رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والسبعون 178 بقلم شمس محمد


رواية غوثهم الفصل المائة والثامن والسبعون  بقلم شمس محمد

‏يا إله العالمين
يا إله العالمين حنيني دائم
والقلب شاك عليل
سال دمعي يا إلهي
ولولا غربتي ما كان دمعي يسيل
غربتي نجوى ونيران شوق
وأسى باك وليل طويل
وما لي رجاء غير أن تسعى إليك السبيل
إذا ضاقت فنجوى دعائي..
‏ربي إذا ابتليتنا بمعصيةٍ
فلا تبتلينا ذنب المُجاهرةِ بها،
ربّ أينما كان الهُدى اجعلهُ طريقنا،
وأينما كان الرِضا اجعلهُ رفيقنا
وأينما كانت السعادة إجعلها في قلوبنا
اللهمَ اكتب لنا تغيراً للأفضل في أنفسنا وحالنا،
وحقّق لنا ما نتمنى ولا تجعلنا
وجعًا ولا عبئاً علي أحد. يا رب العالمين
_مناجاة”.
____________________________________
لن يخشى البلل من كان يغرق في منتصف اليَّمِ..
وكذلك لن يخشى الظلام من كانت الظلماء تسكنه هو بذاته..
وكذلك لن يُهاب النيران من كانت أيام عمره ماهي إلا حرائق متتالية بالتِباع خلف بعضها، ولن يتضرر بالذكرى من نساها ومر بالعمر مرور الكرام كأن شيئًا لم يكن…
يقولون الناس أني نسوتك، ويصفون قلبي بالجحود لأنه لم يتذكركِ، وفي الحقيقة الغريبة، أن القلب لم ينسَ..
كيف أنساكِ وأنا أراكِ في حبات المطر لامعة، وأراكِ في شروق الشمس ساطعة؟ كيف أنساكِ وأنا منذ أن وجدتُكِ أصبحت لا أبحث عن شمسٍ تُضيء لي أيامي وعمري، وكأنكِ أنتِ النور بداخلي، هل يعقل أن أنساكِ وأحسبكِ بغريبةٍ عني وأنتِ الروح التي في يومٍ ما كانت غائبةً عني؟..
ربما هي حربٌ كبيرة ربح فيها العقل جولة، لكني وبكل يقينٍ أخبركِ أن القلب سينتصر، المشاعر رُبما تثور فتفوز، حبي سيعود، ومن جديد ومن وسط ليلةٍ ظلماء كسابقتها أنا من بين الجميع سوف ساختارك بعدما أعرفك، ففي تلك الحرب لن تجدي البقاء للأقوى، وإنما البقاء هُنا للأوفىٰ، فإن كان عقلي أمامك عاد وانتصر وبدى أمام عينيكِ قويًا؛
فقلبي لكِ يُعلن نصركِ أنتِ عليه، ولأجل الوعد بعينيك كان وفيًا..
<“وعد الحُر دينٌ عليه يوفيه من كان حُرًا لا يخاف شيئًا”>
يقولون أن من أراد العيش حُرًا عليه ألا ينتظر شيئًا..
ومن أراد أن يعيش ذليلًا فليطمع في وصلِ الناسِ لعل وصله يكون في موعده آتيًا، ولعله لم يأتِ من الأساس فيعيش بذلٍ فاقدًا نفسه وتوكله على الناس أجمعين،
أما إذا أردت أن تنتصر فعليك أن تُصادق نفسك،
تواعد أيامك، وتُرافق ذاتك، حتى إذا لم تأتِ أنتَ في موعدك
يصبح الأمر من قبيل المعرفة بالذات والخذلان من النفسِ..
عناقٌ آمنٌ، ذراعان قويان يقبضان حول جسد الصغيرة وهي تعانقه بقوةٍ، قلبه ينبض بعنفٍ لكونه انتصر في ثانِ رحلة بحثٍ عن جزءٍ من الروح، كان اللقاء رغم عدم طيلة مدة الحرمان منه إلا أنه كان قويًا، مفعمًا بالحياةِ والأمل، كانت الروح تحلق بمواجهة الطيور تعلمهم كيف يطير الحُر ويصل لسماه، رحلة لم تكن فعليًا عليه في الوصول، بقدرِ ما كانت شاقة على الروح…
_”مُـِنذر” !! كنت عارفة إنك هتيجي عشاني.
وجملتها كانت خير دليلٍ على تصديقها له ولوعده الذي قطعه، فهو لم يكن بطلها المُفضل لو لم يفعلها ويعود لها ويُعيدها لأرضها من جديد، كانت قصتها تشبه قصة أسطورية من بين تلك القصص التي كان يسردها “إيـهاب” عليها وهي تصدقه وتصدقها والآن تعيش قصةً منهم، خرجت من العناق تطالع وجهه بغير تصديقٍ فوجدته يطالعها بلهفةٍ ثم مسح عبراتها وعاد يضمها من جديد وهو يقول بصدقٍ:
_الحمدلله إني لقيتك، الحمدلله.
وفي تلك اللحظة خرج “أحـمد” أخيرًا وما إن لمحه وقف بتيهٍ أمامه لثوانٍ حتى وجده ينزل الفتاة أرضًا ثم وقف أمامه يعرفه بنفسه قائلًا بزهوٍ وشموخٍ:
_معاك “مُـنذر الحُصري” ابن أخو الحج “نَـعيم” مش فاكر إننا اتقابلنا وش لوش قبل كدا بس تخيل بسببك أنا قطعت المسافة دي كلها علشان آخد اللي ليا، بيتهيألي كدا وماظنش هتكون معرفة خير بينا، خصوصًا لو متفقناش على حاجة واحدة من اللي أنا عاوزها، ساعتها كل كلامي دا هيتغير وهتكلم بطريقة تانية، تحب نقول كلام غير دا؟.
سكت “أحـمد” ولم يجد قدرته على الحديث، ابتلع لسانه وفضل الصمت على الكلامِ لكنه رأى تعلق الصغيرة به وهي تقبض فوق كفه كأنها تخشى رحيله، خاصةً حينما قال عمها بهدوءٍ أشبه بهدوء ما قبل العاصفة:
_طب ممكن تتفضل ونتكلم بالهدوء والعقل؟.
حينها زادت قبضتها الصغيرة تمسكًا بكف “مُـنذر” الذي مسح فوق رأسها كأنه يُطمئنها ثم ولج معه للداخل وهي في قبضة يده لازال يتمسك بها خاصةً بعدما لمح نظرات “عيشة” له ولها وأدرك أن غيرة المرأة تنتصر في النهاية..
جلس الرجلان مع بعضهما وقد زاد تمسك الصغيرة بمنقذها الذي لمح خوفها البائن فقرر أن يقوم باستغلال هذا الخوف لصالحها هي قبل نفسه، فأخفض رأسه يسألها بخفوتٍ:
_أنتِ كلتي حاجة؟.
حركت رأسها نفيًا فمسح فوق خصلاتها وقال بصوتٍ هاديءٍ:
_روحي هاتي أكلك وتعالي علشان أأكلك الأكل كله يلا.
حركت رأسها موافقةً بحماسٍ ثم تركته، بينما عمها فزفر بقوةٍ ثم رفع رأسه يتحداه بقوله القوي الذي تملكت منه قوة كان سببها وصايا من محكمةٍ أعطتهُ الحق في وصاية الصغيرة له:
_أنا لاحظت إنها متعلقة بيك، علشان كدا فضلت أسكت قصادها، بس أنتَ مش هتقدر تاخدها مني، أنا معايا حكم محكمة بوصايتي عليها، القانون مديني كامل الحق، ولو فكرت تعمل حاجة أنا هطلع على السفارة هنا وهما هيتصرفوا، بنت أخويا معايا ومحدش يقدر ياخدها مني، وتقديرًا بس ليك هخليك تقعد معاها زي ما أنتَ عاوز، أكتر من كدا لأ.
