رواية غوثهم الفصل المائة والسابع والسبعون 177 بقلم شمس محمد


 رواية غوثهم الفصل المائة والسابع والسبعون 

أتيت اليك يا رب العباد بأوزاري
وذلي وإنفرادي
عسى عفواً يبلغني الأماني
فقد بعد الطريق وقل زادي
وأنت وسيلتي وإليك قصدي ومنك مسرتي
ولك إنقيادي
فإن أقصيتني وقطعت حبلي وحقك
لا أحول عن الوداد
فجد بالعفو يا مولاي
وارحم عبيداً ضل عن طرق الرشاد..
_”ابتهال”
____________________________________
يقولون للتبرير من كل شيءٍ يُثقل الروح في العذاب..
“إن الشخص يقع في غرام المشقة إذا أحب الوجهة”
لكن يبدو أنني حينما اصطفيت لكي أحب؛ اصطفيت المشقة بذاتها، فطريقي لكَ لم يكن يومًا هينًا، بل كان صعبًا ومُرهقًا،
وبالرغم من ذلك لازلت أحب نفسي التي أحببتك،
لازلت أنصف قلبي على لحظة اختياره لكَ،
فحتى لو كانت المشقة تُرهقني، يكفي فقط أنها معك أنتَ من بين كل العالمين، أنا يا سيدي أحببت مشقتي لأنها معكَ أنتَ وأحببت الطريق لأنه سيوصلني لك، وعلى الرغم من كل ذلك لم أجد منك إلا الوجع والنسيان…
أنتَ من كنت أتباهى به أمام الناس أجمع،
ولليوم قلبي يأنِ بوجعٍ ويُخبرني ياليتني ما تباهيت،
لكني لا ألومك على شيءٍ وأنا بقدمي إليك أتيت،
وأنتَ عليَّ وعلى قلبي تعاليت، تركت أنتَ القلب
يهوىٰ، وبنفسك من عذاب الهوى نجوت،
لكني سأكررها عليك، أنني أحببتُ المشقة لأن غايتها كانت أنتَ..
<“أنا الإبداع الذي لم يجد من الشغف ما يُحقق تنفيذه”>
أنا الفكرة وأنا الأمر بذاته..
أنا اللحظة الحاسمة في يومٍ غير محسوبٍ لأخذ قرارٍ عصيبٍ يُرهق النفسِ بشيءٍ لن تجد منه مفرًا غير الموافقة فحسبٍ، أنا الشيء العصيب الذي يمر بحياتك بين ماضٍ وحاضرٍ لأقلب الموازين لأجلٍ غير مسمىٰ، أنا لوعة الاشتياق وأنا حُرمة اللقاء،
وإن كنت تود معرفتي، فأنا لحظة الفراق..
طالعوه بغرابةٍ وأولهم “يـوسف” الذي حرك عينيه نحو “أيـوب” فأوقفه بنظرة واحدة يخبره بها أنه معهم، بينما “فضل” نادى ابنه بقوله الحاد المنفعل ولازال يقبض فوق كفها:
_كلملي “إيـهاب” والحج “نَـعيم” وقولهم إننا عاوزين “إسماعيل” يطلق “ضُـحى” وكفاية لحد كدا، يرمي عليها اليمين وهي تشوف حالها طالما هو ناسيها وهي لسه مش قادرة تتقبل الحقيقة دي، مش كل يوم هسيبها تنام من القهر والزعل لحد ما ييجي يوم اخسرها ومتصحاش فيه، اللي عندي قولته ودا آخر كلامي، ييجي يطلق ولو ليه حاجة ياخدها وشكرًا لحد كدا.
والحديث ليس مجرد حديثٍ..
الكلمات لم تكن مجرد كلمات، وإنما هي خناجر تضرب في القلب وتجبر العقل على الخضوع لتلقي الرضا بصمتٍ وتقبل، حلق الطير فوق رؤوس الجميع وهلعت نظراتهم، بينما “ضُـحى” فيبدو أن الضربات لم تعد تؤثر بها، وكل ما فعلته فقط نظرة واحدة في عيني شقيقها الذي طالعها بيأسٍ وعيناه تخبرها من محاولةٍ أخيرة لأجلها، لكن تلك المحاولة من المؤكد لن تجدي بنفعٍ، لذا وقف أمامه وقال بثباتٍ واهٍ في محاولة للاسترضاء:
_طب أقعد بس يا بابا واستهدى بالله، الكلام دا مبيجيش كدا، طلاق إيه بس بعدما وصلنا لكل دا؟ استنى بس وفكر تاني علشان خاطر بنتك بس…
وقبل أن يُكمل الحديث بتر والده التكملة بسيفٍ حاد من لسانه:
_وأنا علشان خاطر بنتي بعمل كدا، كفاية أوي كل اللي حصل خلاص، خبيتوا عليا وسكت بمزاجي، طلعتوا كلكم عارفين وبتحطوها في خطر وأنا مختوم على قفايا وسايب بنتي في الطوفان ترمي نفسها، اللي حصل دا كرم من ربنا علينا، نسيها الحمدلله علشان الحياة دي مش هتفنعها، مين فيكم يضمنلي اللي حصل دا ميحصلش تاني؟ مين يقدر يقولي إن اللي حصل مش هيتكرر؟.
حديثه أسكتهم جميعًا وهي بالأخص نكست رأسها وأرادت إخباره أنها اختارت طواعيةً منها المشقة لأجله هو، أرادت أن تصمت لأجله وحده ولأجل أن تكون معه، بينما والدها هدر من جديد بقهرٍ كان له كامل الحق فيه:
_ردوا عليا !! مين منكم يضمنلي اللي حصل دا ميتكررش وهي معاه والمرة دي أخسرهم هما الاتنين؟ وليه خبيتوا عليا موضوع تربيته وأبوه وأخوه؟ غير لو أنتوا عارفين إنه غلط وحاجة متشرفش؟.
هنا وثارت الثورة في قلب المرء الحُر الذي يرفض تلويث الحقيقة، فانتفض “يـوسف” من موضعه يلقى بالملعقة فوق الصحن الزجاجي ليصدح الصوت عاليًا فينتبه الجميع لفعله عند قوله هادرًا:
_وإيه اللي ميشرفش بالظبط؟ لو مش مشرفك تربيتهم فأنا أتربيت تربية أوسخ منها ١٠٠ مرة، لو مش مشرفك إنهم هربوا من أبوهم وراحوا للحج فأنا أحب أقولك إن الحج واخدني من الأحداث بعدما فرتكت وش عيل قدي وكنت هبقى صايع ماليش لازمة، مش عاجبك “إسماعيل” علشان دخل مصحة؟ طب ما أنا دخلت مصحة أنا كمان وقعدت فيها شهور وأتقال عليا مجنون، مش عاجبك “إيـهاب” رد السجون؟ طب ما أنا قعدت في الحبس بدل اليوم شهرين ونص في قضية سرقة، مش عاجبك إيه بالظبط؟ مش عاجبينك هما يبقى أنا كمان مش عاجبك كدا، ما اللي هما فيه أنا شوفته لوحدي، يبقى خلاص أطردني أنا كمان برة بقى…
_”يــوسف” !!
تلك الصرخة أتت من فم “غـالية” التي لمحت التجبر في عيني ابنها وفي حديثه، بينما “فـضل” وقف صامتًا أمامه ثم أشار لنفسه مستنكرًا بصدمةٍ في حديث من وُضِعَ بمكانة ابنه:
_أنتَ شايفني كدا يا “يـوسف”؟ شايفني وحش للدرجة دي؟.
