رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والثمانون 185 بقلم شمس محمد


 رواية غوثهم الفصل المائة والخامس والثمانون 

الحمد لله الذي جعل أشياء تكفي أشياء،
وأشياء تذهب حزن أشياء،
وأشياء تجعلنا لا نحتاج إلى أشياء،
الحمد لله على تأخر الفرج الذي يُعلِّمنا الصبر،
وعلى البلاء الذي يعقبه فرح،
الحمد لله على وجود الله،وعلى نعمة حمده،
والحمد لله على جميل صنعه معنا،
والحمد لله على كل حال
اللهم إنا نحمدك على كل شيء
فأصلح لنا أمورنا كلها،
‏ربي وإن رأيتني أبتعد عنك وأتبع هوى
نفسي، رجوتك بأن تصلح قلبي وتردني
إليك رداً جميلاً.
“مناجاة”..
____________________________________
لن أستطع أن أبوح بما أحمله لكن ستفعلها عيناي..
لن استطع أن أسرد لك الهزائم لكن وحدها نظراتي ستفيض لك بالخيبة التي تملأ قلبي، لن أقدر على وصف الفوضى بداخلي لكن صوت أنفاسي المُضطربة سوف يحدثك كفاية الحديث عنها، صدقني لا أملك من الكلام ما يصف حالي؛ سوى أنني في حربٍ أقامتها عليَّ نفسي،
وما أشدها حرب النفس على النفسِ طُغيانًا؟
لا أعلم أنا أي ذنبٍ هذا وقعتُ به حتى أصبح بهذا الثقل على نفسي وكأن الأرض بأثقالها تجثم فوق صدري، فكنت أحسبني غريبًا عن الناسِ وأنا بينهم حتى أدركت أن الغربة هي التي تسكنني وأنا الغريب عن نفسي، حتى مرآتي تكذب عليَّ هي الأخرى حينما تعرض نسخة مُشابهة لتلك الملامح التي تستقر فوق وجهي وتخبرني أن هذا الماثل هو أنا،
أتراني اليوم يا أنا كما أراني أنا؟..
أترى الليل الساكن أسفل جفوني كما أراه أنا؟
أترى الغُربة في عيوني كما تسكن في قلبي هنا؟
أعلمتِ يا ذاتي مَن ذا الذي تريه بالمرآةِ إن كان غريبًا عني أنا؟
فلو كان هذا هو أنا فمن الذي أراه في المرآةِ أمامي هنا؟
أتلك هي خسائر الحرب بين نفسي ونفسي؟
أم منذ البداية وأنا غريبٌ عن نفسي وتلك التي أقمت عليها الحرب لم تكن نفسي أنا؟…
<“أقاتل ليلًا وأنا وحدي في الحرب ووحدي الخصم”>
إن أقسى عدوٌ قد يواجهه المرء طوال أيامه هو ذاك الذي يعرف عنه خباياه المكتومة في سريرته، تمامًا كما لو كان ظلًا له لكنه بصورةٍ ما هو الظل المُخادع له، وإذا تعمقت أكثر ستعلم أن أقسى عدوٍ قد تملكه في حياتك هو عقلك، فمن غيره على درايةٍ كافية بما حدث منك وبما سيحدث منك وكأنه يوحد عليك طُرقات القتال أمام نفسك، لذا في الليل وأنتَ وحدك ساكن الحِراك، ثقيل النفس، معدم الكلام، عليك بالإدراك أن عقلك أقوى خصمًا لك أمام عواطف قلبك..
عاد يتسلح بالقوة هربًا من الجميع يشق طريقه المجهول، خرج بالسيارة من الحارة ثم قصد الوجهة نحو المكان الذي قصده، وما إن وصل في جنح الليل وترجل من سيارته، وقف بحيرةٍ للمرة الأخيرة لكنه حسم أمره وولج نحو أولىٰ الخطوات التي تأخر كثيرًا عن فعلها..
ولج بخطواتٍ ثابتة وصوت قرع نعاله تسبقه الذكريات في كل شيءٍ، إما أمام عينيه وإما بهمسها في الأذن، عاد صوت صرخاته يتردد في أذنه حينما أتى إلى هنا وكان مجبورًا واليوم يأتي بكامل وعيه وإرادته، وقد ولج المكتب المرغوب ووقف على أعتابه يلتقط أنفاسه ثم فتحه وقال لمن يجلس بالداخل:
_أنا جيتلك أهو يا “جـواد” وعاوزك تساعدني.
