رواية غوثهم الفصل المائة والثمانون
حسبي الله
حسبي الله ونعم الوكيل
بالله إيماني وفيه رجائي
وإلى علاه ضراعتي وبكائي
يا مؤنسي في وحدتي
يا منقذي في شدتي
يا سامعا لندائي
فإذا دجا ليلي وطال ظلامه
ناديت يا رب كنت ضيائي
سبحانك جل جلالك يا الله
أدعوك يا اللهُ وأنت الباري أنت الذي أوجدتنا
وخلقتنا أنت العليمُ بدقةِ الأسرارِ
بيديكَ أنت الأمرُ ياربَ الورى،
وإليك .. وإليك يرجعُ محكمُ الأقدارِ
_”ابتهالات”
____________________________________
ستألف فقدان ما فقدت، كما ألفت تواجد ماهو موجودٌ..
لكني في الحقيقة لم أعد أرغب في ألفة أي شيءٍ،
لم أعد أرغب حتى في القتال لأجل شيءٍ لم يُناسبني،
اليوم غادرت أرض العراكِ ورميت سيفي ورُمحي وتركت الحرب تقوم بدوني، فلم أعد أشتهي القتال والصراع مع أحدٍ،
بل جل ما رغبت فعله فقط أن أرح يداي من التمسك بسيفٍ يذبح كفي ويُبلل الثرى بدمي، أنا من كانوا يسألونه عن الدواء،
أصبح قلبه مسكونًا بالداءِ، فعليلٌ أنا وكُلٌ يحسبني المداوي،
وأنا الذي تعذب فؤاده ولم أجد من عذابيِ مآوي،
يقولون الناس أن الكلام من فضة والصمت من ذهبٍ،
لكن كيف تغافلوا أن الصمت المُثقل بالروحِ أثقل من الجبلِ؟
اليوم أنا أمامك هاديءٌ وصامتٌ، لكن عقلي لم يهدأ، وروحي لم تبلغ راحتها، أنا بين حبال الهوىٰ أتراقص ولم أجد مرسى من بين طوفان نفسي، تمامًا أنا كما الفكرة العالقة بعقل مبدعٍ ولم أجد الشغف الذي يحثه على التنفيذ، أنا الأمر المُحال لك أن تفصحه لكنه يظهر في عينيك، أنا لو أردت أن تعرفني،
سأخبرك أنني “فقدان الشعور بكل شيء”..
حتى دمي النازف في معركتي وجرحي الغائر في قلبي..
<“مرة واحدة نعود للقتال، بكل مرةٍ تراجعنا بها”>
الحرب حربي والمسلك دربي..
لكني ما بين خوف الاندفاع وعدم الرغبة في فعل شيءٍ أتراجع للخلف مرةً ثم أعود وأندفع آلاف المرات، اليوم لن يُفيدني البكاء، ولن تُجديني الشكوى، فأنا لم أكن مقتولًا أطلب الشفقة، وإنما أردت أن أكون قاتلًا يطلب المغفرةِ، ولو كان السير في الجحيم جحيمًا، فأنا جحيم بذاتي..
_أنا، أنا اللي هساعده وهاخد روحك بإذن الله.
أتى الصوت من الخلف وقد التفت “أحـمد” لصاحب الصوت فوجد أمامه “يـوسف” يرمقه بنظراتٍ ثاقبة وحينها قال “أحـمد” بغيظٍ منهما بعدما ظنها لُعبة منهما:
_هو أنتوا مجانين؟ أسلوب البلطجة بيجري في دمكم؟ أنتَ مش الغريب اللي جيت محدش عارفلك أصل من فصل وحياتك وتاريخك كلها ماضي هباب؟ أنا مش هسكت ليكوا، هطلع السفارة وأجيب حقي وحق بنت أخويا منكم.
وفي لحظته وفي حديثه دفعه “يـوسف” ثم أغلق الباب ثم قام بخطفه ووضعه خلف الباب وقبض فوق عنقه ثم هدر من بين أسنانه المتلاحمة بغيظٍ:
_استعد بقى بروح أمك للي جاي مني ليك، علشان هتخرج من هنا على المستشفى، بسم الله يلا نبدأ..
ازدادت قبضته فوق عنقه أكثر والآخر يحاول الدفاع عن نفسه بينما “يـوسف” فكان أعمى في غضبه، يرى نسخة أخرى من “عـاصم” تتجلى في طباع “أحـمد” بنفس الأنانية المُجحفة، يكره كون الكبار لم يرأف أيًا منهم بالصغير، لذا شدد قبضته وهدر من بين أسنانه:
_أنتَ عاوز إيه بالظبط؟ مستكتر عليها تعيش مبسوطة؟ عاوزها نسخة منك وزيك؟ عاوز تدمرها ليه؟ سيبها تعيش براحتها، سيبها للي بتحبهم وخليها تطلع مرتاحة في حياتها متحكمش عليها بالغربة، بتحرمها من أهلها ليه وهي مالهاش غيرهم، عاوز تضيع الحلو اللي فاضل ليها في الدنيا؟ عاوزها تبقى نسخة مننا؟ عاوز إيه غير إنك ناوي تـِدمرها !!!.
صرخ بجملته الأخيرة وهو يدفع رأسه بينما “مُـنذر” فضم “چـودي” بحمايةٍ وهي ترتجف في عناقه وتتمسك بثيابه، أما “يـوسف” فسحب “أحـمد” ثم تركه بجوار المقعد وجلس هو في مقابله وهدر بإنفعالٍ:
_بص علشان أنا مش بتاع كلام، آخرك معابا جيبته، والبت معايا قصاد كدا أهلك هناك هنسيبهم ويبقوا في عنينا ويا دار ما دخلك شر خلاص، هتكتر معايا ورحمة أبويا لأخلي أمك تمشي في الشارع حافية من حسرتها، علشان أنا مش مختوم على قفايا وداخل عليا طقم الحنية بتاعك دا، فاهم اللي فيها.
وفي تلك اللحظة وقف “أحـمد” أمامه يهدر بصراخٍ:
_أنتَ عاوز تاخدها مني زي ما أبوها خدها مني؟ عاوز تحرمني من آخر حاجة باقية منهم؟ عاوزني أنساها واسيبها للغريب يربيها وأنا عايش على وش الدنيا؟ عاوزها تكبر كرهاني ومش طايقة تحبني؟ أنا زي ما خدتها من هناك بحكم محكمة هاخدها منكم هنا برضه بالقانون، ومفيش حد هيعارضني، مش بعد كل دا هسيبها تضيع من أيدي.
أحرج مافي جوفه من حديثٍ ناقمٍ وغاضبٍ أمامهم بينما “يـوسف” فوصل بمشاعره لقمة التبلد، لذا عاد للخلف في مقعده يهتف بمزيدٍ من اللامبالاة:
_تصدق أتأثرت والدمعة هتفر من عيني؟ لأ بجد يعني خلاص قشعرت وبدوب في تمثيلك، عارف بتفكرني بمين؟ بواحد راح لأبوه قاله يابا علمني الهيافة، قالوا يا حبيبي تعالى في الهايفة واتصدر، أنتَ ما شاء الله جاي في دي تعمل راجل وتتصدر؟ كنت فين طيب طول الوقت اللي فات؟ عارف مصاريف مدرستها في السنة بكام؟ عارف النادي اللي هي فيه خالها بيدفعلها فيه كام علشان تكون مبسوطة؟ بلاش، عارف “سـراج” عامل علشانها إيه وكاتب باسمها إيه علشان بس يأمن مستقبلها؟ عارف “نـور” مراته عاملة علشانها إيه ولا دلوقتي حالها إيه وهي مش معاها؟ أنتَ بقى عملت إيه علشانها؟ يا معفن دا أنتَ مستخسر فيها بيجامة، هتصرف عليها المصاريف دي كلها؟.