في تلك اللحظة كان “مُـنذر” وصل ذورة الغضب، خرج من طور التعقل وأصبح في متاهات الهمجية والبدائية حتى أن أمر اقتلاع رأس “أحـمد” من مكانه كان أسهل عليه مما يظن، لكن ثمة اسم واحدٍ فقط ظل يتردد بالعقل يحذره من تماديه بأي فعلٍ كي لا يخسر عودتها معه، لذا وقف أمام “أحـمد” وقال بصرامةٍ:
_الحق دا تبله وتشرب مايته، مفيش حاجة هتخليني أسيبها ليك غير إنك تقتلني وتاخد روحي، علشان دي الحالة الوحيدة اللي هتلاقيني فيها مستسلم ليك، غير كدا لأ، والبت غصب عن أهلك كلهم هترجع، ومتنساش إن أهلك هناك تحت حمايتنا، وأبوك راجل كبير مش حمل بهدلة، الحكاية بسيطة، تدينا بنتنا هنسيب أهلك في حالهم، وأنتَ تعيش حياتك مع مراتك وعيالك، كل طير أولى بلحمه..
_أديك قولت أهو، ودي لحمي ومن دمي، عاوزني أسيبها للغرب وياريتهم ناس عدلة، دول ناس مش هيقدروا حتى يوفروا ليها سمعة كويسة، الناس كلها ملهاش سيرة غير خالها وصاحبه اللي اتجنن بسبب شغلهم الشمال، أسيبها تتربى بفلوس حرام وسمعتها تبقى في خطر طول عمرها؟ حط نفسك مكاني كدا، وقولي هتقبل ليها بالظلم دا؟..
ولأن الظلم أنواعٌ، وأشكاله كثيرة أتت هي بنوعٍ آخر من الظلم..
أتت الصغيرة تحمل صحن طعامها وهي تقول بلهفةٍ فرحة بسبب ظهور بطلها المُفضل من جديد وإنقاذه لها:
_أنا ماكلتش خالص من بدري، بس لو هتأكلني أنتَ هاكل طبقي كله مش هسيب حاجة منه، وكل معايا علشان مش بحب آكل لوحدي.
لمح الإنكسار في عينيها وصوتها، أدرك أن الظلم وصل وتمدد لداخل قلبها حتى أن عمرها الصغير تحمل أكبر بكثيرٍ مما يفترض أن تتحمل، لذا التفت بكامل جسده لها وسألها باهتمامٍ يقتنص الجواب أولًا من عينيها قبل لسانها:
_هو أنتِ هنا مش بتاكلي مع حد؟.
حركت رأسها موافقةً تؤكد حديثه الصادق وحينها توسعت عيناه بغير تصديقٍ ثم التفت لعمها يرشقه بنظرات نارية حادة ثم عاد يلتفت للصغيرة ثم مسح فوق رأسها وحرك رأسه يلمح الشرفة التي تشبه الحديقة الصغيرة، فتنهد بقوةٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_روحي أقعدي هناك وأنا هخلص مع عمو وأجيلك.
تحركت بعدما تركت صحنها بينما هو انتظر رحيلها ثم التفت له ونظراته تزداد حدة وإنفعالًا ثم ترك العقل جانبًا واتبع جنونه حينما هجم عليه كما الوحش الضاري ثم قبض فوق سترته وقال بصوتٍ هادرٍ غيظًا وانفعالًا لأجلها هي:
_بقى هو دا العدل يا حيلتها؟ البت مبتاكلش وتقولي ترضالها بالظلم؟ هو فيه ظلم أكتر من كدا لعيلة صغيرة كانت عايشة متهننة بتاكل أحسن أكل وتلبس أحسن لبس؟ بص شكلها وشوف القهرة في عينيها بحياتها معاكم هنا، لو اللي هي فيه هناك دا كان ظلم، فهي هنا بتشوف منك الفُجر..
دفعه بعد أن أنهى حديثه ثم التفت يطالع المكان خلفه بتشتتٍ لحظي ثم عاد يُطالعه وهو يقول بجمودٍ:
_أنا جاي هنا وعارف كل حاجة، عارف إنك كنت بتحب أمها وكان نفسك إنها تكون من نصيبك، بس دا محصلش، النصيب جمعها بأخوك حي وميت، فاللي أنتَ بتعمله مع بنتها دا مش مبرر لحاجة غير إنك مريض نفسي، مش قادر تنسى مرات أخوك اللي حبيتها، فبتعوض دا في بنتها اللي هي صورة منها، يعني غباء وهبل، وبتخرب بيتك على نفسك، وآخرة اللي بتعمله دا مش هيفيدك بحاجة.
تعجب “أحـمد” من نفسه أمامه وهو يفكر كيف تسهل قراءته للجميع بتلك الطريقة، هل هو وحده الذي يجاهد لإخفاء تلك الحقيقة؟ أم أنه حقًا يسهل القراءة والإفصاح عما بداخله منه عينيه؟ وفي تلك اللحظة ولجت زوجته وهي تقول بقوةٍ وتحدٍ له:
_اختار بقى أنتَ عاوز إيه، لو عاوز بنت أخوك يبقى أنتَ بتخسرني أنا وعيالك، وهرجع تاني مصر وأنتَ هترمي عليا اليمين ومش هتشوف عيالك تاني، بس لو فكرت شوية بالعقل وقررت تحسبها صح أنا هفضل معاك زي ما بدأت وجيت هنا معاك، بس غير كدا لأ، مش هقبل أعيش معاك وأنت عقلك بيفكر في واحدة تانية، وياريتها ليك حق حتى فيها، دي كانت مرات أخوك، يعني الغلط من كل النواحي..
سكت في هاته اللحظة، سكت وفضل الصمت على حاله وحال عشقٍ كان صعبًا منذ أن غرس نبتته الأولى في قلبه، فمنذ البداية كانت الزراعة خاطئة، كيف يأمل في حصادِ مثمرٍ؟..
____________________________________
<“أنا الموطن الرث الخرب، لا تقترب وإلا ستغترب”>
إذا كنت تظنني مأوى؛
سأخبرك أنني الموطن الخرب،
وإذا كنت تحسب صمتي هدوءًا، فهذا الهدوء هو نتاج عقلي المُضطرب، وإذا كنت تراني بلادًا فأنا الرقعة التي فيها سوف تغترب، وإذا كنت ترى فيَّ خيرًا،
فهذا الخير زرعه بداخلي بعض الصالحين
ثم رحل وترك الغربة في داخلي تعترب..
عادت والخيبة ترافقها، وألم الروح يُصادقها، كأنها أكتسبت من الآلام رفقة جديدة لن تُفارقها، عادت من موطنها الذي غربها لتلتحد بموطنها الأم ومنه ولجت غرفتها حيث موطن الخيبات والآلام، عادت “ضُـحى” في الليل بعدما تحولت آمالها إلى آلامٍ مُهلكة تُفتت قلبها الذي ظن الخير في أهله، ذهبت لموطنها يأويها فوجدته أقسى من بلادها وغربها عنه، نفى الحب الذي كان وقال أن كل ما كان قد كان..