في تلك اللحظة أدرك “يـوسف” تماديه وأن فعله أتى من ضجيج الرأس ولم يكن بطواعيةٍ منه وإنما فقط هي مجرد صدمة تسببت في إزعاج العقل فقام برد الفعل الغاضب كما اعتاد، وفي تلك اللحظة اقتربت “غـالية” تقف في مواجهة ابنها وقبل أن تفعل أي شيءٍ اعترض “أيـوب” طريقها ووقف يحمي “يـوسف” الذي حرك كفه دون وعيٍ منه يقبض فوق قميص “أيـوب” الذي استشعر فعله وتفاقمت بداخله المسئولية لأجل رفيقه…
حينها هتف بهدوءٍ للجميع يُطفيء نيران الغضب المُنبثق بينهم:
_وحدوا الله يا جماعة، دي لحظة الشيطان حاضر فيها، عمي دا حقك ومحدش هيقدر يلومك على خوفك على بنتك، بس “يـوسف” قصده إنك متظلمهمش وتفكر فيهم بطريقة إنهم مجرمين أو حتى عملوا حاجة وحشة، بالعكس الدنيا فرمتهم من صغرهم، ومالهمش نصيب في الحلو من الدنيا، حتى “يـوسف” نفسه أتوجع زيهم بالظبط، على كدا أنا كمان ماليش مكان بينكم، ما أنا معتقل و إرهابي عند الناس والحكومة !!.
حديثه كان صفعة بكل أدبٍ تسقط فوق الوجوه وقد افتر ثغر “فـضل” بإحراجٍ منه لكنه قرر أن يوضح الصورة بقوله:
_يابني أنا أب، ماليش غير عيالي، دي بنتي وحتة مني ولو كنت بجوزها فأنا بجوزها علشان أتطمن عليها مع راجل يحميها ويصونها كل العُمر، في الوضع دا أنا هتطمن عليها إزاي؟ هموت وأنا شايل ذنبها إني مقدرتش أحميها من القرار دا؟ أنا مش هرتاح وهي مش هترتاح، دا ناسيها هي مين حتى، يبقى ليه العذاب دا كله؟.
وهي لأنها تعلم أن المشاعر النقية لها الغلبة والفوز..
بصوتٍ واهنٍ وخافتٍ أعلنت الاستسلام وقالت بقلبٍ مكلومٍ أُجبرَ على الرد والحديث:
_اللي تشوفه صح يا بابا أعمله، يمكن أنا مبقيتش شايفة..
وحديثها ألم القلوب بأكملها وعلى رأسهم “قـمر” التي انتفضت من موضعها تُطالعها بغرابةٍ وعينين حزينتين؛ فكان الرد بإيماءة منكسرة من رأس “ضُـحى” وهي تُخبرها أنها فقدت الحيل بأكملها وأن اليأس تمكن وتملك منها..
بينما “يـوسف” فأنسحب من أمام الجميع وخرج من الشقة بعد أن أدرك كارثة فعله وتماديه في الحديث، لكنه يبغض مشاعر الرفض، يكره النفور والمقت والنظر بعين التجبر للمنكسرةِ أفئدتهم، لذا قرر أن يُخبيء جراحه داخل نفسه ثم صعد فوق السطح يجلس وحده ثم أخرج سيجاره يُدخنه لعله يُخرج غضبه منه، وقد شعر بأحدهم يجاوره فانتبه له ليجد “أيـوب” يسحب منه لفافة تبغه ثم ألقاها بيده بعيدًا وقال بهدوءٍ:
_ربنا يتوب عليك منها.
حينها نكس “يـوسف” رأسه ثم ظل صامتًا بغير ردٍ أو حديثٍ وكأنه يعيد صورة والده على عقله ويتذكر هذا الرجل النبيل الذي رباه كيف آلت الأحوال في غيابه، حتى لو كان رجلًا يافع الطول مهاب الشخصية، قوي البنية والإرادة إلا أنه لازال في أمسِ الحاجةِ لعناقٍ منه يحميه، وقد قرأ صاحبه في عينيه تلك الرغبة وعلم بحاله حتى بغير حديثٍ، فضمه لصدره ومسد فوق خصلاته وهو يقول بهدوءٍ كأنه يخاطب ابنه الصغير:
_قال تعالى جل جلاله:
“إِذ يَقولُ لِصاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكينَتَهُ عَلَيهِ”
أعظم صحبة عرفها الزمان هي صُحبة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام بأبي بكر الصديق، لذا أسماه الله “صاحب”، القصة كانت في غار ثور لما المشركين كانوا بيبحثوا عن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام وعن أبي بكر معاه، ساعتها أبي بكر من خوفه على الرسول قال:
“يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا”..
_ساعتها الرسول رد عليه يطمنه بقوله:
“يا أبابكر ماظنك باثنين الله ثالثهما”
وكان طول الوقت بيطمنه بإيمانه وثقته في رب العالمين، فعند ذلك أخذ الله أبصار المشركين فلم يروا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصاحبهُ أنهم وقفوا عليهم في الغار وهذا من قدرة الله سبحانه وتعالى، فواجب المسلم إنه يطمن صاحبه ويكون معاه، يهون عليه ويشد بإيده، وأنا جنبك أهو بشد بإيدك وبقولك ربنا معانا، فوكل أمرك للذي لا يغفل ولا ينام، أما أنا فتوكلت في أمرك على رب العالمين، واستودعته نفسي وصُحبتي ليك.
ابتسم له “يـوسف” بتأثرٍ ثم وبنبرةٍ استغفر ربه وصلَّ على الحبيب المصطفى ثم وضع رأسه فوق كتف “أيـوب” وقال مُطالبًا بالدواء للروحِ العَطِبة:
_اقرألي قرآن يا “أيـوب”.
وهذا هو الدواء له في كل وقتٍ وحينٍ، قراءة القرآن بصوت رفيقه حتى ينشقع النور في روحه فيطمئن ويأمن من كل خوفٍ، و “أيـوب” أمام هذا الطلب لا يستطع أن يرفض وإنما يُجدد نواياه ويبدأ تلاوة القرآن الكريم ماسحًا فوق قلب صاحبه بالصوت العذب والكف الحنون.
وإن كنت لا تعلم فالصديق الجيد يكون طوق النجاة في وجه الطوفان لصديقٍ غدرت به الأيام فأصبح يرفرف بكلا جناحيه الضعيفين في أمواجٍ عاتية تضربه في موضع قتلٍ…
____________________________________
<“الحياة تُعيط الفرصة الثانية؛ والأخيرة”>
كثرة الفُرص فلسفة فارغة يلجأ لها كل ضعيفٍ..
فأنتَ لا تعلم هل فرصتك الثانية سوف تُكرر أم لا، لعلها تلك هي فُرصتك الأخيرة في حربٍ مفروضة والإنسحاب فكرة مرفوضة، أنتَ هنا بين نصل السكين الحاد فوق العُنق وبين المطرقةِ والسندان فوق الظهر، وكلا الحملين فوق كتفيك يسقط، فإن أتتك الفرصة أقم لها طوفانًا كي تنجو من بحرٍ لن ينفعك الإبحار فيه بشيءٍ غير سلب الأنفاس والغرق فيه وحيدًا..
في المشفى بداخل غرفة من وسط الغُرف الخاصة بالمرضى كانت “نـورهان” فوق الفراش غافيةً بعدما كتبت لها النجاة بأعجوبةٍ، ولولا تدخل “بـاسم” في الوقت الصحيح لكانت فقدت أنفاسها وبلا عودة، بينما هو فجلس فوق المقعد يربع كلا ذراعيه ويراقبها في نومها الذي طال منذ أمسٍ حتى تلك اللحظة التي يجلس فيها ويراقبها..
بينما هي بدأت تتململ في نومتها وبدأت تستعيد وعيها وحركت رأسها للجهة الأخرى فوجدته يجلس وهو يُطالعها بنظراتٍ حادة، فانتفضت من موضعها وهي تسأله بلهفةٍ وبصوتٍ واهنٍ:
_أنتَ عملت فيا إيه؟.
افتر ثغره ببسمةٍ ساخرة ثم قال بلامبالاةٍ:
_خدت منك أعز ما تَملكي يا عسلية.
