رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والثمانون 184 بقلم شمس محمد



 رواية غوثهم الفصل المائة والرابع والثمانون  بقلم شمس محمد

ابتهال أقبل على الدين وانهل من منابعه..
بصوت فضيلة الشيخ/
” سيد النقشبندي رحمه الله”
أقبل على الدين وانهل من منابعهِ
ما يملأ النفس إشراقًا وإيمانًا
إن شئتَ نورًا حباك النور مؤتلقا
أو شئت فضلاً كساك الفضل ألوانًا
وان ظمئت إلى علم ومعرفةٍ
وجدت فيه غذاء العقل عرفانًا
يلقى السكينة فوق القلب إن عصفت
به الهموم فينسى كلما عانا
طوبى لمن لاذ في الدنيا بساحته
وعاش فى ظله روحًا ووجدانًا..
_”ابتهالات النقشبندي”
____________________________________
غريب أمر الدُنيا منذ البداية حتى النهاية..
وغريبٌ هو حال أفرادها وعالمها وكل شيءٍ بها، فمن كان يحسب حسابًا للحظةٍ يربح فيها كل شيءٍ ثم يعود محملًا بالخيبات خاسرًا كل شيءٍ؟ يومٌ تجد نفسك فيه فارسًا مقدامًا في الحربِ، ويومٌ ما تجد نفسك راكضًا من الحرب خوفًا من نصل سيفها، فمن يُصدق أن هو بذاته نفس الشخص الذي وقف ببرودٍ يطالع تلك الأشياء التي احترق شغفًا لأجلها؟ ومن يصدق أنه بذاته يقوم ببتر يديه بدلًا من أن يتمسك بتلك الأشياء التي كانت هي غاية مسعاه؟ لكن هل يُعقل أن يتمسك المرء بشيٍ بتر أصابعه من كثرة تحمله؟ الأمر في غاية القسوة وأنتَ تقف من على بُعدٍ تُطالع أحلامك الأكثر قسوةً عليك من نفسك، لذا الغريب أكثر في الأمر أنك تتعجب من الحياة ووتريتها في تغيير الأشياء، نظرتك ذاتها للأشياء تزداد غرابةً، فما بين أول شعورٍ يتمكن منك وأنتَ تحترق شوقًا لتلك الأشياء التي تمنيتها وبين شعورك بالألم وأنتَ توليها ظهرك، لذا لو كان بإمكاني وصف الألم سوف أقول أن كل الأشياء التي كنت أحترق لأجلها،
اليوم هي بذاتها تحرقني..
<“لطالما الليل يمر معكِ فهو يمر يسيرًا”>
التيه مقصده وصول،
وهذه هي الحياة، فالغاية من تيه الفرد أن يصل في النهاية لما يرغب ويود، لذا الغاية التي تجعل الإنسان يترك كل شيءٍ ويتوه في سُبل الحياة هي بذاتها رغبة الوصول لشيءٍ مجهولٍ لم يعلمه، لكن بمجرد الوصول واحتضان الشيء الذي كان تائهًا عنه منذ البداية؛ يدرك حينها المرء ما فاته وكان يتوجب عليه البقاء بجوارهِ طوال العُمر..
فوق سطح البناية أسفل القمر المنير يُسقط الضوء على كلا العاشقين في ليلة سهرٍ تؤنس الوحيد، وأحاديث السمر تقرب البعيد، كان ينام “يـوسف” واضعًا رأسه فوق حجر “عـهد” التي جلست تستند على خشب الأريكة وهي تُربت بأناملها فوق رأسه، بينما هو فكان أخيرًا يستلذ بهذا الشعور الذي كان بعيدًا عنه لما يقرب العشرة أيامٍ، تلك اللحظة التي تخبره أن السُفن قد رست أخيرًا عند مرساها من بعد التيه في مجراها، لذا أغمض عينيه ينعم بسلامٍ بقربها ورأسه كان ساكنًا من الفوضى التي تملأ دماغه دومًا..
أما هي فعودته لها سالمًا من المعارك كانت أعظم ربحًا تحصل عليه، لم يعد محملًا بخيبة الطريق ولا بقسوة النهايات كما أخبرها، وإنما عاد حاملًا النصر معه وهو يخبرها أنها شريكته بهذا النصر، فلولا تواجدها ودعمها وتحفيزها لما كان نجح فيما فعل، لذا كانت هي تبتسم بسعادةٍ وهو يتحدث عن فعله كي يعود رابحًا الحرب بغنائمها، فقال مُضيفًا يختتم حديثه بقوله:
_وآخر حاجة عملتها خدت “چـودي” معايا وروحت بيها عند عمها علشان أبقى عملت اللي عليا لآخر لحظة، وهو لما شافها معايا سكت طبعًا لأنه فهم إنه خلاص مش هينفع يضحي أكتر من كدا، خليته سلم عليها ووعدته إن وقت ما يحب يشوفها بيتها في أي مكان مرحب بيه، سواء في بيت الحج، أو بيت خالها، أو بيت جدها الله يرحمه، وقولتله يركز مع عياله ويعوضهم عن الغربة هما ومراته، بس هي شكلها مش هتوافق بسهولة وفي النهاية ميمهمنيش، أنا اللي اللي يخصني في كل الليلة دي وهي “چـودي” بس.
ابتسمت له ثم مالت تُلثم وجهه ثم قالت بفخرٍ به:
_تصدق إنك فعلًا مُبهر؟ أنا كنت مستنية اللحظة اللي فيها هترجع من برة وتقول أنا مالي دا شيء ميخصنيش ودي مش مسئوليتي أنا علشان أعمل كل دا علشانها هي، بس أنا عارفاك لما بتكون عاوز حاجة لازم بتوصلها، أنتَ خسارة في العالم دا.
ضحك لها وهو يرفع عينيه نحوها ليرى وجهها مقاربًا لضوء القمر الذي أسقط الضوء عليهما فتنهد ثم اعتدل يجلس مقابلًا لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_محدش خسارة في كل الدنيا قدك، لولا كلامك ومساعدتك ليا مكانش زماني خدت خطوة أكيدة علشان أعمل كدا، وطول ما كنت هناك كنت بسألك أعمل إيه وآخد رأيك وأنتِ خطوة خطوة كنتِ معايا هناك، علشان كدا أنا كل يوم بيزيد كرهي للعالم ومعاه بيزيد حبي ليكِ أنتِ.
ابتسمت له تلك البسمة المشرقة بمجرد أن أطرأ هو عليها وأخبرها عن شعوره لها، لذا تحركت من أمامه نحو الركن المفضل لديهما تصنع مشروب الشاي بالنعناع لهما، وفي الحقيقة كانت الحُجة القوية من وراء هذا الفعل كسب المزيد من المساحة في قلبه، بينما هو اعتدل واستقام واقفًا يتذكر البدايات والذي مضى عليهما سويًا حتى لمح اللوح المعلق فاقترب منه يلمح آخر ما كانا قاما بتدوينه سويًا:
_”الشبيه لشبيهه يطمئن،
والتائه لمسكنه سيظل يحن”..
ابتسم للذكرى المارة عليه ثم أمسك القلم يسحب خطًا كبيرًا أسفل العبارة السابقة ثم أضاف قولًا جديدًا يُخلد له في ميثاق حبه وعشقه لها حيث أضاف مُعبرًا عن حقيقةٍ بالقلب لن ينكرها هو مهما فعل:
_”قبل مجيئك كنت أعلن الخصومة على العالم لأنه لا يُحبني، لكن بعد أن وجدتكِ أصبحت أحبك أنتِ وأكره العالم الذي يُحبك، لذا وبكل صراحةٍ سأقول أنا أحبك وأكره العالم إن كان يُحبك”..