لم تنس عناقه لها وتشبثه بها، لكن ثمة مشاعر ناقمة طمعت في المزيد منه، كانت تطمع طمع المحارب المستبسل عند عودته لموطنه أنه سينل التعظيم والتكريم، لكنه لم يتوقع ولو للحظةٍ خائنة بداخل سراديب عقله السوداء أن هذا الوطن سوف يتبرأ منه ويُنفيه كما لو كان مُذنبًا عظيمًا في حق أرضه ووطنه..
استشعرت “قـمر” عودتها فولجت لها الغرفة بملامح وجه شاحبة والقلق يأكلها كأن هناك ما يُخيفها وحينها اقتربت تجلس بقربها وهي تقول بقلقٍ:
_عملتي إيه لما روحتي؟ قولتلك بلاها خالص أنتِ مش حمل وجع زيادة يا “ضُـحى” وتعب لروحك، استفدتي إيه غير إنك راجعة مهزومة كدا من كل الدنيا؟ كان ناقصنا يعني “إسماعيل” ييجي عليكِ هو كمان؟.
تهاوت العبرات فوق وجنتيها وقالت بصوتٍ مختنقٍ وهي تواجهها بعينيها الدامعتين وتعبر عن اختناق روحها:
_كان واحشني يا “قـمر” وكان نفسي أشوفه، خدتها حجة علشان أتأكد هو عاوزني ولا لأ، قولت يمكن قلبي يصعب عليه ويفتكرني، افتكرت نفسي قدام “إسماعيل” اللي أنا حبيته وحبني، بس إن جينا للحق ياريتني ما عملت كدا وروحت شوفته، جيبت لنفسي وجع أكبر من اللي فات كله، ياريتني ما شوفته ولا روحتله..
انهارت باكيةً وهي تخبرها بجملتها الأخيرة وفي تلك اللحظة ضمتها “قـمر” وتركتها تبكي كما تشاء، لم تعاتب وتلقي باللوم، حتى لم تحاسبها على فعلها وإنما تركتها ترتكن إليها كأنها خير الجدار وخير المُتكيء لنفسٍ مائلة لم تجد ما يُساندها..
تركتها “قـمر” وخرجت من المكان وكل ما يدور ببالها هو عدم جواب زوجها على مكالماتها، وعدم قدرتها على تواصلوا معه، لذا عادت تكمل صنع الطعام حتى تستطع الرحيل من البيت والذهاب لزوجها كي تطمئن عليه..
أما “ضُـحى” فتحركت نحو الصندوق القديم الموضوع فوق طاولة الزينة ثم التقطته وفتحته بتروٍ وأخذت منه الخطاب الموضوع بداخل مظروفٍ فرعوني بُني اللون، كان خطابًا وصلها منه لكنها لم تهتم بفتحه قبل زفافهما، كانت تأمل في قراءة الخطاب أمام عينيه وتلمح تعابيره هو بذاته، لكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السُفن، اليوم تفتح الخطاب بالإجبار لعلها تفلح في مواساة نفسها، أو ربما يكون هناك من الحديث ما يريح قلبها العليل..
كانت البداية بالسلام أولًا والكلام ثانيًا حيثُ:
_السلام عليك وعلى قلبكِ أيتها الضُحى..
وإن لم تجدِ مني وداعًا فهذا وداعي لكِ، وداعي حيث أنا هُنا وأنتِ هناك في الضفة الأخرى ويفصل بيننا نهرٌ كان ينضب ويصب في قلبي صبًا، اليوم يكتب لكِ قلبي بضعفي وقلة حيلتي،
يكتب مني ذاك الجبان الذي يخشى الدنيا بقدر ما يخشى الصغير الزحام فيمسك في ذيل عباءة أمه وهي تسير وسط الناس، أنا هو ذاك الطفل الذي أراد أن يتمسك في طرف عباءتك حتى لا أتوه عنكِ وتفلت يدي عن يدكِ..
اليوم أكتب وأنا الخائف من شيءٍ مجهولٍ لا أعرفه، لكن قلبي يراه، قلبي الذي اعتاد غدر الدنيا يعلم أن فرحتي تلك ينقصها شيءٌ، وهذا الشيء قد يكون التصديق من قلبي، فأعذريني عزيزتي، فعالمنا هذا لم يترك لي فرحةً واكتملت،
وإنما كل شيءٍ كان يُسلب مني ومعه يضيع جزءٌ من الروحِ؛
لكنها دُنيا، والجدير بالذِكر أنها لن تَدُم طويلًا،
لذا لعلنا في مكانٍ ما وفي عالمٍ ما وفي مدينةٍ ما، بطريقةٍ ما ومن وسط الزحام نتلاقى من جديد، نبدأ في عالمٍ يُنصف الحُب ويُعيد لنا الذكرى، نبدأ ولا نُبالي بكل ما كان في العالم الخالي،
وبشأن معرفتكِ لا تقلقين، سأجدكِ من بينهن، ومن وسط الزِحام سوف أعرفك، عيني ستعرف عينيك، قلبي سينادي قلبك، كفي سوف يرتفع ويلوح مُناديًا لقلبكِ كي ينتبه له ويمسك بكفك كي يعانقه، ولا تنخدعي بمظهري القوي، فأنا أرق من جناح طيرٍ مكسورٍ، لذا سأجدكِ يا طيري، ولن تهنأي مع غيري،
سأعلمك وأعرفك؛ وكيف لا أفعلها وأنتَ الضُحى من بعد ليلٍ مُعتمٍ حتى اسميتك أنا من فرط أملي ضُحاي،
كيف لا أفعلها وأنا الطير السجين
ومن بين كل الحُريات والمواطن كنتِ أنتِ سماي؟.
مرة وثانية وثالثة تكرر الخطاب بعينيها، فتذهب الكلمات لقلبها، مرة وأخرى وأخرى تقرأ بالعين ويبكي القلب، لا تعلم هل تصدق الحديث المكتوب، أم تُكذب القلب الذي يخبرها بحقيقة ما تم تدوينه، أم تهرب من كل شيءٍ حولها وتسبقه لهذا العالم الآخر لعله يأتِ لهناك فيعرفها !!، كل شيءٍ حولها يدعوها للإقتراب إلا عينيه، قالت ما لم يسع للقلب جهله، والحديث كان:
“لا تقترب، إن كنت تحسبني موطنك،
أنا الوطن الرث الخرب، وفي حناياه عن نفسك سوف تغترب”..
____________________________________
<“أما القلب فهو يعرفك وأنتَ أهله بكل ناسه”>
القلوب مرآة القلوب..
فمن غير القلب أدرى بالقلب الآخر الذي يُعاني؟
ومن غير النصف الآخر يشعر بالنصف الثاني؟ فهذا قلبي وهذا قلبك وأمسى الاثنان قلبًا واحدًا إذا تألم نصفٌ؛ تألم لأجلهِ النصف الآخر، أنا هنا وأنتَ هُناك وقلبي مرآة قلبك أينما كنت وأينما حلت خُطاك..
يعود أخيرًا والعودة لبيتهِ تشمل معنى السكن وتفسر مقصد الراحة، نعم لم يكن بيتًا مثاليًا كما يظن ويحسب، لكنه بيت الحياة كما يفهم، يعود لبيتهِ هاربًا من ضجيجٍ يسكنه ولا يتلاشى إلا برؤيتها، كل شيءٍ هنا يهدأ من الثورة وكأنها الهُدنة له من طرف الحرب قبل أن يعود لقصفهِ المُبرح من جديد، ولج الغريب مدينته ووطأ بقدميه شقته وهي تقوم بتحضير الأطباق كما المُعتاد منها كل يومٍ عند قدومه، لذا ما إن ولج أتت هي تقول بلهفةٍ:
_ابن حلال وأمي شكلها بتموت فيك، لسه كنت بغرف لنفسي علشان آكل، هتاكل معايا بقى صح؟ مش هتعمل زي كل مرة !!.
