رواية تراب القمر ( كاملة جميع الفصول ) بقلم نورهان علام

 

رواية تراب القمر كامله جميع الفصول بقلم نورهان علام

"دا جنان رسمي!
عاوزيني أوافق أتجوز واحد معرفوش لمجرد أن عداوة العائلتين تنتهي!"

"أنا مش بخيرك، بحور العداوة دي لازم تجف منابعها، وهما عرضوا الصلح، مينفعش إحنا نرفضه!"

"ليه على حسابي!
ليه أنا أدفع تمن عداوة بدأت قبل ما اتولد، ليه عاوز تقهر زي ما قهرتوا جدتي!"

"بلاش تتخطي حدودك في الكلام يا ورد."

"أنا مش موافقة وعمري ما هأوافق، إيشمعنى أنا اللي طلبوها، يا عمي أنت عندك ٣ بنات وعمي فوائد عنده بنتين، وعمتي نادية عندها عندها أربع بنات، ليه بنت هارون هي اللي مطلوبة!"

"قولتيها بلسانك آهو!
أنتِ المطلوبة، أنا ابني راح في العداوة دي، اقفلي باب العداوة يا ورد، ارضي بالمكتوب، وشهادة حق، عيلة الصدّيق عمرها ما تيجي على حُرمة أبدًا."

أحلامي!
صحابي!
بيتي، أمي، شغلي، حياتي كلها، وأهم من كل دا قبر بابا!
معقول هسيب كل دا؟ من زمن وأنا مافيش ذرة كره في قلبي لأي شخص من عيلة الصدّيق؛ أصل ناس عجيبة: تجيلهم بنت أخوهم تقولهم إن أبوها عاوز يزوجها غصب، وتتحتمى فيهم، ويخسروا في سبيل حمايتها بدل الرجل اتنين، ويقع في حبها الابن البكري لكبير العائلة، فيرفض أنه يتجوزها من غير ما يقدم لها كل حقوقها، وراح يطلب يداها قصاد البلد كلها من أبوها، وأبوها يشهر عليه سلاحًا ويصيبه في كتفه!
وهو يروح يقول لها "إيه يرضيكِ؟" 
فتقوله "رضا أبويا الأول"
فتكون في حمايته عشر سنين لغاية ما أبوها بياخدها ويجوزها غصب من تاني ويخفيها عن العيون، لغاية ما تموت من حزنها!
وحبيبها يحلف أنه ما هيسيب حد فيهم إلا لما يموته حزنًا على روحه وحبايبه كلهم!

البنت دي تبقى جدتي، وأبويا هو الابن البكري من الزواج المغصوب، ورغم كده إلا أنها كانت بتحبه، وسمته على اسم حبيبها هارون: هارون آل صدّيق.

كنت بفكر في ماضي جدتي، وبفكر في مستقبلي؛ بيقولوا الماضي عبارة عن تكرار، يا ترى هموت من حزني ولا نلاقي حب عمري هناك؟"

———————————————————————

"يوسف وهدان هارون آل صديق!
أول مرة أسمع اسمه جوزي وأشوفه كانت لحظة كتب الكتاب، والمأذون بيسألني عن رضاءه، مكنتش عارفة أوصف إحساسي؛ حاسة برجفة خوف بتسري في جسمي. كنت قريت في مذكرات جدتي جملة:

"ما رأيتُ من رجال آل صديق إلا كل خيرًا، ما عرفت معنى الرجولة والمروءة إلا في حضرتهم، كانوا كالظلال يظلون عني ما يحرقني من الخارج، كنت أبتسم وأنا أرى أن نساء آلصديق يرضعن أولادهم شهامة وقوة لا حليب..."

قطع تفكيري خبطتين على الباب، اتفضّت من الخوف، وبلعت ريقي برعب وأنا محافظة على صمتي؛ أكِنّ في وحش كاسر برَّه الأوضة ثواني، وسمعت خبطتين أرق مع صوت رجولي هادي:

"آنسة ورد... أنتِ بخير؟
أنا يوسف..."