توسعت عيناها وهي تعتدل في جلستها بينما هو بدل نظراته للجمود وقال بقسوةٍ عليها كان أساسها العتاب لها على ما فعلته:
_ليه تعملي في نفسك كدا وتاخدي كل الجُرعة دي مرة واحدة وتضحي بنفسك؟ أنتِ مجنونة يا بت أنتِ ولا عقلك خلاص فوت منك؟ أنتِ كنتِ هتموتي over dose “جرعة زيادة” وعمرك كان هيضيع في ثانية، لولا أنا جيت في الوقت اللي ربنا أراد أني أوصل فيه وألحقك، ليه يا “نورهان” مضحية بحياتك كدا؟ دا أنتِ عيشتى بأعجوبة ومكناش لاقيين حاجة تسد على الهباب اللي في جسمك دا كله.
كان يقسو ومنبع القسوة كان خوفًا، كان يضرب بالحديث وقلبه يضربه على ما تسبب هو فيه، كان يُعاتب ويتمنى الرد منها، أما هي فكانت تعلم أن تلك النهاية طبيعية وأكيد بعد استمرار عامين على المخدرات بكل أنواعها، المسألة وقتية لموتها، لكنها أكيدة وهي بدلًا من الركض منها، بدأت تفتح ذراعيها لاحتضان الموت، ومع صمتها ازداد غيظه فهدر فيها منفعلًا:
_ما تردي !! عملتي كدا ليه وأنتِ عارفة إنك كان ممكن تموتي؟.
حينها بكت ولم تعد تتحمل وقالت بصراخٍ في وجهه:
_علشان كان نفسي أموت، كان نفسي أهرب من اللي أنا عايشة فيه دا، صعب تعيش في دنيا محدش فيها بيحبك، صعب تكون وسط الكل لوحدك حتى أهلك رافضينك وبيرموك لبعض كأنك كورة، دا حتى الكورة بيخطفوها من بعض، أنا معنديش حد، في أي يوم هموت لوحدي من غير ما حد يحس بيا، أنا هنا من إمتى؟ حد لاحظ غيابي؟ حد خد باله إني مش هنا؟ حد شافني في حالتي دي وحاول يعمل حاجة؟ مفيش يا “باسم” وعلاجي هيكون أكبر عذاب لنفسي، مين هيكون معايا في الرحلة دي؟ هتعالج وبعدها أخرج وأعيش لوحدي تاني وأضعف وأهرب وأروح للهباب دا، طب وبعدين؟…
تهدج صوتها وأشفقت على حالها وهي تتحدث، بينما هو فعلم أن النصيب أقوى منه، المولىٰ شاء وقدر وهي القدر بذاته، هي من بين كل النساء فوق الأرض كانت القدر الخاص به، هي الأسر الذي أخضع الحُر وهي السجن الذي قبله الطير، هي الحُكم الوحيد الذي إذا صدر نفذ ولن يطعن في القرار، هي الظُلم الوحيد لقلبه وهو الذي ثار وحارب بثورةٍ لأجل انتصار العدل، الآن يعطيها كامل الحق أن تسلب قلبه كما سُلِبت حُريته، أمامها يعلم أن الراية البيضاء لو رُفِعت سيكون منتصرًا بإذن ربه..
طالت نظراته لها وهي تبكي أمامه، لذا سحب المقعد للأمام قليلًا ثم تجرأ وسحب كفها المحقون بإبرة طبية ثم مسد فوقه بحنوٍ وقال بهدوءٍ على عكس عادته الجامدة والصلبة:
_بعدين دي بتاعتي أنا يا “نـورهان” مش بتاعتك، ليكِ عليا إنك تعيشي حياة كويسة وأمان، بس لازم محاولة منك علشان نفسك، علشان متبينيش ضعفك ليهم واحتياجك علشان ميحسوش إنك محتاجة منهم حاجة، أقفي على رجلك ودوسي على الكل، عيشي حياتك صح وسيبك منهم، اتعالجي وأنجحي وابني حياتك صح، ولو على العلاج أنا معاكِ مش هسيبك..
طالعته بعينين باكيتين وأرادت أن تسأله عن فعله، بينما هو لمح السؤال في عينيها فتنهد بقوةٍ ثم مسح فوق كفها بطرف إبهامه وقال بحنوٍ:
_هنتجوز بس بطريقة صح، مش أنتِ اللي تاخدي الخطوة، لازم أنا اللي آخدها وأعززك وأنا بطلبك من أبوكِ علشان يعرف إن بنته هتعيش مع راجل مش عيل صغير هتسحبه من أيده، هطلبك وأقف جنبك لحد ما ترفعي راسك في وش الدنيا كلها، موافقة تتجوزيني؟.
باغتها بقوله وهي تطالعه بدهشةٍ بينما هو سألها بعينيه وهو يعلم أن الجواب قد سبق وتم التصديق به حتى من قبل السؤال، بينما هي فسألته بخوفٍ من مجرد الفكرة التي تعرف أنها ستتحقق لو لم تحصل على الجواب:
_طب أنتَ هتتجوزني علشان العلاج صح؟ وبعد العلاج؟.
ردت له الدهشة في نفس اللحظة فصمت هو لأجلها ثم تنهد بثقلٍ وقال غاضضًا بصره عن الحديث والسؤال بقوله:
_سيبك من بعد العلاج، خلينا دلوقتي فيكِ أنتِ لحد ما تفوقي من اللي أنتِ فيه دا وأروح أطلبك من أبوكِ، أنتِ موافقة على أي حاجة هقولها صح؟ علشان أقدر أتكلم بقلب جامد علشانك بس.
أومأت له بقوةٍ دون ذرة تردد واحدة، بينما هو فتنهد ثم سحب كفه من فوق كفها وتركها هكذا تطالعه بحيرةٍ في أمرهِ، ثم سألته بلهفةٍ ما إن تذكرت أمر والدها:
_طب وأنتَ هتعمل إيه لو بابا رفضك؟ هو ممكن ميقبلش.
عاد ينتبه لها على سيرة والدها ثم قال بثباتٍ وقوةٍ:
_تفتكري يعني هطلع عيل صغير وأديكِ ضهري وأمشي؟ لو أبوكِ رفض هحاول علشانك، ولو صمم هقلبها حرب برضه علشانك، أنا كلمتي واحدة وطالما خدت قرار مبرجعش عنه غير لما يتنفذ صح يا “نورهان” وأنتِ قراري.
تحدث بثباتٍ ولم يبالِ بحال قلبها، بينما هي ففكرت لو قامت لتوها وقفزت من موضعها وظلت تتراقص أمامه كصبية عاد لها المطر هل ستبدو بلهاء أمام عينيه؟ أم مجرد فتاة ساذجة وقعت في حب الرجل الوحيد الذي وقع عليه الاختيار في حياتها؟ ابتسمت بخجلٍ أمامه حتى تورد وجهها وعادت له الحياة، فأيقن هو أثره عليها، وللحق هو شعر بتلك السعادة الخفية التي تناوشه من على بُعدٍ..
في تلك اللحظة فُتِح باب الغرفة وولجت “كِـنز” تحمل الطعام في يدها برفقة حقيبة بلاستيكية كبيرة الحجم، ثم اقتربت من الفتاة تحتضنها وتضمها بخوفٍ عليها وهي تقول بلوزة الاشتياق:
_يا حبيبتي ألف سلامة عليكِ، ربنا يحوش عنك ويفرحنا برجوعك تاني لينا، كدا برضه تخضينا عليكِ وتقطعي بيا بعد كل دا وتسيبيني لوحدي بعدما أخدت عليكِ خلاص وبقيت بعتبرك بنتي؟ مكانش العشم يا صغنن خالص.