اندفع في الجزء الثاني من الحديث بينما هي ضحكت ضحكة مكتومة جعلت “مُـنذر” ينتبه لها وهمس في أذنها وهو يحملها:
_تصدقي صعب عليا اللي هيتجوزك من دلوقتي؟.
عادت برأسها تطالع الوضع ثم همست بسعادةٍ لم يستطع قليها الصغير أن يخفيها:
_تصدق صعب عليا؟ بس أحسن يستاهل علشان مش بحبه وكان بيسمع كلام مراته ويسيبني زعلانة، يا رب نخلص بقى أنا جعانة أوي.
وفي تلك اللحظة أدرك هو أن تلك الصغيرة تشربت الطباع بأكملها منهم جميعًا، حتى فنون القوة واللامبالاةِ أصبحت على درايةٍ كافية بتلك الألاعيب كافة، لذا جلس بجوار “يـوسف” وتركها تجلس في عناقه ثم قال بصلدةٍ وحدةٍ:
_بص يا “أحـمد” علشان المُبرر الوحيد لكل دا هو إنك شايف في “چـودي” نسخة جديدة من أمها، ودا أسوأ لو مش واخد بالك، متخربش بيتك علشان ماضي مش هيفيدك بحاجة، أخوك مات الله يرحمه ومراته ماتت هي كمان خلاص، علشان كدا أهو بقولك سيبها ترتاح في حياتها، هي مبسوطة معانا، أديك بنفسك شايف إحنا فين؟ إحنا في بلد تانية غير بلدنا، في مكان غريب علينا ودا كله علشانها هي، تخيل لو حد بس فكر يقرب منها هناك هيحصله إيه؟ متبقاش بتحكم عليها بالموت هنا.
ولأن التمسك صفة أصيلة في قلب العنيد، كان يتمسك بقرارهِ، يرى أن الصواب هو ما يفعله، لذا قرر أن يُجابه بقوةٍ وحق تملك حينما قال بإصرارٍ أكبر وأبلغ من السابق:
_بحكم عليها بالموت؟ واللي حصل دا مش بيحكم عليها بالعار؟ دي واحدة عايشة مع خال بيتقال إنه تاجر آثار ووسط رجالة كل واحد فيهم تاريخه مزبلة، دي لما تكبر ترفع عينها وسط الناس إزاي؟ تقولهم بأنهي وش هي مين وبنت مين إذا كان اللي منها كل يوم والتاني مضحى بنفسه وسمعته، هتتربى بفلوس حرام؟.
العين بالعين، والسن بالسن، والصاع بالصاعين لمن أظلم وبدأ، لذا وقف “يـوسف” أمامه وقد أصبحا في تلك اللحظة نديْن لبعضهما خاصةً وهو يقول له بصرامةٍ:
_هو أنتَ بروح أمك ماسكلي في نغمة وتفضل تكررها؟ قولنا خلاص خلصنا، خالها مصرافش عليها جنيه واحد حرام علشان أنتَ عارف إنه عنده اللي يكفيه وزيادة، وعارف إنه معاه كتير، أما بقى حتة العار فإحنا اسمنا شرف لأي حد، طوب الأرض يتمنى بس ندوس عليه ونعدي فوقيه، ولو ناسي هفكرك إنك في يوم بس كنت بتحلم تسلم علينا، أما بقى الوجع فدي فُجر منك، علشان لو مش واخد بالك دي عيلة يتيمة، أنتَ واخدها لمراتك اللي مش طايقاها وتحطها مع عيالك، علشان كل يوم تفضل تفتكر هي محرومة من إيه وإيه مش عندها، فلآخر مرة هقولها ليك، أنسى وريح.
التمسك في بعض الأحيان بقوةٍ يجعل النصر حليفًا لك، لذا أمام قوة “يـوسف” وتحدي نظرات “مُـنذر” بدأ “أحـمد” يُدرك خطورة الوضع حوله، لذا طرق “يـوسف” فوق الحديد الساخن بقوله:
_براحتك، بس أنا عندي حلين ملهمش تالت، يا أخرج من البلد دي بيها وهي معايا وحقك تيجي في أي وقت تشوفها وتقعد معاها ومحدش يقدر يحرمك من الحق دا، يا إما أخرج من هنا بيك جثة في تابوت وتبقى لا طولت بلح الشام ولا عنب اليمن، قولت إيه بقى؟.
سكت الآخر وبنظرة واحدة في وجه الصغيرة اشتاق..
اشتاق لماضٍ يعلم أنه فات ولن يعود، اشتاق لحياة كان يأمل في نيلها لكنه لم ينل غير همس ذكرىٰ عالقة لم تنتهِ مع إنتهاء الأيام والعُمر حتى، لذا اقترب من الصغيرة وضمها بعناقٍ خاطفٍ من بينهما وترك دمعاته تتهادى فوق وجنتيه وهي بين ذراعيه..
اليوم يبكي أسفًا على ما فات..
يبكي ولا يعلم متى الممات،
فلو كانت في الدنيا راحته،
لما كان قلبه من الشوق تعذب
وضاعت في عينيه الحياة..
____________________________________
<“أخرج من وحدتي رابحًا نفسي، وأنتِ”>
في كل مرةٍ استصعب أمرًا ألجأ لنفسي،
أتمنى أن أحظى معها بجلسةٍ هانئة، أرغب في حياةٍ هادئة، والعجيب في الأمر أن كل مرةٍ أفعلها أعود رابحًا نفسي من تلك الجلسة، إلا تلك المرة، وحدي أجلس وأنتِ في طيفي،
كأنكِ مرضٌ ولم أرغب له في دواءٍ،
جعلتني عيناكِ سقيمًا، ورغم ذلك أبخل على نفسي بدواءٍ منها،
اليوم أنا رابحًا نفسي وطيفُكِ معي..
يقولون في قديم الزمانِ أن “السيف من ذهبٍ والعدو من ترابٍ” وهو قلبه يلمع مثل النصل الحاد، حُرٌ وُلِدَ وعاش ولم يخضع يومًا لذي سُلطانٍ، وإنما جناحاه كلما تم كسرهما عاد بهما من جديد يُحلق بين الناس واصلًا بحريته للسماء العالية، لذا تلك المرة حينما وجد عينيها ترصد قلبه وتترك سهمها فيه،
تيقن أن الحرب لأجلها فرض عينٍ، والربح واجبٌ عليه..
كان “بـاسم” يحمل حقيبة ظهره التي بها الأشياء الخاصة بها، بينما خالته كانت تعاونها وهي تُلملم خصلاتها المسترسلة بعيدًا عن وجهها، وما إن انتهت قالت بهدوءٍ لها:
_خلصنا يا حبيبتي خلاص، يلا علشان نخرج؟.
أومأت لها موافقةً ببسمةٍ باهتة وعادت عيناها تحتضن الحزن من جديد، ولم ينتبه لها سوى العاشق لمقلتيها فأدرك من مجرد بهوت الوهج أن الحزن عاد، لذا ترك الحقيبة ووقف بجوارها يسألها بحنوٍ عليها:
_مالك؟ شكلك قلب كدا ليه؟ مش دي ملامحك اللي كانت من ساعتين وإحنا بنضحك ونهزر كلنا؟ حصل حاجة ضايقتك؟.
توجهت بعينيها له ووزعت نظراتها بينه وبين خالته ثم أطلقت تنهيدة قوية وقالت بصوتٍ مبحوحٍ:
_مش عاوزة أروح لوحدي البيت، بقيت بكرهه وبكره نفسي هناك لوحدي، ممكن أقعد في أي فندق وخلاص لحد ما أحاول أتقبله بس أنا بجد مش قادرة أرجع البيت دا، خايفة منه أوي.