"عاوز إيه؟؟"

قولتها بخوف وصوت فيه رعشة، فلقيت صوته الهادي من تاني بيقول:

"أنا بس كنت جايب لكِ العشا... محبتش أبعت حد به، عشان مدرك إنكِ أكيد متوترة وخايفة ومكنتش حابب حد يشوفك كده."

"أنا مش عاوزة أكل، مش عاوزة حاجة منك."

"طب ممكن نتكلم شوية... ممكن أدخل؟"

"أدخل."

قولتها بخشونة، فدخل وعينوه في الأرض، ساب الباب مفتوح شوية ومكنتش فاهمة هدفه، بس لقيته حط العشا على الترابيزة، وسحب مرسي التسريحة وقاعد بعيد شوية وقال:

"بصي... أبقى عبيط لو صدقتك إنك موافقة على الجوازة دي. أول حاجة عاوزك تعرفيها، إني محدش أجبرني 1% عليكِ. وتاني حاجة ودي مهمة جدًا، إحنا عقد زواجنا صحيح لأنك وافقتي شكلًا قصاد المأذون والحضور، لكن مؤجل البناء بيكِ لغاية ما ترضي؛ دا اللي هنتكلم فيه. أنا آه جوزك، بس ماينفعش أكرهك على لمسة أنتِ مش حباها، وأنا عمري ما أعمل كده. أنتِ في حضرة رجل، وعلى ذمة رجل. وقت ما ترضي نفسك وقلبك يطمن ليا وتبقي جاهزة أنا مستنيينكِ يا ورد. خليكي عارفة إني هعمل أي حاجة عشان تطمني، فبالله عليكِ بلاش نظرة الخوف دي."

قال كلامه وعينيه بتتحرك في كل مكان إلا ناحيتي. الجملة الأخيرة قالها وهو باسط في عيوني؛ كانت نظرته غريبة، مش مفهومة وموترة. قرب مني الأكل وقال:

"كُلي عشان أنتِ مرهقة من الصبح وأكيد من القلق نسيتِ تأكلي."

إنسان مريب، كلامه غريب ومريب زيّه. بعدت الأكل عني وقلت بوجس:

"أنت هتنام فين؟"

"دا الجزء اللي مقدرش أتحكم فيه بصراحة. الرجل مكانه جنب مراته، وجدي أصدر الحكم إنّي مينفعش أقعد في أوضة تانية، رغم إني والله طلبت منه دا قبل كتب الكتاب. عشان كده أنا هحضر فرشة معتبرة وهنام في الأرض، ولو مش مطمنة ممكن أنام في البلكونة. أنا أصلاً متعود أسهر فيها كتير."

سكت شوية بعد ما اتكلم؛ فضلت سارحة لغاية ما قلت:

"طب ممكن تخرج عشان أغير."

"عندك حمام في الآوضة تقدري تغيري فيه وتقفلي على نفسك، أنا خارج متقلقيش. وكمان الدولاب فيه كل حاجة ممكن تحتاجيها، وكذلك دولاب الحمام فيه كل حاجة تستخدميها. الآوضة دي بقت بتاعتك دلوقتي، وكل اللي تحتاجيه هتلاقيه موجود."

كنت مستغربة، والتفكير والتشكيك في كل حرف هلاكني؛ بس اخترت أهز رأسي بالموافقة، لأنه ببساطة مافيش حل تاني. أنا والتأقلم على الأوضاع غير المرغوبة صُحاب!

أخذت دش واتفاجأت أن حتى أنواع الشامبو اللي بستخدمها موجودة، وخرجت بهدومي تاني من القلق، لكن مكنش له أثر في الآوضة. فتحت الدولاب وكانت فيه هدوم ليا مع هدومه؛ كانت بيجامات ألوانها هادية، ألواني المفضلة. مكنتش فاهمة، مش غبية عشان أقول صدفة، بس دي حاجات محدش يعرف عنها. أنا بموت في اللون الأسود لكن مين يعرف إني بلبس بينك في البيت وبحبه!