وفي الحقيقة هي تعلم الجواب مُسبقًا، سوف يرفض الطعام ويخبرها أنه تناول الطعام في السابق في العمل مع الزملاء، وهي تعود وتتناول الطعام وحدها، لكن تلك المرة لن تصمت، لن تقبل بهذا الوضع، لذا تركته يدخل غرفته ويبدل ثيابه، بينما هي وضعت الطعام لنفسها وقبل أن تبدأ تركت الملعقة وهي تُغمغم لنفسها بما لا يُفهم من الكلام ثم ولجت له مباشرةً وهي ترفع صوتها في وجهه بقولها:
_دي مش عيشة على فكرة بقى، مش كل يوم هحضر الأكل وتيجي واكل من برة يا “يـوسف” كأني جارية عايشة هنا، خلاص طالما بتاكل برة بلاها أكل ووقفة وتعب ومجهود على الفاضي، وأجيب ليا أكل من برة أنا كمان بقى، أهو نوفر برضه.
لاحظ ثورتها عليه فالتفت يبحث مع من تتحدث بتلك الطريقة ثم عاود النظر لها وقال مستفسرًا بسخريةٍ بالغة ظهرت في حديثه وتعابير ملامحه وعينيه:
_أنتِ بتكلمي مين كدا يا “عـهد” وبتعلي صوتك؟.
رفعت كلا حاجبيها باستنكارٍ أمامه وحينها تجاهلها هو ثم تسطح فوق الفراش وفرد جسده أمامها حتى اغتاظت هي أكثر وحينها اتجهت نحو الفراش ثم سحبت الوسادة من أسفل رأسه وضربته فوق وجهه بها، في تلك اللحظة وأمام شياطينه الحاضرة قفز من موضعه يُطالعها بنظراتٍ حادة جعلتها تقف كما الورقة في مهب الريح أقل فعلٍ يصدر سوف يُطيح بها…
طالت النظرات بينهما وهو يبث فيها الرعب أمامه ثم مسح وجهه بكلا كفيه وقال بيأسٍ:
_أنا دلوقتي في جوايا واحد عاوز يجيبك من وشك دا يكسر عضمك لحد ما تخفي من وشي ملمحش وشك تاني، وفيه جوايا واحد ابن حلال وطيب بيقولي خُدها على قد عقلها وأخزي الشيطان ونام علشان دي مخها تعبان ودماغها على قدها، وأنا مش عارف أسمع كلام مين فيهم، بس لو سيبت نفسي عليكِ هطبق وشك يا “عـهد” والاحسن تخرجي برة.
توسعت عيناها أمامه ووقفت تفكر هل طريقة حديثه الجادة بشكلٍ بالغ الأثر توحي بأن ما يتفوه به صحيحٌ؟ هل حقًا ينوي فعلها إذا اقتربت منه؟ لذا تمردت على حالها واقتربت منه تقول بتحدٍ له:
_ولو مخرجتش يا “يـوسف” إيه هتمد إيدك عليا؟.
التفت لها من جديد في تلك اللحظة يُحدجها بنظرة نارية ثم ضرب كلا كفيه وقال بجمودٍ ونفاذ طاقةٍ للتحدث والكلامِ:
_هو فيه حد مسلطك عليا يا “عـهد” دلوقتي؟ جاية ترازي فيا وخلاص كأنك فاضية وأنا دماغي طايرة؟ جاي مش قادر ومش عاوز آكل ومش عاوز حاجة، خلاص خلصنا، مش كل حاجة هتعوزيها عندي هتلاقيها يا “عـهد” ودلوقتي بالذات أنا مش قادر حتى أحرك عينيا، فهمتي ولا لازم أفسر تاني؟.
حينها أدركت أن المزيد من الحديث قد يُغلق الطرقات المتبقية، لذا أولته ظهرها وهي تغمغم بغطرسةٍ وعنفوانٍ ولم يلتقط هو معظم الكلمات لكنه آثر الصمت ونام فوق الفراش يشعر حقًا أن طاقته الفارغة أصبحت تصدمه بها هي، ما يُعانيه طوال اليوم بالخارج يُلقيه عليها هي وحدها، لذا أغمض عينيه وظل بعيدًا عنها حتى لا يصطدم بها من جديد وتلك المرة تأخذ الأوضاع حجمًا أكبر من السابق..
ولأن الود يعود في الحديث فياليت كل الأحاديث بالودِ تزداد وردًا كما يحدث الآن، فهذا الذي أصبحت المخاوف تحاوطه يلجأ لمدينة آمنة كانت تغلق في وجهه أبوابها كي لا يخترق أي حصنٍ من حصونها، والآن هي بذاتها من تفتح المدن وتختلق الأحاديث معه وهو يعلن إنهزامه وضعفه وقلة حيلته وهوانه، جلس “عُـدي” يستمع لحديث خطيبته في الهاتف وهي تقول:
_كل دا هيعدي متقلقش، الدنيا للأسف مش بتدي كل حاجة وفي نفس الوقت ربك كريم وبيعوض، هيعوضك ويعوضها وكل دا هتفتكروه لما تنسوه وتضحكوا عليه كمان، أختك محتاجة ليك دلوقتي و “نـادر” هيرجع كويس متقلقش، بلاش بس تحبط نفسك، حاليًا أنتَ الحيطة اللي كله بيتسند عليها، باباك ومامتك وعيلتك كلها حتى “يـوسف” كمان واقف علشان أنتَ في ضهره، وأنا بصراحة قولت أدخل معاهم وبقيت بتلكك أنا كمان..
ابتسم رغمًا عنه ثم حرك كفه يقوم بفرك خصلاته وعاد يقول بقلة حيلة حقيقية ورغبة عارمة في الحصول على ماضٍ فات ومر ولم يعد:
_عارفة يا “رهـف” أنا عمري ما كنت متخيل إن حياتنا تتشقلب كدا، من كام شهر بس كل حاجة كانت مظبوطة بشكل غريب، افتكرتها حياة سعيدة سعادة مطلقة، كنت فاكر إن أكبر أزمة عندي هي إني ملحقش اللي بحبه، بس ماكنتش أعرف إن وجع اللي بنحبهم بياكل فينا، خصوصًا لو هما فاقدين الحيل وعشمانين فينا إحنا، تحسي إنك متكتفة وبتتفرجي على غريق في عرض البحر.
حينها قررت هي تأخذ دور الجدار بدلًا عنه لذا قالت بصدقٍ:
_مفيش حياة حد مثالية يا “عُـدي” ومفيش سعادة أبدية ومطلقة، لازم نختبر كل لون وطعم علشان نقدر نميز بعد كدا، الحياة مش لون واحد ومش رِتم واحد، دي مليانة حاجات كتيرة وإحنا بس بنخرج من كل مرحلة فاكرينها الصعب والمستحيل ونفتكر إننا مش هنلاقي صعوبة زي دي، بس الغريب بقى إن بييجي الأصعب علينا ونسأل نفسنا أومال عدينا قبل كدا إزاي، الصعب بيعدي أكيد، وبييجي الأصعب، بس إحنا مبننساش، إحنا بنحاول علشان عيبة في حقنا نقف من غير محاولة..