كانت “كِـنز” على علمٍ كافٍ بحالتها لذا ضمتها بذراعها وهي تقول بمواساةٍ حقيقية لمشاعرها المتألمة:
_بعد الشر عنك من الخوف، بعدين ليه بتقولي كدا وفندق إيه دا اللي تروحيه وإحنا موجودين، البيت بيتك وتحت أمرك، بصي أنتِ تباتي معايا في شقتي، والواد “بـاسم” يطلع ينام في شقة أمه اللي فوقينا، ياكش بس ربنا يهديه ويرضى يدخلها تاني.
رمقها هو بنظراتٍ حادة والتزم الصمت حتى لاحظت ذلك “نـورهان” التي خجلت من موقفها فتراجعت سريعًا بقولها:
_لأ أنا مش عاوزة أبهدل ليكم الدنيا وأكركب الوضع، أنا بكل بساطة فيه فندق بحبه هقعد فيه كام يوم لحد ما أتحسن وهرجع بعدها البيت، مش مستاهلة حد يسيب مكانه ويضطر يتنازل عن راحته.
أدرك حينذاك أن الحديث يقصده هو لذا حرك عينيه نحوها بعدما بدل نظراته القاسية لأخرى أكثر هدوءًا من ذاك الطوفان:
_وأنا المفروض يعني أسيبك لوحدك في فندق وسط الغرب وأبقى مرتاح ومتطمن؟ وأصلًا مين قالك إني كنت هروحك على بيتك؟ أنا عامل حسابي إنك تيجي معانا ومفيش خروج ليكِ لوحدك تاني غير معايا بعد كدا، ولحد ما تبقي مراتي هقولها ليكِ أنتِ تحت عيني، وبكرة هروح أطلب أيدك من أبوكِ.
توسعت عيناها بهلعٍ بعدما داهمها موج كلماته وهي عاجزة عن حماية نفسها من طوفان مشاعره المتدفقة عن طريق نظراته، بينما هو عاد يحمل الحقيبة ثم خرج يتوجه لقسم الحسابات ينهي حساب المشفى الأخير قبل أن يرحل، أما في الداخل فكانت خالته معها تبتسم لها ثم تحركت وهي تساندها والأخرى كتفها يلتصق بالجدارِ وتستمع لها تقول:
_عارفة؟ من زمان مشوفتوش بيقاتل من تاني كدا، كنت نسيت إنه عنيد وطبعه حامي، بس اللي أنا شايفاه في عينيه ليكِ بيقولي الواد دا هيعمل علشانك المستحيل، وبصراحة أنا مبقيتش قابلة بعدك عننا، قوليلي أنتِ هترضيها؟ هترضي تبعدي من تاني عننا؟.
حركت رأسها نفيًا ثم أطلقت زفرة قوية وأضافت بعدها بثقلٍ:
_اللي وجعني إني ماكنتش أعرف يعني إيه ونس وصوت وناس وعيلة، بس لما عرفتكم عرفت إيه اللي ضاع مني، عرفت إن حياتي كلها كانت فاضية وملهاش طعم، وبقى الوجع اتنين، إني أرجع لوحدي تاني بعدما جربت إحساس قربكم، الأول ماكنتش فارقة علشان ماكنتش أعرف إيه اللي ضايع مني، بس بعدما لقيته الوجع هيزيد أوي يا “كِـنز”.
حينها كان وصل لهما واستمع لبعض الكلمات فتحرك يمسك بكفها ويُساندها وهي تسير كأنه يمدها بقوةٍ لم تعلم عنها شيئًا من قبل وحينها تنحت خالته جانبًا تحمل الحقيبة الثانية فقال هو بنبرةٍ خافتة لمن يُساندها:
_يحرم عليا وجعك ورجوعك لوحدك من تاني، أنا قولت كلمتي علشانك وخلصنا خلاص، من اللحظة اللي وافقتي فيها تشيلي اسمي يبقى أنتِ ملزومة مني يا “نورهان” وزي ما قولتلك بكرة هطلب إيدك رسمي أكيد، سواء رفض أو قبل مش هتنازل عنك.
تراقص قلبها بين ضلوعها وهي تطالع عينيه الصافيتين حينما طالعها هي بحبٍ بالغٍ كأنه يوثق عهده المنطوق شفهيًا بالنظرات الأكيدة، ولم يقطع تلك اللحظة إلا صوت أمها حينما نادت عليها بلهفةٍ واقتربت منها تقف في مواجهتها، وقتها ارتجف قلبها وطالعتها بغير تصديقٍ، بينما الأخرى فقالت بخوفٍ عليها:
_أنا بكلمك من إمبارح مش بتردي عليا، روحت البيت أشوفك البواب قالي إنك في المستشفى هنا، طب ليه مقولتيش ليا، بقالك هنا كام ومعرفتينيش؟ ليه هو أنا مش مامتك؟.
كانت تتحدث وتزبد في الحديث بعتابٍ لم يلق بالموقف وحجم الألم في القلب المصفوع، بينما “كِـنز” فلوت فمها بتحسرٍ ثم انتبهت لـ “بـاسم” الذي وقف أمام أمها يتعجب من الظُلم الذي تحمله في عينيها وقلبها، لذا وقف أمامها يُطالعها بجمودٍ وقسوةٍ بينما الأخرى كانت تائهة وهي تُطالعه تستغث به..
وقبل أن يتدخل انتبهت لهما أمها فسألت بتعجبٍ من تواجدهما:
_هو أنتوا مين؟ وبتعملوا معاها إيه؟.
والسؤال أتى باندفاعها كأنها تحمل في سريرتها تُهمةٍ، وقبل أن تتحدث خالته كان رد هو الدفعة بأخرى مثيلتها:
_أنتِ بتسألي كدا ليه كأنك بتتهمينا بحاجة، أنتِ اللي مين وجاية هنا بصفتك إيه؟ وكنتِ فين أصلًا طول الوقت اللي فات دا؟.
لاحظت أمها اندفاعه في وجهها فقالت بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_أنا مامتها ودي بنتي، سيادتك مين؟ ومعاها بصفتك إيه؟.
_خطيبها والأسبوع الجاي هتبقى مراتي، وأنتِ للأسف مش معزومة يا حماتي، زي ما غيبتي من كل اللي فات بمزاجك، أنا مش قابلك في اللي جاي وبرضه بمزاجي.
هكذا رد عليها وأتى حديثه أشبه بلقاء الموج بالصخرِ، ألقى حديثه ثم شبك كفه بكف “نورهان” يعلن سُلطانه عليها أمام أمها التي توسعت عيناها أمام وقاحته وصمت ابنتها، وقبل أن يتحرك قيد أنملةٍ وجدها تعترض طريقه بسؤالٍ مستنكرٍ:
_يعني إيه خطيبها؟ أنتَ مين وبصفتك إيه قريب منها كدا، وأنتِ ساكتة كدا ليه؟ وفين باباكِ ييجي يشوف المهزلة دي، بقى أنا أغيب عنك أرجع ألاقيكِ مخطوبة؟ دا إيه الاستهتار دا.
وهي تتحدث كان كفها يمتد كي تسحب ابنتها كأنها قطة وقعت في قبضة أسدٍ، بينما هو فكان كما الليث حامي الطباع فأبعد كفها وقال بحرقة قلبٍ لأجل تلك التي عانت من أهلها:
_دا مش استهتار، دا حق ولو فيه حد مستهتر بجد يبقى أنتِ علشان مش شايفة دورك كأم، ولو على غيابك ورجعتي لقيتيها مخطوبة، فبصراحة أنتِ جيتي بدري، أنا كنت ناوي أشوفك لما أخلف العيل الأول.