ترك حديثه فوق اللوح وهو يبتسم ثم جلس عند أقرب مقعدٍ قابله وما إن أتت هي ورأت بعينيها اللوح ابتسمت له ثم وضعت الشاي بجوارهِ واقتربت هي الأخرى من اللوح تكتب عليه ببسمةٍ واسعة ترسل له مغزى من حديثها المكتوب:
_”وأنا أكره العالم إن كان لا يُحبك”..
تحرك يقف بجوارها حاملًا معه كوبي الشاي وما إن لمح المكتوب فوق اللوح بواسطتها وحينها قالت هي بتفسيرٍ له توضح مقصد كتابتها له:
_لو العالم كله مش بيحبك أنا بحبك وبكره العالم كله، ولو محدش بيحبك أنا حُبي ليك مش كفاية؟.
توسعت بسمته أكثر ثم ضمها بذراعه له ولثم جبينها بحنوٍ ثم ترك نفسه لموجة الهدوء تلك تنقله فوق صخرة الأمان بدلًا من العواصف الهوجاء التي دمرت كل شيءٍ طالته في السابق والآن يعود أخيرًا كي يستقر وتستقر أيامه من بعد الشتات والتيه، هنا حيث الخصومة على العالم أجمع والحب من القلب للقلب..
____________________________________
<“كل شيءٍ هنا حولي مرتبٌ إلا أنا الفوضى بداخلي”>
اليوم وكل شيءٍ بالجوار هاديء لم أجد للفوضى مكانًا إلا برأسي، فأصبح كل شيءٍ بمكانه ساكنًا إلا رأسي الفوضى تسكنها، كل شيءٍ حولي كان مُرتبًا إلا أنا البركان كان يغلي بغير مكانه، فرأسي تلك حوت ما لم استطع أنا شرحه وياليته يُقال..
عاد بأسرته سعيدًا وصوت الضحكات يغلب كل صوتٍ حوله، ابنه فوق ذراعه، وزوجته بجواره تحمل ابنه الثاني في رحمها والسعادة على مشارف دق الأبواب في حياتهما سويًا، ولج البيت وهو يُضاحك ابنه الجالس فوق كتفيه وبيده كان يُساند “نِـهال” في حملها وهي تتحرك ببطءٍ وتتكيء عليه، وقد قابلتهم في تلك اللحظة “هـدية” التي وقفت على استحياءٍ أمامهم، فقال “إيـاد” بسخريةٍ لوالده:
_هي النداهة بقت بتيجي دليفري في البيت؟.
كان يظنها ساحرة الجنوب التي حدثه عنها “مـهدي” زوج خالته وقد ضحك له والده بينما “نِـهال” سألت بتعجبٍ من تقف أمامها:
_أنتِ مين يا قمورة؟ أنتِ قريبة طنط “وداد” من البلد؟.
حركت الأخرى رأسها نفيًا وقالت بتوترٍ من الموقف وهي تقف هكذا أمامهم لا تفهم ما يتوجب عليها أن تنتقيه من الكلمات:
_أنا “هـدية” هقعد مع الست “وداد” هنا وهساعدها.
وفورما أدلت بهويتها كان “أيـهم” أدرك من هي فتوسعت عيناه ثم عاد وتمسك بالصمت وحمحم يجذب نظرها ثم قال بجمودٍ رغمًا عنه بمجرد أن علم هويتها ومن هي:
_أهلًا وسهلًا وأنا “أيـهم” ابن الحج الكبير ودا “إيـاد” ابني ودي “نِـهال” أمه ومراتي، أظن أنتِ عارفة صح؟.
كان حديثه يرسل رسالة مُبطنة لها ألا تتحدث في غير ذلك، بينما زوجته ففهمت سريعًا مَن هذه بعد أن سبق وحدثها هو عنها وعن حال طليقته هناك لذا كان الخوف فطريًا بمجرد الفهم فقررت أن تصمت وهي ترى إنسحابها من أمام عينيها، وبمجرد أن اختفت قال “أيـهم” بثباتٍ واهٍ على عكس رجفة قلبه الذي استشعر الفوضى:
_أطلعي أنتِ بِـ “إيـاد” وأنا هشوف الحج.
طالعته بخوفٍ في باديء الأمر لكن نظرته وحدها جعلتها تطمئن لذا عادت توافقه في الرأي وتحركت بابنه الذي استشعر غرابة الموقف لكنه فضل الصمت وعدم التدخل كما هي عادته دومًا، بينما والدها فولج غرفة “عبدالقادر” الذي كان يجلس في انتظاره وقد التفت له يقول بنبرةٍ هادئة:
_شوف عاوز تقول إيه وقوله بس بالهدوء.
وكأن الكلمة أثارت زوبعة غضبه المتقد منذ البداية؛ فاندفع يقول بصوتٍ أعرب عن الغضب_ رغم احترامه لوالده_ لكن صوته خانه:
_بالهدوء، هي دي حاجة ينفع فيها الهدوء برضه يا بابا؟ سيبتها هنا ليه هو أنا ناقص؟ افرض “إيـاد” عرف ولا سألها ولا هي وقعت بلسانها قدامه عن اللي حصل؟ تقدر تقولي الحل إيه؟ دا مبقاش العيل الصغير اللي هضحك عليه بكلمتين، دا عنده ١١ سنة دلوقتي غير إنه بالفطرة ذكي ومش محتاج حاجة تلفت نظره، ليه كدا بس تخليني من تاني أتحط في الموقف دا؟.
كان يتحدث بخيبة أملٍ وهو يسأل والده الذي كان منذ البداية يفهم سبب غضبه، لكنه قال بهدوءٍ مستمسكًا بذرات التعقل لديه:
_أنا مقولتش إني مش مقدر موقفك، ولا حتى بجازف بيك وبابنك اللي هو أصلًا أعز عندي منك أنتَ، أنا يا بني بعمل حاجة تقعدلي في آخرتي وقبري، دي بت غلبانة هوديها فين؟ أسيبها تترمي في الشارع لكلاب السكك؟ ولا أخليها في دار تانية يحصلها زي ما حصل قبل كدا؟ قولي أوديها فين؟ بلاش كل دا، لو واحد من اللي عملوا كدا شم خبر وعرف ليها طريق العمل هيكون إيه؟ يابني بطل تبص تحت رجلك، هي فهمت الدنيا ووعدتني قدام أخوك إن محدش هيعرف حاجة وخصوصًا ابنك، وقالت إنها مش هتقرب منه كمان، أنا مرتب كل حاجة بأمر ربك.
ابتسم له “أيـهم” بسخريةٍ ثم أشار نحو رأسه وقال بوجعٍ:
_ياريتك ترتب اللي هنا كمان، متعرفش أنا دماغي فيها إيه ولا حتى خايف من اللي جاي إزاي، “أماني” مش هتسكت ومش هترضالي الفرح، أكيد هتقلب الدنيا علشان تنكد عليا وتخرب اللي فاضل في حياتي، هيصعب عليها إن في غيرها موجودة تملا مكانها في حياة ابنها، بالذات بعدما خسرت كل حاجة مرة واحدة، علشان كدا كنت رافض مساعدتها، ومن حقي أكون أناني في اللي يريحني نفسيًا.
فهم والده عليه فاقترب منه يمسح فوق كتفه بحنوٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة يقصد مشاكسته:
_قولي لو خدتك في حضني مشاكلك دي تتحل؟.
ضحك له “أيـهم” رغمًا عنه بينما “عبدالقادر” فصفعه بخفةٍ فوق وجهه حتى ارتمى عليه ابنه يحتضنه بقوةٍ وهو يتمسك به كأنه حقًا يُرتب الفوضى التي تسكنه، كل شيءٍ حوله ربما يكون عاد لأصله إلا هو كان يخشى الطوفان حتى نسى أنه لازال آمنًا على الشاطيء ولم يلج لمنطقة الخطر حتى..