والآخر كما اعتاد ابتسم حينما ربح الرهان تلك المرة أيضًا، التفت له يرسم الثبات ببراعةٍ ليقابله الآخر بشموخٍ ورفعة رأسٍ تُجابه النظرات بنظراتٍ أقوى منها وأكثر قوةٍ وعنادًا، ولأن الشموخ أسمى صفاته فهو اعتاد أن يبتسم في وجه الهزائم ويسعى مجاهدًا كي يحول الهزيمة لنصرٍ أكيدٍ لا يقبل حتمية الشك، وهذا هو مربط الفرس في الرهان الرابح، أنه مهما قست عليه معاركه يصمد بقوةٍ في أرض معركته..
تحرك “جـواد” من فوق مقعده مقتربًا منه ثم وقف بقربه يمسك كتفيه وهو يقول بهدوءٍ يواري خلفه حماسه وفخره بتلك الخطوة:
_وأنا كنت واثق ومتأكد إن “يـوسف” اللي أعرفه مش ضعيف علشان يهرب كدا من المواجهة، وجودك هنا أكبر دليل إنك بجد اتغيرت وموافق تتعالج، ولو فاكر نفسك غلطان في قرارك بس لنفسك دلوقتي وبص لنفسك من ٧ سنين فاتوا وأكتر كنت عامل إزاي، وجودك هنا مش ليك أنتَ بس، دا علشان اللي حواليك كلهم، والدتك ومراتك وأختك وعيلتك كلها، متقلقش كل حاجة هتعدي.
رفع “يـوسف” عينيه له بضعفٍ وقهرٍ أفصحت عنه المُقل وقال بصوتٍ مبحوحٍ أعرب عن الهزيمة الساحقة لروحهِ:
_مش مهم كل دا، خلاص أنا جيت واللي حصل حصل، المهم هو أنا هقعد هنا ليه وقد إيه، وياريت لو تقدر تقلل المدة على قد ما تقدر علشان وجودي هنا في حد ذاته قهرة ليا ولنفسي، بس أنا هنا علشان مخسرش اللي وصلتله، “قـمر” لو قبلت طبعي مرة مش مجبرة تتقبل كل مرة، وأمي لو شافتني كدا مرة مش هتتحمل تتقهر عليا كل مرة، و “عـهد” لو مسكت أيدي دلوقتي ممكن متقدرش تمسك أيدي بعدين، مفيش حد هيكون مجبر يكمل كدا، وأنا مش عاوز أخسرهم، أنا عاوزهم كلهم جنبي.
ربت “جـواد” فوق ظهره ثم قال بنفس الهدوء:
_وأنا مقدر موقفك، بس ملحوظة صغيرة ليك أنتَ مش واخد بالك منها، إن إدراكك لمشاعر غيرك دي قوة في حد ذاتها، وسعيك لحل المشكلة دي علشان اللي بتحبهم قبل نفسك فدا إنجاز ليك قدام نفسك واللي بتعمله فيك، ودلوقتي تعالى معايا أوديك أوضتك اللي هتقعد فيها هنا الفترة دي.
تحرك “يـوسف” خلفه غاضضًا بصره عن المكان خوفًا من مواجهة الذكرى المؤرقة، كان يتحرك معه عاميًا عينيه عن البصر حتى يتحكم فيه خوفه فيعود راكضًا من هُنا إلى حيثُ أتىٰ، أنهى الطابق الأول وتوجه معه للثاني وما إن انتهى صراع المواجهة تنفس بعمقٍ أخيرًا ولحق بخطوات “جـواد” الذي سبقه نحو الغرفة وفتح له الباب، حينها رمى “يـوسف” عينيه نحو الداخل يلمح الغرفة ثم عاد له فقال “جـواد” بثباتٍ يواري خلفه لينه معه:
_الأوضة دي جديدة والدور دا كله جديد بعيد عن كل اللي فاتك، تعمدت أجيبك وأخليك هنا علشان متبقاش حاسس بأي ضغط نفسي عليك وأنتَ هنا، تقدر تدخل ولو فيه حاجة مش عجباك قولي عليها وأنا تحت أمرك.