وأخذ الحق صناعة يُجيد هو صناعتها وتشكيلها، وهو الماهر فيما يفعل، فهو والحق على حد السواء، كُلما ذُكِرَ أحدهما رافقه الآخر، لذا دفع الأخرى بخفةٍ في كتفها وخلفها سارت خالته بينما أمها فوقفت تتعجب من الموقف ككلٍ ومن ابنتها التي لم تجرؤ حتى على النظرِ لها..
____________________________________
<“كان الرابح الأول والأخير وباسمه كتبت المنافسة”>
مسألة الربح أو الخسارة مسألة وقتية،
فما الربح الحقيقي إلا من يُدير المنافسة ويقودها هو، ربما يخسر معركةٍ ويربح أخرى، وربما يخسر كل شيءٍ ويرمي سيفه ويترك رمحه، لكن ربحه الحقيقي كان في إدراكه لخبايا الحرب وعلمه بتوقيت التكملة، وبلحظة الإنسحاب..
في حارة “العطار” تحديدًا ببيت “عبدالقادر” كانت “نِـهال” تجلس بشرودٍ في حديقة البيت والقلق باديًا فوق وجهها بل وعيناها تصرخ بالخوف المُمتد لقلبها، لحظة ترقب من خسائر تخشاها وتخشى حدوثها، كلما ذُكر اسم من كانت تسبقها في هذا البيت عاد الخوف ينهش فيها والقلق يُفتت قلبها، فهل يُعقل أن تأمن من الخوف والخوف بذاته يَمُد ذراعيه كي يحتضنها ويسقط بها من فوق الهاوية؟.
مر عليها “أيـهم” الذي عاد من عمله وولج يقف أمامها فوجدها تجلس بصمتٍ وشرودٍ، الخيوط الحمراء تحاوط مُقلتيها كما الجمر المُلتهب، كان يعلم ما تُعانيه هي لذا جلس بمواجهتها فانتبهت هي له وحركت عينيها نحوه فقال هو بهدوءٍ:
_لسه زعلانة يا “نِـهال” برضه؟ قولتلك لو مش عاوزاني أعمل حاجة مش هعمل أي حاجة علشانك، يبقى لازمته إيه لاوية البوز دي والزعل؟ قوليلي بلاش تروح وخلاص، بس أنتِ ساكتة ومش عاوزة تردي، أعمل إيه أنا مش فاهم برضه؟.
كانت الصوت هادئًا لكن الكلمات مندفعة، وهي أدركت ذلك لكنها قررت أن ترد عليه وتُجابه فقالت بقلة حيلة وغُلبٍ على أمرها أمامه:
_وأنا مش بأيدي حاجة أقولها أو أعملها، قولتلك شوف حل، بس هاتلي ضامن بقى إن حياتي متبوظش تاني، خايفة ترجع وتطلع ضحية وتاخد مكانها تاني، وفي نفس الوقت أنا مش أنانية للدرجة اللي تخليني أحرمها من حقها في ابنها، بس أعمل إيه طيب؟ قولي المفروض أعمل إيه؟ بتقولي واحدة ست في غربة وفي ضيقة وجوزها زبالة وبيتاجر بلحمه عاوزني أسكت؟ يمكن دا جزاء عملها من الأول، بس من حقي أخاف، وعلى “إيـاد” قبل الكل، لو عرف مش بعيد يتدمر، مبقاش العيل الصغير بتاع الأول، دا كبر وبقى فاهم أكتر من الأول
أطلق تنهيدة قوية من جوفهِ ثم مسح فوق خصلاته وقال بخيبة أملٍ حقيقية أصابت قلبه وخشى أن تمتد لقلب ابنه:
_علشان كدا بقولك أهو أنا خايف على ابني، عاوز ألحق المصيبة قبل ما تحصل وابني يعرف حياة أمه وتاريخها اللي يحط الراس في الطين، هلحقها علشان ميجييش عليه يوم يتمهني بحاجة ويلومني عليها، بس وعد مني ليكِ أهو ويمين يحاسبني عليه ربنا إن هي مش هترجع تاني، أنا هعمل كدا علشان كرامة ابني وسمعته، ومش هتتدخل كمان، أنا هتصرف من برة برة، “يـوسف” هناك هيروح للسفارة يقابل الظابط اللي “أكمل” قالنا عليه وهو هيتصرف، أنا حتى مش برد عليها، أنا شايل خاطرك يا بنت الناس، مش غاوي خسارتك أنا يعني.
أطمئن قلبها قليلًا، رأت الصدق في عينيه فقررت أن تستسلم للموج لعله يرفعها ويعود بها لشط الأمان، لذا فضلت أمامه الصمت وعادت تمسح فوق بطنها البارزة التي تحمل جنينها وحلم عمرها وأملها الأخير في الحياة، أما فمال يُلثم جبينها ثم ربت فوق رأسها ورحل بصمتٍ، فجوة الصمت بينهما تتسع والقادم لهما أمسى مجهولًا، لكن أمل القلوب كان يدفع المراكب كي تُبحر وسط الأمواج العاتية..
في الخارج بأحد شوارع الحارة بالأخص في هذا المكان الذي يعمل به “مُـحي” صدح صوت الآذان من المسجد فتحرك هو من موضعه يغلق باب الصيدلية ثم توجه للمسجد قبل المُصليين، من يراه يحسبه مُنافقًا وفي الحقيقة هو كان يُجاهد نفسه لأجل الثبات، وخلفه كان يسير “بـهجت” ويتبع خطاه نحو المسجد وهو يتعجب من حاله..
بينما في المسجد بدأ “أيـوب” إقامة الصلاة والمُصليين خلفه يساوون الصفوف بعدما أعلن هو ذلك، بينما “مُـحي” فوقف بين الناس في المسجد وقد أصبحت عادته للشهر الثاني على التوالي، انتظم في الصلاة، التزم بقراءة القُرآن، بدأ من جديد يعود للحياة ساعيًا للتخلص من الذنوب والآثام، لم يكن ملتزمًا لكن يكفيه أنه أصبح يليق بلقب “المُسلم”…
أنتهت الصلاة وسلم المُصليين على بعضهم، وجاءت صدفة مقصودة أن يضع “مُـحي” كفه بكف “بـهجت” الذي وقف بجوارهِ حتى انتهت الصلاة، وقد تعجب هو لكنه أخفى تعجبه ووارى دهشته من فوق ملامحه خاصةً حينما سأله الآخر بوجهٍ مُبتسمٍ:
_ما شاء الله بقيت بتيجي المسجد كل يوم ومش بتفوت فرض في صلاة الجماعة، ربنا يثبتك بس دا كله بقى بسبب ولا مجرد محاولة منك وخلاص؟.
حينها أدرك هو مقصده لكنه جاهد للتحدث بثباتٍ وقد فعلها حقًا أثناء الرد حينما قال بأدبٍ:
_تقريبًا أنا فاهم سبب سؤالك، ومش مستغرب، إذا كان اللي حواليا كلهم مش مصدقين، بس أنا لما حاولت أقرب كانت النية الأول إني أوصل لبنتك، كنت عاوز أكون شبهها وزيها، يمكن علشان الأول ماكنتش عارف حاجة بس كنت بحاول، لكن بعد كدا بصراحة بنتك مبقيتش سبب أساسي، بقيت خايف أقابل ربنا زي الأول، الفضل بعد هداية ربنا هو كلام “أيـوب” ووجود “تَـيام” معايا، يمكن من غيرهم كان زماني رجعت وزهقت، بس أنا بحاول.
كان صادقًا وصريحًا في قوله كي لا يؤخذ عليه أي قولٍ بخانة الضد، وهذا ما جعل السؤال يطرح ببال “بـهجت” الذي سأله بحذرٍ وترقبٍ بعدما ساورته الريبة:
_يعني خلاص مبقيتش عاوز “جـنة” تاني؟.