مترددة أخرج بيجامة، عشان كده طلعت فستان بسيط من هدوم الخروج، بحيث إنه بكم وطويل، ولفة حجاب سريعة، وبعدين فضلت قاعدة. هل المفروض أفتح الباب؟ 
أخرج مثلاً؟ 
ولا أكون مطيعة وأقعد مكاني؟ 
بس مافيش حد قال أي حاجة عشان أطيعه فيها. قعدت أدور على موبايلي، فتحت الباب، كان قصاد الآوضة فاضي، لكن الصوت تحت واضح وكمان آخر مرة في صوت قوي:

"أنت مش قاعد عند مراتك ليه؟
خارِج من أوضتك دلوقتي ليه؟"

"يا أبويا افهمني، أنا طوعتكم في كل دا عشان يبقى ليا فرصة تاني أعيش حياة مختلفة، وإن هي تاخد فرصة تعيش من غير قلق وعداوة. أنا مش هغصبها على حاجة مينفعش تيجي إلا برضاها."

"تِتغصب ورَجلها فوق رقبتها كمان، مش هيجي اللي يضيع اسمنا على آخر الزمن!"

"محدش هيمس شعره منها طول ما أنا موجود."

كان يوسف وأبوه أعتقد، كلامه يطمن، لكني خفت أكتر وشكيت أكتر، والرعشة زادت أكتر. لما بتكون متوقعة سيناريوهات كتير بنهايات أبشع من بعض، ويحصل حاجة مختلفة تمامًا، بتحس إنك فقدت الرؤية، سيطرتك على الأحداث فقدتها. بقيت قاعد منتظر إيه هيحصل، والانتظار أثقل وأصعب الأشياء على القلب.

اتزعزعت بقوة لما اتنطق اسمي بنبرة صوت خشنة لكن الحنين ساكنها من سنين:

"ورد هارون."

لفيت ناحيةه، كنت متوترة خايفة، لكن تمالكت نفسي وأنا بحاول استوعب، من الوصف اللي سمعته عن الهيبة والهيمنة، القوة. أنا حاليًا قصاد هارون آل صدّيق، الحبيب الولهان اللي أعجبت به من كتابات جدتي عنه. أنا أعرفه، أعرفه كويس كمان.

"أيوة أنا ورد."

"عارف إنك ورد يا بنتي... عارف."

نبرته غريبة؛ نطقته لكلمة "بنتي" كان مزيجًا بين الحسرة والحنين، وحنية مش طبيعية في عيونه وهو بيبص لي، حنية حزينة لكنها بتوصل للقلب وتطبطب على وجعك. فضلت ساكتة، رعشة جسمي هدأت، وهو اتقدم ناحيةي وبلا سبق إنذار باس جبيني وحاوط كتفي وقال:

"نورتي بيتك يا ست البنات."

رعشة أقوى بكتير، مسرى كهرباء في دمي من كلامه، بعد عني خطوات بسيطة، وقبل ما أتكلم سمعت صوت يوسف من ورايا:

"آنسة ورد... أنتِ محتاجة حاجة؟"

صوته هو بالذات بيلخبطني؛ لا بعرف أحدد مشاعره ولا هدفه. هدوء بس، هدوء مريب جدًا. جسمي اتنفض من ضربة عكاز هارون على الأرض وهو بيقول بنبرة مهيمنة قوية:

"مين بيقول لمراته يا آنسة ورد؟ اسمها ورد هارون آل صديق دلوقتي، وحرمك. إياكم أسمع كلمة (آنسة) دي، وإياكم أسمع ورد هارون الغريب!"