في تلك اللحظة وقبل أن يتحدث ولجت له “قـمر” فأضطر هو آسفًا أن يغلق المكالمة مع “رهـف” التي ودعته ثم عادت للعمل الخاص بها تتابعه، بينما هو ركز بعينيه مع أخته التي تنهدت بقوةٍ ثم وقفت تقول بخوفٍ:
_أنا هروح الشقة أشوف “أيـوب” علشان مش بيرد عليا ومراحش المسجد، وسألت “نِـهال” عليه قالتلي إنه وصل من بدري ومظهرش تاني، كل حاجة هنا خلصتها، الأكل والمطبخ، والهدوم كمان، سيب مامتك نايمة علشان تعبانة والسكر عالي عليها بقالها كام يوم، يلا عاوز حاجة؟.
في تلك اللحظة انتفض من مكانه ثم سحب قميصه يضعه فوق السترة القطنية التي يرتديها ثم هندم نفسه وقال بهدوءٍ لها:
_الساعة بقت ١١ بليل يا “قـمر” استني آجي أوصلك أنا وأتطمن عليه معاكِ، بعدين عاوزاه يقول واخدينها مني وجايبينها لوحدها بليل؟ دي تبقى عيبة في حقنا وحاجة تعرنا يا “قـمر”.
وقبل أن تعترض هي أو ترفض قادها للخارج وهي معه قلبها يتحرك بلهفةٍ نحو نصفه وجسدها يندفع للأمام بفعل نبضات خافقها، كانت تُقاد وتُساق لهناك ومعها “عُـدي” الذي لاحظ لهفتها لكنه آثر الصمت وعدم الاستفسار حتى لا تنزعج وتضطر للكذب، وما إن أوصلها للبيت قال بنبرةٍ هادئة:
_أطلعي يلا وطمنيني عليه، وأنا هتحرك علشان أشوف “ضُـحى” وأعرف منها حصل إيه هناك مع “إسماعيل” المهم بس تخلي بالك من نفسك ومن جوزك وخليكِ هنا ماتجيش تاني يا “قـمر” علشان بيتك أولى وأحق بيكِ، يلا أطلعي يا حبيبتي.
أومأت له ثم ودعته وأغلقت الباب خلفه ثم تحركت نحو الأعلى حيث شقتها، كانت تركض وتهرول تقفز الدرج وتتسلقه حتى وصلت وفتحت باب شقتها، وما إن ولجت وصلها صوت القرآن من المذياع ورائحة البخور تفوح بالشقة، لوهلةٍ اطمئن قلبها، لكنها ولجت غرفتها مباشرةً فوجدته ينام فوق الفراش بهدوءٍ وسكونٍ، اقتربت منه وقامت بتحسس بشرته وحينذاك توسعت عيناها..
وجدت جبينه ساخنًا بشدةٍ أسقطت فؤادها، والإحمرار يغزو وجهه، ولو دل حاله على شيءٍ فمن المؤكد هي حالة إعياء صريحة، لذا تحركت بخطواتٍ واسعة وتوجهت نحو المطبخ تجلب الدواء من المُبرد، ثم أتت بعلبة ووضعت بها قطع الثلج وقطعة قماشية ثم جلست بجواره تُراعيه في حالته تلك..
جلست بخوفٍ فتت قلبها وهلعٍ قبض على روحها، ويدها تعمل بمسح جبينه ووجهه وهو ينام بتلك الهيئة المؤلمة التي جعلتها تطالعه بشفقةٍ ثم تحركت تخلع ثيابها وترتدي منامة بيتية ترتاح فيها ثم جلست فوق الفراش وضمته لها تضع رأسه فوق موضع نبضها وكفها يمسح فوق خصلاته وجانب وجهه، ظلت هكذا حتى وصله عبيرها واستشعر تواجدها بجواره، وما بين الحقيقة الصادقة والخيال الحالم فتح عينيه المشوشتين فوجد خصلاتها تسقط بجانب وجهها وعيناها ترصد عينيه بلهفةٍ قلقة قرأها..
ابتسم رغمًا عنه وعاد يُغمض عينيه ثم قال بصوتٍ واهنٍ:
_لو أنتِ هنا بجد هاتيلي أشرب يا “قـمر” أنا عطشان أوي.
وفي نفس ثانية الطلب كانت تُسقيه المياه وتُسقي روحه أيضًا، منت عليه بالرؤية والتروية حتى فتح عينيه من جديد يُطالع وجهها ثم قال بصوتٍ أجشٍ ورغم ذلك كان عميقًا ودافئًا:
_مكانش نفسي تيجي وأنا خربان كدا، حاسبي تتعدي.
مسحت فوق رأسه بحنوٍ ثم لثمت جبينه وقالت بتأثرٍ لأجله:
_فداك، فداك أنا يا “أيـوب” قولي بس أنتَ عاوز إيه؟.
من جديد يتأكد أنها النصيب الخاص به وخير ما نال من الدنيا، لذا عاد واستقر برأسه فوق كتفها ثم صمت لثوانٍ يفكر كيف يخبرها أنه في تلك اللحظة وفي ضعفه وفي أمس حاجته لا يحتاج إلا تواجدها بجوارها، لذا كانت جملته كافية ووافية حينما قال:
_كفاية أنتِ هنا من كل الدنيا، يا أنتِ بكل الدنيا، يا بلاها الدنيا بحالها من غيرك يا “قـمر”.
أنهى حديثه وأغمض عينيه يستسلم للنوم من جديد، بينما هي فبقيت بالجوار مستيقظة لأجله ولأجل رعايته والذنب يتفاقم بداخلها لأجله، كلما فكرت في تلك اللحظة وفي حالته وكيف كانت تبعد عنه طوال الفترة السابقة وهو وحده بغيرها، حركت رأسها للخلف تمسك هاتفها فوجدته كتب فوق ورقة التقويم بتاريخ اليوم:
_”يا يُمنى عيني أخبريني متى اللقاء؟”.
واللقاء كان غير معلومٍ لكن القلوب تعرفه جيدًا
فالروح تواصل الروح، والقلب يشم رائحة القلب
وهي اختارت التوقيت الممتاز وذهبت له حتى تخبره أن لقاء العين بالعين كان ولازال أكيدًا.
____________________________________
<“أنتِ الجزء المُبهج من لوحةٍ قاسية الشرح”>
يُحكى عن فنانٍ بدأ لوحته في صغر عمرهِ..
بدأها منذ أن كان سعيدًا وفرحًا في أيام عمره واختار البهجة بداية الطريق، لكنه لم يظن أن النهايات تختلف، واللوحة تتبدل، والحياة بمسارها تتغير حتى تصبح اللوحة قاسية، وتفسيراتها مُبهمة، حتى عنوانها أمسى مجهولًا، تلك اللوحة تحمل سبعة ألوانٍ فقط، والبقية الأسود يطغو عليها..
في حديقة كبيرة مليئة بالأشجار والزرع الأخضر جلست تلك الصغيرة فوق أريكة رُخامية والبطل يجلس أمامها فوق رُكبتيه، جلس بحنوهِ المعتاد يُطعمها في فمها من الطعام الذي جلبه لأجلها خصيصًا، وهي من فرط سعادتها كانت تأكل بنهمٍ وسعادةٍ بالغة حتى أنها كانت تأكل رغمًا عنها لكن طاقتها جعلت شهيتها تتسع حتى تبتلع كل ما يُقَدم لها..
جلس “مُـنذر” أمامها يراقب ملامحها المتوردة وزرقاوتيها المتوهجتين وهو يفكر كيف لها أن تُعيد الحياة في عينيه بتلك الطاقة؟ كيف تساهم في إسعاده من مجرد نظرة عابرة سعيدة من عينيها له، وما إن أنهى إطعامه لها أمسك المحارم الورقية يمسح لها فمها ثم لثم جبينها وسألها بحماسٍ:
_مبسوطة يا “چـودي”؟.