ولج “يـوسف” بخطى ثابتة يراقب الغرفة التي ما إن ولجها أطمئن قلبه لكونه يبدأ خطوة جديدة بفرصةٍ أجدد وهو على أعتاب البداية، لذا ظل واقفًا محله يراقب اللون الأخضر الرائق الذي يغلب على الغرفة يخالطه اللون الكريمي الدافيء مع إضاءة خافتة للعين كأنها غرفة تكامل حسي، تنهد بقوةٍ وهو يرى نبتة الزرع المتواجدة ومد كفه يتحسسها وهو يتساءل متى موسم حصاد غنائم حربه؟..
أما “جـواد” فسحب المقعد وجلس عليه وقال بهدوءٍ:
_أنتَ هنا علشان نتمم على الخطوة الأخيرة لحالتك، فيه دايمًا مرحلة لكل حاجة بتحصل وبتكون مرحلة فيصلية، بمعنى إنها نقطة من عندها كل حاجة بتتشكل من جديد، زي مثلًا إننا على مشارف حاجة من اتنين، يا إنك تلحق نفسك وتخلص من كل دا، يا تكون انتكاسة أكيدة منقدرش نعالج أثرها، وبالتالي يبقى الجنون الأكيد هو المصير اللي سيبناه وأهملنا وجوده.
التفت “يـوسف” له يطالعه بخوفٍ سكن في عينيه وبان ذلك بالمُقلِ المهتزة تعبيرًا عن رجفة القلب العالق، ليأتيه الرد من الطبيب:
_إحنا خلصنا مع بعض البرنامج العلاجي كله، مشينا على خمس أنواع مع بعض، أول حاجة كانت إننا نفسر مشاعرك ولحظات ضعفك وغضبك ونبدأ نبرمج الصراع الناشيء بينك وبين عقلك الباطن، والأهم إننا نتحكم في دوامة المشاعر اللي بتدور جواك وتحط راسك تحت السكينة وتشتغل جلد في نفسك، علشان كدا لازم ناخد الخطوة دي وأنتَ تكون موجود هنا، تاني خطوة بقى إننا نبدأ نحط قواعد العلاج مع بعض، زي العلاج السلوكي (DBT) ودا العلاج الفردي اللي خليتك تمشي عليه وأنتَ بتدون مشاعرك وبتدور في مهاراتك الكافية علشان تقدر تتحكم أنتَ في أي نوبة تجيلك مش العكس..
_وتاني نوع علاج هو النوع المعرفي (CBT) ودي نقطة تغيير المعتقدات اللي هتتشكل من النظرية الأولى، يعني وجهة نظرك الجديدة ونظرتك للحاجة حواليك، تفسيرك وفهمك لمشاعر اللي حواليك، إدراكك للمواقف بصورة تانية غير اللي بتأثر عليك، وتاني حاجة إنك تقدر تبرمج مشاكل العلاقات، تقدر تتحكم في التقلبات المزاجية وتقدر تتخطى الشعور بالقلق، وتتغلب على المشاعر السلبية اللي بتسكنك، وتالت نوع مشينا عليه النوع التحويلي، ودا علاج (TEP) وكان الغرض منه إننا نساعدك في فهم المشاعر اللي بتتمحور حوالين نفسك وكلامك عن الحرب اللي جواك، علشان كدا كنا مستمرين على الجلسات الفترة اللي فاتت، ورغم كل دا الظروف حواليك كان ليها التأثير الأكبر عليك، مع كل صدمة بتحصلك بتسيبها جواك، ومع كل خبر يوصلك تشبه نفسك بيه، فبدل ما كنا بنتخطى لقدام، بقينا بنرجع لورا..
توقف عن الحديث أمام “يـوسف” الذي زفر بقوةٍ، فتحرك حينها هو مقتربًا منه وقال بهدوءٍ وحكمةٍ أعربا عن تعقله:
_وجودك هنا مجرد رعاية ليك مش أكتر، عارف إن المرة الأولى كانت صعبة عليك وأثرها مهما حصل لسه جواك، خصوصًا إن الجسم والعقل رباطهم قوي وجسمك مش هينسى حاجة من اللي حصلت هنا، بس كل ما عقلك يوديك المنطقة دي ارجع وافتكر إن أنتَ هنا لحماية نفسك واللي حواليك من الأذى الكلي، لأن في مرة من المرات تهورك هيخليك تخسر نفسك أو حد من اللي بتحبهم، خصوصًا إنك بقالك فترة عنيف بشكل زيادة، مرة مع مراتك ومرة مع خالك وفكرة إنك عاوز تضرب “عاصم” و تضرب “أحـمد” كل دا بيدل إنك خليت الظروف اللي حواليك تأثر عليك، وساعتها هنغرق في الدوامة.