قالها وكلماته الأخيرة كانت بعصبية رعبتني، كإن إعصار بيهدد بالانفجار على هيئة حروف. أنا فهمته؛ هو بيلغي صلتي بآل غريب، اللي هو جدي، الرجل اللي أخد حبيبته منه على حياته، وماتت بسببه على حياته. كلمات جدتي بترن في بالي عليه:

"إعصار مفاجئ، يخرج من شفتاه، يهدد بالدمار الشامل. كل هذا كان يحدث عند ذكر اسم آل غريب أمامه أو حوله، أو حتى في بيته. ذلك الرجل الذي أحسبه من فرط ثباته وقوته جذع نخيل لا يتزعزع، يأتي اسم واحد يجرده عن كل شيء ولا يبقى فيه غير إنسان ممزوج بالغضب... لا، حبيب ممزوج بالغضب، فإن غضب الحبيبِ أشد."

العاصفة انتهت، وهارون دخل مكتبه، نفس المكان اللي خرج منه يوسف وبقى فيه أبوه. كنت أنا ويوسف لوحدنا، وكرر سؤاله:

"محتاجة حاجة؟"

رفعت عيوني ليه، كنت عاوزة أقوله: محتاجة أعرف وأفهم، محتاجة ألاقي سبب، محتاجة أستوعب إن اسمي بقى محرم عليا نطقه، وإني محتارة فيكم؛ بيت يخلي الخايف مطمئن، والمطمئن يخاف منكم!

"يوسف..."

صوت نسائي واضح، يمكن لواحدة في أواخر الأربعينات. مكنتش عاوزة ألف ظهري، لكن كنت عاوزة أعرف مين صاحبة الصوت، وهل مكتوب عنها في مذكرات جدتي؟

"واقف هنا ليه؟ بتتساير معاها كأنها عروسة بجد! خلص واجبك يا يوسف، و...."

"ورد، ممكن تدخلي أوضتك."

قطع كلامها بنبرته القوية، عالية وآمرة. مش عارفة إزاي استجبت ودخلت الأوضة فعلًا اللي على بعد شوية خطوات من مكانهم. قفلت الباب، والصوت انعزل تمامًا، مكنتش دريانة إيه بيحصل بره.

————————————————————————

"أنا قولت الكلام لأبويا، وبقوله تاني: محدش هيغصب ورد على حاجة يا أمي، ومحدش هيمس شعرة منها، وإياكم كلكم... حد يفكر يضايقها بكلمة!"

مشيت وسبّت أمي، وكنت مدركًا أن ورد دخلت الأوضة وهي خايفة من نبراتي. استغفرت شوية وقررت أسيبها تهدى ونزلت تحت. كان الوقت متأخر شوية وجدي سايبهم شوية، لأن في العادة الساعة 11 البيت بيكون ساكنًا ومظلمًا والحركة قليلة. نزلت تحت وناديت على ليلى.

خرجت معايا على الجنينة، بدون مقدمات اترميت في حضنها وأنا بقول:

"أنا تعبان أوي يا ليلى."

"مالك يا حبيبي... ورد قالت لك حاجة؟"

"لا، بس عيونها بتحكي خوفها. أنا مش عاوزها تخاف مني، أنا مكنتش عاوز أتجوزها كده، ولا تعرفني بالشكل ده. مش عارف المفروض أعمل إيه، أقول إيه؟"

"أقولك أنا تعمل إيه؟ 
خليك أنت يا يوسف، اخرج لها قلبك وحنيتك. الحنية مفتاح كل ست. لو حنيت عليها هتاخد عيونها وقلبها، وأهم حاجة متسبهمش يكلّوها، بيت الصدّيق كله مفطور وجع بسبب بيت الغريب."

"وعزة ربنا اللي هيضايقها بكلمة هوريهم مين يوسف هارون الصديق على حق."