حركت رأسها موافقةً بقوةٍ عدة مرات ثم ألقت نفسها في عناقه وهي تمسح فوق ظهره وفي تلك اللحظة ضمها له ثم التقط أنفاسه الهاربة أخيرًا وقال بأسى وتعبٍ بلغا أشدهما عليه:
_نشفتي دمي وريقي وراكِ، الحمدلله إنك معايا من تاني.
عادت للخلف تخبره بثقةٍ وشقاوةٍ:
_كنت أصلًا عارفة إنك هتيجي ومش هتتأخر، علشان كدا كلمتك وأنا بعيط علشان تيجي بسرعة بسرعة، عارف؟ أنا أصلًا قولت لعمو إن “إيـهاب” مش هيسيبني وهييجي وهو قالي إني بعيدة خالص ومش هتعرفوا تيجوا، بس هو أهطل أصلًا.
ضحك رغمًا عنه ثم عاد يضمها من جديد وهو يربت فوق ظهرها وكأنه يحمي قطعة منه طالتها يد الماضي سابقًا ثم كرر الحاضر فعله، وهو بين لوحة الماضي وألوانها المتبقية وما بين الحاضر الباهت بلونيه الأبيض والأسود كان يراها هي الجزء الوحيد الملون بداخل لوحة الأيام، وفي تلك اللحظة صدح الهاتف بمكالمة هامة كانت في وقتها جعلته يجاوب ضاحكًا حيث “إيـهاب” المتصل قال بلهفةٍ:
_ها طمني، أمانتنا بقت معاك خلاص؟.
ضحك له “مُـنذر” ثم أدار الهاتف ووضعه بمواجهة الصغيرة التي شهقت بقوةٍ ما إن لمحته وهو يحمل ابنته فوق ذراعه ثم قالت بسعادةٍ بالغة:
_إزيك يا نونو عاملة إيه؟ وحشتيني خالص، أنتِ بس.
تجاهلت “إيـهاب” الذي ضحك رغمًا عنه ثم تجاهلها هو الآخر ووجه حديثه لرفيقه بقوله صارمًا ومتصنعًا فيه الحدة والجدية:
_خلاص بقى يا “مُـنذر” مش لقيتها كويسة؟ روح رجعها تاني ليهم وتعالى بقى تشوف وراك إيه خلينا نخلص، أنا غلطان إني أتصرفت وشوفت حل علشان تروح تجيبها، دي غلطتي أنا أصلًا، وبلغ عمها اعتذارنا علشان خدناها منه وأزعجناه، فيه ناس كدا بتيجي بس بالعين الحمرا.
في تلك اللحظة انتفضت تسحب الهاتف من كف الآخر وهي تتوسله بقوله قبل أن يتراجع وينفذ ما تفوه به:
_لأ خلاص خلاص وحشتني أنتَ كمان، بس أنا زعلانة منك علشان أنت مزعل “نـور” و “سـراج” وكنت عاوزه يموت، يعمي آجي أنا أموتلك بنتك بقى؟ ترضاها يا سي “إيـهاب”.
ازداد الضحك أكثر وبانت الفرحة في تلك اللحظة على الوجوه حينما مازحته عن قصدٍ وقد تنهد هو بقوةٍ ثم أعرب بصدقٍ عن حال قلبه في غيابها عنهم منذ أن رحلت ورحلت معها الفرحة:
_تصدقي الحياة فعلًا هنا ناقصها وجودك بس؟ كلنا عاوزينك علشان الأيام مش عتقانا ولا سيبانا في حالنا، تفتكري فيه حاجة ممكن تعوض غيابك عننا؟ دا أنتِ حتة من روح كل واحد فينا هنا، ولو على خالك متقلقيش صالحته وهرجعله حقه كمان، وأنتِ أول حق لازم يرجع يا “چـودي” صح ولا إيه؟.
أكدت ذلك برأسها وقد هرع الدمعُ من عينيها، بينما “إيـهاب” فلمح زوجته تقترب منه، فبدل ملامحه وغير نبرة صوته لأخرى وهو يقول بنبرةٍ لعوب تثير الشكوك في نفس الأبله الذي لم يفقه شيئًا:
_وأنتِ كمان يا روحي وحشتيني، مش هتقوليلي بقى لابسة إيه؟.
وكما خطط حدث، زوجته اقتربت منه بخطواتٍ واسعة ترقع صوتها وهي تسأله بحرقة قلبٍ وقهر امتدت لداخل الروح:
_هي مين دي اللي روحك طلعت روحك يا “إيـهاب” دا أنا هلبسك أنتَ وهي الكفن دلوقـ…..
بترت حديثها ما إن وضع الهاتف نصب عينيها ولمحت الصغيرة وهي تضحك عليها، حينها خطفت الهاتف منه وهي تقول بلهفةٍ قلب باكٍ وبلوعةٍ سرقت الروح:
_يا حبيبة قلبي، أنتِ كويسة؟ علموا فيكِ إيه اللي ميتسموش دول؟ إلهي ربنا ياخدهم كلهم ويريحنا منهم، هترجعي إمتى بقى وحشتينا أوي، البيت من غيرك مالهوش طعم ولا حس، كنتي اللون الوحيد وسط السواد دا كله، أرجعيلنا بقى، تعبنا من غيرك.
ضحكت لها وقالت بثقةٍ في من يجاورها وفي من يخاطبها:
_أكيد هرجع، دي خطة عمهم وصاحب عمهم، بس لما آجي عاوزاكِ تعمليلي الكيكة اللي بحبها منك، وأوعدك مش هسيب طبقي فيه حاجة، هخلصه كله، وحشتيني أوي أوي يا “سـمارة”.
وهكذا انتهت المكالمة بين وداعٍ حار وسلامات لا تنتهي، لهفة ظهرت في الأعين ووداعٍ في النظرات والكلمات، والوعود تنقطع بعودةٍ حتى الآن لم تكن أكيدة، لكن لابد للقلب أن يحيا بأملٍ حتى لو كان زائفًا أو بقايا أملٍ مُهترءٍ..
بعد مرور ما يقرب الساعة نامت الصغيرة فوق كتفه فتحرك بها من الحديقة واتجه نحو الفندق الذي سبق وحجز به لأجل الجلوس والبقاء فيه لحين الإنتهاء من تلك المعضلة، وما إن وضعها بداخل الفراش ووضع مشترياتها الجديدة ثم جلس فوق الأريكة فصدح الهاتف بمكالمةٍ من زوجته، حينها جاوب بلهفةٍ كأنه في أمس الحاجة للتحدث معها، بينما هي قالت بثباتٍ وهدوءٍ:
_طمني، جيبت حبيبتك الشقرا؟.
أبتسم هو ثم عاد للخلف وقال بتنهيدة ثقيلة متعبة:
_جيبتها، بس لسه تحت التنفيذ، مرات عمها ساعدتني دلوقتي بس أخليها تيجي معايا الفندق، إنما غير كدا عمها راكب دماغه ومصمم ياخدها ويطلع السفارة هنا، وأنا هفضل لحد ما أشوف آخرتها، بس بالوضع اللي جيت لقيتها فيه دا مستحيل أسيبها تاني، تخيلي دول مجابوش ليها هدوم جديدة حتى غير كام طقم، وهدوم البيت اللي بتلبسها بتاعة ابن عمها؟ هسيبها ليهم إزاي؟.