ما إن تفوه بها لمعت عينا “مُـحي” لأجلها ثم ابتسم بحنوٍ وقال بقلة حيلة كأنه حقًا ترك الأمور كما يشاء له الخالق:
_مش بأيدي أكون مش عاوزها، أنا مسلم أمري لربنا ولو أنا نصيبها وهي نصيبي يبقى الحمدلله على فضله ونعمته، ولو مش نصيبي، صدقني والله أتمنى ربنا يرزقها الأحسن مني، يمكن قربي منها يكون شر ليها بس والله ربنا يعلم بحالي وحال قلبي، أنا خلاص سيبتها لربنا، وربنا يكرمني ويهديني، ويكرمك وتصدقني.
تفوه حديثه الآخير بمزاحٍ كان ممتزجًا باليأسِ فضحك له “بـهجت” ثم ربت فوق كتفه، بينما “أيـوب” جلس على مقربةٍ منهما فأشار له “بـهجت” ووقتها أقترب منهما يجلس على رُكبتيه وقال بأدبٍ:
_نعم يا عمي، لعل الأمر خير بإذن الله.
ابتسم له ثم قال بحنوٍ حينما ربت فوق كتف “مُـحي” الذي كان يجلس بتوترٍ بالغٍ حتى أنه رغمًا حنه قام بحك لحيتهِ والمسح عليها، فأتاه الحديث الماسح فوق قلبه من كل قلقٍ وهمٍ:
_قدامك أهو يابني وربنا يعلم إن كلامي كله صدق، أنا عاوز لبنتي الراحة وفرحة القلب، ومنكرش إني كان نفسي تكون أنتَ جوزها أو واحد زيك بأخلاقك، بس دلوقتي أهو بقوله قدامك لو لسه عاوز بنتي يجيب والده وييجي إيدها مني وأنا مسبق بالموافقة، شرطي بس إنها تخلص آخر سنة ليها وتتخرج وبعدها تروح بيته، عداني العيب كدا؟.
والحديث كان بنكهة الأملِ،
كلمات مُفعمة بالحياة تجعل الصامت يتحدث، والسجين يتحرر، لذا كان لم يُصدق القول فسأله بإنكارٍ لما استمع من حديثٍ:
_قول والله أنتَ موافق؟ يعني خلاص آجي أطلب ايدها منك ومش هترفضني وتردني خايب الرجا تاني؟ والله العظيم أنا مش عاوز أكون رخم بس أنتَ بتديني أمل في حاجة أنا أصلًا كنت عايش علشانها، متعشمنيش وترجع تخلى بيا من تاني.
كان يتوسله بالقول ألا يكسر بخاطره ويُخيب آماله،
وعيناه تفصح عن خوفٍ وقلقٍ من شيءٍ مجهولٍ إذا أتاه سوف ينقلب كل أملٍ لألمٍ يُخرب أيام عمره التي بدأت تُبنى فوق أساسٍ متينٍ، بلا آثامٍ وخطايا أو كذبٍ حتى، أما “بـهجت” فقال بصدقٍ:
_دعاها ليك كل يوم ربنا جعله سبب علشان ربنا يفتحلك قلبي وأشوفك، وهدايته ليك بقت سبب علشان أحس بيك وأقبلك، طالما هتراعي ربنا فيها وتتقي شر نفسك عليها يبقى خلاص هرفض ليه؟ روح ربنا يكرمك ويقبلك من التوابين المُتطهرين، يلا السلام عليكم، عن إذنكم.
رحل وتركهما و “أيـوب” يبتسم في أثرهِ بينما “مُـحي” ففرغ فاههِ ونظر في أثره بسعادةٍ ثم انتبه لِـ “أيـوب” يسأله مستنكرًا:
_هو قال كدا بجد؟ يعني أخيرًا وافق عليا؟ والله العظيم حاسس إنه حلم ومش مصدق نفسي، دا وافق وقبل بيا أخيرًا، شوفته كان بيكلمني إزاي أخيرًا بعد كل اللي فات دا؟ “أيـوب” أنا لحد دلوقتي مش مصدق نفسي والله.
ضحك له “أيـوب” ثم ربت فوق كتفه وقال بحكمةٍ:
_ما ترفضه من حرامٍ سيرده الله لك أضعافًا بالحلال
وقد قال رسول ﷺ:
“إنك لن تدَعَ شيئًا اتَّقاءَ اللهِ إلا آتاك اللهُ خيرًا منه”
وأنتَ اتقيت ربك وسيبت الحرام رغم إنه كان الأسهل ليك، تركت المعاصي والذنوب وصحبة السوء، حاولت وجاهدت وصبرت وربك كريم، وأنتَ بينعم عليك ويديك ويكرمك، وأنتَ بعيد عنه بينعم عليك ويديك الخير اللي متعرفهوش أنتَ لنفسك، فتخيل تبقى مقبل عليه وموكل أمرك لرحمته، وسايب نفسك لحكم ربنا وواثق إنه هيختار الأصلح ليك؟ حاشاه أن يرد يد عبدٍ كان يرجوه ويثق في رحمتهِ..
ضحك “مُـحي” بسعادةٍ ومن فرط فرحته سجد سجدة شكرٍ للخالق الذي من عليه ورزقه مناله، سجد حامدًا وشاكرًا لربهِ، عود لسانه على الحمد والشكر في الضراء واليوم يحمده على سراءٍ زارت حياته ولمست قلبه، أما “أيـوب” فكان يعلم أن العشق علة إذا أصابت قلبًا لن ترحمه ولن يجد لها دواءً..
وفي بيت “بـهجت” وصل الشقة وأخيرًا كانت الأحوال قد استقرت بينه وبين أسرته الصغيرة، وحينما التفوا حول مائدة الطعام رمق ابنته بطرف عينه فوجدها تقلب في صحنها بصمتٍ وكذلك تبتلع طعامها، فحمحم بقوةٍ يجذب الأنظار نحوه ثم قال بهدوءٍ:
_أبقوا رتبوا البيت وجهزوه وهاتوا حاجات فيه.
وتلك الديباجة بذاتها تقلق القلب المعتاد على أثر الحديث،
وهو بطريقته الهادئة ورزانته كان يصب القلق في قلبيهما صبًا، ومع نظرات زوجته له والقلق الذي صرخت به عينا ابنته عدل حديثه بقولهِ:
_متقلقوش أوي كدا، بس احتمال الحج “نَـعيم” ييجي قريب مع “مُـحي” علشان يطلبوا أيد “جـنة” فقولت أعرفكم ولو مش عاوزين خلاص بشوقكم، بس قولت أعرفكم يعني علشان تكونوا عاملين حسابكم.
حينها انتفضت “جـنة” من موضعها بغير تصديقٍ، فطالعها والدها بضحكةٍ مغلوبة ثم قال بقلة حيلة مرغمًا عليها أمامها:
_ربنا يسعدك ويجعله زوج الدنيا والآخرة، ولو هو الصالح ليكِ يبقى ربنا يقربه منك ولو فيه شر أو أذى زي اللي قبله يبقى ربنا يبعده عنك، المهم تكوني فرحانة ومش مشيلاني ذنبك.
ضحكت له وهرع الدمع من عينيها وركضت لوالدها تحتضنه بقوةٍ تعبر عن فرحتها فضمها هو ومسح فوق ظهرها بحنوٍ ولأول مرةٍ يدرك أنه بيديه كان يقطع حبال الود بينهما، لتوهِ أدرك أنه كان يُلقيها في بحرٍ عميقٍ ظنًا منه أنه الآمن لها من البر الموحش، وقد تغافل قاصدًا عن دوامات المياه الخبيثة وهي تسحبها نحو الغرق،
لكن الآن يبدو أنه فهم كيف تطير الفراشات، لذا أخرجها من المُحيط ووضعها في حقل الزهور طالبًا منها أن تُرفرف بكلا جناحيها فوق الأغصان..
