رواية غوثهم الفصل المائة والثالث والثمانون
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيــا وَزِينَتُها
وانْظُرْ إلى فِعْلِهــا في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها
هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
خُذِ القَنـَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها
لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ
يَـا زَارِعَ الخَيْرِ تحصُدْ بَعْدَهُ ثَمَراً
يَا زَارِعَ الشَّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ
يـَا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي
فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني
يَا نَفْسُ وَيْحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَناً
عَسى تُجازَيْنَ بَعْدَ الموتِ بِالحَسَنِ
_”ديوان الزُهد في الدنيا”
____________________________________
لكن العالم لن يفهم معنى أن تكون وحدك في الحرب..
تقف وحدك وتُحارب وحدك وتحاول وحدك، والأصعب في إدراكه أنك تمتليء بما لم تستطع أن تُفصح عنه، فكيف تخبر العالمين أنك تقف تائه الخُطى لا تعلم من أين يبدأ طريقك الصحيح؟ كيف تستعيد وعيك والعالم حولك يُعلن عليك الحرب وأنتَ الخصم الضعيف وحدك بغير عونٍ أو جيشٍ حتى نفسك تلومك على ما لم تستطع تحمله، كيف تقف شامخًا وأنتَ ظهرك مضروبٌ بالطعنات الغادرة، أتعلم قسوة الأمر؟ أن كل ما ظننته حليفًا لك أنقلب عليك عدوًا، أنتَ الذي كنت تقف متباهيًا بجيشك اليوم تقف وحدك في الصفوف كافة أمام وعيناك تلمح ذاك الجيش _البعيد عنك كل البُعد_ وهو يقوي الصفوف ضدك في حربٍ كدت أن تخسر بها نفسك، لكن تذكر أنكَ لست بالخصمِ الضعيف،
وليس ذاك الذي يخسر الحرب في شربة ماءٍ من يد عدوٍ غادرٍ،
لطالما كنت ولازلت الخصم الأقوى في حربك وحدك، فلن يهمك خيانة جيشٍ تركك وحدك في نهاية المطاف، فتخيل لو كل فارسٍ تركه خيله وحده أنتهت بذلك حكايته، لما كُنا سمعنا ذات يومٍ عن الفارسين الذي أكملوا الطُرقات وحدهم، لذا لا تجهل بذاتك وأنتَ الذي يعلم نفسه خير العلم، وكلما تفاوتت معرفتك بذاتك تذكر قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
“لا تجعل جَهْل النّاس بك يغلب علمك بنفسك”
<“إذا كنت تعلم نفسك فلن يضرك القيل ومن قال”>
لطالما كل ما فينا كان ذرة حُبٍ للحياة..
فسوف تجدنا ساعيين من وسط الهزائم بكل شغفٍ وحُبٍ للحياة، لن توقفنا الهزائم باكيين على ما فات، ولن يُخضعنا رحيلٌ وفات، فلو كل شيءٍ يتنهي برحيل بعض الأشياء لكنا جميعًا بين الحياة رُفات، اليوم سوف نقف أمام الهزائم نصنع منها النصر الجديد حتى ولو بغير الحُلفاء، لطالما كانت القوة في قلوبنا، فلن تُرهقنا الخطوات التي أضعفت عزيمتنا..
“سـراج” وحشتني أوي..
التفت هو لمصدر الصوت وما إن لمحها ركض مهرولًا ناحيتها ثم تلقفها بين ذراعيه يدور بها في المكان وهو يضغط عليها كأنه يخشى فرارها من حضنه، لم يصدق أنها عادت له من جديد لذا ضرب الدمع مقدمة أهدابه بينما هي فبكت في عناقه بقوةٍ، مهما أحبت لن يجرؤ أحدهم أن يقترب من مكانته لديها، لذا بكت وابتعدت تطالعه وهي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
_كنت خايفة أوي معرفش أشوفك تاني يا بابا.
وتلك الكلمة الأخيرة منها حياة خاصة به،
لذا عاد وضمها بعدما فقدت الأحرف السبل وضلت الكلمات مقصدها فاكتفى فقط بتلك الضمة وترك العنان لعبراته ودمعاته تنطلق من محبسها كأنه يضم فيها أخته الراحلة ووالديه معًا، كانت آخر الإطارات التي تحمل في عينيها صورة عائلته الغائبة، حينها فقط شعر أن حقه في الحياة استرد وبقوةٍ، كان يبحث عن الكلام المفيد الشارح لحالته أمام خبر عودتها لكنه لم يجد ما يوفي الحدث حقه، لذا قال بصوتٍ متهدجٍ باكٍ ذاك البكاء المكتوم:
_أنا اللي مش مصدق إنك في حضني تاني، وحشتيني أوي، وحشني صوتك ووجودك اللي كان مهون عليا كل حاجة، الدنيا ملهاش طعم من غيرك يا روح قلب بابا.
طال العناق بعد الحديث وهي ساكنة بين الذراعين، كان شوقها له عظيمًا، كانت تشعر أن يُتمها يتلاشى بمجرد أن تصبح آمنةً في كنفه، تشعر وكأن انتمائها له ليس فقط بتلك الملامح الأجنبية المتوارثة، لكن حتى القلب هي تشعر أنه منه، فلو كان الحب للجميع فالعشق له هو، لذا ظلت تتمسك في عناقه حتى وقف بها يُلثم كفيها الصغيرين ووجها ويده الحُرة تمسح فوق خصلاتها حتى ركضت “نـور” لهما تضم عالمها بين ذراعيها فاكتلمت تلك اللوحة بخيرٍ حينما ضمها “سـراج” لهما ثم نزل بعينيه لها يقول بنبرةٍ خافتة يمتن لها:
_شكرًا إنك معايا، من غيرك مفيش حاجة كانت هتعدي.
وشكره لها على تحملها كل شيءٍ صدر منه،
كان يشكرها على بقائها بجوارهِ في حين أن العالم بأكمله تخلى عنه، كان يمتن لها بنظراته كونها فضلت أن تمسك بيده رغم أن كفه كان يؤلمها وفي بعض الأحايين يجرحها، لذا تنهدت بقوةٍ ثم لثمت جبين الصغيرة وقالت بصدقٍ ذاك الوعد الذي لم تخنهُ هي ذات يومٍ:
_علشان أنتَ تستاهل يا “سـراج” وقلبك يستاهل يفرح.
ترك لها في تلك اللحظة الصغيرة تحملها هي ثم اقترب من “مُـنذر” يحتضنه وكأنه بذلك يعبر عن امتنانه وشكره له وأضاف فوق ذلك المزيد من الحديث يشكره بقوله:
_جميلك فوق راسي، بس مش غريبة عن تربية “نَـعيم الحُصري” إن اللي منه يكون بالأصل دا، ربنا يباركلك ويفرحك زي ما فرحتني كدا ورديت فيا الروح.
والحديث المُمتن لشخصٍ مثله كان كما الماء المُثلج فوق جروحٍ سقيمة تركتها الحرائق فوق البشرة، لذا شعر بنفسه يستكين لو قليلًا بعد الحديث وقال بودٍ غلب على طباعهِ مهما كان جموده:
_بنتك بنتنا كلنا ودا حقها عليا لأجل العشرة اللي بينا، بعدين أنا مش غريب، أنا بعتبركم كلكم أخواتي وأظن دا حق الأخوات على بعض، اللي الدنيا تميل عليه الباقي يشيلوه، ودي اللي علمهالي “إيـهاب” عرفني يعني إيه كتف يسند من غير شكوى.
ضحك له “سـراج” ثم عانقه من جديد وكرر الفعل ذاته مع “يـوسف” الذي ضمه بقوةٍ ثم قال بفرحةٍ لأجل الوهج المُنبثق من عينيه:
_كفاية وشك منور من تاني وضحكتك رجعتلك، حافظ بقى على اللي عندك، حب اللي عندك بدل ما الدنيا تعلمك إزاي تحبه لما كان عندك، بطل هبل وكلام إن وجودك هيأذيهم، الأذى بجد في غيابك عنهم وهما لوحدهم من غيرك يا “سـراج”.
