحيدة اللي كنت واثقة منها…
إني لسه مش مستعدة أسيب يوسف،
ولسه مش مستعدة أواجه يوم من غير ما أستناه يرجع.
---
"الساعه 6 صباحًا"
طلعت من البيت بدري، قبل ما الدنيا تصحى بكتير، الساعة كانت ست الصبح والشوارع فاضية فعلاً، مفيش غيري وطيور بتعمل ضوضاء بعيدة.
المشي على البحر كان هوايتي القديمة اللي بقت نادرة، نافذة صغيرة بعيدة عن الكلام اللي جوّا صدري.
قعدت على الرصيف جنب البحر، البرد ماسك إيدي، والهوا بيشلّ شعري ويدهشني بنشاطه. لما بصّيت، لقيت نفسي مش فاكرة آخر مرة خرجت فيها بجد، مش علشان أهرب، مش علشان أتظاهر، لأ علشان أعيش لحظة بسيطة لوحدي.
النسيان كان غريب، ولا أنا اللي نسيت ولا الزمن اللي وقف. حطيت شنطتي جنب ركبتي، وطلعت الدفتر والقلم. الدفاتر دي بقت ليّا زي مظلة، أحط جواها كل الحاجات اللي معرفش أقولها لأي حد.
كتبتله الرسالة كلها مرة واحدة،
حرف حرف، من غير تردد:
"عَزِيزِي يُوسُفْ
أعْلمُ أنكَ تَرَانِي كُلَ لَيْلةٍ وأنَا أبْكِي عَليّ فُقْدَانِي لكَ
أشتقتُ إليكَ،
الجَمِيعْ يَطْلُبْ مِنِي أنْ انْسَاكَ وانْكَ أصْبَحتَ مَاضِي
و لَكِنْ كَيفَ انْسَاكَ وانتَ تَسْكُنْ دَاخِلَ فُؤَادِي؟
و لَكنْنِي قَررْتُ انْنِي سَأُحَاوِل انْ امْنَحَ نفسِي فُرصَه
للحيَاه مَره اُخريّ،
و كَمْ يُحْزِنُنِي انْ افْعَلَ هَذَا بِدُونِكَ.
و لَكِنْ أرِيدكَ أنْ تَعلمْ انْكَ سَتَظل فِي قَلبِي دَائِمًا
عزِيزْتكَ لَيليّ"
خلصت كتابة، وكنت حاسّة بارتياح غريب،
كأني شلت حمولة تقيلة من على كتفي.
قلبي لسه بيوجع، لكن الحمل قلّ شوية.
رفعت راسي وبصيت للبحر..
موجه بيرجع تاني ويخلّي كل حاجة تتلألأ شوية.
وأنا بغرق في الصمت والشرد، سمعت صوت من جنبي: -كنت فاكر إن مفيش غيري بييجي يقعد عند البحر في الوقت ده وفي فصل ديسمبر كمان.
التفت على طول. قدامي راجل قاعد على نفس الرصيف، كان في نظره هدوء متعب علي وشه.
رديت عليه بهدوء، وكأني مش عايزة أنقطع عن الصمت اللي لسه مخيّم عليا:
_لا فيه عادي.
هو قعد جمبي من غير ما يستأذن، وبقى في سكون خفيف، بعده قال بصوت هادي:
-اسمي نوح.
ابتسمت له ابتسامة صغيرة، ورديت:
_ليلي.
طول ما أنا قاعدة، بحس إن الكلام اللي جوّا الدفتر بقي يزعجني أكتر من لما كان واقف برايا.
نوح بَصّ عليا وكان فيه فضول مش متصنّع،
سألني بهدوء:
-بتكتبي؟
_آه، رسالة.
سكت لثواني، وبعدين سالني:
-لمين؟
بصيتله و حسّيت كده إنّي لازم أقول،
يمكن الكلام لو خرج يبقى أخف:
_لي يوسف…
نوح راح يبص للبحر وبعدين رجع يبصلي:
-مافيش داعي تشرحي لو مش عايزة.
بس لو حابة، أنا بسمع.
كان في صوته حاجة تقنعك إنك تحكي. فحكيت. حكيتله عن يوسف ، عن الضحكة اللي كانت بتخليني طايره، عن الوعد، عن الموت اللي جه فجأة وحرق كل الحاجات اللي اتبنت على كلمة "هنرجع". حكيتله مش كله، بس كفاية علشان أشعر إن في حد بيشوف.
بعد شوية، نوح حكالي عن حياته من غير ما أطلب. كان عنده نبرة كلام بريئة شوية،
كأنه بيبص للعالم لأول مرة:
-أنا بقيت باجي هنا كل يوم من شهرين،
عادة صباحية. بحب الصمت المعتم لأنه بيرجعلي حاجات بفتكرها. أنا كمان فقدت حد،
بس بطريقة مختلفة، مش نفس الحزن بتاعك.
بس اللي فهمته إنه مهما كان مش ممكن نمحي اللي فات، نقدر نعيش معاه، لو اخترنا نكمل.
سألته بنبرة فضولية:
-انت فقدت حد؟ إزاي؟
قال بصوت هادي:
-أه، فقدت أختي من كام سنة. كانت بتحب البحر قوي. كنت بفكر أمشي بعيد عن المكان اللي كله ذكريات،
بس اكتشفت إن الهروب مش حل.
عشان كده بقيت أجيله كل صباح،
وبحكي مع البحر، البحر بيسمع.
ضحكت، كانت ضحكة خفيفة من النوع اللي بيرجع لي إحساس إن الدنيا لسه فيها ناس.
سألني نوح فجأة:
-هو أنتِ بتحسي إنك غلطانة؟
إنك لو نسيتيه هتكوني خونتِ مشاعرك؟
الأسئلة اتقلبت في دماغي، ورديت عليه بصراحة:
-ساعات بحس إني بحتفظ بحاجة من حقيّ.
كأنّي بخون الذكرى لو طلعتها.
نوح كان بيبصلي بحنية:
-الذكرى مش بتطلب منك تفضلي فيها لحد ما تموتي معاها. ممكن تحتفظي بيها في مكان أدفى،
مكان يدفيلك الألم بدل ما يسخنه.
الذكري مش بتتفقد لو حبينا نعيش.
الكلام ده كان بسيط لكنه وقع جوّا قلبي بطريقة ما توقعتهاش. حسّيت إن في باب اتفتح،
باب صغير بس نافع.
بعد كده بقينا نتكلم ساعات عن الحاجات الغريبة اللي بتشد الواحد لنفسه، عن الأحلام،
عن الأغاني اللي بتوريك على ناسك،
عن حاجات بسيطة زي القهوة. نوح كان بيسأل وأنا بجاوب، وحسّيت إن الحوار مش ضغط،
بالعكس، كان خفيف علي قلبي.
قبل ما نقف، قال كلمة واحدة بسيطة:
-لو جيتي هنا بكرة، أنا هبقى هنا.
ما قلتلوش غير كلمة صغيرة:
-ممكن.
وقفت ورجعت الدفتر في شنطتي،
حسّيت إن النهارده قلبي اتحرك شوية،
مش كتير لكن حركة.
ومش معنى إنّي اتكلمت مع حد يعني نِسيت.
خالص. بس يمكن بقيت أقل
تعب شوية من الليلة اللي قبلها.
والمهم حسّيت إن في احتمال صغير إنّي أعيش شوية، حتى لو مش مع يوسف،
حتى لو مع ناس تانية أو بصحبة صمت البحر.
---