____________________________________
<“كنت هُنا أنتظر منك يدك لأكسر لأجلك سبعين حاجزًا”>
يقولون التمسوا لمن تحبون سبعين عُذرًا..
واكسروا لأجلهم سبعين حاجزًا، لكني ولأجلك سأفعلها بغير كللٍ أو مللٍ، سأظل كل مرةٍ أمسك بيدك كي أكسر كل الحواجز، ستجدني اختلق لك الأعذار فوق السبعين بألفٍ، لأجلك شوف أتغاضى واسامح واقبل، فقط ضع يدك عند بداية طريقي واترك نفسك لي..
كانت تعلم أن سفرته ضرورية لذا تركته يذهب، لم تقف أمام رغبته في الإبتعاد والسفر وإنما أيدته لأجل الصغيرة، أما هو فكان شرطه ألا ترحل من بيت أمها وتجلس وحدها، وهي عادت لغرفتها تجلس فوق الفراش وتمسك خطابه بيديها وتذوب بين كلماته كلما مرت عينيها على كل كلمةٍ به، ابتسمت وهي تستعيد بذاكرتها مزيج شخصياته التي تُناقض كُلها بعضها، حتى خطابه تلك المرة كان مميزًا بنكهة كلماتٍ خاصة.. فكانت بدايته منه:
_يبدو أن طُرقاتنا لم تلتقِ دومًا،
لذا أترك لكِ ما أجيد فعله كي يكون معكِ بدلًا مني، اليوم خطابي لكِ لا أعلم سببًا له، لكنه أقرب ما طرق أبواب عقلي وخيالي، فأنتِ كما تعلمين أنا رجلٌ مُحبٌ للثقافة، مُطلعٌ على الفنون، وأنتِ فنٌ من نوعٍ خاصٍ، لذا أكتب لكِ فنًا يليق بكِ،
اليوم أكتب لكِ عن مجازات “هرقل” ذلك البطل المغوار الذي أشبه برحالةٍ دعيني اقتبس حياته كي أسردها عليكِ،
اليوم سأخبرك بالقشور السطحية وفي أقرب فرصةٍ سأسردها لكِ تفصيلًا ما بعد الإجمال، فهذا البطل الذي أحدثكِ عنه رأى من العجب العُجاب كله، واجه من المصاب المصائب بأكلمها، قاتل في طُرقاته جيوشًا كاملة، وفي كل مرةٍ يُنهي تحديه، يواجه التحدي الأصعب بل والاكثر صعوبةً، فأنطلق يُكابد الحياة كفنٍ قاسٍ مليءٍ بالصِعابِ، مفعمٌ بالمجازافات، في حقيقة الأمر ومن وسط تلك الصعاب جمعه قدره بصدفةٍ عابرة اعترضت طريقه أثناء بحثه عن الحياة، تلك الصدفة ما إن وجدها بدأ يبدل مسلكه لآخرٍ ويغير رحلة بحثهِ، لذا خُلاصة القول ونهاية الحديث، رأيت نفسي بكل غرورٍ فيه هو، أنا الذي واجهت العديد والعديد حتى أنتهى أمري ببحثٍ عن الحياةِ، وأثناء بحثي عن الحياة وجدت مقصد الحياة بذاتها، كنت أسير ملتزمًا بكل العهود ويوم أن خُنت عهدي وجدت نفسي التزم بعهدٍ جديدٍ، وهذا العهد هو المقصد من الحياة بذاتها، لذا لن أطل في الحديث وكلامي،
وإنما سأترككِ تتذكريني
وأنا أعلم تمام العلم أنني لم أبرح عقلك،
كما كنت أنا الرجل الذي استوطن قلبك.
أنهى الخطاب بثقة الملك الذي يخطو فوق أرضه بكل حريةٍ، بينما هي فضحكت بيأسٍ من عنفوانه وغروره حتى في خطابٍ كتبه لأجلها، لذا جلست صامتة تتنهد بحالميةٍ تتذكر ملمح وجهه وبالأخص ليلتهما سويًا في مكانه المفضل، تذكرت كيف كانت ليلة أسطورية كللها بالحب وأخرج معها ذاك الطفل الحبيس الذي لم يلمحه في عينيه غيرها هي وحدها، عادت تراقب صورته بجوار الخيل ثم تعجبت كيف أصبح هو في نهاية المطاف نصيبها من بين كل الرجال؟..
أما هو فكان يقف في شرفة الفندق المُطل على البنايات الحديثة المُضاءة ليلًا وفي يده كان يمسك الهاتف بعد أن أطمئن عليه “أيـوب”، وقبل أن يعود للداخل صدح صوت هاتفه من جديد برقم “جـواد” فجاوب هو بسرعةٍ ليجد عتابًا بقول:
_برضه سافرت وعملت اللي في دماغك؟ أنتَ ليه بتعاند فيا وفي نفسك كأني بكلم هوا قدامي؟ “يـوسف” أنتَ وضعك دلوقتي في خطر، أنتَ في فترة الذروة زي ما بيقولوا، مشاعرك بتحركك علشان “يـوسف” القديم رجع يتحكم فيك من تاني، خوفك على “إسماعيل” واللي حصله وخوفك من تجربته خلاك تنتكس وترجع لورا، وخسرنا مرحلة مهمة، ودلوقتي خوفك على “چـودي” وخوفك من تجربتها مع عمها خلاك تلغي كل حاجة وتسافر، بتشوف نفسك في كل اللي حواليك، فبتتحرك علشان تلحقهم من اللي أنتَ جربته علشان خايف تلاقي “يـوسف” تاني فيهم، كلامي غلط ولا دي الحقيقة؟.
كان الحديث هجومًا واندفاعًا من الطرف الآخر، بينما “يـوسف” فالتزم الصمت وقرر أن يسكت ليأتيه الحديث من جديد بهدوءٍ نسبي عن السابق:
_بص يا “يـوسف” المريض النفسي بالذات مشاعره لو وصلت لمرحلة التحكم والقيادة هيخسر، وأنتَ مشاعرك بتحركك ناحية الكل، حركتك ناحية “عـهد” وشوفت نفسك فيها فبقيت في حياتها، حركتك ناحية “أيـوب” لما كان في المعتقل وفضلت تحاول لحد ما خرج، حطيت نفسك مكان “إسماعيل” وخوفت عليه وأنتَ شايف نفسك في التجربة دي مكانه، ومش بس كدا، دلوقتي حاطط “أحـمد” في صورة عمك، وحاطط مراته في صورة كره “سـامي” ليك، لو في الحالة دي تصرفاتك خانتك أنتَ هتخسر كتير، المهم لازم تسمع كلامي في الموضوع اللي قولتلك عليه معاك فرصة أهو تعيد التفكير من تاني.
تنهد “يـوسف” بقوةٍ ثم قال باستسلامٍ أكيدٍ:
_حاضر، أخلص بس اللي أنا فيه دا وأشوف هعمل إيه، بس بالله عليك مهما كان قراري عاوزك تحترمه وتحترم رغبتي، قدر موقفي ومشاعري اللي أنتَ عارف إنها في مرحلة خطر، وأنا أوعدك هاخد القرار بشكل حكيم شوية.
هكذا أنهى الحوار كي يهرب من صراعٍ يدور في عقله فيجعله يعود خائبًا، هذا الذي لم يترك حربًا إلا وانتصر بها، اليوم يخسر حربه أمام نفسه ونفسه تلك تعلن عليه الهزيمة ولنفسها تحتفظ بالنصر…
خرج من الشرفة فوجد “مُـنذر” يضم الصغيرة بكفٍ والكف الآخر يقوم بترتيب خصلاتها في محاولةٍ فاشلة منه كي يصنع لها تلك الجديلة التي يصنعها لها “سـراج” وكلما فشل عاد من جديد للبداية، فاقترب “يـوسف” يجلس بقربه وهو يسأله بسخريةٍ:
_ياعيني على الحلو لما تبهدله الأيام، بقى يا راجل بعدما كنت بتصحي تختار بين كلاشينكوف ولا ٩ مللي آخرتك دلوقتي بتنقي فُرش شعر؟ بتعمل إيه أنتَ؟.