————————————————————————

أول ليلة ما دخلتش الأوضة أصلًا، بعّت لها بنت تقولها إن أستاذ يوسف هينام في مكان تاني الليلة دي، وقبل الفجر مكنش فيه أي صوت من الأوضة ومعاد الفطار قرب. وصلت عند الباب وأنا بخبط عليه، خبطت مرة كمان بقلق ومرة تالتة أشد شوية لغاية ما وصل صوتها الناعس المخضوض:

"مين؟"

"اهدي أنا يوسف، كنت بطمن عليكِ، وكمان عشان تجهزي للفطار، لأنك متعشيتش امبارح."

سكتت شوية وبعدين قالت بنبرة عالية بس لسه النعاس مسيطر عليها:

"أنا مش جعانة."

"أولًا لو ناوية إضراب عن الأكل، محدش هيضر غيرك. ثانيًا أنا مستحيل أسمح بكده، والأهم أن جدي مش هيسمح بكده أبدًا. فلو سمحتي ممكن تجهزي عشان ننزل للفطار."

سمعت صوت من جوه، كأنها ضربت حاجة؛ سّندت على الحيطة ومستنيها تخرج. بعد دقائق قليلة أعتقد غسلت وشها وخرجت، لابسة فستان أسود متكرمش وطرحة كمان. فهمت أنها كانت نايمة بيهم وأنها خافت تلقع الحجاب طول الليل. كنت مضايق عليها ومش عاوزها تظهر كده لكن سكت. كانت بتتحرك جنبي في صمت، والفستان كان ضيق عليها؛ كل حاجة تدعو للغضب. روحت وقعدت مكاني جنب جدي، ولقيت كرسي جنبي فاضي. توقعت أن جدي نقل عمي من مكانه، وطبعا دي حركة تقهر الموجودين. قصادي كان أبويا وجنبه أعمامي التلاتة. نظراتها مشوشة، مش ضعيفة لا، هي غير مبالية.

"بسم الله."

جدي سمّى الله والكل بدأ يأكل، وهي متحرّكتش، قربت عليها وقلت

"تحبي حاجة معينة؟"

هزّت رأسها بالرفض، فابتسمت لها وقلت

"يبقى أختار لكِ على ذوقي، أي رأيكِ في..."

كنت بحط قدامها أنواع جبن، وبعمل توست بنفسي، ما طلبتش من الخدم يحضروا لها، لا، أنا جهزته بنفسي، تحت نظرات أمي وأبويا اللي هاين عليهم يهدروا دمي ولا يشوفوا المنظر دا. جدي كان بياكل في صوت كعادته ومتابع بابتسامة مخفية، هي كانت ساكتة لكن عيونها مستغرباني. بدأت تاكل لما قلت لها، وبتاكل بحذر كبير فخرج صوت أمي

"كُلي يا أختي كُلي، مش حاطينلك سم في الأكل."

كانت هترد، وكنت هسبقها في الرد، لكن جدي سبقنا كلنا

"احترمي حالك واختاري كلامك وانتِ بتتكلمي على ست البيت يا بهية..."

الكل سكت من الصدمة، حتى أنا وهي!
مكنتش متخيل، أمي اللي هي ست البيت، اللي بتحكم وتتحكم في الكل عشان هي مرات وهدان هارون آل صديق، الست الأولى اللي دخلت البيت من بعد جدتي، جدتي الست اللي اتجوزها جدي، والكل عارف إنه عمره ما حبها. كنت مصدوم ومش عارف أحدد مشاعري، أنا زعلان على أمي بس مدرك كويس إنه لولا الكلمتين دول ورد كان ممكن تتفرم تحت سنانها.

الفطار خلص، والكل بيتحرك في القصر بحرية يشوف مشاغله، وهي واقفة زي ما قلت لها، لغاية ما وديت أمري لخالد ابن عمي إن مافيش راجل واحد يبقى على السلم أو الممرات. حتى هو كان مدي ورد ظهره وهو بيتكلم معايا وبيقول:

"حصل يا يوسف."

ابتسمت وهو مشي على طول، فقلت لها:

"تقدري دلوقتي تروحي أوضتك لو عاوزه."