أومأ له موافقًا وعاد يربت فوق ظهره ثم تحرك يشكرهم جميعًا حتى وقف أمام “إيـهاب” الذي انتظر رد فعله _ظنًا منه أنه لا يعلم أنه السبب في العودة_ على أحر من الجمرِ المُلتهب، وحينها اقترب منه “سـراج” يُلثم جبينه أمام الجميع، رد فعله كان غريبًا لكنه صادقٌ، حينها طالعه “إيـهاب” بدهشةٍ بينما “سـراج” قال بأعين لمعت بكل فخرٍ برفيق دربه:
_طول عمرك قد كلمتك، وعدت ووفيت يا “عمهم”.
ابتسم “إيـهاب” له ثم ضمه لعناقه بقوةٍ كأنه يعتذر منه على ظلمه له وقال بصدقٍ يكمل بقية الوعود المحفوظة في قلبه:
_دا حقك الأول وحق أختك اللي طول عمرها كانت أخت لينا، وباقي حقك هيرجع كامل لحد عندك ومن غير تعب، ودا وعد مني ليك وأنا كلمتي سيف يا “سراج” واللي خلق الخلق كلهم حقك وحق “إسماعيل” هييجي تالت ومتلت، الخيل فاق وكله هيتشاط في السكة، احفظها كويس بقى.
في تلك اللحظة وقف “نَـعيم” يحمد ربه وسطهم وهو يضم الشباب معًا وقد أتى “مُـحي” ومعه “تَـيام” ومعهما “آيـات” التي تحركت على مهلٍ بسبب حملها ووقفت بجوار حماها الذي ضمها أسفل كتفه وضم ابنه من الجهة الأخرى وتم التقاط أول صورةٍ لهم مع بعضهم، بعدها تكررت الصورة مع أسرة “سـراج” ثم تكررت مع أسرة “إيـهاب” ثم صورة جمعتهم مع بعضهم وهو يضم كتف “مُـنذر” من جهة اليمين، والجهة اليسار كتف “تَـيام” والبقية حوله وهو يقف شامخ القوىٰ، رافع الرأسِ، معزز النفس وجيشه كامل العدد والعتاد حوله..
صورة جمعتهم مع بعضهم لتكون الربيع الذي حل بعد الخراب الذي تركه الخريف في أيامهم، سكونٌ من بعد عواصف الرياح الهوجاء التي ضربت كل شبرٍ فوأدت ثبات حياتهم أرضًا، نورٌ انشقع ولامس القلوب،
لتحيا بعد كُربتها ربيعًا وكأنها لم تذق بالأمسِ مُرًا..
____________________________________
<“قاتلٌ تدربت على القتال فمالي أمام عينيك أكون صريعًا”>
أمر الهزائم يكون صعبًا لو سبب الهزيمة كان ضعيفًا..
فكيف لمن أعتاد أن يكون قويًا أن يكون سبب هزيمته أضعف من جناح فراشة حطت فوق زهرةٍ رقيقة الفعل والروح؟ كيف لشخصٍ اعتاد النصر والقتل على حد السواء أن تكون هزيمته مجرد نظرة عابرة من وجهٍ حنونٍ جبر بخاطر قلبه في أشد أيامه ظُلمةً؟ كيف لشخصٍ قتل وبرع في سلب الأرواح أن يسلب منه قلبه من مجرد نظرة سلامٍ وسط حروب أيامه؟..
الاشتياق غادرٌ، تمامًا كما موج البحر حينما يخطفك في تياراته الهوجاء ويضربك بالصخور العتيدة ليُسرق منك راحة بالك، فلا تصبح آمنًا عند البدايات، ولا أنتَ بقادرٍ على العودة من المنتصف بعدما تُسلب أنفاسك بأكملها، لذا صدق من قال أن الشوق لم يكن له يومًا عزيزٌ، حتى لو جاهدت لكتم الأمر، سيتهاوى من عينيكَ كما العَبرات المطلوق سراحها، وهي حقًا قتلها الشوق له، أصبح غيابه عنها يُشكل خطورة على تلك الفتاة القوية التي تعرفها في ذاتها، أصبح الشوق له مفضوحًا أمام الجميع، لذا كانت تختلي بنفسها بعيدًا عن الجميع رغم وصول رائحته لها وشعورها به في المكان..
كانت تمر في أروقة المشفى قبل غروب الشمس وهي تقوم بالإشراف المروري الخاص بها قبل نهاية النهار، تحركت واصطدمت في كتف شقيقها الذي رفع حاجبه يقول لها بصوتٍ عالٍ يجذب نظرها من شرودها:
_ركزي يا دكتورة، ماشية وعقلك غايب فين؟.
انتبهت “فُـلة” لصوت الشقيق الذي انتشلها من شرودها ورفرفت بعينيها وهي تقول بصوتٍ أعرب عن توترها:
_أنا هنا أهوه وعقلي معايا، بقولك صح هو “مُـنذر” جه هنا؟.
عقد حاجبيه ثم حرك رأسه نفيًا وقال بصوتٍ هادىءٍ:
_لأ مجاش، آخر حاجة أعرفها إنه وصل بيت عمه الصبح ومعاه “يـوسف” روحي ارتاحي شوية أنتِ من الصبح هنا وبتمري، أنا هكمل مكانك لو فيه أي ملحوظات بس خليها علشان أبص عليها وأسيبها للإدارة.
أومأت له موافقةً ثم أعطته دفترها وأشارت له على ما يتوجب عليه مراعاته ثم تحركت نحو مكتبها، ولجت تنل قسطًا من الراحة قبل أن تعود وتستأنف عملها من جديد، ولجت تجلس على مقعدها المُفضل ثم ألقت رأسها للخلف لكن رائحته كانت حقًا تملأ الغرفة بشكلٍ جعلها تنتفض من موضعها، بدأت الشكوك تساورها فرمت بصرها نحو النافذة لتجدها مُغلقة كما هي، عادت ببصرها نحو المكتب ورأت ما وضِعَ فوقه، اقتربت أكثر ومدت أناملها تُمررها على المتواجد فوق سطح المكتب، حيث ترك لها زهرة يافعة حمراء اللون، وبجوارها ترك سلاحه وخطاب كتب على غلافه “رسالة من القاتل لمن قتلته”..
تفاصيل كثيرة لمحتها هي وانتفض قلبها فرحًا بما ترى، حتى حسبت نفسها وسط فيلمٍ اسطوري الحكاية وما تُعايشه مجرد وهمٍ مع بطلٍ من أبطالها المُفضلين، وقفت ترتجف لوهلةٍ ثم أمسكت الخطاب تفتحه بكفٍ والكف الآخر التقط السلاح والزهرة الحمراء معًا، دربت نَفْسها ونَفَسِها ثم فتحت الخطاب أخيرًا، وحينها وجدت في أول سطرٍ منه:
_”اعذريني على خطي السيء، فهذه هي مرتي الأولى وأنا أرتجف لفعلها، وكيف لا يرتجف من يُنصت لصوت قلبه حتى يكتب لكِ ويُصارحكِ؟”
العبارة الأولى كما يُقال بداية القصيدة مقالٌ،
سرقها منذ البداية حتى وجدت نفسها تجلس فوق المقعد كي تزداد تعمقًا في خطابه لتبدأ الرحلة الأحب لقلبها حيث مررت عينيها على الخطاب لتجده كتب فيه:
_عزيزتي وعزيزة قلبي المليحة “فُـلة”..