في الأعلى حيث شقة “أيـوب” كان يتسطح الفراش واضعًا كلا ذراعيه خلف رأسه يطالع السقف بصمتٍ وقد أتت “قـمر” تقف أمام مرآة الزينة وما إن راقبت إنعاكسه التفتت وهي تسأله بشرٍ مفتعلٍ:
_سرحان في مين؟ وسرحان ليه أصلًا؟ ليلتك مش معدية.
ضحك رغمًا عنه بيأسٍ ثم ترك الفراش واقترب يقف خلفها وهو يحاوط كتفيها ثم أشار على ملامح وجهها وهو يقول بحنوٍ وهدوءٍ:
_طب بالله عليكِ أنتِ تصدقي أني ممكن أسرح في حد غيرك؟ ولا دي ملامح هقدر أنا أنساها وأشوف غيرها؟ أتطمني علشان أنا من يوم ما حبيتك وأنا مش شايف غيرك، حتى قبلك ماكنتش شايف غيرك برضه، أنا سرحان في اللي ممكن يحصل، لو البنت دي فيه حد مراقبها وعارف هي فين يبقى فيه صراع جديد ربنا ينجينا منه، بفكر في حل يكون كويس ميخليش حد يحصله ضرر، بس مش لاقي، هسلم أمري لربنا وهو وحده قادر على كل شيء.
ضحكت هي له ثم التفتت له تقول بهدوءٍ ورجاحة عقلٍ:
_أديك قولت أهو سلم أمرك لربنا وربك القادر على كل شيء، بعدين بصراحة البت صعبت عليا أوي، تخيل اللي حصلها دا كله وهي لسه عندها ١٧ سنة وملهاش أهل ولا حد يقف في ضهرها وكمان لما شافت موقفي مع “يـوسف” صعبت عليا علشان ملهاش أهل يحضنوها كدا، خليها هنا معانا وربنا يعوضها خير زي ما بابا قال، بس العوض دا يكون بعيد عنك يا أسطى، أنا بقولك أهو.
رفعت صوتها في حديثها الأخير فضحك هو ثم جعلها تلتفت له وقام بفك خصلاتها ثم مد أنامله يحركها في رأسها بحنوٍ ثم بدأ يمشط لها خصلاتها بفرشاة الشعر وقال بصدقٍ:
_وأنا مش عاوز خير من الدنيا كلها غير وجودك معايا.
أنهى حديثه ثم اقترب يُلثم وجنتها وعاد لما يفعل من جديد بينما هي فغرقت أمامه في مشهد حنوه عليها وهو يعاملها بتلك الطريقة التي تسلب منها عقلها وتجعلها كما الفراشة التي تُحلق فوق حقل الزهور في ربيعٍ أتى يبهج الروح ويُخرجها من بؤسها، أما هو فكان يبتسم لها وهو يهتم بها كأنها قطة صغيرة تحتاج رعاية صاحب البيت الذي يأويها، تمامًا كما لو كانت تسير أسفل الامطار العاتية وجل ما تحتاجه فقط مجرد لمسة حنونة ترسل لقلبها الدفء، وهو في كنفه كان يأويها بحنانه وعطفه..
____________________________________
<“ياليت عقلي كان بموضع قلبي لعله لا ينساكِ”>
في بعض الأحيان يتمنى المرء لو أن عقله بموضع قلبه،
والعكس صحيح، فيتمنى أن بعض الذكريات التي ترحل عن عقله تظل باقيةً كما هي ويتمنى لو أن قلبه ينسى البعض الآخر الذي يؤلمه ويسكن جنبات صدره ومع كل خفقة يزداد الألم أكثر وكأنها رصاصة من الماضي تضرب رأس الحاضر..
في اليوم التالي ببيت “نَـعيم”..
كان “مُـنذر” في البيت وسط النهار برفقة “إسماعيل” الذي ظهر عليه القلق وبعض المخاوف كأنه يواجه خوفًا من نوعٍ آخرٍ، اليوم كان يقف في مواجهة الماضي وقد جلس في انتظار زوجته كي تكون بجواره، كان يأمل في وصولها بسرعةٍ كبرى قبل أن ينهزم أمام الذكرى، بينما “مُـنذر” فزفر بقوةٍ ثم قال بنبرةٍ حادة بعض الشيء بعدما يأس من الجدال معه:
_قولتلك الأحسن إنك تكون لوحدك يا “إسماعيل” علشان تساعدني ونواجه الماضي كله، دلوقتي معاك تليفونك أهو، هنفتحه مع بعض، هتلاقي صور ورسايل معاك وحاجات كتيرة ممكن تفكرك وممكن تسيب جواك علامات استفهام كتيرة، بس بما إننا تخطينا الأهم من كل دا وهو وجود “ضُـحى” اللي كان مخوفك، فحاليًا إحنا هنبدأ نهيأ للعقل المساحة المخفية جواه، ها مستعد؟.
طالعه “إسماعيل” بصمتٍ ولازال تائهًا أمامه، يتوه كُلما تذكر أنه بالفعل ينسى جزءًا هامًا في عقله، لذا كُلما شعر بالفراغ في قلبه عاد من جديد يشعر بالخوف، لذا تحرك مع “مُـنذر” نحو شقته المغلقة منذ يوم الحادثة، كان يخشى هذا المبنى منذ أن عاد للبيت لكن الفارق اليوم كان جللًا، وقف يخشى تلك اللحظة والباب يُفتح ولم يعلم أن في هذا الوضع هو يقوم بفتح باب الألم للذكرى، فُتِح الباب ومعه الضوء وولج يقف عند أعتاب الألم، وقف بخوفٍ وهو يرى شبح الماضي يلوح في عقله وبعض الومضات الفائتة تميض وتخبو ثم تعود من جديد غائبة عن رجاحة العقل..
وقف في المكان وهو يتذكر بعض الأشياء مثل صوت ضحكاته في الهاتف تارة، ثم نقاشه الحاد مع زوجته في الهاتف تارة أخرىٰ، ثم تذكر جدالًا مع أحد العُمال بالمكان دون أن يتذكر ملامحه، أشياء كثيرة داهمت عقله فجأةً مما تسبب في ألمٍ حادٍ ضرب رأسه حتى شعر بالدوار يداهمه والأرض تميد به، كل شيءٍ حوله خلق دوامة فارغة تدور وتسحقه، استند على جدارٍ بكفٍ وبالآخر مسح فوق رأسه، بينما “مُـنذر” فتركه، تركه متعمدًا كي يواجه الذكرى بمحلها، بينما “إسماعيل” فترك عقله يعمل حيث أخذه لرحلةٍ متقاربة المسافة، فلا هي بعيدة عن موضعه ولا هي قريبة من ذكراه..
وقف يتذكر حاله في البيت البعيد الذي اُختطفَ به، ثم عاد لما كان قبل ذلك حيث قبل الاختطاف، التفت خلفه يرى الأدوات المتراكمة أرضًا والدلو المقلوب حينما كان يجلس عليه يتحدث في الهاتف، وقف يطالع المكان بتيهٍ وعقله بدأ يُنسج الخيوط ليلة الحادث، وكان الحدث وقتها كالآتي:
“عودة لما قبل الحادث”..
كان هو يجلس على الدلو وفي يده كوب الشاي وسيجاره المًشتعل والهاتف كان مسنودًا بين رأسه وكتفه وهو يتحدث في الهاتف بضجرٍ يقول:
_طب يا بنت الناس أعملك إيه طيب؟ الراجل قالي لسه هتاخد أسبوع كمان علشان سباكة المطبخ تكون خلصت، حبكت يعني ننقل الغسالة في المطبخ؟ ماهو كله من طلباتك اللي مبتخلصش.