تنهدت هي بشفقةٍ لأجل الصغيرة ثم قالت تتضامن معه:
_معاك حق، بس أنا واثقة فيك وعارفة إنك هتلاقي حل يخليك ترجعها من تاني، شوف رغم إنها ضرتي وبحس إنها بت خطافة رجالة ومش راحمة حد ولا حتى نفسها، بس حرام تتبهدل كدا، بعدين دي خليتك سافرت علشانها، أومال علشاني هتعمل إيه؟.
سألته بسخريةٍ وهي تعلم أنه لن يجاوب مثل كل مرةٍ، بينما هو شرد للأمام يحاول إيجاد أي ردٍ يعبر عن حال قلبه، لكنه لم يجد إلا عبارة واحدة فقط قالها معبرًا عن حاله معها:
_علشانك هقدر أكمل وأعدي، ماظنش في غيابك في حاجة هتبقى كويسة، أنا كويس بس وبتحرك علشان أنتِ معايا ولسه ماسكة أيدي ومتبتة فيا بإيدك، حياتي كلها مشاكل، بس أنتِ المشكلة الوحيدة اللي مش عاوز ليها حل يا “فُـلة”.
ضحكت هي بسعادةٍ وشعرت في تلك اللحظة أنها تُحقق الإنجاز الأكبر في حياتها كونها تنتصر على كبريائه لذا أغلقت معه سريعًا ثم ركضت نحو قطتها تحملها وتدور بها ثم خرجت الشرفة تقف بها بجوار الزرع كأنها مُرايقة تستمع للحديث المعسول لمرتها الأولى في حياتها، لكن تلك المرة كان الحديث منه واجبًا والفرحة منها حقًا..
____________________________________
<“مرة واحدة في العُمر تجد نفسك في عين من تحب”>
مرة واحدة ستجد فيها النسخة الأفضل منك على الإطلاق..
سترى نفسك لامعًا في عين من تحب، ستجد نفسك حاضرًا في البال متواجدًا بالعقل، ستعلم طرقاتك ووجهاتك من مجرد قلبٍ يوجهك ويشير لك على كل طريقٍ صحيحٍ، ستعرف أين أنتَ تحديدًا من وسط كل العالم، حينما تجد وقتك يمر بسعادةٍ دون أن تحسب عمر لحظاتك المارة..
كانت تجلس في الغرفة ببطنها المتكورة بجنينها الذي بدأ يكبر ومعه السعادة تزداد أكثر، كانت تمرر كفها بحنوٍ وهي تبتسم برقةٍ وعيناها تلمع بحماسٍ ووميضٍ خاص لأجل تلك اللحظة وهي تمسح فوق بطنها كأنها تلامس كف الصغير الذي يقبع بالداخل، نعم لازال هناك المزيد من الأشهر ولازال الوقت مبكرًا على حمله ووصل حبال الود، لكنها تشعر بقلبه، تشعر بتواجده، فطرتها تحركت لأجله، وغريزتها تدعوها للشعور به، قلبها الآن ينبض لجسدين، وروحها تُحلق لفردين..
جلست “آيـات” فوق فراشها شاردة الذهن بمفردها حتى ولج لها “تَـيام” الذي صعد من الأسفل يحمل الطعام فوق الحامل الخشبي ثم جلس أمامها وقال يمازحها بصوتٍ ضاحكٍ:
_عيشت عمري كله مبعملش كوباية شاي لنفسي، بس علشان خاطر عيونك أعمل أي حاجة، عاوزة “أيـهم” ييجي يطفحني الدم هنا؟ دا مربيلي الرعب كإنك مراته وحامل وأنا خاطفك، بس معذور برضه، حد يبقى عنده أنتِ ويسيب حد ياخدك منه؟.
طالعته بنظرات سعيدة ثم اعتدلت بنصف جسدها وهي تقول بصوتٍ هاديءٍ يغلبه النعاس:
_يا بختي بيك وبيه وبيكم كلكم، أنا مش هنسى إنك برضه فضلت كتير بتعمل فوق طاقتك وفضلت معايا وجنبي، بس عارف؟ أنا اكتشفت حاجة مع الحمل غريبة أوي، إنك جبان أوي على اللي بتحبهم، مربيلي الرعب ليه هو أنا ناقصة توتر منك يعني؟ هبقى حامل ومتوترة كمان؟.
تحرك هو يجلس بجوارها ثم ضمها له وتوسدت برأسها صدره ثم حرك كفه يُدلك خصلات رأسها وحينها بدأت تنام بجواره بينما هو فتنهد ثم قال بصوتٍ دافيء ورخيم:
_ماهو أنا أول مرة أجرب، بعدين أظن يعني بعد اللي حصل ليا في الدنيا دي مكانش سهل عليا أتقبل فكرة إني بقى ليا حياة تانية زي اللي رسمتها في خيالي، هما قالولي إن الأساطير مش بتتحقق ولا حد بيوصلها، بس أنا وصلت، حققت حلمي وبقيتي ليا وقريب هتكوني أم ابني أو بنتي اللي جاي كمان..
رفعت عينيها له ثم رفعت رأسها تسأله بنبرةٍ ضاحكة:
_”تَـيام” هو أنتَ حلو أوي كدا ليه؟ وأنا ليه اكتشفت متأخر كدا إني بحبك أوي كأني ماكنتش بشوف قبلك؟ وليه لما بشوفك برتاح وبحس إني خدت نصيبي الحلو من الدنيا؟ نفسي أفرحك أوي، نفسي أخليك مبسوط علطول، أعمل كدا إزاي؟.
والجواب بكلمة واحدة مختصرة وفعلٍ واحدٍ لا أكثر، حيث أنه ضمها له من جديد ثم لثم جبينها وقال بصدقٍ لرغبة قلبه:
_خليكِ معايا، كفاية وجودك بس.
ضحكت هي بسعادةٍ وقبل أن تنام وجدته يُبدل نبرته للهجةٍ آمرة:
_قومي ياما، قومي يا ست أنتِ علشان تاكلي، هو كل يوم هتغفل بكلمتين حلوين منك؟ فوقيلي بس كدا علشان منزعلش من بعض.
استفاقت هي بمللٍ ثم اعتدلت بتذمرٍ وتبرمٍ، بينما هو بدأ يُطعمها في فمها بحنوٍ منه وكلما تناولت الطعام منه ابتسم لها أو دعمها بقبلة فوق الجبين حتى تُكمل تناول طعامها، بينما هي فرأت فيه أبًا عظيمًا حتى قبل أن يحمل صغاره فوق يديه ويشعر بقربهم منه ومن قلبه..
في الأسفل حيث غرفة “مُـحي” كان في غرفته يقرأ من كتاب الذِكر الحكيم وقلبه يُضاء بنورٍ لا يعلم له سببًا، تعلقه أصبح ملحوظًا بكتاب الله في كل وقتٍ وحينٍ، حتى لو كانت البداية كما ظن هو أنها لأجل الوصول لشيءٍ يريده هو، الآن أيقن أن الخالق من عليه بالرحمةِ وكتب له الهدايا بعد إبحاره في الآثام والخطايا، الآن وقف فوق الأرض الصلبة وأدرك أن حياة المعصية فائتة ورغم ذلك أثرها سيبقى حملًا عليه، أما الآن فهو يبدأ عهدًا جديدًا آملًا من الخالق أن يدوم في السير له، أغلق الكتاب بعد مراجعته على الحزب الذي حفظه ثم همس بخفوتٍ:
_اللهم اجعل القرآن شفيعًا لنا يوم القيامة، اللهم الثلاثون قبل الثلاثين، اللهم اجعلني من الحافظين لكتابك والموفيين بعهدك، اللهم أني توكلت عليك فلا تكلني إلى نفسي طرفة عينٍ..