دعيني أخبرك أن تلك هي المرة الأولى التي استمع فيها لنصيحة عاشقٍ مر بدروب العشق وأصبح مُرشدًا لتيه العاشقين، فتلك الورقة التي بين يديكِ هي الورقة رقم خمس وتسعين من بعد المائة وجميع ما سبقها انتهى بهم المصير في سلة المهملات بجواري، وحينما وجدت أن تلك هي آخر ورقة كانت لي كما آخر فرصة، لذا قررت أن أترك نفسي للموج لعلي أفلح وأصل لبرِ الأمان كما من سبقوني، ستجدي بجوار خطابي وزهرتي سلاحي، وتلك هي البداية فقط،
في الحقيقة ومع خلفيتي المتواضعة في إسقاطات اللغة، رأيت منذ الوهلة الأولى أن هذين الشيئين بمجرد أن يتم وضعهما سويًا سوف يؤديان للتناقض التام، فلو نظرتي للزهرة هي حقًا تُشبهك كثيرًا، بها من صفاتك ما أعلمه أنا جيدًا، ولو نظرتي للسلاح سوف تجدينه يُشبهني كثيرًا، حتى أن اسمي محفورٌ فوقه، وقصة سلاحي تلك هي الاختصار الوحيد للقاتل المقتول، لذا دعيني أخبرك بالقصة منذ بداياتها بما أنها تلك هي فُرصتي الوحيدة بين يدي وأنا بكامل راحتي معكِ..
_بدأت قصتي من بعد اختطافي على يد من تجردت قلوبهم من الرحمة، هؤلاء الذين سعوا لسلب روح الطفولة من قلبي ووضعوا بدلًا منها قلبًا تجردت منه معاني الإنسانية، طفلٌ قُتلت بها الحياة وظل ساعيًا في دروب الموت، طفلٌ عاش في الحروب وآلف صوت الأعيرة النارية ورافق الليالي المُحزنة ويوم أن صادق؛ صادق كآبة الظلام وكُربة الوحدة، وكل ذلك لم يهمني، لكني لا زلت أتذكر أول مرةٍ أمسكت فيها سلاحًا، أول مرةٍ نجحت فيها في التصويب على هدفٍ مأمورٌ أنا بصيده، فكما تعرفين تعلمت على يد أعظم قادات الجيش في سلب الأرواح، وكان رجلًا مهابًا من الجميع، حتى أن صوته كانت تخشاه الطيور فتترك مكانها بوصول صدى صوته لهم، وكلما رأيته كنت أختبر شعورًا جديدًا بالخوف منه، أما هو فعلمني خلال رحلتي معه كيف أن أقتل قلبي قبل أن أقتل عدوي، أخبرني ذات مرةٍ أن قلبي لو طالته ذرة ضعفٍ أو حنين سوف أصبح أنا المقتول، وكان هذا هو درسي الأول منه، أما درسي الثاني فلازلت أذكره كما أذكر أول لقاءٍ جمعني بعينيكِ، أعلمه كما أعلم عدد العثرات في طريقي لكِ، علمني في درسي الثاني أن روحي وسلاحي أهميتهما متطابقة على حط السواء، فكما في معركتي أخشى المساس بروحي، أيضًا يتوجب عليَّ أن أخشى المساس بسلاحي، لذا طوال عمري كنت أدخل ساحة العراك وأعلم أن روحي جزئين، جزءٌ داخل جسدي، والجزء الثاني أمسكه في يدي، لكن..
توقف الخطاب هُنا لانتهاء الصفحة، فقامت بقلبها سريعًا لتقرأ الباقي من الخطاب حيث وجدته أضاف مُكملًا من نقطة النهاية ببدايةٍ جديدة:
_لكن يوم أن رأيتكِ علمت أن نهايتي كقاتلٍ بدأت تسرد حكاياها لتضع نقطة الختام، بدأت أتيقن أنني سوف أعود من دربي المخطيء وسبب عودتي سوف تكون عينيك، لذا اليوم أخبرك أن القاتل قُتِل وانتهى أمره، العجيب في أمره أنه لم يُقتل بسلاحٍ كما فعل، ولم يُغدر به بيدي أحدهم، وإنما يوم أن قُتِلَ كان سبب قتله نظرة عينٍ واحدة فقط سلبت منه الروح وما تبقى منها، ولو لم يكن الأمر من باب المُبالغة فدعيني أخبرك أنني لم أخش بحياتي شيئًا بقدر ما خشيت أن تكون هزيمتي منكِ، لذا أعلنها لكِ صراحةً لمرتي الأولى أن المقتول على يديكِ قُتلَ، فأنا الظالم في قصص كل العابرين والظالم لتفسي أولًا، يوم أن ظُلِمت كان ظُلمي من يديكِ أنتِ، أفيُعقل أن أقتل بنظرة عينٍ وأنا القاتل بالسلاح وما أشد منه قسوةً؟ دعيني أخبركِ أيضًا أن أمر التخلي مني عن سلاحي يُعد في أمر كبار القبائل هزيمة ساحقة في حق القاتل، لكني اليوم أفرط بجزءٍ من روحي كي أسترد كل روحي، اليوم أترك لكِ سلاحي بين يديكِ وأطلب منكِ في المقابل لقاءً من عينيكِ، فسلاحي هذا لو كان يُعني أنني أتخلى عن روحي، فروحي بأكملها فداءً لكِ لن يُضاهيها شيءٌ غير نظرة منكِ..
وفي النهاية..
في تلك اللحظة وقبل أن تنزل بعينيها للخطاب أتى هو من خلفها يهمس بنبرةٍ عاشقٍ أُتيحت له الفرصة أمام نفسه أن يُفصح عن خبايا كتابه المغلق بسراديب قلبه المغلق حتى تصلد قفله:
_في النهاية أرغب في إخبارك أنني رغم قوة قلبي وقتلي للعديد من الضحايا لم يجرؤ أحدهم أن يفعل بقلبي ما فعلته عيناك، فإذا كنت أنا القاتل، ماذا عن عينيكِ الجريئتين وهما تسلبان من قلبي راحته لأصبح بنظرةٍ منهما مقتولًا؟ ألم يكن حرامًا عليكِ أن تظلمني عيناكِ وأنتِ ترتاحين بموت قلبي في عينيكِ؟..
انتهى الخطاب تزامنًا مع نهاية صوته لذا التفتت له لتجده يجلس على عاقبيه خلفها وما إن لمحها ابتسم بوجهٍ مشرقٍ بينما هي ألقت نفسها عليه تحتضنه بقوةٍ، وكان عناقها أبلغ من أي كلامٍ يقال حينها، أما هو فاستقام واقفًا ثم دار بها في الغرفة وهي في عناقه تضحك بسعادةٍ حتى أنزلها تقف أمامه ثم كوب وجهها بين راحتيهِ وقال بحبٍ لها:
_وحشتيني، وحشتيني أوي كمان.
لم تصدق نفسها أن هذا هو المُتبلد بذاته، كانت عيناها تنطق بذلك وهي تقف أمامه، بينما هو فاقترب يُلثم جبينها بحنوٍ ثم عاد يُطالع عينيها وهو يقول بصدقٍ كأنه فتح أبواب قلبه على مصراعيها:
_ماكنتش أعرف يعني إيه واحد يرجع من الغربة فرحان ومبسوط إنه راجع لمكانه وناسه، بس بسببك كنت بعد الساعات اللي هشوفك فيها وآخدك في حضني كدا، حقك عليا لو كنت بخيل عليكِ بالكلام قبل كدا، بس اللي في قلبي كبير أوي وربك وحده العالم بيه.
عادت هي وضمته بكلا ذراعيها بصمتٍ لم تجرؤ على الخروج من سيطرته ثم عادت تُطالع عينيه وهي تقول بلهفة الشوق الذي غلبها وغلب رجاحة عقلها:
_أنا لما قريت كلامك ماكنتش مصدقة إن الكلام دا ليا أنا، أنتَ بجد كتبت كل دا علشاني أنا؟ كلامك حلو أوي وصدقته وحسيت بكل حرف فيه، بس فكرة محاولتك علشاني دي مفرحاني أوي.
لمح هو وهج السعادة الساطع من عينيها فمرر كفه فوق وجنتها يسألها بحنوٍ غريبٍ عليه قبل أن يكون غريبًا عليها هي:
_ومين غيرك يستاهل أكتب علشانه؟ مين غيرك مسك أيدي وقبل بيا بكل عيب ومحاربش فيا زي التانيين؟ لو كل العالم بيقتلني أنتِ بِـ حُبك حييتيني من تاني.
وعاد اللقاء من جديد وهي تضمه وهو يتمسك بها..