حينها اندفعت هي في الهاتف تقول بنبرةٍ عالية:
_”إسماعيل” لم الدور معايا، قولتلك المطبخ كبير ومكان الغسالة فيه أحسن، والصرف سهل يتعمل مش حوار طالما كدا كدا هنكسر الحمام، بعدين الحمام اللي إحنا عاملينه مش نافع فيه غسالة، إيه عاوزني أبوظ الدنيا علشان حضرتك مستعجل؟ بعدين فين أخوك؟ مش قالي لو صنايعي خلف بكلمته هيتصرف؟.
حينها ترك الكوب من يده وأمسك الهاتف وأنفعل بقوله:
_بقولك إيه يا بت أنتِ أنا دماغي فيها اللي مكفيها، كفاية لحد دلوقتي مكالتش ولا لقمة، ومقضيها شاي وسجاير ولسه العمال مخلصوش، وآخرتها طيب، روحي شوفي بتعملي إيه ربنا يرزقنا روقانك دا، دا أنتِ مطرقعة بصحيح.
في تلك اللحظة وقبل أن ترد هي عليه أتى أحد العمال يمد يده له بالخبز المصنوع شطائر ممتلئة بالطعام ثم قال له بنبرةٍ ودية:
_لامؤاخذة يا باشا، دي حاجة بسيطة لبط وصانا بيها “عمهم” علشانك وقال لو مكالش هيخصم الأكل من يوميتنا، كل يا باشا مترضاش لينا الخسارة، بألف هنا وألف مبروك يا عمنا، ربنا يتمم بخير، يلا كُل ولا أيدي مش قد المقام يعني؟.
ولأنه طيب القلب شديد التواضع ابتسم له بإمتنانٍ وشكره وبالطبع حينها لم يُشكك في الحديث المنطوق لأنه أعلم الناس بشقيقه ومدى خوفه عليه لذا سلم للأفعى ظنًا منه أنها فراشة تلاعب ولم يضع في محيط عقله ولو لحظةٍ واحدة أن تلك الأفعى تجره نحو الغابة الخاصة بها كي يسهل عليها افتراسها له، حينها تناول الطعام بصمتٍ بسبب حاجته الشديدة للطعام ولم يتخيل ولو للحظةٍ أنه يتناول سمه بيديه، وحينها سقط من فوق الدلو وسقط الهاتف من كفه وهكذا أنتهت الذكرىٰ…
أما في واقعه فهو خرج من ماضيه على سقوطه عند الجدار من هول صدمته وفي تلك اللحظة ركض له “مُـنذر” يُسانده بلهفةٍ فقال هو بصدمةٍ دمرت ثباته الكاذب:
_أنا آمنتلهم !! خدت الأكل من أيده علشان ميزعلش وهو كان بيغدر بيا؟ استغل فرحتي وأنا مبسوط وطاير من فوق الأرض وحطلي السم في العسل؟ إزاي وأنا كنت فاتحلهم بيتي وعمري ما قولت لحد فيهم لأ؟ دا أنا كنت بشيل خاطرهم علشان موجعش حد فيهم وكل يوم أخفف عليهم الشغل، دي أخرتها وأخرتي؟.
نزلت دموعه وهو يتحدث ما إن تذكر وقام عقله بربط المواقف معًا، لكنه سرعان ما تمالك حاله ثم قال بخيبة أملٍ تشبه خيبة أمل الخاسر في حربٍ أقامتها عليها نفسه:
_بس عادي، عادي هي جت على دول؟ ما أبويا نفسه استغل سكوتي وطيبتي وداس عليا بدل ما يحميني من الناس، ياريتني ما افتكرت، ياريتني فضلت تايه وناسي بدل ما تصعب عليا نفسي كدا، ياريته ما كان دا أبويا.
والجملة الأخيرة بذاتها قامت بالضغط فوق وجع “مُـنذر” لذا ضم رفيقه لعناقه بقوةٍ ثم مسح له وجهه فصرخ “إسماعيل” بقهرٍ يعبر عن كمدٍ بالروح ولم يملك الجُرأة على البوحِ، وآنذاك وصل “إيـهاب” للشقة كي يطمئن على شقيقه وما أن وصل ولمح هذا المشهد بعينيه ركض مسرعًا له ثم ضمه بلهفةٍ يمسح فوق رأسه وقال بحنوٍ:
_بس علشان خاطري، بس متعملش كدا في نفسك، أنا معاك أهو ومفيش حد هيقرب منك، وحقك هيرجع، النهاردة أو بكرة أو بعده مش هرتاح غير لما حقك يرجعلك، زي ما وعدت ووفيت لـ “سراج” بوعدك وهوفي بوعدي ليك، أنا اللي قصرت وحقك عليا أنا.
استقر “إسماعيل” في عناق شقيقه كما الطفل الصغير الذي يأوى لعناق أمه بعد مواجهةٍ عاتية مع الخوف أسفرت عن سلب أنفاسه وروحه، لذا ما إن وجد الأمان هنا استقر بأحضانه، أما “مُـنذر” فهرب من وجعه في تدوين حالة رفيقه قبل أن يترك نفسه للألم يفتك به ويذكره بما مضى عليه.
في الخارج كانت “ضُـحى” وصلت بالفعل لكنها لم ترد أن تطرأ على المشهد هكذا وتُدمر كل شيءٍ هكذا في طرفة عينٍ، لكن قلبها كان يتألم لأجل “إسماعيل” الذي تحدث مظهره عن حاله وحال قلبه، وقلبها معه هو يُشاطره الحزن أحزانًا..
____________________________________
<“وأنا معك أشعر أنني حقًا أملك الحق في الشعور”>
في بعض الأحيان قد ينسى المرء أنه يشعر..
ينسى أنه يملك قلبًا يوجهه لأين يتوجب عليه أن يتحرك، لذا إن كان صوت العقل مسموعًا فصوت القلب له غلوبًا، فانصت لقلبك وقتما يحدثك ويخبرك، لعل قلبك يرى مالم تراه أنتَ بعين البصر..
أنهى “مُـحي” العمل في الصيدلية أخيرًا وأتى الطبيب “عبدالمعز” ينوب عنه في المكان وقد ولج وهو يعتذر منه بقوله متلهفًا حينما كان يجاوره:
_معلش جيت متأخر بس أنتَ عارف الطريق طويل إزاي، والله خارج من هناك بدري علشانك، حقك عليا يا “مُـحي” آخرتك.
وقتها ضحك له “مُـحي” وقال بسخريةٍ:
_يعني هو أنا ورايا الوزارة؟ ما قولتلك تعالى براحتك، المهم أتطمنت؟ أتمنى يكون الحال أحسن دلوقتي، والله قولتلك “إيـهاب” بيقنع الحديد يخليه يلين، خده معاك وهو هيجيب من الآخر ويريحك بدل المرمطة دي كل يوم والتاني.
تنهد الطبيب بقوةٍ ثم جلس وقال بهدوءٍ يغلب عليه الحزن:
_الحمدلله على كل حال، أهي مع جدتها وواخدة بحسها بدل ما تفضل لوحدها، وبيني وبينك أنا متطمن عليها هناك، صحيح جدتها مش طيقاني ولا بتطيق سيرتي بس كفاية إنها مراعية بنتي، هي بس بتوحشني أوي وساعات بحس إني محتاج لحضنها، بس هعمل إيه؟ حكم القاضي على المظلوم اللي زيي.