هزّت راسها ومشيت قدامي بخطوات سريعة، وأنا دماغي مشغولة. يظن الجميع من شرودي إني بفكر في ورث العيلة أو مثلا كوني شايل هموم التجارة الكبيرة ومعظم البيت، لكني بفكر: هعمل إيه لو الفساتين كلها ضيقة كده؟
أنا جبتهم مقاسات متقاربة من المقاس دا!

وصلت الأوضة وقفلت الباب، خبطت وسمحت ليا بالدخول بعد ما استأذنتها.

"معلش بس، في دواء في الدرج اللي جنبك ممكن تجيبيه."
قولتها وأنا واقف بعيد عند الدولاب، لأني مش عاوز أقرب أوي من السرير اللي هي قاعدة عليه عشان ما تخافش مني. اتحركت بتوتر وجابت الدواء على الترابيزة. أنا جهزت هدومي وعيوني لسه على الفساتين المعلقة، أخذت فوطة ودخلت الحمام، أخذت دش سريع ولبست لبس رسمي لأن عندي اجتماع شغل مهم أوي في المينا النهاردة.
خرجت ووقفت أسرح شعري وهي في مكانها ما تحركتش، رشيت العطر بتاعي ولِفِت ناحيتها وقلت:

"سارة بنت أم وليد هتلاقيها حوالين الأوضة، وقت ما تحتاجي أي حاجة نادي عليها. وغيري هدومك وارتاحي، أنا طول اليوم مش هكون في القصر، عندي اجتماع مهم وهاجي بعد معاد العشا..."

مكنتش لسه كملت كلامي لكنها قطعتني وقالت:

"مش مهتمة أعرف سبب غيابك، قول اللي عندك واتفضل..."

اتنهدت وأنا بكمل كلامي وقلت:

"لو مش حابة تنزلي تتغدي تحت اطلبي من سارة الغداء في أي وقت وهي هتجيبه، وكمان تقدري تقفلي على نفسك وتقلعي الطرحة، ولو محتاجة مني أي حاجة قولي لسارة وهي هتتصل بيا."

تجاهلت كلامي، ضبطت هدومي وخرجت لخالد وسارة وقلت:

"سارة... متبعديش ٣ متر عن الأوضة، بلاش تخبطي ولا تخلي حد يدخلها من غير إذني. كل طلباتها موجبة؛ لو أمي بالذات حاولت تدخل لها اتصلي بيا فورًا."

انصرفت من قدامي وخالد وقف قدامي وتطبطب على كتفي بابتسامة:

"هتهون وقلبها هيلين يا يوسف، شوية صبر بس."

"أنا خوفي أكبر يا خالد، خايف نكرر قصة زينب وغريب، خايف أكون أنا غريب اللي أدفن بالحِيا في جوزته."

اتنهدت، مكنش فاهمني ولا يفهم ليه شبهتنا بزينب جدتها وجدها غريب، لكن لو حكيت ألف مرة هي ورد بس اللي هتفهمني!

————————————————————

كان خرج من ساعتين أو تلاتة، وبدأت اتحرك في الأوضة. قفلت الباب بالمفتاح، وأخذت فستان أسود برضه غير اللي لابسته، مع حجاب نبيتي ودخلت الحمام أخد دش. خرجت من الأوضة ولسه بدور على سارة لقيت بنت ١٧ سنة جات وقفت قصادي وبتقولي:

"آنسة ورد... حضرتك محتاجة حاجة؟"

"هو معاد الغدا امتى؟"

"أستاذ يوسف قال إنك مالكيش دعوة بالمواعيد، لو حابة تكلي قولي وأنا هبعت لهم يحضروه."

"تمام... حضري أي حاجة بس اوعي تحطي بقدونس في أي طبق عشان..."

"أيوة عشان حضرتك عندك حساسية، متقلقيش أستاذ يوسف نبهني."