ذاك اللقاء الذي كان يتمناه _فقط في احلامه_ لم يتخيل ولو لوهلةٍ أن يكون بهذا القُرب منه، لذا تمسك بها وترك لنفسه حرية الخروج من محبسها الذي فرضه هو عليها ليختبر حلاوة مشاعره معها وهي بين يديه تتمسك به وتسكن بين ذراعيه، ليعلم أن ضلعه الناقص عاد واستقر في مكانه أخيرًا..
____________________________________
<“ومرور الأيام في حياة الناسِ ليس عبثًا، إنما بعضها درسًا”>
بعض الدروس حينما تُعطى للمرء يكون التطبيق عليها في غاية الصعوبة، فالبعض قد يبدأ معه الأمر بلُعبةٍ يخوضها بمحض العبث ولم يضع في حسبان العقل ولو لوهلةٍ أن تلك اللعبة التي بدأت من باب الرفاهية ستكون درسًا في غاية القسوة عليه، لذا قبل أن تبدأ اللعبة سِل نفسك هل أنتَ على استعدادٍ لمواجهة نهاية اللعبة؟..
عادت وما أدراك ما العودة..
كان الأمر غريبًا لكل من يراها ولمن يلمحها من على بُعدٍ وهي وحدها من كانت تعلم خبايا القصة، عادت بالثياب التي ترتديها فقط وبعض الأوراق المالية التي سلمها لها “يـوسف” في يديها حتى تستطع أن تعود من جديد لبيتها، عادت والعبرات تلتصق في جفونها وخيبة الأمل تلتصق في عبائتها وهي تجر أقدامها جرًا كي تذهب لبيتها بعدما كتب لها الخلاص على يدي غريبٍ لحقها من بين أنياب الوحوش القاسية..
وصلت، وبكت، وارتمت، وظلت تُرثي حالها بين ذراعي أمها التي انفطر قلبها بقهرٍ على ابنتها، ورغم كل شيءٍ ضمتها بين ذراعيها بلوعةٍ وهي تقول بصوتٍ باكٍ أعرب عن الحسرة من ثنايا قلبه:
_عيني عليكِ يا قلب أمك، منه لله الزبالة عرة الرجالة، الحمدلله ربنا سترها عليكِ وردك من تاني لينا، الحمدلله يا رب، والله قلبي مكانش مرتاح ليه وقولتلك بلاش، بلاش دا وخليه بعيد عننا، قولتلك مش من طوبك ومن هينفعك بس أنتِ فضلتي ماسكة فيه كأنك عيلة صغيرة وما صدقت، حسبي الله ونعم الوكيل فيه وربنا يكرمه “يـوسف” ويكرمه طليقك، واحد تاني كان سابك وشال أيده، الحمدلله جت على قد كدا.
بكت بين ذراعي أمها وياليت البكاء ينفعها بشيءٍ..
بكت ملامةً وحسرةً على ما فاتها من الحياة، وياليت ما فاتها يُعوض يومًا ما، لكن تلك المرة في حربها خسرت كل شيءٍ وأولهم نفسها، حينما تم بيعها بثمنٍ بخسٍ كما النساء في سوق الرقيق، لم تنس يومًا حالها وهي كما قطعة الحلوى يتم عرضها كل يومٍ لأعين الناظرين حتى تُثير شهواتهم وتسرق أعينهم ثم كل ما تطوله يدها بعد ذلك..
أتى في تلك اللحظة “شكري” شقيقها ورآها بهذا الوضع فأصدر من حنجرته صوتًا تهكميًا ثم جلس يرفع ساقًا يثنيها فوق الأريكة ويترك الأخرى كما هي ثم رفع إصبعه صاحب الظافر الطويل يفرك أذنه ثم قال بسخريةٍ:
_وآخرتها يا ست صغيرة على الحب؟ هتفضلي كدا تعيطي وتشكي كتير؟ ضيعتي نفسك وفلوسك وحياتك وراجعالنا أيد ورا وأيد قدام؟ هو دا اللي قولتي هيعيشك في النعيم؟ دا جرك للجحيم هناك، تصدقي يا بت إنك ولية خايبة وتستاهلي الضرب؟ علشان اللي زيك مش وش نعمة، أنتِ تستاهلي الضرب فوق دماغك، جتك خيبة.
ولأن الضرب في الميت حرامٌ..
شعرت أن حديثه كان كافيًا كي تنفجر فيه، لذا صرخت بملء صوتها تعبر عن قهرها وشعورها بالوجع على نفسها:
_حرام عليك يا أخي بقى، هو أنا ناقصة كلامك دا؟ أنا فيا اللي مكفيني، ماهو أنا لو عندي أخ راجل يقف في ضهري كان زماني رميت حملي عليه يجيبلي حقي، بس أنتَ طول عمرك حيطة مايلة وبس، أخ بالاسم وعمرك ما حتى خدت بأيدي ونصحتني، وبسبب غبائي مشيت وراك زي العامية لحد ما خربت بيتي وحياتي وبعت أبني بالرخيص، كل اللي همك إني مرجعتش من هناك بحاجة؟ كنت فين يا سيد الرجالة وأختك بتسحب الرجالة لحد عندها علشان تغفلهم؟ كنت فين وأنا ست لوحدي في الغربة بتباع زي البهايم وكل يوم بتمن وسعر؟.
والحديث فيما فات خسارة الوقت والجهد، لذا رفع حاجبيه مستنكرًا حديثها وطريقتها ثم انتهج أولى مناهج “إبليس” حينما برأ نفسه وقال مُتخليًا عنها بكل تجبر وبرودٍ:
_وهو أنا كنت قولتلك بيعي كل حاجة وفوقهم ابنك وأمشي ورا كلامي؟ أنتِ اللي عينك فاضية وجعانة، كنتِ عاوزة كل حاجة وطمعانة في كل اللي عند غيرك، خسرتي كل حاجة وآخرتها جاية تلوميني؟ بقولك إيه الفلوس اللي كنتِ سايباها لو فاكرة إنها لسه هنا تبقي عبيطة، أنا دفعتهم مقدمة ميكروباص مع الواد “عَـبود” وهنمسكه فردتين أنا وهو، أصل القرش مع الحريم خيبة، وأنتِ خيبتك وديتك في داهية.
هل الشيطان يعظ؟ هل يقدم حديثه مُبررًا جره للإنسان في متاهات الخطأ ليتركه بها غارقًا في بحور الشهوات والخطايا؟ فمنذ البداية والأمر معلومٌ أن البداية تكون من التسليم لوسواسٍ تسلم له النفس ثم تعود وتبحث عن سببٍ يكون كما المشجب تُعلق عليه خطاياها، لذا توسعت عيناها وفرغ فاهها وهي تقف أمام شقيقها بغير تصديقٍ بينما هو اعتدل فوق الأريكة ثم قال متجاهلًا عن عمدٍ نظراتها ومواجهة عينيها ثم أضاف مُكملًا يوجه مقصد الحديث لأمهِ:
_بقولك يا أما أمنتك تروحي للست أم “هياتم” تقوليلها إني خلاص جاهز علشان نشبك البت بنتها، وياريت بنتك المعدولة دي تكتم خالص ومتفتحش بوقها بكلمة، وياريت اللي حصلها دا محدش يعرفه، مش ناقصين نتعاير آخر الزمن بيها، كفاية فضايح وجُرس لحد كدا، أديني قولت أهو علشان لو سمعت ليها نفس هجيبها من شعرها قدامك.
أنهى حديثه ثم رماها بسهامٍ قاتلة من عينيه وغادر المكان وتركها خلفه تضم رُكبتيها لصدرها وبدأت تنشغ ببكاءٍ حاد وهي تدرك مذاق الخسارة الحادة التي لاقتها في نهاية المطاف بعد عمرٍ أضنته في طريقٍ لم يكن يومًا طريقها، عبثت بأماكن لم تُشبهها أو من الأساس لم تُشبه أحلامها، لكن لطالما كان مبدأها أن الغاية تُبرر الوسيلة، فوسيلتها تلك المرة قادتها للتهلكة وتركت أثرها كما الرماد المحترق، لن يفيد بشيءٍ..