لمح “مُـحي” حزنه على نفسه وابنته فاقترب منه يجلس بجواره وهو يقول بزهوٍ في أخوته وقوتهم:
_طب مش عيب تقول كدا وأنا موجود؟ هييجي حال بنتك دا يعني أصعب من حال “چـودي” اللي راحوا جابوها من دولة تانية أصلًا؟ القاضي ليه الورق اللي قدامه وشهادة الشهود بس، إنما ربك بيحكم بالعدل وبيتطلع على النوايا، حماتك واخدة بنتك علشان تريح ضميرها، بس محدش غيرك بيتعذب بالبعد، خد بنتك منها وبطل طيبة قلبك دي، أنتَ أحق بيها.
تنهد الطبيب بثقلٍ ثم قال بيأسٍ تمكن منه:
_الكلام سهل يا “مُـحي” بس التنفيذ صعب أوي، هي واخدة حكم محكمة بسبب القضية اللي كانت عليا قبل كدا، ولو جيت أتكلم معاها هتقولي كنت حافظت على أمها علشان تحافظ عليها، رغم إن موت أمها كان نصيب مش سبب مني، فأنا بغني نفسي عن حروب أنا مش قدها، هي بتراعي البنت وأنا بروح كل يومين أشوفها وأقعد معاها، بعدين لو قعدت معايا مين هيخلي باله منها؟.
في تلك اللحظة ولجت “مـادلين” بقلقٍ أكل ملامحها الباهتة وما إن رأت “مُـحي” نادته بخوفٍ جعله يقترب منها فقالت هي:
_تعالى معايا شوف ضغط “فـاتن” علشان وقعت من طولها مرة واحدة وعمالة تصرخ من راسها، وهات أي علاج معاك يا “مُـحي” بسرعة علشان هي تعبانة أوي.
توسعت عيناه وهو يقف أمامها وقبل أن يتحرك قيد أنملةٍ أتت “جـنة” له بخطواتٍ راكضة وهي تصرخ وتستغث به قائلةً ببكاءٍ وخوفٍ:
_لو سمحت يا “مُـحي” بابا تعبان أوي فوق وتقريبًا الضغط مش مظبوط وأغمى عليه، لو سمحت تعالى بسرعة ساعدني، بالله عليك بسرعة هيروح مننا.
وهنا وقف حائرًا بين الاثنتين ولا يعلم يخاطر بأيًا منهما أولًا وقد لمح الطبيب حيرته فأرشده بقوله وهز يشير نحو الجهاز الطبي قائلًا:
_خد جهاز وأطلع شوف الأستاذ “بهجت” وأنا هروح أشوف المدام وأنتَ خلص وتعالى ليا على هناك، بسرعة بس وخد المفتاح معاك علشان لو محتاج حاجة من الصيدلية، وأنتِ يا مدام اتفضلي معايا، هاجي أنا أشوف المدام عندك.
ولأن الحالة الطبية لم تسمح بأي نقاشات تم الفعل كما قيل في الحديث، لذا تحرك “مُـحي” نحو الأعلى وتحرك “عبدالمعز” مع “مادلين” التي كانت تقوده بخوفٍ وتوترٍ حتى وصل معها للشقة، ولجت هي أولًا ثم نادته بعد أن أطمئنت على الحال بالداخل وقد ولج يقوم بقياس ضغط الدم لـ “فاتن” التي كانت فوق الأريكة تشعر بالتيه وعدم القدرة على فتح عينيها، وقد ركز هو بعينيه على الجهاز ثم زفر بقوةٍ وقال:
_للأسف ضغطها نازل أوي، ٩٠/ ٦٠ ودا معدل خطر أصلًا، هديها حقنة قوية شوية وبرشام تستمر عليه شوية لحد ما تتابع مع دكتور يظبط ليها الضغط وتعمل تحاليل كمان، وياريت الأكل يتظبط علشان الضغط كمان يتظبط.
أومأت له “مـادلين” موافقةً بينما هو أعطاها العقار الطبي ثم ترك الروشتة الطبية على الطاولة وقال بأدبٍ وتهذيبٍ دون أن يرفع عينيه في أيًا منهما:
_الروشتة دي خليها مع حضرتك فيها اسم الدكتور وفيها اسم الدوا اللي المفروض المدام تمشي عليه، والحقنة دي تاخدها عند اللزوم زي دلوقتي كدا لو الموضوع تكرر لا قدر الله يعني، وألف سلامة عليها.
أومأت له “مـادلين” وهي تُطالعه بوجهٍ مبتسمٍ جعله يبتسم لها هو الآخر ثم حمل حقيبته واستعد للرحيل وحينها خرجت هي خلفه تسأله بلهفةٍ عن مبلغ الزيارة قبل أن يرحل فالتفت لها يقول بهدوءٍ:
_مفيش داعي، الصيدلية كلها بتاعة “مُـحي” واللي يخصه يخصني برضه، علشان كدا متقلقيش ومتشيليش هم، ألف سلامة عليها ولو محتاجين حاجة الرقم معاكم، هنيجي في ثواني، عن إذنك.
وقفت تُطالع أثره ببسمةٍ بشوشة وهي تتعجب من طريقته وأخلاقه الواضحة كما وضوح شمس الظهيرة، كانت تبتسم ببلاهةٍ وهي تفكر كيف لرجلٍ مثله أن يكون بمثل هذا التواضع وهذه الأخلاق، فبعد أن عاشرت “عـاصم” وكانت معه كما الآلة التي تتحرك كيفما يود هو، الآن أصبحت تتعجب من قدرة هذا الطبيب على تحريك مشاعرها الراكدة، ولأن حدس الأنثى لديها قويٌ بما يكفي فهي كانت تفهم سبب نظراته ولهفة عينيه عند رؤيتها أمامه..
أما “مُـحي” فقام بقياس الضغط والسكر لـ “بهجت” وما إن اكتشف السبب رفع أحد حاجبيه ثم مال عليه يهمس له بنبرةٍ خافتة:
_السكر عالي أوي والضغط واطي أوي، شكلك ضارب كنافة بالمانجا يا حمايا، تحب أفتن عليك بقى؟.
رمقه “بـهجت” بطرف عينه ثم قال بنفس الهمس حانقًا:
_ما تتلم بقى، خليني أصفالك شوية بدل ما أرجع تاني وأقلب عليك، بعدين كانت كنافة بالمهلبية، التاجر عزمني عليها وغصب عليا، عاوزني أكسف أيده؟ متقولش بقى وشوف هتقولهم إيه.
كتم “مُـحي” ضحكته وهو يلتفت نحو سارقة الفؤاد التي تطالع والدها بخوفٍ ثم عاد ونظر للرجل وهو يقول بخبثٍ وشرٍ:
_أنا ليا عندك رؤية شرعية وأنتَ بوظتها بخطوبتها أول مرة، تخليني أقعد قعدة رؤية شرعية قدامك دلوقتي بما يرضي الله، ولا افتن عليك بقى ونزعل كلنا مع بعض؟ وبرضه هقعد القعدة الشرعية، أظن أنا وفيت معاك بكل وعودي، مرة واحدة وفي بوعدك ليا بقى يا حمايا.
كان الآخر يعلم أنه يستغله أشر الاستغلال، لكن ثمة شيءٍ أجبره على الموافقة كأنه يخبره في الخفاء أنه يثق به، لذا وافقه بطرفة عينٍ جعلت “مُـحي” يستعيد ثباته ثم قال بهدوءٍ لمن هما خلفه:
_اتطمنوا يا جماعة، هو بس أجهد نفسه في التفكير في الفترة الجاية عليه بسبب غياب بنته عنه، حقه برضه إذا كان أنا كل ما أفكر أني قربت آخدها منه بيصعب عليا ما بالك هو بقى؟.