قالت كلمتها وفضلت واقفة وأنا متنحب ازاي عرفت حاجة زي كده!

"أنتِ يا زفتة مش بعَت ليك أمك عشان تنادي عليكي، واقفة تتسايري مع مين أنتِ وسيباني بنادي عليكِ."

"أنا آسفة يا ست راندا، بس الأستاذ يوسف نبهني إني مبعدتش عن مدام ورد عشان لو محتجاني."

كانت سارة متوترة وأنا وقفت من شرودي على نظرات راندا دي ليا؛ نظرات تقليل وتفحُص. وجهت نظراتي لها بعدم اهتمام حقيقي وقلت:

"لما تتكلمي مع إنسان، يا ريت تتكلمي بلغة البشر. مالناش دعوة أنتِ نوعك إيه وبتتكلمي بالطريقة الهجومية دي في العادي؛ زي ما هي احترامك تحترميها."

قولتها وأنا واقف وسارة جنبي وببص لعيونها. آه أنا أقصد أنها حيوانة عادي، بس للأسف معنديش الطاقة اللي أنا هدّي معاها بيها.

"أنتِ إزاي تتكلمي معايا كده؟ ولا تكوني فرحانة بالكلمنتين اللي جدي قالهم على الفطار؟ ده بس عشان أنتِ من ريحة زينب، لكن خاطرها مش هيفضل كتير لو تجاوزتي حدودك مع حد فينا!"

كان صوتها عالي! مزعج، ومحتاجة طاقة للرد وأنا استنفذت. لسه كنت ناوية أرد لكن لقيت شاب من سن يوسف كده دخل وهو ماسك ذراعها جامد وباين عليه الذعر:

"أنتِ اتجننتِ يا راندا! ازاي تتكلمي بالطريقة دي وتنطقي اسم زينب بالطريقة دي؟"

كان بيشد عليها وهي اتوترت، ولحظة وجي شاب تاني، يبان أصغر بكام سنة ووقف وظهره ليا بيكلمهم:

"خُد مراتك يا محمد وادخل على أوضتك، وحسابها مش هيبقى مع جدي هارون بس، حسابك أنت الضعف مع يوسف لما يرجع."

"خالد دي غيرة ستات، مدخلش يوسف في الموضوع، وخلاص راندا هتعتذر لورد."

لف وشه ناحيتي وقال وعيونه في الأرض:

"ها يا مدام ورد، تسمعي اعتذارها ولا أحول الموضوع لجدي هارون ويوسف؟"

"مش عاوزة اعتذار ولا غيره، بس علموها الأدب وإزاي تتكلم مع الناس. واحدة زي دي بتفكر بدماغ بهايم مينفعش تعيش وسط البشر."

كانت بتبص ليا بغِلّ كبير. أخذت يد سارة ودخلت أوضتي؛ لاحظت إن خالد نغز محمد عشان يبص في الأرض وانا معديه من قدامهم وفعلاً عمل كده.

———————————————————————-

كنت في مكتبي الزجاجي الكاشف للبحر كله والمينا، بتتحرك رايح جاي بخطوات رنّانة، ودماغي بيدور وبيتلَف. كان الخريف في بدايته، ونسمة الهواء الباردة مرحّبة. نزلت لغاية عربيتي وفتحت المبرد بتاعها عشان آخد قزاز المياه، بس كنت ناسي شريط الدواء على المكتب. اتنهدت بزهق وركبت العربية. كنت فاهم إن دا خطر، وأصلًا الصداع من التفكير هيفرتك دماغي. قبل ما أتحرك الباب اتفتح، وقبل ما تتقعد وصلت ليها ريحة عطرها الأنثوي النفّاذ، وفستانها القصير اللامع. اتنهدت بزهق وتكبّر، وقبل ما أقول كلمة نطقت بنبرة دلعها المعتاد لكن ممزوجة بعتاب:

"مش عيب يا چو تتجوز من غير ما تعزمني!

تعليقات