وأنسب ما تم وصفها به ببلاغة القول كان:
_”وَعُدتُ لا شَيء إِلَّا اللّيلَ يملؤُني
ولا أَنيسَ سِوى نَفسي أُباكِيهَا”
____________________________________
<“ولُقيا العين بالعين حياة، والمُلتقى بعد الغربة نجاة”>
من كان يطمع بسعة السماء،
قد يكون براحه في قلب أحدهم، حينها سوف يعلم أن الحياة بذاتها بسعة السماء وهو كما الطير الحُر ينل حُريته في قلب أحدهم، ففي قلوب من نُحب نصل لأبعد مما تمنينا، فمن يعلم أن الحرية بذاتها في قلوب من نُحب تشبه حُرية العقل من قيد أفكاره؟..
ترك عائلته الثانية ليولي عائلته الأولى حقها عليه، لذا تحرك من منطقة نزلة السمان يقصد حارة “العطار” وقد مر على المسجد يأخذ منه “هـدية” كما أوصاه “أيـوب” ووالده أن يعود بتلك الفتاة بعدما أخبرهم عن حالتها هناك وعن ما عايشته تلك المسكينة، لذا سارت بجوارهِ بصمتٍ وهي تفرك كفيها معًا ولاحظ هو حالتها تلك لكنه فضل الصمت حتى وجدها تسأله بخوفٍ:
_هو حضرتك هتوديني فين؟ أنا مش عاوزة أرجع الدار تاني، وحياة عيالك سيبني أشوف طريقي وأنا والله مش عاوزة أي حاجة ولا هورط حد معايا في حاجة تاني.
توقف عن السير ثم زفر بقوةٍ وقال رغمًا عن تعبه:
_يا بنت الحلال الله يهديكِ أنا دماغي فيها اللي مكفيها، مش هاجي جنبك ولا حد هيقرب منك أصلًا ومش هتروحي الدار تاني، كل الحكاية بس ومافيها إني هسلمك لصاحب المكان دا، راجل محترم وابنه إمام مسجد، هتروحي بيته وهو هيساعدك، أنا مش جايبك من هناك لهنا وشايل مسئوليتك علشان أرميكِ في الشارع، بعدين ميغركيش شكلي أنا برضه ابن شارع.
طالعته بعينين حائرتين وتعجبت أنه يتحدث معها بينما هو استأنف سيره وهي خلفه تغمغم بحيرةٍ تزايدت عن السابق:
_ابن شوارع إيه ياختي دا كمان؟ أومال ولاد البهوات حالهم إيه؟.
وصل بها بيت “العطار” وأول ما قابل هناك كان كبير الذي فتح ذراعيه له ورحب به بحفاوةٍ شديدة يقول بترحيبٍ حارٍ حينما ضمه لعناقه:
_نورت الدنيا كلها يا غالي يا ابن الغالي، عيشت ووفيت بوعدك يا حبيبي، شكرًا يا ابني إنك عملت اللي عليك مع أخوك وابن أخوك ورفعت راسه قدام الخلق، ربنا يعز أصلك زي ما أنتَ عززت اسمي واسم اللي مني كدا.
وفي أحلك الظروف وأصعب حالات الإنسان أقصى ما يحتاج إليه تكون كلمة حنونة تمسح فوق قلبه وتخبره أنه فعل ما بوسعه وسط هذا الزمان، تخبره أن كتفه كان خير الجدار الموضوع فوقه حملًا ثقيلًا يحتاج لقوة بالغة كي يتحمله، لذا ترك نفسه في عناق عمه ثم ربت فوق ظهره يقول بحنوٍ:
_دا حقك عليا يا غالي، زي ما أنتَ صونت وعدك للي راح وحافظت على اللي منه كان واجب عليا أحافظ على الحق اللي ليك عندي، بعدين هو فيه أب بيشكر ابنه برضه؟ مش زي “أيـوب” أنا عندك ولا إيه؟.
وما بين الغريب الذي وطأ المكان بأرضه وما بين “يـوسف” الذي يسكن في عناق عمه شتان يتقارن بالبُعد بين السماء والأرضِ بنفس المقدار، لذا خرج “يـوسف” من عناقه المحبب لقلبه _لتطابقه مع عناق أبيه_ ثم ابتسم في وجه “عبدالقادر” الذي مسح فوق خصلاته وهو يرى صورة الصديق الراحل أمامه وعبق الذكرى عالقًا بها..
في تلك اللحظة كانت “هـدية” تقف منزوية على مقربةٍ منهما وتأثرت بهذا المشهد رغم علمها للقشور من “أمـاني” لكنها ولجهلها لتلك المشاعر كانت تتعجب مما حدث، أما “يـوسف” فوصله صوت صياح القطة المتهورة وهي تركض من فوق الدرج ثم قفزت تُلقي نفسها عليه أمام الواقفين وهي تقول بلوعةٍ:
_وحشتني أوي، مصدقتش إنك رجعت أخيرًا، مصر نورت بيك من تاني، وحشتني أوي أوي أوي.
ضمها “يـوسف” بقوةٍ ثم لثم جبينها وقال بحنوٍ:
_وحشتيني أكتر يا “قـمر” طمنيني أخبارك إيه؟ أنا ما صدقت آجي علشان آخد حقي فيكِ براحتي، طمنيني “أيـوب” أخباره إيه؟ أوعي تكوني مزعلاه؟ عارفك عندك فرط حركة وربع مش موجود مكانه أصلًا.
ضحكت هي بصوتٍ عالٍ ثم ابتعدت عنه تشير له بإبهامها فضحك هو رغمًا عنه ثم عاد وضمها من جديد لعناقه حتى ضحكت وهي تدعو الله أن يحفظه لها وفي تلك اللحظة لمحت بعينيها الفتاة التي تقف فعادت للخلف قليلًا وسألته بنبرةٍ هامسة:
_هي مين دي؟ أوعى تكون جايبها تخرب على أختك !!.
رفع حاجبيه مستنكرًا ثم التفت للفتاة _كان نسى أنها هنا_ ثم عاد وطالع وجه “عبدالقادر” الذي تحرك مقتربًا منها ثم قال بحنوٍ وتقديرٍ لتلك التي خاضت مضمار حربٍ أقوى منها:
_أهلًا بيكِ يا بنتي، حمدًا لله على سلامتك وعلى رجوعك من تاني لبلدك بخير وهدعيلك ربنا يعوضك ويرزقك بكل خير، بصي يا بنتي هتعيشي معانا هنا مع الست “وداد” اللي ماسكة البيت دا كله، وكله اللي تعوزيه بإذن الله يحضر علشانك، وأنا هنا زي والدك، اسمي “عبدالقادر”.
توترت الفتاة أمام الجميع وخاصةً حينما طالعتها “قـمر” بنظرات لم تفسرها هي، لذا وقفت أمامه بصمتٍ وهي توميء برأسها فقط وفي تلك اللحظة ولج “أيـوب” من بوابة البيت وما إن لمح صديقه هرول ناحيته يضمه بذراعيهِ فتعانق الصديقان مع بعضهما بقوةٍ وكلًا منهما ترك نفسه في حضن حبيبه كأنه يتحدى به قسوة الأيام، بينما “قـمر” فتلك وقفت بعينيها هناك بعيدًا مع الفتاة التي التفت نحوها “أيـوب” ليجد مصدر محط أنظار زوجته وقد غض بصره سريعًا، فهمس له “يـوسف” بنبرةٍ خافتة:
_البت دي الدنيا هرستها، لو عندك عريس جدع جوزهاله.
كتم “أيـوب” ضحكته ثم حرك رأسه نحو زوجته وقال بسخريةٍ:
_قول لأختك بقى لأن الله أكبر عينها بتاكل البت وهي واقفة، أنتَ قولتلها إيه بالظبط خلاها تبص كدا؟ دا أنا خفت من نظرتها اللهم أحفظنا.