ولأن الوقاحة أسمى صفاته التفت يغمز لحماه الذي اتقدت عيناه بشررٍ لكنه فضل الصمت حينما لمح الوهج في عيني ابنته الخضراوتين كأنهما حقلٌ مزهرٌ في ربيع أيامه، أما هي فخجلت من الحديث لذا تركت الغرفة وهي تستشعر حرارة وجهها ثم تحركت تجلب له كوب عصيرٍ وعادت له من جديد فوجدته يخرج من الغرفة وحينها تقابلا على أعتاب الغرفة..
أخفضت هي بصرها بسرعةٍ عنه بينما هو فغلبته نفسه أمامها فوقف يُطالعها بشوقٍ كأنه يخبرها أنه حقًا يشتاق لقربها وتواجدها، يحتاج أن يخبرها عن ما كتمه في سريرته لأجلها لكنه ينتظر لحين موعد اللحظة الحاسمة، وما إن طال تحديقه بها حمحمت بقوةٍ فأدرك هو موقفه سريعًا فمد كفه يلتقط الكوب ثم تحدث بخفوتٍ يقول:
_أنا كنت متفق مع الحج على ١٠ دقايق رؤية شرعية، بس بصراحة شكلي كدا هقلبها رؤية غير شرعية وهنروح في ٦٠ داهية، أمشي يا بنت الحلال أنا مش قدك ولا حجم تربيتي كفاية علشان أسكت بصراحة.
طالعته بعينين واسعتين تلقي بسحرهما عليه فابتسم بسخريةٍ وقال مُعبرًا عن حالته رغم توبته التي لازالت في بداياتها:
_أهي كملت، كنت ناقص عيونك هي كمان؟.
حينها تركت له الحامل في يديه وتحركت من أمامه بعدما ابتسمت له فيما ظل هو يُطالع أثرها بصمتٍ ثم تنهد بقوةٍ ورفع الكوب يتجرعه وما إن أدرك الحال حمد ربه وشكره على تلك اللحظة، شعر أنه وصل للسماء يحتضن نجمة من بين جميع النجوم بعدما ظل يُمني نفسه فقط بالمطالعةِ على بُعدٍ..
____________________________________
<“لا ترتدي ثوب الفضيلة أمام من صنع لك السترة من العار”>
قبل أن تتحدث عن رد الفعل، تذكر جيدًا الفعل ذاته..
وقبل أن تطلق خيلك في الميدان أعلم أولًا هل الميدان يستحقه أم لا، وقبل أن تصرخ مُطالبًا بحقك تذكر جيدًا هل هو حقك بالفعل؛ أم أنك مجرد معتدٍ عليه وفقط؟ وقبل أن ترتدي ثوب الفضيلة لا تنسىٰ أنك تخاطب من صنع لك السترة من عار الفضيحة..
كانت تجلس بشرفة الشقة وحدها وعيناها لم تبرح تلك المأذنة العالية والأضواء تحاوطها وبعض الطيور تتراقص حولها عند ساعة الغروب، كانت تجلس بصمتٍ بعد أن أخذت العقار الطبي الذي أصبح يُلازمها مؤخرًا بمتابعةٍ من “بـاسم” كانت تتنفس بصعوبةٍ وهي تجلس وحدها بسبب غلبة البكاء عليها، وفي الطابق الأعلى كان يقف هو يدخن سيجاره بصمتٍ وهو يفكر فيما يتوجب عليه فعله بعد أن تورط في حُبها،
فهذا الحُر أصبح راغبًا في الأسر، هو الذي كان يسعى كي يخلص كل سجينٍ من سجنه، أمسى يبرر لنفسه السجن إن كان في قفصٍ يحبه هو، وقف بصمتٍ وملامحه الحادة بقت جامدة ولم تَلِن إلا حينما لمحها في الشرفة أسفلها…
أخفض عينيه نحوها فوجدها تمد كفها تلتقط به طيرًا من فوق السور المعدني ثم مسحت فوق عنقه بعطفٍ وظلت تتحدث معه وهذا ما فسره هو من حركة شفاها، ابتسم رغمًا عنه وظل بموضعهِ يُراقبها كيف تعامل الطير فوجدها تقربه من الطعام الموضوع بالعُلب البلاستيكية في الشُرفة ثم سقته المياه وظلت عدة دقائق تتحدث معه كأنه تخبره بأسرارها ثم تركته يطير يكمل اللوحة مع قرص الشمس في الغروب والمأذنة العالية تضيف للمشهد لوحة مصرية أصيلة تسرد قصة وطنٍ من مجرد مشهدٍ عابرٍ، وحينها فسر هو المشهد بجملةٍ واحدة:
“فاقد الشيء هو أحق وأحن من يُعطيه”..
ترك شقة والدته _التي يكره تواجده بها_ ثم نزل للأسفل حيث شقة خالته وقد طرق الباب قبل أن يفتحه وما إن ولج وقف أمامها يراقبها بشغفٍ ثم اقترب يسألها باهتمامٍ عن صحتها:
_أنتِ بقيتي أحسن دلوقتي؟ أتمنى تكوني أفضل يعني.
أومأت هي له موافقةً ثم قالت بصوتٍ متوترٍ:
_الحمدلله بقيت أحسن كتير، شكرًا ليك على كل حاجة.
حرك رأسه موافقًا ثم اقترب منها أكثر وقال بصوتٍ رخيمٍ:
_لا شكر على واجب، بعدين العصفورة قالتلي اللي أنتِ قولتيهولها من شوية، عمومًا العصافير هنا كلها صحابي، واللي نفسك فيه هيحصل، مسألة أيام مش أكتر، وعمومًا أنا نازل دلوقتي أعمل اللي عليا، علشان أي حاجة بعد كدا أعملها وأنا مرتاح إني مقصرتش في حاجة ناحيتك.
رفعت عينيها تواجهه بخوفٍ وتوترٍ من قربه بتلك الطريقة بينما خالته أتت تفصل بينهما وهي تقول بمزاحٍ تهكمي حينما وصلها حديثه:
_هو إيه يا روح خالتك اللي عليك؟.
انتبه لمصدر الصوت فزفر بقوةٍ ثم ابتعد خطوتين للخلف وأشار برأسه نحو من تقف أمامه صامتة عن الحديث ثم قال بثباتٍ كأنه يخبرهما بخبرٍ أقل من العادي أيضًا لكنه لم يخل من سخريته:
_رايح لأبو الصغنن أطلب إيدها.
شهقت خالته بفرحةٍ بينما الأخرى فتجمدت محلها وهي تُطالعه بترقبٍ بينما هو أرسل لها قبلة في الهواء ثم رحل من الشقة بعدما قرر أن تلك المرة قراره بلا رجعة، لذا قصد الوجهة والطريق وأخذ دراجته ثم تحرك نحو مقر عمل والدها، أوقف الدراجة ثم ولج لمكتبه بداخل شركته الواسعة وما إن ولج لمكتبه ولمحه والدها طالعه بغرابةٍ وقال بسخريةٍ:
_إيه زهقت بدري بدري كدا؟ كنت فاكر نفسك طويل بصراحة عن كدا، يابني أنا مش أهبل علشان دي مسئولية عليك، أظن دلوقتي هتقولي بنتك عاوزة تتعالج وعاوزة مصاريف وأنا مش هقدر عليها، فخدها بقى علشان أنا مش مسئول صح؟.
رفع “بـاسم” كلا حاجبيه يرسم السخرية فوق ملامحه ثم سحب مقعدًا يجلس فوقه وقال بسخريةٍ مماثلة لحديث ملامحه:
_تصدق عجبتني؟ والله بجد يعني عجبني تفكيرك وأنتَ عرة كدا، ولما أنتَ يا سيد الرجالة عارف إن بنتك مدمنة سايبها ليه؟ مفكرتش تاخدها وتعالجها ليه؟ مش خايف عليها؟.