سكت “يـوسف” كمن فقدت الأحرف سبيلها في جوفه فلم يعد يجد لها طريقًا، لكن صوت “نَـعيم” تكرر بذهنه حينما أخبره ذات مرةٍ بحكمةٍ كعادته معه:
_المركب مش بتغرق علشان المياه حواليها شديدة، بس بتغرق بسبب المياه اللي بتدخلها وتغرقها، متخليش اللي حواليك يتسرب ويدخل جواك ويغرقك، ومهما كان الموج عالي خليك رافع راسك في وشه، علشان اللي بيحني نفسه للموج ويشحت بوجعه الموج بيبلعه وبيغرقه.
خرج “يـوسف” من شروده ثم جلس على طرف الفراش يخفض رأسه للأسفل ثم وضع كلا كفيه فوق دماغه ثم ردد العبارة المُناسبة التي أوصاه بها “أيـوب” كلما ضاقت عليه السُبل:
_”لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”.
هكذا ردد القلب بخشوعٍ وأملٍ في النجاة من الغرق كما كتبها لـ “يـونس” عليه السلام وكأن القلب يعود لصلاحه بعد أن يعود مسترشدًا لطريق ربه، وهو كلما زاد تجبره هذب نفسه بالحكمةِ فتجد حاله في حربه يوصف بأفصح الكلمات وهي:
_”وَسَلي الفَوارِسَ يُخبِروكِ بِهِمَّتي
وَمَواقِفي في الحَربِ حينَ أَطاها
وَأَزيدُها مِن نارِ حَربي شُعلَةً
وَأُثيرُها حَتّى تَدورَ رَحاها”
____________________________________
<“أفكلما بغيت ورغبت؛ لرغباتك طريقًا وجدت؟”>
في بعض الأحايين يتوجب على المرء أن يكون عاقلًا..
فعليه أن يبالغ في العقلانية رغم أنه يمتليء بالعواطف، عليه أن يتعايش مع فكرة الهزيمة تلك المرة، عليه أن يدرك أن الطريق عثرٌ وخباياه كثيرة، عليه أن يدرك أن ليس كل مرغوبٍ يُدرَك، وليس كل طريقٍ يوصل..
في اليوم التالي بوقت الظهر تحديدًا..
كان “أيـوب” في طريقه للعودة من المسجد للبيت، وقد ولج البيت بخطواتٍ هادئة وهو يعلم أن البيت في تلك الساعة يشهد أهدأ اللحظات لكنه ما إن مر من ردهة البيت قابل تلك الفتاة الجديدة التي أصبحت تسكن معهم وعلى الفور غض بصره عنه وألقى التحية بصوتٍ خافتٍ جعلها تتعجب منه، لكنه قرر أن يرحل من أمامها وفي تلك اللحظة أوقفته هي بلهفةٍ:
_لو سمحت !! يا شيخ بعد إذنك.
التفت لها عاقدًا حاجبيه ولازال بصره يستقر بعيدًا عنها فقالت هي بترددٍ وخوفٍ بانا عليها من طريقة التحدث وهي تفرك كفيها معًا:
_أنا آسفة إني وقفتك وعطلتك، بس معلش أنا عاوزة أسألك عن حاجة ضروري وشكلك هتفيدني، اللي زيي ليه توبة وقبول عند ربنا ولا خلاص كدا مش هينفع؟ والله العظيم أنا معملتش حاجة بخاطري، أنا كل اللي حصلي كان غصب عني ومعرفش مين هيتحاسب عليه، ربنا هيحاسبني أنا ولا هيحاسبهم هما؟.