التفت “يـوسف” يضحك وهو يُطالع وجه شقيقته المُحتقن ثم كتم ضحكته واقترب منها وخلفه سار “أيـوب” فأصبحت محاصرةً بين الإثنين وقد تحدث شقيقها بنبرةٍ أعربت عن حنقه:
_بت، ياريت تتعاملي كويس معاها علشان فيها اللي مكفيها، عينك متطمنش بس بقولك أهو، أنا وعدتها إنها هنا في أمان، عاوزك كدا تساعديها وتاخدي بإيديها وربنا يردهولك في عيالك.
ضيقت جفونها وقد تملكت منها الغيرة فهمست بحنقٍ يماثل حنق شقيقها وهي تهمس له:
_ماشي، بس ورب الكعبة لو البت دي عملت زي الأفلام الهابطة ولفت على جوزي هدبحهالكم، ولو أتقبض عليا هقولهم أخويا شريكي في الجريمة، وهو اللي تاوى الجثة بتاعتها كمان.
جاهد “أيـوب” كي يكتم ضحكته بينما “يـوسف” ففشل في ذلك لذا ضحك رغمًا عنه ثم قال بنبرةٍ بها ضحكة مكتومة:
_حاضر، ووعد مني لو دا حصل نعلق رقبتها على باب البيت هنا، بس بصي غلبانة إزاي؟ عيب يكون جوزك شيخ مسجد وأنتِ ولية مفترية كدا، يلا روحي خدي بإيدها يلا.
لم تتحرك من مكانها بل أتت “وداد” بعدما ناداها “عبدالقادر” وما إن وقفت أمامه أشار نحو الفتاة وقال بنبرةٍ هادئة لم تخل من ضحكته:
_جبنالك حد يكون معاكِ أهو ويونسك هنا، مالكيش حِجة بقى الغدا يخلص بدري بدري، يلا خديها معاكِ اسمها “هـدية” وهتبقى هدية ليكِ الأيام دي أنتِ و “قـمر” وتاخد بحسكم هنا، يلا يا بنتي روحي معاهم.
تحركت “هـدية” مع المرأة على استحياءٍ بينما “أيـوب” ابتسم لوالده بإمتنانٍ أنه فعل هذا الشيء معها ثم حدث زوجته يطلب منها برفقٍ ولينٍ:
_ينفع تجيبي ليها حاجة من عندك؟ شكلها معهاش أي حاجة خالص وأنا مراتي حنينة وطيبة مش هتكسر بخاطر حد، صح ولا هنبدأها شغل هبل وجنان بقى؟.
ضحكت بطيبةٍ ثم تحركت من أمامه نحو شقتها فتنهد “يـوسف” ثم تحرك من المكان بعدما ودع عمه ورفيقه وكتم ألمه على غياب “نـادر” في عينيه، لكن “أيـوب” بنظرةٍ واحدة في عينيه كان يفهم أنه يُخبيء شيئًا ما في سريرته، لكنه تركه حتى يرتاح من عبء السفر وجلس بجوار والده بصمتٍ..
أما “يـوسف” فخرج من البيت وبدلًا من الذهاب لبيت أمه قصد مكانًا غيره، خرج بسيارته من الحارة تزامنًا مع حلول الليل ثم اتجه بسيارته نحو شركة “الـراوي” وما إن ولجها تخطى الجميع متجاهلًا حديثهم وترحيبهم ثم داهم مكتبه كما الإعصار واقترب يضرب المكتب بكلا كفيه وهو يميل بجذعه هادرًا بغضبٍ أعمى:
_هي كلمة واحدة عاوزها منك، أنتَ تعرف إن صاحبك ابن العالمة خطف “نـادر” في إيطاليا وبقى معاه هناك؟ علشان المرة دي أنا مش هسيبك في حالك، مش حمل اللي هيحصل فيا منك تاني، أنتَ كنت عارف؟.
سكت “عـاصم” بذهولٍ ووقف أمامه مدهوشًا وفرغ فاهه بينما “يـوسف” وقف أمامه يطالعه بكرهٍ حادٍ ونفورٍ ومقتٍ ثم هدر أمامه بوجعٍ كان حقيقيًا من قلبه:
_أنتَ ليه بتعمل كدا معايا؟ ليه كل ما أحاول أدور ليك على حاجة تشفعلك تخليني من تاني أكرهك، صدقني أنا تعبت منك وبقيت بكرهك فوق ما تتخيل، ليه تعمل كدا في ناس مكانش حد هيكسب منهم غيرك أنتَ، كنا هنفضل في ضهرك زي عيالك بس العيب مش عليك، العيب على الست اللي ربت، أمك الجاحدة اللي مزرعتش فيك حنية، علشان كدا قسمًا بربي هرجع “نـادر” وهرميك في الشارع علشان محدش عرفه غيرك أنتَ.
وتلك هي الحقيقة التي لم يجرؤ “عـاصم” على إنكارها لذا رفع صوته يواري توتره وهو يقول كذبًا:
_مش هتقدر تعمل أي حاجة يا “يـوسف” فاهم؟ ولو فكرت تقرب مني أنا اللي هسجنك، “سـامي” كان عاوز يتطمن على ابنه ودا اللي أنا عرفته ليه، لكن غير كدا مش هتقدر تعمل حاجة ليا علشان مش معاك دليل وقولتلك ١٠٠ مرة بطل تناطحني وتحط راسك براسي، مبقاش غيرك يعلي عليا ويعلمني كمان.
وفي تلك اللحظة عاد تجبر “يـوسف” من جديد له فاستقام في وقفته وقال بتهكمٍ كما عادته الدائمة في الحديث مع عمه:
_لما بتكون في حاجة في جسمك تعباك بتكون أنتَ الوحيد اللي حاسس بس واللي حواليك كلهم مش عارفين، إنما لو دماغك اللي تعبانة بتكون كل الناس عارفة وأنتَ لوحدك اللي مش حاسس، وأنتَ مصيبتك السودا إنك مش حاسس إن دماغك تعبانة، بس كلنا عارفين يا “عاصم”.
اتقدت عينا “عـاصم” بشررٍ ثم ارتمى فوق المقعد بهزيمةٍ سحقت روحه وهو يضع وجهه بين كفيه شاعرًا أن تلك الحياة تضرب في كل مراكز ثباته، كانت تلك الهزيمة ساحقة كونه تسبب في أذى لمن يُحب، فتلك المرة تم استدراجهِ حتى وقف حليفًا في جيش العدو ضد من يُحب..
____________________________________
<“لا أعلم شيئًا سوى أن الجميع مروا بحياتي؛
إلا هي أصبحت محور حياتي”>
جميعهم غرباء مروا من حياتي،
باستثنائها وحدها مرت وأصبحت هي محور الحياة، فالجميع مروا وكانوا عابرين أما هي فكانت الأثر بذاته، لذا لا ألوم من يسألني عن سبب الحياة إن لم يكن يراها بعيني، فياليت العالم بأكملهِ يراها بعيني ليعلم المقصد من الحياة وأنا أتحدث عنها..
في الليل كان “بـاسم” يستعد للنزول فوقف يرتدى ثيابه ثم أمسك زجاجة عطره ينثره بعدما صفف خصلاته بعنايةٍ وقبل أن يتحرك وجد “كِـنز” تقتحم غرفته ثم وقفت قبالته وهي تقول بلهفةٍ:
_بقولك إيه قبل ما تنزل شوف حل معاها مش عاوزة تاكل، بقالها كام حالتها صعبة، يا بني شوف حل بقى بدل البهدلة دي، هتوديها مستشفى ولا نسيبها كدا؟ لا بتاكل ولا بتشرب وجسمها وجعها أوي، صعبانة عليا أوي ونفسي أشوف حل علشانها، منهم لله اللي كانوا السبب، تعالى يا حبيبي.