كان السؤال يقتل لو من يجلس أمامه يشعر، لكن في الحقيقة أجاد رسم الجمود ببراعةٍ ثم قال بلامبالاةٍ:
_أنتَ عارف لو حد شم خبر دا ممكن يعملي إيه؟ بلاش أخواتها دول يكون حلهم إيه؟ شكلي وسط الناس إيه وبنتي في مصحة بتتعالج من الإدمان؟ وإيه يضمنلي إنها هناك تبطل؟ ما يمكن تفضل تاخد في الهباب دا أكتر من الأول، ما ياما ناس ماتت في المصحة بسبب جرعات زيادة، أنا بس بتقي شرها.
توسعت عينا “بـاسم” بغير تصديقٍ وكرر خلفه مستنكرًا مقصد الحديث كأنه لم يعترف به في سمعهِ قبل عقله:
_بتتقي شرها؟ إزاي يعني مش فاهم؟.
ضحك الآخر وقال ببساطةٍ كأن ما يخفق بداخله قالب من الحجارة أو أشد قسوةً منها حيث يتسم بالطبع الغليظ:
_بتقي شرها علشان مش عاوز فضايح، دي لو في مرة بس قررت إنها تفتح بوقها عليا ولا تفضحني هتهد كل اللي بنيته من غيرها، معنديش استعداد أخسر حاجة تاني قدامها، حتى أنتَ شكلك شاب محترم ومتعلم ليه بقى تضحي تضحية زي دي غير إنك طمعان فيها؟ وبصراحة حقك أنا عاذر موقفك برضه، هتلاقي فين صيدة سهلة زي دي؟ متقشرة ليك ولا أجدعها فيلم عربي في السبعينات، فماتجيش ترسم عليا دور الشهم.
هنا وحقًا طفح الكيل من الحديث وصاحبه، لذا مال على مكتبه وقال بصوتٍ خفيضٍ ترك في نفس من يجلس أمامه الأثر القوي الذي أدى إلى اهتزاز حدقتيه:
_دا كلام الناس الناقصة اللي زيك، إنما أنا طبعي حُـر ولو عاوز حاجة باخدها لو تمنها روحي كلها، وأنا جيت بس أعمل اللي عليا علشان محدش يلومني بعدها، فرحي على بنتك آخر الأسبوع دا، عاوز تيجي براحتك، مش عاوز برضه براحتك في كلتا الحالتين إحنا أولى بحتة الجاتوه اللي كنت هتاكلها، حد من الغلابة ياخدها وهو أولى بيها، أما بقى طمعي فيها، فدي معاك حق، أنا طمعان فعلًا، أصلها حلوة ومحتاجة راجل يقدرها.
طالعه الآخر بنيرانٍ اتقدت في عينيه وبدأ صدره يعلو ويهبط، فاستقام الآخر ثم أضاف مُكملًا حديثه بنفس ذات النبرة اللعوب:
_أنتَ وفلوسك ومالك اللي شافطه من دم الغلابة اللي أنتَ وأمثالك ساحبينه في بطونكم أنا مش عاوز منه جنيه، ومن اللحظة دي بنتك تخصني أنا، وهتتعالج بفلوسي أنا، وهتعيش في السيدة زينب معايا أنا، ولو على الطمع فأنا قولتلك طمعان في كتير أوي منها وعاوزها كلها على بعضها، أنا برضه بقدر الحلاوة وهي حلاوتها تغلب وتكسب كمان، متنساش يا حمايا، الفرح بيك من غيرك هيكمل.
ألقى الحديث ثم رحل كيفما ولج تاركًا خلفه حمية بركانية تغلي بموضعها، وكانت النظرات وحدها خير دليلٍ على النيران الموقدة في صدره كأنه يجلس فوق مرجلٍ ملتهبٍ يوصد النيران به فتظهرها عيناه لمن يسقط عينيه عليه، أما “بـاسم” فكان يتيقن في كل حينٍ أن تلك الفتاة المسكينة لم تلق بغيره كأنها خلقت فقط لأجله هو ولأجل أن تؤنس حياته..
____________________________________
<“ياليت ما فات كان يسهل إعادته، لكنها تبقى ياليت”>
كل الأماني يصعب تحقيقها،
وإنما إعادة الماضي فتلك هي الأمنية المستحيلة، لذا كلما تمنى المرء قال ياليت، وهو يعلم أن تلك الكلمة تبقى فقط في طور الأمنيات دون أن ينل ذرة قربٍ من المُراد،
فياليتني ما ولجت هذا الطريق
ولنفسي به كنت ظالمًا،
فاليوم أعود محمل بخيبة الرحلة
وأضم رأسي بكفاي في طريقٍ عُدت منه على رُكابي نادمًا..
بعد مرور يومين..
بدأت الأوضاع تستقر إلى حدٍ ما، الجميع ينشغل فيما يستحق منه الإنشغال، والبعض منهم كان يشرد بخوفٍ في لحظة غيابٍ غير معهودة، وما يأست من كثرة التفكير لجأت لخالقها تسجد له وهي تتضرع له بخشوعٍ أن يعود لها الحبيب الذي ترك القصة عالقة بمنتصفها، فلا هو تركها عند نعيم الجهل بالبدايات، ولا هي وصلت لختام النهايات، ظلت هي عالقة دون أن تُسطر الحكاية نهاية القصة حتى ولو بما لم ترغب هي..
كانت تلك هي “حنين” التي كلما مرت عليها ساعة بدون أن تطمئن عليه يأكل الخوف جزءًا من قلبها، وكلما مرت الساعات عليها جمعًا كلما ازداد الخوف أكثر، لكن لطالما كان هناك الأمل فظلت تتمنى عودته لها حتى ولو لم تكتب القصة بهما سويًا ولهما معًا، فيكفيها أن يكون بخيرٍ فقط..
أما “نـادر” فغلبه الحنين لموطنه وكل ما يخصه هناك، رغم أن والده يقدم له الرعاية الفائقة في تلك الدولة البعيدة إلا أنه لم يشعر بمثقال ذرةٍ من الأمانِ معه، كان الخوف يغلبه وفي الأغلب يجلس وحده بعيدًا عن الجميع وهو يعلم أن الحراسة مفروضة عليه، لذا نزل يجلس في الحديقة حيث السجن الواسع المسموح له بالتجول فيه، جلس فوق الأرض يضم رُكبتيه معًا ثم ترك عقله لرحلة الماضي حيث أفعال والده السابقة معه، تذكر كل فعلٍ كان يصدر من المسمى بأبيه ويجبره على الخضوع لوالده، كل فعلٍ كان يقتل فيه جزءًا من روحه حتى أصبح خامل الروح والنفس..
شعر بكف أحدهم يوضع فوق كتفه فأطبق جفونه فوق بعضها يكتم سر العبرات بين ستائر الأهداب وقد ولج بجوارهِ “مارسيلينو” ثم مد يده له بكوبٍ من العصير ثم قال بهدوءٍ:
_أشرب دا، عصير أنا عملته ليك بدل قلة أكلك دي، لاحظت إنك مبتشربش حاجة هنا، رغم إن باباك قال إنك كنت مدمن خمور قبل كدا، إيه توبت خلاص ولا مش لاقي حاجة تجيب معاك.
عاد “نـادر” ينظر أمامه وقال بخمولٍ وكسلٍ كأنه مجبورٌ على الكلامِ في المطلق:
_نضفت، آخر مرة شربت فيها وخرجت من الهباب اللي كنت فيه جت عربية شالتني، وفضلت في غيبوبة وشوفت الموت بعيني، ساعتها فضلت أفكر في العمل لو كنت موت وقابلت ربنا كدا الحل هيكون إيه، معرفش ساعتها مين عمل فيا كدا، بس شكلها كانت خبطة تفوقني من اللي كنت فيه.