وفي الجهة الأخرى كانت “جـنة” تُقيم ليلها فوق سجادة الصلاة ومع كل ركعةٍ تذكره بصلاح الحال والتوبة والهدايا لطريق الحق، كلما بدأت الدعاء وجدت اسمه يُذكر قبل اسمها هي، لذا تنهدت بقوةٍ وهي تنهي الصلاة ثم جلست تضم كفيها وتتضرع للخالق أن يجمعهما كما يجمع كل شتيتين ظنا أنهما لن يلتقيا..
____________________________________
<“ومن بين كل الناسِ العين أدركتكِ أنتِ”>
”إنّ المرء منّا لَيشعر بالألفةِ حتّى مع شجرةٍ جلسَ تحتها أكثر من مرّة… فكيفَ ينسى من ألفتهُ الروح؟!“ فهل يُعقل أن هؤلاء الذين أخذوا جزءًا من الروحِ ننساهم وننسى ما كان بيننا معهم؟ أيعقل أن يوفي المرء الحقوق لكل جمادٍ وطيرٍ ويبخل بتلك الحقوق على من هم رفقة الروحِ؟..
بعد مرور يومين..
وفي ليلة الخميس كانت شقة “فـضل” ممتلئة بالجميع تقريبًا، كل أفراد العائلة مع بعضهم في شقته وهو يجلس في انتظار مجيء “إسماعيل” و المأذون وشقيقه معهما حتى يُخلص ابنته من تلك الورطة التي ارتبطت باسمه واسمها، كان يعلم أن منبع القسوة أتيًا من قراره هذا لكنه لأجل ابنته يفعل أي شيءٍ، لذا كان يحاول أن يبدو صامدًا أمام الجميع وفي حقيقة الأمر كان يشعر أن الروح بداخله تُقتل بموضعها..
أما “ضُـحى” فتلك انعكست صفات اسمها كُليًا فلم تعد تملح شعاع نورٍ واحدٍ من على بعدٍ، فقط كل ما يُحيط بها هو الظلام الأكيد والغسق المعتم يحاوط كل الآمال، شمسها غربت ولم تشرق من جديد، والغمام تغطي الدرب الذي أصبح مُعتمًا، جلست تتشح بملابس سوداء في غرفتها تنتظر غرس السكين في قلبها على هيئة كلمتين يحل وثاقه عنها بهما، وما إن تذكرت قسوة المشهد وضياع الأحلام عادت للبكاء من جديد..
في الأسفل توقفت السيارة بالرجال ونزل هو آخر فردٍ منها، شعر بشيءٍ غريبٍ تجاه البيت، هناك ما يُخبره أن هذا البيت هو يألفه ويعرفه، لمحة واحدة تجاه البناية جعلته يقف وحده وعقله يحاول تذكر أي شيءٍ، بينما القلب فكان بالفعل أسيرًا وأخبره أنه حقًا سبق وسُرِقَ منه هُنا، ولج البناية وعيناه تبحث وتفتش عن شيءٍ حقًا لا يَعلمه هو، وقد ولج بالفعل ليلمح المشهد الأكثر رعبًا له، الجميع في انتظاره وهو أتى لهم بكل حريةٍ ولا يفهم ما يتوجب عليه فعله..
جلس حيث موضع إشارة شقيقه وجلس المأذون وأمر بقدوم “ضُـحى” التي خرجت تستند على كف “قـمر” التي كانت معها ولم تتركها من صبيحة اليوم، التقت النظرات ببعضها بينهما وكلٌ منهما يتذكر ما يحفظه عقله، هي تتذكر حياة كاملة، وهو يتذكر عناقًا سرقه بحجة التذكر، وفي الحقيقة كان وداعًا أخيرًا وصامتًا منه، طال الحديث بالأعين وهي تُعاتبه، بينما هو فكان يشعر أنه يغدر بها حقًا، كأنه يمسك سكينًا ويُجبر على ذبح روحه..
بدأ المأذون الحديث بديباجةٍ معتادة عن أكره الحلال وأبغضه عند الله، وكرر آيات القرآن الكريم لعل حديثه يفلح في التراجع عن القرار لكن الإصرار كان ثمة موحدة من كل الأطراف أن الطلاق هو الحل الوحيد، لذا وضع الدفتر أمام “إسماعيل” الذي رفع عينيه نحوها فوجدها تبكي بصمتٍ وقهرٍ كأنه حقًا ينزع روحها عنها، لذا تألم قلبه لأجلها وقبل أن يمضي نظر لشقيقه الذي فهم مقصد النظرة فقال بأملٍ في الموافقة:
_طب ممكن بعد إذنكم يقعدوا مع بعض آخر مرة، على الأقل لو عاوزين يقولوا حاجة لبعض يقولوها براحتهم، وبعدها كل حاجة هتتم، متخافش يا أستاذ “فـضل”.
_حقهم يابني مقولتش حاجة، محدش عارف الخير فين.
هكذا كان الجواب من “فـضل” الذي سمح لابنه أن يتحرك ويقود شقيقته للداخل وبعدها ولج لها “إسماعيل” ثم تم إغلاق الباب عليهما، وقف أمامها يتابع ملامحها بعين الشفقة ولوهلةٍ كرهت هي ضعفها أمامه لذا مسحت وجهها بقوةٍ ثم هدرت بجمودٍ كاذبٍ:
_صعبانة عليك صح؟ حاسس إنك بتشفق عليا وأنا منظري كدا قدامك، عارف إن في يوم من الأيام كنت أنا اللي بقويك؟ كنت أنا اللي بشد إيدك علشان تكمل، كنت بقف وأقولك عاند في الدنيا، بس تصدق أنا صعبان عليا نفسي منك؟ علشان أنتَ حتى مستكتر عليا المحاولة، مش عاوز تسمعني، عينك مكدباني وأنا مكانش ليا غير عينك تتباهى بيا يا “إسماعيل”..
هرع الدمع من عينيها وازداد تهدج صوتها أكثر، فأمسكت كفه تضعه عند موضع نبضها وهي تضرب به عدة ضربات فوق خافقها وتسأله بقهرٍ:
_مش فاكر دا؟ مش فاكر ليه أي حاجة حلوة تخليك باقي عليه؟ ناسيني يا “إسماعيل” وناسي أيامي؟ حط عينك في عيني وقولي أنا ناسيكِ، أرفع عينك وكدب عيني اللي بتحبك وحفظاك، بتهرب مني تاني ليه؟ رد عليا بطل تسكت كدا؟؟ نــاسيني؟ ناسي عيوني؟ خايف مني تاني يا “إسماعيل”؟ نسيتني أنا مين؟..
والأسئلة بأكملها الجواب شفهيًا لن يُجديها نفعًا، لذا كان الجواب مختلفًا حيث خطفها في عناقه يحتوي نوبتها وهي تبكي وتصرخ حتى كُتِمَ صوت بكائها وصرخاتها في كتفه وهي تهزي بغير تصديقٍ كأن العقل فر منها:
_نسيتني ليه يا “إسماعيل” وواجع روحي عليك..
والجواب منه حتى لو كان كاذبًا لكنه علاج الروح المُتألمة، فلم يبخل عليها أكثر من ذلك، لذا ضمها يمسح فوق رأسها وقلبه يؤلمه لأجلها هي، لكنه هتف بصدقٍ مستمعًا تلك المرة لقلبه بدلًا من عقله:
_دا أنا نسيت نفسك ومانستكيش يا “ضُـحى”..
والجواب هُنا على هيئة حروف تشكل دواءً..
والداء في الروح نفسها والقلب يأمل حتى ولو بكلمة كي يشفى..

تعليقات