ركض مهرولًا بسرعةٍ كبرى يقصد غرفتها وما إن ولج لها ج ططط فوق الفراش وأعراض انسحاب المخدر تنهش في جسدها فوقف لوهلةٍ تائه الخُطى لا يعلم كيف يخطو نحوها، بينما “كِـنز” فكانت تحاول ضمها في تلك النوبة الهلعة، بينما هو ركض يسحب إبرة من الجارور بجوار فراشها ثم حقنها بها وقد تهاوت العبرات من عينيها من فرط الألم، بينما هو فوقف بتيهٍ أمامها لا يعلم كيف يُكمل طريقه معها وهي بهذا الوضع، بدأت تستكين قليلًا فتحركت “كِـنز” من الغرفة تبحث لها عن غطاءٍ..
حينها اقترب منها وهي تتكور في نومتها كما الجنين برحم أمه وجسدها ينتفض، انتفض قلبه لأجل هذا الوضع المؤلم ثم حرك كفه يمسح فوق كتفها وأبعد خصلاتها عن عينيها ووجهها ثم قال بصوتٍ رخيمٍ يبثها الدفء المسلوب منها:
_هتكملي وتقومي وتقفي على رجلك من تاني، وأنا معاكِ يا “نورهان” معاكِ ومش هسيبك غير وأنتِ ليا ومحدش يقدر يقرب منك مهما كان مين، صحيح قولتلك يحرم عليا وجعك بس وجع ساعة ولا وجع كل ساعة، بكرة تفوقي وتفرحي بنفسك لما تشوفي أنتِ وصلتي لإيه.
حينها لم تستطع أن تُكمل دور القوية فصرخت بألمٍ حينما تعبت من التحمل وكتم الوجع، كانت هي تصرخ وقلبه ينفطر لأجلها، حاول أن يقف صامدًا لكن رؤيته لها بهذا الضعف ذكره بضعفه في المعتقل حينما كان مُجبرًا على التجاوز، حاول أن يصمد أمامها لكن حصونه سقطت فجلس على طرف الفراش يمسح فوق رأسها بحنوٍ وهو يعلم أن تلك الحدود التي يتخطاها جريمة، لكن نفسه الضعيفة في تلك اللحظة لم تكن براهبةٍ كي تمنعه، لذا ظل بقربها حتى هدأ صوت النحيط المكتوم منها وأتت خالته تدثرها وتخفي جسدها ثم جلست بقربها تمسك بكفها وهي تطالعها بشفقةٍ وقلبها يؤلمها على تلك الضعيفة..
أما هو فكره تواجده ومعاصرته للحظات الضعف هذه، كره ماضيه وحياته وذكراه وهو يقف صريع الماضي في لحظةٍ غابرة مثل هذه فترك المكان سريعًا وخرج من الشقة وقصد الذهاب لمنطقة “جبل المُقطم” حيث مقر مقابلاته مع “مُـنذر” وصل لهناك فوجد الصديق ينتظره، وملامحه آنذاك لم تُشيء بخيرٍ، وقف “مُـنذر” أمامه بعجبٍ وهو يبحث في عينيه عن سبب الوجوم فوق وجهه، وحينها سأله بغرابةٍ:
_أنا عاوز أفهم أنتَ بتعمل إيه، قولتلك ساعدني أعالجها علشان دي رغبة “نـور” مرات “سـراج” وعاوزة حد ياخد بإيدها، بس الغريب طلبك إنك تتجوزها وتقف ند بند قصاد أبوها وأمها، متورطش نفسك فيها، لو هتعمل كدا من باب الشفقة يبقى متخليش مشاعرك تغلب عقلك، في لحظات بناخد فيها القرار اللي يسكن جروحنا بس للأسف القرار دا مبيعالجش حاجة، دا بيضر أكتر، أنتَ بتعمل إيه يا “بـاسم” بس؟.
وللأسف المذكور لم يعلم ما يفعله في نفسه لذا حرك رأسه بيهٍ ثم أسند جسده على دراجته وقال بتيهٍ وخيبة أملٍ حقيقية أصابت ثباته:
_ماهو أنا لو أعرف كنت أرتحت وريحت، بس للأسف أنا مش عارف ومش شايف غيرها هي، عيني مش شايفة غيرها هي، معرفش ليه هي بالذات بس أنا مش شايف حد غيرها ومش عاوز أساعدها بس، أنا عاوزها هي كلها، عاوز أشوف فيها كل حاجة، أشوف يومي النهاردة معاها وعاوز أشوف بكرة معاها حتى حلمي اللي مكملتوش في بكرة عاوزه معاها بعينها هي، أنا كنت كل ما أشوفها بكره أبصلها، بس دلوقتي لأ، أنا عيني بقت بتضحك عليا وتسرق الشوفة منها.
لم يتعجب “مُـنذر” من حديثه بل كان مُتأكدًا أن صديقه وقع في فخ الحب مثله، كل العلامات كانت ظاهرة عليه وعلى محاولاته لأجلها، فتنهد بقوةٍ ثم قال موجزًا:
_يبقى خليك عارف إنك بتحبها، حبيتها ودي مش هتقدر تنكرها، النهاردة أو بكرة أو بعده أو في أي يوم خليك عارف إنك حبيتها يا “باسم” والحب ضرب بابك ومش هتقدر تقفل في وشه، أعرف بس أنتَ عاوز تعمل إيه علشان تقف على أرض صلبة.
تنهد “بـاسم” بتعبٍ ثم رفع رأسه للأعلى وعاد ينظر في وجه صديقه ثم قال بصوتٍ هاديءٍ غلبت عليه العاطفة بحالة شجنٍ:
_أنا يمكن أكون حاولت أهرب منها بس مقدرتش، كانت عاملة زي المصير ولازم الإنسان يكون شجاع بما فيه الكفاية علشان يقدر يواجهه، كل مرة كنت بحاول أكره نفسي فيها بالعقل ألاقي قلبي بيحط ليها ١٠٠ عُذر، معرفش ليه بس حبيتها بجد، بقيت مستعد أعمل أي حاجة علشانها، حاسس إني مش هقدر أفرط فيها، عيلة تايهة وسط الناس لقت واحد تايه أكتر منها وخدوا بإيد بعض في السكة، خايفة وتايهة وضعيفة وجبانة وفيها كل العبر بس بريئة، عاملة زي العيلة الصغيرة ما هتصدق حد يمسك بإيدها، وأنا لوحدي ما هصدق حد يأمنلي ويمسك أيدي، ياريته كان بأيدي، كنت حرمت على نفسى نظرة العين ليها.
استشعر “مُـنذر” حيرته فضمه في عناقهِ بعدما أخيرًا علم كيف يستطع مواساة غيره، كان كما الطير الذي أختبر مشاعره الجديدة فسار بين الناس يخبرهم عن حلاوة ما ذاق، أما الآخر فكان قلبه عالقًا بمكانٍ آخرٍ حيث صورتها الأخيرة التي علقت برأسه بعدما تركها ورحل.
أما “نـادر” فخرج من محبسه بأمر من ابيه الذي أصر على ذلك، فقرر ابنه ابنه أن يُجاريه لذا ترك غرفته وخرج للحديقة يجلس فيها يتأمل في الطبيعة حوله وصورة “حنين” ظلت عالقة بذهنه، آخر وداعٍ بينهما كان يحفظه هو ويعيده لعقله محتفظًا بصورتها في قلبه، وقد ظل جالسًا حتى أتى والده يسأله من باب الود:
_قاعد سرحان في مين؟.
رمقه حينها بنظرةٍ ساخطة ثم تجاهل الرد عليه، فمال عليه والده يقول بنبرةٍ خبيثة كما نواياه التي يحملها في قلبه:
_مش من مقامك، دي بالذات لو بتسرح فيها وفاكر إنك هتتجوزها وتليق بيك تبقى أهبل وعامل زي بطل الفيلم الخايب اللي بص لواحدة مش من مقامه، بص لنفسك وشكلك، بص لتعليمك وفلوسك، بص لكل حاجة عندك وشوف هي عندها إيه، حتة ممرضة كانت في يوم عندك بتخدمك وتحت رجليك، هتتساوى بيك وتبقى مراتك وتشيل اسمك؟.