ضحك “باسم” وضرب كلا كفيه ببعضهما، بينما خالته التفتت له تُزجره بعينيها ثم عادت للفتاة تُضاحكها بالحديث حتى دمعت عينا الأخرى وهي تفكر كيف لأمها أن تكون بتلك القسوة عليها في حين أن تلك الغريبة لم تتخلْ عنها في تعبها؟ لاحظت ذلك المرأة التي التفتت لابن شقيقتها تعطيه أشيائه ثم قالت بعمدٍ في الحديث:
_الهدوم اللي طلبتها أهيه علشان تغير وهتلاقي اللي طلبته معاها في الشنطة كمان، يلا خدلك دش لحد ما أخليها تاكل لقمة كدا وتتقاوت بيها بدل ما هي هفتانة ومصوع كدا، دي قربت تبقى هيكل عظمي خلاص، قال واسمها نورهان، دي قربت تبقى نورا واحدة.
أخذ منها الحقيبة ثم وقف وقال مثبتًا عينيه عليها وهي تجلس بضعفٍ كما الورقة في مهب الريح:
_خليها كدا علشان أقدر أشيلها وأجري بيها كويس.
ألقى حديثه ثم ولج المرحاض بينما “كِـنز” فجلست فوق المقعد وهي تربت فوق كفها وقالت بحنوٍ وطيبةٍ:
_الحمدلله إنك بخير دا أنا قلبي كان هيقف لما جيت شوفتك إمبارح نايمة كدا، و”بـاسم” الله يكرمه صمم يبات في المستشفى علشانك ودفع فلوس أوضة جنبك علشان يكون متابع مع الدكتورة، وصمم متروحيش مستشفى حكومة أبدًا علشان محدش يمرمط فيكِ هناك، كان طول الليل قلقان عليكِ وخايف أوي، ومن الصبح عمال يكلمني يأكد عليا أجيبلك أكل حلو وآجي أأكلك بأيدي، بقى حد يسيب ناس بتحبه كدا ويمشي؟.
ومن جديد ينفتح الصندوق المغلق في معدتها وتحلق الفراشات في قلبها وفوق معدتها وتختبر تلك السعادة الغير متناهية والسبب أيضًا هو، لذا جلست بصمتٍ أمام المرأة التي جلست تُطعمها في فمها بيديها ثم ربتت فوق ظهرها وخصلاتها التي استطالت عن أول لقاءٍ جمعها بها، وظلت بجوارها..
الأمر في بعض الأحيان يشبه وطنًا غريبًا..
وهذا الوطن يأويك ويفتح لك ذراعيه مُرحبًا بكَ في كل وقتٍ وحينٍ، أما وطنك الحقيقي يُغربك عنه ويغلق في وجهك كل الأبواب، تمامًا كما بلاد العرب تُنفينا
وبلاد الغرب تُشقينا،
وبين وطنٍ ووطنٍ البلاد لم تحوينا..
____________________________________
<“الأحق للمرء أن يشتري نفسه أولًا”>
“يستحق البرد من ضيع دفاه”
هذا الذي باع الدفء واستبدله بقسوة الثلج لا يستحق أن يعود للدفء من جديد، وإنما يستحق أن يمضي في الطُرقات بقسوةٍ يعاني من البرد بغير رجوعٍ للدفء والعناق الآمن، وإن كان المرء لا يعلو بنفسه للفكرِ، فلا يتوجب عليه أن يسقط في بئرٍ من الآثام المُغلفة بزينةٍ ترضاها العين ويمقتها القلب..
في بيت العطار..
كان “عبدالقادر” عاد للبيت وولج غرفة مكتبه يجلس فيها وحده يفكر في الحديث الذي أبلغه به “أيـوب” صباح اليوم وقد جلس هو يحاول في البحث عن حلٍ مع ابنه العنيد الذي لن يقبل أي حلٍ لطالما هو يرى الموضوع من جهته هو وحده، لكنه رغم ذلك كان يحاول لأجل تلك الفطرة النقية التي لازالت متأصلة فيه، جلس شاردًا وحده حتى عبر ابنه عليه وقال بصوتٍ هاديءٍ:
_تيجي تتغدا معايا؟ أنا قولت للست “وداد” تحضرلنا الأكل.
أشار له بالنفي ثم طلب منه القدوم إليه، فاقترب منه “أيـهم” وجلس فوق المقعد ورفع كفه يمسح فوق لحيته المنمقة وهو يعلم أن القادم من الحديث لن يفيده بشيءٍ إلا مجرد مُهاترة فارغة في صلب موضوعٍ يعلمه هو لكن الصدأ غلفه، لذا حينما باشره والده بحديثه:
_أخوك قالي اللي حصل وخد رأيي وقالي إنه عاوز يتصرف بس أنتَ رافض، عاوز أنتَ ترفض دا حقك يا “أيـهم” بس مش من حقك ترفض مساعدة لحد، مش هنقف قدام الرحمة اللي ربنا باعتها للعباد، أنتَ معترض ليه بس؟.
كان الرفض هو رده الوحيد، وزاد ذلك بقوله الصارم:
_علشان ساعتها حياتي هتخرب، دي حرباية وأنا أدرى الناس بيها، عيشت معاها ١٠ سنين بتسحب فيهم من روحي وحياتي بس، ١٠ سنين باجي على نفسي وأسكت وأمشي الدنيا علشان بيتي ميخربش بس يغور البيت اللي يقرف صاحبه في عيشته، وهي تعباني بس، بقالي سنتين بس من ساعة ما غابت هي عني وعن ابني وأنا مرتاح، هو نفسه بقى عايش زي غيره حياة طبيعية، تأقلم مع وجود أمه ومع فكرة إنه جايله أخ في الدنيا دي وبدأ يحب الحياة اللي أتمناها…
توقف عن الحديث حينما أنفعل أمام والده ثم عاد من جديد يكرر الحديث بسؤالٍ في غاية الأهمية لديه:
_طب سيبك مني أنا أولع، وسيبك من ابني هو كبير خلاص، “نِـهال” وضعها إيه دلوقتي؟ لما تلاقي حياتها بتخرب من تاني وفيه واحدة جاية تدمر حياتها اللي أخيرًا ارتاحت فيها هنعمل إيه ساعتها؟ أقولها معلش هروح أساعد مراتي طليقتي علشان أدمر حياتنا من تاني؟ أنا مش هعمل حاجة احترامًا للست اللي معايا، إنما المثالية الزايدة دي مش هتنفعني بحاجة، المرة دي هكون أناني..
وفي الخارج وقفت “نِـهال” بغير قصدٍ تستمع لحديثهما سويًا بعد أن أتت لنداء زوجها حتى يتناول الطعام وقد وقفت بخوفٍ وخزيٍ من نفسها حتى رد عليه والده بعقلانية وحكمة في التصرف:
_ماهو علشان خاطر ابنك لازم تعمل حاجة، علشان ميكبرش ويلاقي أمه بتشتغل في الحرام وتبقى عار مربوط باسمه، هتواجهه إزاي لما يكبر؟ هتقوله كان في أيدي أبعد عنك الشر دا ومرضيتش؟ أنا مش مثالي يا بني ولا بقولك تغاضى عن اللي حصل، بس المشروطة محطوطة، هتساعدها وتحط شرطك إنها تختفي بعيد عن ابنك وحياتك وحياة مراتك وعيالك، إنما ابني الكبير اللي أنا مربيه على أيدي يسيب ست لوحدها في غُربة وسط الحرام ومش عاوز يساعد، متخليش الغضب يعميك عن الصح.
في تلك اللحظة وقع في فخ الحيرة، كان الأمر مستعصيًا عليه وهو يختار بين شيئين كليهما يطرق فوق أبواب الصدمات ويزيد من الحيرة الصعبة، وحينها مسح فوق وجهه ثم ترك موضعه وأقترب من والده يُلثم جبينه ثم جثى فوق ركبتيه وقال بأدبٍ يعلن خضوعه له:
_وأنا مقدرش أخليك تحس إنك معرفتش تربي، أنتَ فوق راسي وعلى دماغي كمان، هحاول علشانك أنتَ بس صدقني اللي أقدر عليه هعمله، بس لو حياتي باظت تاني أنا مش هقدر أسامح نفسي أو حتى أسامح “أمـاني” واللي “نِـهال” تحدده هعمله، لو وافقت كان بها، موافقتش يبقى خلاص.