ضحك “مُـنذر” بيأسٍ ثم قال بخيبة أملٍ حينما تيقن من الفشل:
_بحاول أعملها الضفيرة اللي صدعتني بيها دي، بس مبعرفش بصراحة أنا آخري أسرحه ليها وألمه ليها بتوكة، غير كدا مش عارف بس مش عاوز أزعلها، وهي منشفة دماغها.
ابتسم له “يـوسف” ثم حملها وأجلسها فوق الأرض واعتدل هو فوق الأريكة ثم بدأ يصنع لها الجديلة التي تحبها هي، كان يبتسم وهو يقوم بهذا الفعل متذكرًا كلًا من زوجته وشقيقته وهو معهما في تلك اللحظات، أما تلك الصغيرة فقد اشتاقت لمن بدأ معها هذا النهج فسألت بلوعة الاشتياق:
_هو أنا مش هينفع أكلم “سـراج” خالص؟ وحشني أوي وأكيد هو زعلان علشان أنا مش معاه، خلوني أطمنه، علشان خاطري.
نظر كلاهما للآخر ثم عاد “مُـنذر” يرد عليها بقوله:
_بصي إحنا مش عاوزينك تكلميه علشان دا شرط “إيـهاب” علينا ولحد ما نلاقي حل ونتأكد إن عمك مش هيعمل حاجة هنخليكِ تكلميه، بس الأول نظبط كل حاجة، بعدين كلها أيام ونتحرك من هنا وترجعي لينا كلنا، أصبري بس كام يوم كمان ووعد هتقابليه وتحضنيه كمان، خليكِ بس واثقة فينا.
كان “يـوسف” أنهى ما فعله أخيرًا فجعلها تلتفت له ثم مسح فوق وجنتها وكلتا عينيها حينما لمح العبرات تزين مُقلتيها ثم قال بنبرة صدقٍ:
_”مُـنذر” معاه حق، إحنا عاوزين نطمنه عليكِ بس مش عاوزين نديله أمل على الفاضي، من هنا لحد لحظة خروجنا من المطار عاوزك تتأكدي إن مفيش حد فينا هيمشي ويسيبك، ممكن بقى تروحي تلبسي هدومك علشان ننزل ناكل؟ أنا جوعت.
حركت رأسها موافقةً ثم لثمت وجنتي كليهما وركضت بسعادةٍ بسبب حديثهما وصدقهما لأجلها هي، وبعد مرور ساعةٍ، وصلوا بالفعل لمكانٍ يتناولون فيه الطعام بينما الصغيرة فكانت تركض في منطقة لعب الأطفال فجلس كلًا منهما يراقبها بأعين مبتسمة، تجلت فيها صورة الطفولة الحُرة وليست تلك المُقيدة التي عاشوها جميعًا..
ضحك “يـوسف” لها حينما وجدها تتراقص وسط الصغار بينما “مُـنذر” فكان مشغولًا بحديثه مع زوجته في المراسلة الخاصة بهما، وقد لمحه “يـوسف” بطرف عينه فعاد لسيجاره يُنفث هوائها، ثم قال بمزاحٍ:
_إيه غرقت في بحر الهوى؟ تصدق آخر حاجة كنت اتخيلها هي إنك تقع مع “فُـلة” أخت “جـواد” والغريب بجد أنكم لايقين على بعض، الكيميا بينكم راكبة بشكل رهيب، رغم إنك قفل بصراحة وشكلك مش رومانسي.
ضحك “مُـنذر” ثم أغلق الهاتف وقال بيأسٍ:
_مش راجل أفلاطوني في الحب، بس يمكن مشاعري صادقة، وأنا بعترف إني فقير في الكلام دا بس بحاول، المشكلة الحقيقية إني حاسس إن الكلام مش كفاية، أو يمكن بخاف أقوله أكون مش قده، يمكن اللي جوايا مش هيوصفه كلام، مش عارف بس مش حابب أكون مقصر في حاجة معرفش عنها أي حاجة، أنا معرفش غير القتل والعلاج اللي أنا عاوزه للمريض.
دارت النظرات بينهما وأدرك “يـوسف” أن هناك نسخة أخرى منه بشكلٍ مختلفٍ، لذا أخرج دفتره وقلمه ثم مد يده بهما لمن يُجالسه وأشار بعينيه نحوهما وهو يقول:
_هو دا الحل، إنك تكتب، لو عاوز ترتاح يبقى إنك تكتبلها اللي جواك كله، اسمع نفسك عاوز تقول إيه واكتبه، ومهما كان شكله وصياغته ولغته اكتبه، الفوضى اللي جوانا بتخرج لما نحولها لموهبة، موهبة صادقة من جوانا تحكي عن اللي بيدور جوانا، جرب كدا من الليلة دي وشوف هتقول إيه؟.
وهو صادقٌ ومجربٌ..
فمن لم يجرب لم يصدق،
وإنما هو علم، فجرب، فصدق القول،
فتلك الكتابة هي الطريقة الوحيدة المفهومة لإخراج الفوضى المبعثرة بداخل عقلٍ لم يهدأ وقلبٍ لم يهنأ..
____________________________________
<“تبسم لعل ببسمتك تلك تعود الفرحة”>
وحدها البسمة من تُقهر الحزن..
فتخيل عدوك هو حزنك وأكثر ما يبغضه هو هي بسمتك أنتَ، فإذا أردت أن تنتصر عليه، عليك أن تبتسم أمام حزنك، لعلك تربح ويعود فرحك ومن ثم يتقهقر حزنك..
كان لازال في عمله حتى تلك اللحظة المتأخرة، أصبح يهرب للعمل كلما تيقن من فشل المحاولات، لذا كان يكابد بمشقةٍ فوق نفسه كي ينجو من فراغه الذي يبتلعه في جوف السهر، أما “نـور” فهي أتت له وولجت مكتبه وهي تقول بعتابٍ:
_برضه مش عاوز ترجع البيت؟ الشغل كدا هياخدك ويقضي عليك يا “سراج” مفيش عندك وسط خالص؟.
انتبه لها وشملها بنظرة حائرة ثم عاد يرمي رأسه على مسند المقعد ثم قال بهزيمةٍ سحقت روحه:
_مبقيتش عاوز أقعد في البيت وهي مش فيه، كل شوية أفضل أفتكر اللي حصل وإني السبب وإنها ضاعت مني علشان معرفتش أحميها، أديني بحاول أعوض غيابي واشيل عن “عـزيز” اللي شاله الفترة اللي فاتت في غيابي، هعمل إيه؟ القعدة مش هتجيب حل لحاجة، وعلى رأي “إيـهاب” الضربة اللي متموتش بتعلم، أديني أهو بتعلم.
ابتسمت له ثم ربتت فوق كفه فبادلها البسمة بنظرة امتنانٍ وحبٍ كونها لازالت معه ثم عاد بعينيه لصورته مع الصغيرة وعيناه تفصح بشوقٍ عن رغبته في ضمها أو حتى رؤيتها من على بُعدٍ كي لا يكون طامعًا في أكثر ما يُحق له..