حك الشاب فروة رأسه ثم حمحم بقوةٍ وقال بإحراجٍ:
_قصدك العربية اللي شالتك من عند الكباريه؟ لامؤاخذة يا صاحبي دا كان أنا اللي عملتها فيك، كانت تعليمات ونفذتها.
جحظت عينا “نـادر” وفرغ فاهه وقد جعد جبينه وارتسمت تعابير الحيرة فوق وجهه وقبل أن يتحدث صدح صوت الأعيرة النارية تُطلق في الفراغ عاليًا وقد انتفض “نـادر” ومن يجاوره بعلامات التعجب فوق ملامحهما وقد اقترب أحد الشباب منهما فسأله الثاني بنفس اللهجة الغربية عن سبب إطلاق النيران وما إن جاوبه توسعت عينا “نـادر” حينما فهم الحديث، وقد انتظر رحيل الشاب ثم سأل “مارسيلينو” بدهشةٍ:
_هو اللي قاله دا بجد؟ الأقصر؟.
أومأ له الآخر موافقًا ثم قال بتهكمٍ:
_زي ما فهمت، رجالته في مصر وصلوا للمقبرة في الأقصر، وكدا هينزل قريب علشان الاكتشاف العريق اللي هيخلد اسمه في التاريخ، واللي متعرفهوش كمان إن المقبرة دي مسروقة قبل كدا أربع مرات، بس المرة دي عرفوا يفتحوها صح.
وفي تلك اللحظة سقط قلب “نـادر” من موضعه وأول ما بدر لذهنه كان فكره في “إسماعيل” وقد ظن أن الفعل الذي سبق قد يكون تكرر من جديد وتم استغلال الشاب لفعلٍ لم يرغبه هو، وحينها جلس ساقطًا ضاممًا رأسه يحمل فيها همه وهم من يهمه أمرهم..
في مكانٍ آخرٍ تحديدًا بشقة “يـوسف” كان يقف في غرفته بجوار زوجته التي عاونته في ترتيب حقيبته وهي تسأله بتعجبٍ من سفره المفاجيء للعمل:
_أنا مش فاهمة يا “يـوسف” سفر إيه اللي ظهر فجأة كدا في غمضة عين، دا أنتَ لسه ملحقتش ترتاح من سفرك للإمارات وقولت إنك عملت حاجات هناك للشغل ومضيت عقد ليهم كويس، هي دي المكافأة ليك يعني؟ بدل ما يريحوك بييجوا عليك بزيادة؟.
أطلق أنفاسه الحبيسة ثم قال بصوتٍ مغلوبٍ على أمره:
_هعمل إيه يعني يا “عـهد” لو مفيش غيري؟ الوضع مش سامح لحد غيري يكون هناك ويكمل اللي وقف في النص، أدعيلي بس ربنا يكرمني وأرتاح هناك، أنا أصلي مبحبش المكان دا بس مجبور.
لاحظت هي حالته وصوته الحزين، فرفعت كفها تجبر عينيه على التقاء عينيها وما إن تواصلت المُقل ببعضها لمحت هي غُربته عن حاله فسألته باهتمامٍ وهي تحاول سبر أغواره:
_مالك يا “يـوسف” فيك إيه؟ المرة دي مش زي كل مرة، مصمم تمشي لوحدك، ومش عاوز حد مننا ييجي يوصلك، ووافقت أول ما كلموك علطول، وشكلك متضايق، بعدين ليه المكان دا مش بتحبه؟ محدش يقدر يجبرك على حاجة طالما مش حاببها، لو الشغل مضايقك سيبه، الحمدلله يعني أنتَ قولتلي إنه مش راس مالك الوحيد، المهم أنتَ.
بعدما استمع لحديثها أغصب شفتيه على بسمةٍ هادئة ثم سحب نفسًا عميقًا وقال بهدوءٍ قبل أن تتزايد شكوكها:
_هو آه مش راس مالي الوحيد بس من غيره مش هقدر أعيش، بعدين أنا مجبور على المكان علشان زكرياتي فيه صعبة أوي، روحته في أكتر وقت كنت تعبان نفسيًا فيه وكنت مصاحب معايا ذكريات كتيرة كل ما أفتكرها ببقى حاسس إني متحاصر وشوفت كتير يخليني أنسى الحلو اللي عندي، علشان كدا أدعيلي بس.
ابتسمت له ثم حركت كفها تُدلك موضع قلبه فاقترب هو يُلثم جبينها بصدقٍ ثم ودعها بعينيها وعاد لما يفعل بصمتٍ على عكس عادته معها، أما هي فوقفت تراقبه بصمتٍ ولسانها يتحرك وهي تدعو الله له أن يلطف بقلبه، وقد انتظر هو انتصاف الليل ثم أوصلها لبيت أمها وتركها هناك وتحرك نحو أمه، اقترب منها يُلثم جبينها ثم لثم كفيها وقال بصوتٍ محشرجٍ:
_طول عمري ماشي بكرم ربنا وكنت أهبل وفاكرها شطارة مني، بس بعدما عرفتك عرفت إنه السبب بعد ربنا دعواتك ليا، المرة دي محتاج منك الدعاء أكتر من أي وقت، أنا بحبك أوي يا “غالية” وروحي رجعتلي من تاني برجوعك ليا.
ضمته لعناقها وهي تمسح فوق ظهره بحنوٍ ثم لثمت كفيه بنفس الحنو أيضًا وقالت بتأثرٍ فطري بسبب مشاعر الأم لديها:
_بدعيلك ودعيالك علطول، روح ربنا ينصرك ويقويك ويرد ليا من تاني منصور ومجبور الخاطر ومرفوع الراس يا حبيب عيوني، روح وأنا مستنياك يا قلب ماما، قلبي معاك ودعايا سابق خطاك، ربنا يردك لحضني من تاني.
والحديث يعقبه عناقٌ والعناق يطول ويخشى الفراق لذا ظل يتشبث بها ثم تركها أخيرًا ورحل من البناية وما إن ولج سيارته ترك العنان لعبراته تنطلق من محبسها، ترك نفسه للحظة الضعف ثم عاد يتسلح بالقوة هربًا من الجميع يشق طريقه المجهول، خرج بالسيارة من الحارة ثم قصد الوجهة نحو المكان الذي قصده، وما أن وصل في جنح الليل وترجل من سيارته، وقف بحيرةٍ للمرة الأخيرة لكنه حسم أمره وولج نحو أولى الخطوات التي تأخر كثيرًا عن فعلها..
ولج بخطواتٍ ثابتة وصوت قرع نعاله تسبقه الذكريات في كل شيءٍ، إما أمام عينيه وإما بهمسها في الأذن، عاد صوت صرخاته يتردد في أذنه حينما أتى إلى هنا وكان مجبورًا واليوم يأتي بكامل وعيه وإرادته، وقد ولج المكتب المرغوب ووقف على أعتابه يلتقط أنفاسه ثم فتحه وقال لمن يجلس بالداخل:
_أنا جيتلك أهو يا “جـواد” وعاوزك تساعدني.
والآخر كما اعتاد ابتسم حينما ربح الرهان تلك المرة أيضًا، التفت له يرسم الثبات ببراعةٍ ليقابله الآخر بشموخٍ ورفعة رأسٍ تُجابه النظرات بنظراتٍ أقوى منها وأكثر قوةٍ وعنادًا، ولأن الشموخ أسمى صفاته فهو اعتاد أن يبتسم في وجه الهزائم ويسعى مجاهدًا كي يحول الهزيمة لنصرٍ أكيدٍ لا يقبل حتمية الشك، وهذا هو مربط الفرس في الرهان الرابح..

تعليقات