ربت والده فوق كفه ثم قال ببسمةٍ آملة:
_عين العقل يابني، بس أنوي نية خير وفك كرب مسلم علشان تاخد أجر المعاونة وأخوك معاك في ضهرك هياخد بأيدك، بس بلاش يابني تخلي شيطانك يعميك، هاتها وفك كُربتها وخليها هنا مالناش دعوة بيها، هي في حالها وأنتَ في حالك، وابنك ياريت ميعرفش حاجة، مش هنقدر نقوله حاجة زي دي، كفاية صدمته فيها لحد دلوقتي.
استقام ابنه وخرج والقلق يأكل فيه ويُفتت رأسه وقلبه وهو يفكر كيف يأخذ أولى الخطوات في طريقٍ ضال لا يعلم هو ملمحه ولم ير منه ضوءًا، وما إن خرج اصطدم في وجهه بزوجته التي وقفت بعينين دامعتين أمامه فأدرك أنها علمت بالأمر وحينها ضمها له فوجدها تبكي بين ذراعيه وحينها قرر أن يلتزم بالصمت لأن الحديث في تلك اللحظة لن يفيد بأي شيءٍ..
____________________________________
<“صورة واحدة احتفظ بها العقل فحفظ تفاصيلها القلب”>
المشهد الأخير دومًا هو الأكثر تأثيرًا في النفسِ..
وبالأخص في لحظة وداعٍ مؤلمة للنفسِ والروح، تلك اللحظة التي تقف فيها أمام خسائرك وهزائمك تسأل نفسك ما كان يتوجب عليك فعله حتى تربح هذا الشيء الذي ودعك؟ كيف كنت تتمسك بكفٍ أشيائك المفضلة والحياة بأكملها قد سبق وبترت أصابعك..
كان يجلس وحيدًا بصمتٍ في حديقة بيته يناظر الحديقة بعينين منطفأتين الوهج وهي خالية من صوتها ولعبها ودلالها ومرحها، كل شيءٍ باهتٍ في الغياب، وبالأخص إن كان خلف الغياب عذابًا للأحباب، لم يجد للحياة ملمحًا وإنما الأمر يبدو كلوحةٍ مرسومة لكنها خالية من الألوان، لقد عاد لبيتهِ، وعاد لزوجته، وبدأ يتابع شئون عمله، لكنه حتى الآن يمثل دور الممثل الثانوي الصامت في حياته…
أخرج صورتها وهي تحتضنه ذات مرةٍ ثم ابتسم حينما أدرك شقاوتها عليه وهي تضحك بدلالٍ عليه، كان يود أن يحتضنها ويشعر بها بقربه، فرفع “سراج” الشاشة يُلثم صورتها وهو يشعر بالغصة في قلبه وهي بعيدة عنه كل هذا البُعد، في تلك اللحظة أتت “نـور” تجلس بجواره ما إن لمحته وحينها مدت كفها تلتقط الهاتف منه ثم نظرت للصورة بوجهٍ مبتسمٍ وقالت بحزنٍ ووجعٍ:
_وحشتني أوي، حياتي فاضية من غيرها، لو خلفت أنا متأكدة إني مش هقدر أحب عيالي زي ما حبيتها، الحياة من غيرها ملهاش طعم وبايخة أوي، يا رب ترجعلي تاني، تعبت من غيابها عني وأنا لوحدي من غيرها، كانت ونسي في الدنيا دي.
طالعها هو بحزنٍ ثم أطلق تنهيدة قوية وبكل يأسٍ أخفض رأسه فوق الطاولة يعلن هزيمته من كل شيءٍ حوله، تلك المرة هو حتى لم يملك المقدرة على المحاولة لأجلها، لم يستطع أن يفعل أي شيءٍ غير الاستسلام لمجاراة الأيام وهي ترسو به..
أما في مدينة من مُدن “الإمارات العربية”..
بداخل البيت الكبير الذي انتقل إليه “أحـمد” مُجددًا كانت زوجته تُطعم صغارها وتناولهم حبها وحنانها، بينما هو فكان يعمل على حاسوبه بجوارهم تاركين تلك الصغيرة وحدها تجلس فوق الأريكة بصمتٍ، وقد لمحها عمها ولمح زوجته وهي تُطعم الصغار فسألها بصوتٍ خافتٍ:
_ما تنادي البنت وتخليها تاكل معاهم، هي قاعدة لوحدها ولحد دلوقتي ماكلتش حاجة يا “عيشة” حاولي معاها تاني يمكن تاكل.
حينها اتقدت النيران في قلبها ما إن تذكرت سبب معاملته لهذه الصغيرة فطالعته بغلٍ وقالت بهمسٍ حانقٍ عليه وعلى صغيرته:
_ماليش فيه، شيء ميخصنيش، عاوز تأكلها أتفضل أنتَ، أنا هنا علشان خاطر عيالي وبس، إنما دي فهي ملزومة منك أنتَ، مش دا كان كلامك لأمك إن بنت أخوك في عينك علشان خاطر عضم التربة ودي بت يتيمة ملهاش حد؟ قوم بقى يا حنين أكلها.
كانت قاسية والقسوة حادة كطرف السكين الحاد..
هي مجرد امرأة تملكت منها الغيرة وهي تعلم أن زوجها كان يحب أخرى غيرها ويتمناها لنفسه بدلًا من شقيقه، لذا أنعكست غيرتها على ردة أفعالها فلم تعد بقادرةٍ على توظيف عقلها بشكلٍ صحيحٍ..
تحرك هو نحو الصغيرة يجلس بقربها ثم قال بحنوٍ:
_مش هيتجي تاكلي طيب؟ من الصبح وأنتِ قاعدة كدا، أقولك كلي علشان أخليكِ تكلمي جدو وتيتة دول مستنيين من زمان تكلميهم، إيه رأيك؟ طب أقولك إحنا نكلمهم دلوقتي علشان يفتحوا نفسك وتاكلي إيه رأيك بقى؟.
حركت عينيها نحو بطاقةٍ فارغة ثم فضلت الصمت، على عكس زوجته التي كانت ترى طريقة الصغيرة انتقامًا وعدلًا لها، لذا عادت تعطي الرعاية للصغار بينما زوجها فبدأ المحادثة الإلكترونية مع والديه والصغيرة بجواره صامتة، وبعد الترحيبات الحارة والحفاوة وسط صمتها، تحدثت جدتها تأمر ابنها بقولها:
_بقولك إيه يا حبيب أمك، البت دي يتشد عليها وتاخد بالك من تصرفاتها، كانوا مدلعينها دلع مايع وماسخ زيهم، شد عليها وعرفها الصح من الغلط، مش عاوزين على آخر الزمن يعرونا بيها وبتربيتها، أكسر للبت ضلع يطلع ليها ٢٤ وهي عنيدة زي أمها، يلا ربنا يرحمها بقى كانت وش فقر..
ساوره الضيق من الطريقة التي تتحدث بها عن كلتيهما لكنه سكت لأجل الحفاظ على ماء وجهه أمام زوجته، على عكس الصغيرة التي أنسحبت داخل الغرفة ثم جلست وحدها وأخرجت صورة والديها المتوفيين وما إن رأت الصورة بكت، بكت فقط وهي تعلم أن اللقاء أضحى مستحيلًا والخلاص من هُنا لن تجد له سبيلًا..
ظلت تبكي في عناق الصورة وبكل أسفٍ حتى هذا العناق لم يحتويها، كانت هي من تبكي وتحتضن والصورة صامتة، ظلت تتمنى خلاصها لكنها لم تجد، ظلت صامتة حتى وجد هاتف ابن عمها فوق الفراش، حينها ركضت نحوه تحاول فتحه لكنها فشلت بسبب تعثرها في كلمة المرور، لذا جلست القرفصاء فوق الأرض الباردة وضمت رُكبتيها والصورة ساكنة في يديها
والعبرات تنساب فوق خديها..