أما في بيت “نَـعيم” فكان يجلس بقرب الخيول يقرأ الرقية الشرعية كي يحمي الخيول من أثر العين والحسد، فهو يعلم أن كل ذي نعمةٍ محسودٍ لذا عليه أن يتوخ الحذر، وقلبه يتضرع للخالق أن يحمي خيوله، سواءً كانوا من هم أمامه، أم هؤلاء الذين يصارعون الموج بالخارج، وقد أتى صغيره بهدوءٍ واقترب منه يجثو على عاقبيهِ ثم مال يُلثم كف والده..
كان “نَـعيم” يُطالعه بفخرٍ وحبٍ في الآونةِ الأخيرة، تلك النظرة التي تبدلت كُليًا عن السابق جعلت ابنه يستمسك بحبال طريقه الذي قصده عمدًا متعمدًا ثم استقام في وقفته وسأله باهتمامٍ:
_بتعمل إيه كدا؟ وإيه اللي مسهرك كدا.
_برقي الخيول وبقرأ ليهم قرآن علشان الحسد، وبدعي ربنا يسترها على خيولي ويحفظهم من كل شر، المهم قولي مالك رايق كدا ليه وجاي وشك بيضحك؟ إيه الدكتور بتاعك مقبضك؟.
هكذا كان رد والده عليه حتى ابتسم هو ثم جلس بصمتٍ لثوانٍ يبرمج الحديث على طرف لسانه ثم عاد وقال بصوتٍ أغدقته الراحة:
_عم “بـهجت” كان بيصلي جنبي في المسجد وقالي أني لو لسه عاوز بنته هو موافق أروح أطلبها منه وقالي أجيبك معايا ونروح نطلبها، بصراحة أنا ماكنتش مصدق نفسي، بس الحمدلله على كل حال، ربنا نور بصيرته من ناحيتي، وهو دا المهم، علشان كدا تلاقيني فرحان شوية أو شويتين.
في الحقيقة من سعد حقًا هو “نَـعيم” الذي لمح في عيني ابنه سعادة خاصة وبريق أملٍ عاد يتوهج في المقلِ، لذا ضمه لصدرهِ ثم بارك له متمنيًا إكمال فرحته بخيرٍ، بينما على مقربةٍ منهما كانت “آيـات” تجاور زوجها الذي ضم كفها بداخل جيب سترته واقترب من والده يقول بسخريةٍ لرؤيتهما بهذا الوضع:
_أبويا وأخويا مع بعض من غيري؟ طب تمام.
انتبها له وضحكا عليه بينما هو أجلس زوجته ثم جلس وقال مبتسمًا:
_أنا لقيتها زهقانة وهتقلبها نكد ومناحة عليا قولت أجيبها عند الخيول هنا بدل ما ألبس أنا النكد دا كله لوحدي يعني.
رمقته هي بغيظٍ فغمز لها ثم انتبه لشقيقه الذي أخبره بفرحته فضمه في عناقه يبارك له بعدما شهد على قسوة القصة بأكملها بينهما، وفي تلك اللحظة أتى “إيـهاب” بابنتيه كما يقول ثم جلس معهم وبالطبع صغيرته تجلس بين أحضان الجد تسعد بمداعبة الأخوين، وقد أتى “إسماعيل” على أثر صوتهم الضاحك وجلس بجوار شقيقه الذي انتبه له فهمس مستفسرًا:
_عاوز حاجة؟ مالك كمشان في نفسك كدا؟.
حرك كتفيه بقلة حيلة ثم جاوبه مخبرًا إياه بما في قلبه:
_حاسس إن تايه ودا مش مكاني، فيه حاجة نقصاني مش عارف أحددها هي إيه لسه، علشان كدا مستغرب إني مش عارف أقعد لوحدي هنا.
ضحك عليه شقيقه ثم همس بخبثٍ:
_قصدك مش قادر تعترف إنك وأنتَ مش فاكرها محتاجلها علشان حاسس بيها، شد حيلك معايا وأنا خلال أسبوعين هخليها مراتك وفي بيتك، أهو على الأقل تلاقي ليك مكان بدل ما أنتَ تايه كدا وسطنا.
وهذه هي الحقيقة، ولم يعلمها إلا من يعلم بحال الفؤاد..
ومن غير الشقيق الذي يناصف روحه يعلم ما يموج في داخله ويجيش به صدره؟ أما “نَـعيم” فابتسم رغمًا عنه حينما وجد نفسه بينهم من جديد محاوط بدفء العائلةِ..
____________________________________
<“أينما حلت خُطاك اجعلها مصدر خيرٍ”>
كن صاحب أثرٍ أينما حلت خُطاك..
كن أنتَ صاحب السيرة النقية مهما طالك الأذى، وجاهد نفسك لبقائك بين قائمة الشُرفاء في هذا العالم، لا تغتر بهؤلاء الذين وصلوا للسماء رايحين لمعة نجمه،
لكن اطمح لذاتك في لمعتك الخاصة..
قلب الأم مرآة لقلب الابن..
وهي قلبها بدأ يُقلقها بعد إنقطاعه عن الحديث معها، بدأ القلق ينهش قلبها وهي تحاول التواصل معه لكن بغير جدوى، خاصةً حينما أكدت “حنين” أنه لم يتصل بها منذ وصوله مساء أمسٍ، وأكد القول “عُـدي” الذي أخبرها بنفس الشيء..
أما “مـادلين” فحاولت طمئنتها بقولها:
_بطلي وسواس بياكل فيكِ يا “فـاتن” ابنك مش صغير ولا عيل رايح رحلة هيتوه من المدرسين بتوعه، دا قبطان سفينة، يعني ليه هيبته وكلامه، خوفك ملهوش مبرر غير إنك بتقلقي نفسك وخلاص، وحدي الله كدا وبطلي تفكري.
جاوبته بصوتٍ كان خير الدليل على حالها:
_قلبي واكلني عليه، خايفة عليه المرة دي علشان وداعه كان مختلف عن كل مرة، المرة دي كان حضنه خايف يسيبني، طريقته معايا قالتلي إنه رايح وندمان إنه ماشي، تفتكري هيكون فين بس؟ من إمبارح مش عارف يكلمني خالص؟.
اقتربت الأخرى تجلس بجوارها ثم ربتت فوق كتفها وهي تقول بحكمةٍ قاصدة المسح فوق قلبها بها:
_دلوقتي الأول كانت علاقتكم ببعض متوترة أوي، إنما حاليًا الوضع اختلف، الغشاوة اللي على عينيه راحت، فطبيعي بعد الفترة دي بينكم يحس بالخوف إنه سايبك لوحدك وماشي، ربنا يرده ليكِ من تاني بس متزعليش نفسك وقومي صلي وأدعيله.
وهذا بالفعل ما كانت تفعله “حنين” وهي تجلس فوق سجادة الصلاة وتدعو ربها أن يلطف به في غربته ويطمئن قلبها عليه بعد أن تغيبت عنهم أخباره وبدأ قلب أمه بالإنشغال عنه، لا تعلم كيف توغل لداخلها لهذا الحد كي تناجي ربها في جوف الليل لأجلهِ، لكنها تفعلها لأجل ذرة طمأنينة..
بينما هو فعليًا فبدأ يستعيد وعيه ويفتح عينيه بتروٍ بعدما داهمه الضوء فجأةً فعاد يغلق عينيه من جديد، حاول أن يعتاد على الضوء وينازع ألم رأسه الساقط على عينيه وما أن نجح بدأ يراقب المكان حوله ليجد نفسه فوق فراشٍ وثيرٍ وما إن حرك رأسه للجهة الأخرى وجد رجلًا بملامح أجنبية يهتف ببرودٍ وببسمةٍ ثلجية:
_نورت إيطاليا يا سيادة القبطان،
ولا أقولك يا سيادة القبطان العاشق لحنين؟.
وهذا هو السيف وتلك هي الرقبة،
فإما النجاة من ضربة سيفٍ غادرٍ
وإما ضياع العُنق والروح.