كان حديثه يشبه النيران في قلب “نـادر” لذا انتفض من موضعهِ وأمسك كفه يهدر فيه بصراخٍ عالٍ وقهرٍ امتد لعنقه يخنقه:
_إياك أنتَ بالذات تفكر تجيب سيرتها على لسانك، علشان دي أنضف منك ومن أصلك، واللي بتعايرني بيها إنها خدمتني في مرضي أحب أقولك إنها عملت اللي أنتَ معملتهوش، علشان هي مش زيك، هي إنسانة وعندها قلب مش حاطة مكانه حجر زيك، ياريتها هي اللي تبقالي بدلك.
ضحك “سـامي” قاصدًا استفزازه ثم قام بإخراج صورتها من جيبه هو بعدما سلمها له “ماكسيم” ثم قام بتمزيقها أمام عيني ابنه ليكمل حسرته ثم قال بلهجةٍ صلدة:
_أنسى، أنساها خالص.
قطعها ومر من جواره كأنه يتعمد إذلاله بينما “نـادر” فجلس على عاقبيه وعيناه تكتم القهر فيها وكل ما يدرو بخلده يتم وصفه ببيتٍ قديم يقول:
_”ما عُدتُ أعرِفُ أين تهدئُ رِحلتي
وبأيّ أرضٍ تستريحُ رِكابي
غابت عنّي وجوه كنت أحبّها،
ما عاد ينفع في الخريف عتابِ”
____________________________________
<“وعدتُ وَحيْداً أجُّرُ الخُطى
يصاحِبُني الحزنُ والذكريات
فلا أنا فزتُ بما قد مَضى
ولا أنا دَارٍ بما هو آتْ”>
والأسوأ من خيبة الأمل أن ينتهي بنا الأمر ونحن في حقبة التخيل فقط، أن نبقى عالقين في تلك الحبال الضعيفة التي تُشكل على هيئة أحلامٍ فقط، فتخيل أن تبقى مستأنسًا بتلك الأمور فقط في عقلك، أما في واقعك فلا تعلم لها سبيلًا؟ في تلك اللحظة تعود وحيدًا تجر أذلال الخيبة وأنتَ لا تعلم هل تهرب للخيال أم تبكي مخافةً لضياع خيالك؟.
أنهى “يـوسف” جولات تمرده وحموده وتجبره وعاد لذاك الوديع الهاديء الساكن بين أحضان عائلته، ولج شقة خاله أولًا فلمح “ضُـحى” تجلس وهي تتحدث في الهاتف مع زوجها فابتسم لها وهي تعود لسابق عهدها قبل أن يضرب الخريف أيامهما، لذا اقترب منها يُلثم جبينها حتى ضحكت هي له بعينيها بينما هو غمز لها ثم تحرك كي يترك لها حريتها، وقد خرج له “عُـدي” وحينها ضمه بشوقٍ وربت فوق كتفيه ثم سأله باهتمامٍ:
_الواد “نـادر” مكملكش؟ بقاله كام يوم كارفلي خالص، خايف يكون نسيني لما سافر ولا تكون خطفته سحلية هناك.
في تلك اللحظة جاهد “يـوسف” نفسه كي يُخفي ملامحه الكاذبة وما إن نجح في ذلك قال بثباتٍ واهٍ:
_هيكون كويس متقلقش، تلاقي بس الرحلات كتيرة وهو شايل مسئولية كبيرة برضه، دي مركب يا “عُـدي” وبتعدي على كام بلد وحدود، متقلقش وشوف حاجة جهازك بس وفرحك علشان لما يرجع نخلص منكم مع بعض.
ضحك له “عُـدي” ثم وافقه الرأي وبعد عدة أحاديث في سياق العمل والحياة تحرك “يـوسف” لشقة أمه التي ضمته بين ذراعيها وأغلقت عليه بقوةٍ، أما هو فكان يترك نفسه لها وهو يعلم أن دواءه بجوارها، ظل واقفًا في عناقها وهي تضمه بقوةٍ حتى أدركت أنه لم ير زوجته حتى الآن فقالت بلهفةٍ:
_روح شوف مراتك، البت من الصبح مستنية، روح بسرعة.
دفعته بعيدًا عنها فتحرك هو نحو الأعلى وبدلًا من شقة حماته أكمل طريقه نحو السطح ثم ولج بهدوءٍ وعطره يسبقه إليها وصوتها يرحب به بغير قصدٍ منها وهي تُناديه دون وعيٍ منها:
_مش هتلقى حد بعدي يفهمك،
مهما تهرب ذكرياتي هتألمك،
_مش هتلقى حد بعدي يفهمك،
مهما تهرب ذكرياتي هتألمك،
وأما تيجي سيرتي ليك الندم هيبان عليك،
يبقى تتمنى تصالحني أو أعود تاني تاني
إليك، مش هتلقى حد بعدي يفهمك
مهما تهرب ذكرياتي هتألمك..
اقترب منها يجلس على عاقبيه خلفها ثم ضمها له وهو يقول بصراحةٍ لم تعهدها من بشرٍ قط غيره وحده:
_دا أنا حتى نفسي مش بتفهمني زيك يا “عـهد”.
وتلك المذكورة التفتت له باسمة الوجه والعينين فضمها لصدره في عناقٍ قويٍ جعلها ترتاح من عبء تعبها بين ذراعيه، لا تعلم من منهما ألمه هده التعب أكثر، لكنها تعلم جيدًا أن بجوارهِ كل الأشياء _مهما بلغت قسوتها_ تمر ولن يبقى حتى منها الأثر..
في مكانٍ آخرٍ كانت “أمـاني” تستثقل الليل بمرورهِ عليها، كانت تشعر بالتعب من جلوسها هكذا بين جدران الذكريات ومع مرور الأيام استثقلت الذكرى فتحركت من الشقة تضع وشاحها فوق رأسها وكتفيها ثم تحركت هائمةً على وجهها بغير خطواتٍ معلومة حتى وجدت نفسها تستقر بقرب منزل “العطار” وحينها تهاوت العبرات بسباقٍ سافرٍ فوق وجنتيها، وقفت تنتحب باكيةً ثم ارتمت على درجات رخامية أمام البيت وهي تبكي على ما تركت وعادت إليه نادمة تعض أناملها عضًا بسبب ما فعلت..
كانت تتمنى مجرد نظرة عابرة من وجه ابنها وضمة حنونة من ذراعيه ثم نظرة عطوفة منه، تمنت وظلت تتمنى وهي تجلس هكذا حتى أتت سيارة “أيـهم” وصفت أمام البيت ثم تحرك يفتح الباب يسند زوجته التي بدأت تتحرك بخطواتٍ مُثقلة ثم فتح الباب الخلفي يحمل ابنه النائم ثم أغلق باب السيارة فوجد زوجته تضحك وهي تقول بصوتٍ قطعته الضحكات:
_مش عاوزة أفاجئك بس هو صاحي مش نايم، هو بس بياخد منك توصيلة حلوة لحد فوق بعد كدا أبقى قابلني لو نام.
في تلك اللحظة رفع “إيـاد” رأسه من فوق كتف والده ثم قال يعاتبها بمزاحٍ شقي كما عادته:
_كدا يا حلويات بتسلميني تسليم أهالي مكانش العشم.
صدح حينها صوت ضحكتها عاليًا بينما “أيـهم” فرفعه فوق كتفيه ثم قال بلهجةٍ آمرة يُغالبها ضحكته على ابنه:
_يبقى فوق كدا يا حيلتها علشان محكمش عليك تنام في الجنينة.
وصوت الضحكات والمزاح يعلو وفي الخلف قلب يصرخ باكيًا بقهرٍ على ضياع الأشياء من بين يديها، هي أرخت قبضتيها عن الأشياء والآن تلوم نفسها على ما ضاع منها، وقفت تطالع المشهد كما لو كانت ترى تمثيل جريمة قتلها وهي لازالت تتمسك بروحها رغم صراخ الروح فيها بتعبٍ عما تُعانيه وتحمله في نفسها، لذا عادت تجلس في الشارع وحدها تبكي ليلًا وهي تصرخ وتضرب رأسها في الحائط خلفها بيأسٍ والصدع في روحها يُغالب الصدع في الجدار المتين..