____________________________________
<“أنا هزيمتك الوحيدة من وسط كل نصرٍ حالفك”>
في بعض الأحيان يحتاج المرء للهزائم..
هزائم من نوعٍ خاص تجعله عالقًا في حبال الهوى وحده، كي يدرك مدى اتساع النصر له، فدومًا حلبات المُصارعة تجعل المرء تائهًا بين نصرٍ وهزيمةٍ، لذا في المرة الوحيدة التي يُهزم فيها، قد يدرك أن تلك الهزيمة هي النصر بعينه..
بدأ الليل ينشر ظُلمته وعتمته على المكان، والنفوس كلها أعلم بحالها وبخبايا القلوب، كلٌ يبكي على ليلاه والقمر وحيدًا في سماه، كل شيءٍ بدا غريبًا ومُضيقًا للنفسِ، ومن وسط هذا الليل كان “يـوسف” يجلس في بيته وحده يدخن السجائر واحدة تلو الأخرى ورائحة الدخان تحاوطه بالسحب الرمادية الشفافة، بينما “عـهد” فكانت في المطبخ تقوم بتحضير الطعام لهما وحينها خرجت له تناديه..
كان صامتًا وتائهًا وهي تطالعه بأسفٍ لذا ما إن انتبه لها اقتربت منه وجلست بجواره وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_متزعلش نفسك بس أنتَ غلطان برضه، خالك وخايف على بنته الوحيدة، وشايفها بتضيع نفسها في الجوازة دي، وحقه يزعل لما يعرف أنتوا مخبيين عليه إيه، “يـوسف” دا أب وحقه يعمل كل دا، محدش يقدر يلومه، وطريقتك معاه مكانتش حلوة، فمتزعلش نفسك بس حاول تصلح الموقف.
ضيق جفونه وحرك رأسه بسؤالٍ غير منطوقٍ فقالت هي بهدوءٍ عن ذي قبل وبلينٍ أكبر وحكمةٍ أكثر:
_يعني ممكن بالهدوء تفهمه غلطك وتوضحله كلامك وتقوله إنك خدت الكلام على نفسك لأنك موجوع من ماضيك، وهو هيقدرك لأنه بيحبك، بعدين أنتَ نمت على كتف “أيـوب” وصحيت خدتني ومشيت من غير كلام مع حد، فطبيعي يزعل منك وأنتَ زي ابنه، فهمت بقى؟ صلح موقفك..
أدرك مقصدها وفهم ما تريده وحينها أطفأ لفافة تبغه ثم اعتدل يواجهها وقال بصرامةٍ حادة وبقولٍ بالغ الشدة:
_مستحيل، أنا مش هبرر موقفي لحد ومش هقول اللي جوايا، أنا مش مجبر اخلي الناس تعرف ظروفي وتتعاطف معايا، مبحبش اللي يلف يشحت بوجعه كل شوية، الحياة مش هترحمك وأنتَ بتعيط اللي راح منك وفرمك، دي هتيجي تديك ٩٠ قلم فوق وشك يكرهوك في حياتك وعيشتك، عاوز يفهم صح براحته، مش عاوز برضه براحته، بس أنا مش هروح لحد يا “عـهد”.
بعد مرور ساعتين من الموقف..
_مش عاوزك تزعل يا خالي، حقك عليا بس كلامك عن عشرة عمري زعلني، دول اللي ليا من صغري وكنت معاهم على الحلوة والمُرة قبل أي حاجة، وقفوا في ضهري وكانوا معايا وأخواتي، وكلامك عن “إسماعيل” وجعني، وأنا علشان شايل خاطرك جيتلك أراضيك قبل ما أنام.
كان يتفوه بذلك أمام خاله الذي جلس بصمتٍ يستمع للاعتذار الغريب في وقتٍ أغرب وقد كان “يـوسف” يلعن حظه العسر وحبه لتلك التي تفعل به الأفاعيل ولم يخرجه من شروده إلا صوت خاله وهو يقول:
_يابني أنا بعتبرك الكبير والبكري ليا، عمري ما أزعل منك ولا أشيل من كلامك، وكلامي كان من وجع قلبي بس أنا مش بظلمك ولا بظلم الشباب، أنا عارف أنكوا شوفتوا كتير وكتير أوي كمان، بس علشان خاطري أنتَ متزعلش مني، أنا مقدرش أوجعك وأنتَ مني، دا اللي يوجعك يوجعني يا واد.
ضحك له “يـوسف” ثم احتضنه يربت فوق ظهره، بينما “عـهد” فكانت في الخارج تراقب الموقف ضاحكةً حتى خرج لها “يـوسف” ثم دفعها برفقٍ حتى توجه بها فوق السطح، كانت تضحك والسعادة تملأ وجهها بينما هو فانتبه لها وقال بسخريةٍ:
_عملتي اللي في دماغك برضه؟ أقول عليكِ إيه؟.
وبصوتٍ ضاحكٍ قالت تجاوبه:
_قول إني شاطرة وبعرف أصلح العك بتاعك، بعدين الراجل خدك في حضنه وعدى الموقف أهو، أنتَ اللي راجل بجح وقليل الأدب بصراحة، إيه طول اللسان دا كله، جايبه منين أنتَ أنا مش فاهمة.
أنفعلت في النصف الأخير من الحديث بينما هو فكان الجواب على طرف لسانه لكنه أخفاه بدلًا من أن يرد عليها ويزعجها، لكنه قرر أن يسلك طريقًا آخرًا فمد كفه يقربها منه بعد أن حاوط خصرها بكفهِ ثم همس أمام عينيها بصوتٍ دافيءٍ:
_أنتِ قد شقاوتك دي؟ مترجعيش بس تزعلي وتقولي هزارك غبي، علشان دلوقتي ممكن أحطك على السور دا وأسيبك لحد ما يبانلك صاحب وتقولي حقي برقبتي.
حينها قبضت على قميصه يكفيها وسألته بدلالٍ:
_ههون عليك؟ بعدين عاوز يبانلي صاحب وأنتَ هنا؟ عيبة في حقك دي بصراحة، شكلك هيبقى وحش خالص.
ضحك رغمًا عنه ثم ضمها له بقوةٍ يشدد ذراعيه عليها ثم مسح فوق كتفها وقال بحنوٍ بعد أن رحمت رأسه وعقله من ضجيجٍ أفسد يومه:
_مش عارف من غيرك الوضع هيكون إيه وإزاي بس أنا مبسوط إنك رزقي نصيبي من كل الدنيا، ووعد أول ما نخلص كل دا عاملك مفاجأة حلوة أوي أوي، تستاهليها بصراحة، رغم إنك مشقياني ومغلباني، بس أنا راضي طالما أنتِ معايا وجنبي.
كانت هي بنفسها سعيدة، كانت المدينة الآمنة في ليلة عيدٍ امتلأت بضحكات الصغار وأجواء البهجة، وعيناها كانت خير دليلٍ على فرحة المدينة، المدينة اليوم تحتوي الغريب وتضمه بين ذراعيها وتعلن لأجله أن اليوم عيده وحده، أما هو فتركها في عناقه وهو يشعر ببسمتها دون أن يراها حتى، كانت لحظة صافية من وسط كل الهزائم، وهي وحدها هزيمة بكل الهزائم..
في الأسفل كانت “قـمر” تقوم بجلي الصحون وتنظيف المطبخ وقد هاتفت زوجها تطمئن عليه وهي تعلم أن التعب تمسك في جسده، هاتفته الساعة واحدة صباحًا وانتظرت يجاوبها، لكنه جاوبها بصوتٍ متقطعٍ:
_أيوة..فيه حاجة يا “قـمر”؟.
تعجبت من صوته وقبل أن تسأله قطع السعال حديثه وهي تستمع له بحزنٍ وضيقٍ وما إن توقف وظل يستغفر ربه وينطق الشهادة وقع قلبها وهي تسأله بلهفةِ قلقة عليه:
_أنتَ مش كويس صح؟ باين عليك التعب، بقولك إيه أنا هاجيلك دلوقتي، حقك عليا أنا بس والله أنا مش عارفة أتصرف وأنتَ اللي مشجعني أكون هنا، بس مش على حسابك أنتَ يا “أيـوب” عارفة أني قصرت معاك، بس هاجيلك دلوقتي…
أوقفها هو بنبرةٍ جامدة يردع فعلها بقوله:
_تيجي فين أنتِ دلوقتي؟ الساعة داخلة على اتنين يا “قـمر” ومش هينفع تنزلي دلوقتي، أنا كويس وهاخد العلاج وهروح الجامع كمان شوية، مش عاوزك تقلقي بس خليكِ مع “ضُـحى” أظن بعد قرار خالك دا هي محتاجة ليكِ دلوقتي، وأنا هنا بخير متقلقيش عليا، المهم أنتِ بس نامي كويس بس الأول صلي.
تنهدت بثقل ثم ودعته وأغلقت معه وعادت لما تفعل لكن قلبها تركته معه، وفي الخارج كانت “ضُـحى” تقف واستمعت لحديثها مع زوجها وقلقها عليه فتنهدت بتعبٍ ثم تحركت لها في الداخل وربتت فوق كتفها حتى أجفل جسد “قـمر” بفزعٍ فقالت الأخرى لها:
_دي أنا، حقك عليا يا “قـمر” بهدلتك معايا وقلبت حياتك وحياة جوزك اللي مالهوش ذنب في كل دا، بس أنا ماليش غيرك بقدر أقوله كل حاجة كأني بكلم نفسي، أنا معاكِ بحس أني قدام نفسي مش غريبة عني، فاكرة بابا لما كان بيقول إننا بنكمل بعض؟ كان بيقول إن البيت دا سما واحدة وأنا ضحاها ونهارها وأنتِ قمرها وليلها، أنا دلوقتي باجيلك علشان خايفة تسيبيني أنتِ كمان، حقك عليا علشان خاطري…
بكت وهي تتحدث معها وفي تلك اللحظة ضمتها “قـمر” بقوةٍ وهي تشاركها البكاء وهي تقول بعتابٍ لها نبع من محبتها وعتابها:
_بطلي عبط بقى، دا أنتِ أختي وحتة تانية مني، عاوزاني أسيبك في زعلك وحزنك؟ أديكِ قولتي بنكمل بعض إحنا الاتنين، والحمدلله ربنا كرمني براجل جدع وحنين مقدر قيمة الناس وحياتهم، ادعيله بالله عليكِ، تعبان ولوحده هناك، ربنا يفرحك ويرد لقلبك سعادته من تاني، ويحفظكم كلكم ليا..
استقرت “ضُـحى” بين ذراعيها وهيئتهما تشكل لوحة حنونة دافئة، صورة بنية اللون تحمل الضحى نهارًا والقمر ليلًا وكلًا منهما تكمل الأخرى في وقتٍ مُعتمٍ بداخل الروح والقلب..
____________________________________
<“الخيبة كانت من هؤلاء الذين أعطيناهم الروح”>
ياليتنا ما تباهينا بهؤلاء الذين كانوا لنا دُنيا..
كانوا العالم الذي رمينا أنفسنا به وتركنا حياتنا تمضي منا ونحن نحسب أن الحياة والأيام تسير بنهجٍ صحيحٍ لكننا نسينا أن جهل الناس بنا، يضيع علينا علمنا بأنفسنا، وفي النهاية وصلنا لتلك النقطة وأصبحنا نحن من نجهل قيمة أنفسنا..
في اليوم التالي انتشر خبر الإنفصال بين “ضُـحى” و “إسماعيل” بعد أن هاتفهم “فضل” وطلب من الشقيق الأكبر إنهاء كافة الإجراءات خلال أيام قليلة وإلقاء يمين الطلاق عليها، حينها كان “إسماعيل” بين النارين يقف ولا يعلم أن النجاة وأين المفر، قد يكون العقل فعلها ونسى، لكن القلب يعاتب ويلوم ويذكره بحقه فيها، لازالت ملامحها محفورة داخل رأسه وعيناها التي أرسلت له خطابًا تركت في نفسه شيئًا غريبًا عليه..
أما في شقة “إيـهاب” فكان يتناول طعامه بصمتٍ وابنته على ساقه يمسكها بكفه وهي تلوح بلعبة لينة في كفها تُعضعض فيها بفمها، وحينها أتت “سمارة” تجلس بجواره ثم قالت بحزنٍ:
_ما تحاول تاني مع أبوها يمكن يرجع عن كلامه، هو مفزوع على بنته مقولناش حاجة، بس مش هينفع ينهي الجوازة قبل ما تتم، البت يعني استنت كل دا علشان تطلق في الآخر؟ حرام عليك وعليه بصراحة يا “إيـهاب” دا قطمة ضهر دي.
رفع عينيه نحوها وقال بثباتٍ على عكس وجع قلبه:
_وأنا في أيدي إيه هعمله؟ عندي إيه تاني أقدمه ليهم؟ أبوها وحقه يتمسك ببنته، وأخويا ناسيها وعقله مش معاه، أجبرها على الوضع دا إزاي بس وأنا شايفه خايف على بنته زي ما أنا خوفت على أخويا، حقه يعمل اللي هو عاوزه، وحقي أعمل اللي أنا شايفه صح، ولو جينا للحق الطلاق أنسب حل.
في تلك اللحظة أشفقت هي على حال أخيه لكنها صمتت وهي تعلم أن الصمت خير فعلٍ في هذا التوقيت العصيب، وقد مدت كفها تسحب ابنتها وهي تقول بتهكمٍ مريرٍ:
_والله يا بت كنا فرحانين وكان بيت دماغه عالية أوي، دي عين وجابتنا الأرض، بس أوعدك الحال دا هيتصلح تاني ونرجع من تاني نفرح كلنا، كفاية أنتِ معانا ووسطنا، ياكش بس حظك يكون حلو شوية ودنيتك أحسن من دنيتنا..
في الأسفل ولج “إسماعيل” غرفته وأخرج صورته معها، ثم أخرج عقد القران بينهما ثم أخرج خاتم خطبتها كما أوصاه “مُـنذر” أن يفعل كي تعود الذكرى من جديد للعقل، كان يحاول استفزاز عقله وهو يحاول أن يتذكر وقلبه يخبره بطريقةٍ ما أن ما يفعله هو الصواب لأجل عودتها إليه..
أما في الخارج عند مدخل البيت..
هي الحُرة ووطأت بقدميها أرض سجانها..
أتت وليس المُراد الحُرية، وإنما المُراد كان أسرًا لا تود منه فكًا..
أتت وهي تعلم أن كل ما يصل إليه المرء ماهو إلا نتاج القرارات التي يتخذها بعقلانية أو بمحض التهور الذي لم يُحسب لفعله حسابًا..لذا أتت وكان المجيء بفعل إرادتها الحُرة وكأنها ترغب في سجنٍ وسجانٍ فقط..
وقفت “ضُـحى” في أرض الذكرى التي طال فيها الاحتضان تشتم عبق الذكريات مع نسمات الهواء وصوت الأشعار القديمة يرنو في الأذن مشيرًا لذكرى بالأمس مرت، وقفت وحدها تنتظر قدومه والعين تُكرر المشهد وتعيد إرساله للعقل فينكر معرفته، بينما القلب فكان يُدمىٰ بوجعٍ وآهاتٍ تأنِ بها الروحُ المُتألمة، وقفت تنتحب باكيةً بصوتٍ مكتومٍ يستدل عليه فقط من صوت شهقاتها وقد أخرجها من تلك الحالة قدومه حينما سألها بلهفةٍ كان أساسها صدمته ودهشته بمجيئها من جديد:
_قالولي إنك جيتي وعاوزة تشوفيني، نعم؟.
رفرفت بأهدابها تحاول التخلص من تأثرها بصوته ولهفته، وقد وقفت تفكر كيف للقلوب أن تتألم بهذا الشكل من مجرد صوتٍ لم يكن يومًا عابرًا في الحياة، كانت كما الشجرة التي انتظرت الربيع كي يزهر وردها؛ فإذ بالخريف يُفاجيء حقلها وتحترق ورودها وتسقط أوراقها، ثم تهبط بعد ذلك أغصانها ولازال أثر الخُضرة فيها باقيًا..
التفتت له على مهلٍ وبتروٍ تطالع عينيه أولًا ليطيل الحديث بينهما بالأعين وقد وجدت السؤال في نظراته عن سبب المجيء وهي تعلم أن خبر الإنفصال ذاع إليهم وأصبح يقينًا، لكنها في محض اتهامٍ ومحط أنظار الجُرم وعليها أن تُبريء نفسها لذا قالت بصوتٍ مُختنقٍ متباين المشاعر:
_ أكيد عرفت إننا هنتطلق، بس دي مش رغبتي أنا ومش اللي أنا عاوزاه، يمكن يكون اللي أنتَ عاوزه يا “إسماعيل” بس مش أنا، أنا عمري ما سيبت إيدك في الطريق، وعمري ما أتمنيت أسيبك وأديك ضهري في نص السكة، بس اللي أنا بعيشه صعب، أنتَ أصلًا مش فاكرني، بس طلبي منك في أي وقت ترجع تفتكرني أوعى تفتكر إني بيعتك وزهقت، أنا المرة دي مجبورة على الاختيار دا.
بكت بعد أنهت الحديث بينما هو وقف أمامها بتيهٍ وهو لا يعلم لما هناك رغبة غريبة في احتضانها كأن هذا الفعل فرض عينٍ عليه؟ لما يرغب في أن يُقربها منه حتى ولو العقل يُنكر الفعل عليه؟ كان الفعل غريبًا عليه، بينما هي فوقفت أمامه بصمتٍ وقبل أن تتحرك باغتها بسؤاله التائه في سراديب العقل المغلق:
_هو أنا عمري حضنتك قبل كدا؟.
فرغ فاهها أمامه من جديد وحركت رأسها بتيهٍ تسأله، بينما هو فاقترب مختصرًا كل المسافة بينهما ووقف أمامها يطالع عينيها التي غلفهما الحزن وظهرت سحابة شفافة من البكاء تُغطي روعة المُقلتين، وبعد حديث شقيقه عنها وحديث “نَـعيم” لم يعِ لنفسه إلا بعناقه لها بين ذراعيه بقوةٍ…
باغتها بهذا الفعل بعد إلحاحٍ من قلبه ورغبةٍ قرأها في عينيها وهي بكل غباءٍ استسملت لتلك الموجة التي ضربتها من مجرد وقوفها على الشاطيء، ارتجف قلبها في تلك اللحظة وشعرت أن وطنها يعود لها من جديد، مدينتها تُرحب بها وتفتح ذراعيها لكي تتقبلها من جديد، أما هو فتمسك بها بقوةٍ أكبر وهو يشعر أنه أصبح في مكانه الصحيح، وما إن انفك العناق بينهما وعادت النظرات تتقابل من جديد كان الحديث الدائر بينهما:
في قوانين العشق والغدرِ..
العناق ميثاقٌ لا يُخان، حتى لو نسى العقل،
وقسى القلب، ودمعت الأعين وهربت النظرات،
يظل العناق هو اللقاء الذي لن
يستطع عاشقٌ أن يهرب منه.
سألته بلهفةٍ باكيةً وهي تلمح في عينيه الوميض اللامع:
_مش بأيدي يا “إسماعيل” مش بأيدي ومش بإيدك، أنتَ ناسيني، حضنك المرة دي خايف مش زي كل مرة بتحضني فيها، علشان خاطري متزعلش مني، وأنا والله مستنياك، يمكن الحال دا يتصلح لما نبعد شوية، وعلى فكرة مش هلاقي زيك..
قالت حديثها وابتعدت عنه تستعد للرحيل بينما هو أمسك مرفقها وقال بصدقٍ بعدما ثبت عينيه على عينيها:
_وأنا مش بأيدي أسيبك لوحدك ولا حتى أنساكِ، أنا يمكن أكون ناسيكِ بس قلبي فاكرك، فيه حاجة بتقول إنك تخصيني، ياريتني ما رجعت وشوفتك تاني، علشان لا أنا قادر أنسى ولا قادر أتخطى ظهورك، كنت بحبك إزاي وأي حب دا اللي يخليني تايه قدامك يا “ضُـحى”؟.
ابتسمت هي بوجعٍ وهرعت العبرات من عينيها ثم مدت كفها نحو قلبه وقالت بصوتٍ باكٍ:
_اسأل دا يمكن يجاوبك الحب اللي كان بينا كان عامل إزاي، مش هلوم عليك ومش هلوم عليا، اللوم كله على غدر الدنيا بينا وإحنا تايهين وضايعين من بعض وإحنا قدام بعض، دي مش نظرة عينك ليا، عينك كانت بتاخد عيني بالحضن، دي نظرة واحد بيدور على حد هو مش عارفه.. عن إذنك يا “إسماعيل”..
تركته ورحلت وعن قصدٍ توقفت عند البوابة تنتظر فعله كي يوصلها للبيت كما كان يفعل لكنه حتى لم يلتفت لها، وحينها أدركت أنها تقف أمام غريبٍ عنها وعن قلبها، لذا بكت ورحلت وتركته خلفها يضم رأسه بيأسٍ من حاله وحال قلبه، والأصعب هو حال قلبه..
____________________________________
<“لأن الوجهة تستحق المحاربة، أحببنا المشقة”>
الغاية كانت صعبة المنال..
لكن الوسيلة كانت خير معينٍ في الطريق، ولأن الوجهة تستحق المعاناة والألم خطونا نحو الطريق الصعب ومررنا بالأصعب لكن الهدف والغاية كانوا مُبررين للشيء الذي نبغاه ونُريده، اليوم ونحن على بعد خطواتٍ من الغاية، كانت القلوب تقفز لأجل لحظة حتمية العناق بعد العناء..
أنهى إجراءات الخروج من المطار أخيرًا وقصد وجهته من المطار للمدينة التي يعلمها، كان الطريق شاقًا عليه لكنه فعلها لأجل من يُحب، وصل بعد معاناةٍ في العمل وإقناعٍ لمن يحب، وتأكد من خطواته حتى وصل أخيرًا والفيصل بينه وبين مراده ساعة أو ربما أقل من ذلك.
وقفت السيارة أمام البناية أخيرًا ونزل هو من السيارة وعيناه ترصد المكان كما الصقر الجارح الذي يبحث عن فريسته، ثم أخرج هاتفه يبحث ويتأكد من العنوان وما إن تأكد ولج البناية، ثم توجه نحو الشقة المنشودة وطرق بابها بهدوءٍ ورتابةٍ والغموض يظهر في عينيه، وقد فُتِح الباب له بواسطة المرأة التي تسكن البيت وسألته بتعجبٍ من هيئته:
_أيوة مين حضرتك؟.
رفع عينيها وطالعها بنظرةٍ جامدة ثم سألها بقسوةٍ:
_أستاذ “أحـمد” موجود؟.
حركت رأسها موافقةً وقبل أن تتحدث مرت “چـودي” من جوارها تحمل كوب مياه وما إن لمحته أسقطت الكوب من يدها وركضت نحوه صارخة بفرحةٍ كبرى:
_”مُـِنذر” !! كنت عارفة إنك هتيجي عشاني.
تلقفها وضمها بين ذراعيه بقوةٍ وهو يشعر أن قلبه يقفز من الفرح بينما “عـيشة” وقفت تطلق النيران من عينيها وهي ترى تلك الصغيرة تبكي بين ذراعي هذا الشاب الذي أحتواها بين ذراعيه وظل محتفظًا بها وبفرحته الكبرى معها..

تعليقات