وقف أمامها تائهًا لا يعلم مقصدها فإذ بها تبكي وهي تقول بقهرٍ:
_يعني الناس اللي دمروا عرضي وشرفي وخلوني زي زبالة الشوارع مين هيحاسبهم؟ مين هيجيبلي حقي منهم؟ ذنبي مين هيشيله؟ هتحاسب أنا على عمايلهم دي؟ أنا اللي هقف بتلام في الآخر؟ أنا بقيت كارهة نفسي وكل يوم أقول أنا ليه مبموتش، بس الست “وداد” قالتلي إن كلامي دا غلط وحرام وقالتلي إني هينفع أتوب، علشان كدا بقولك اللي زيي وضعه إيه؟.
كان يقف وحده معها وهو يحاول أن يخلص نفسه من هذا الموقف، حاول أن يجد المناسب من الحديث بدلًا من أن يطل كلماته وفي تلك اللحظة أتت “وداد” من الداخل وحينها زفر هو براحةٍ ثم قال يوجه حديثه في العامِ لها:
_عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
“الَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا”
والمقصد إن ربنا جل جلاله بيفرح بالعبد التائب فرحة أكبر من فرحة العبد اللي لقى الحاجة الضايعة منه وضالة بعيد عنه، فلو كل مرة العبد هيحط في دماغه إن توتبه ملهاش لازمة، يبقى لازم يفكر نفسه بالتوبة دي وإزاي هتفرح ربنا سبحانه وتعالى، وفي القرآن الكريم ربنا سبحانه وتعالى قال:
“إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا”
توقف عن الحديث ثم أعاده من جديد مُكملًا:
_ربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه إن من تاب وعمل عملًا صالحًا وكانت توبته صادقة مع رب العالمين، وقتها ربنا برحمته الواسعة يبدل سيئاته حسنات لأن ربنا سبحانه وتعالى غفور رحيم بالعباد، فمهما كان ذنبك كبير هييجي بعظمة رحمة الخالق؟ أكيد لأ، بس الشيطان مهمته يقفلك بالمرصاد، يقف يعرفك إنك مهما عملت ومهما حاولت مش هتوصل وتوبتك أقل وأصغر من ذنبك الكبير، ولأن رب العالمين أرحم بالعبد من نفسه قال في كتابه العزيز:
_”قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ”
فبدل ما تجلد نفسك بس، جرب تفكر نفسك بثقتك في رحمة الخالق، ربنا سبحانه وتعالى بيخبر العبد بكل ما يدري في نفسه حتى لز العبد عاجز عن فهم نفسه، حقك تتوه ماشي، وحقك تضيع وحقك تغلط، إحنا بشر مش ملايكة، بنغلط ونتعلم ونقوم ونقف ونغلط ونصلح غلطنا مرة، محدش معصوم من الغلط، لكن الغلط بجد إننا نجلد نفسنا لحد ما نيأس من رحمة ربنا.
كانت أمامه تبكي بقهرٍ على حالها وحينما استحقرت نفسها أمام رحمة الخالق اندفعت بوجعٍ وهي تقول:
_مش هينفع، اللي زيي مش هينفع تقف في مرة قدام ربنا تقوله أنا عندك أهو، مش هقدر أقف قدامه وأنا كنت مستسلمة ومحاولتش أعمل أي حاجة تخليني أبطل الغلط دا، الذنب دا مش ذنبي بس وقعت فيه وبقى أكبر ذنب في حياتي، هفوق إزاي بس ولا أقف قدام ربنا بأنهي وجه حق؟.
وحينها جاء الرد منه بهدوءٍ تامٍ:
_ماشي، أنا هفكر مكانك، أذنبت، فبتجيني فترات بحس إني لا أستحق عطاء الله ولما بدعي أو بحس بالذل والانكسار لله بحتقر نفسي لإني غلطت وبحس إني شيطان واللي بعمله عالفاضي، ولما بسمع كلام حد بتطمن أو بحس بالأمل، بقول لا ينطبق فمتعملش نفسك كويس وطيب مع إني اشعر بحرقة ندم شديد وبخاف أتعاقب وبحس إني هتحصلي أسوأ الأمور، شعوري بقى صح؟…
ترك لها السؤال في ساحتها فسكتت هي، بينما هو قال:
_شعوري دا خاطيء تمامًا، بل ينبغي العكس تماما؛ وهو التعلق برحمة الله والرجاء فيه وحسن الظن به، فالله تعالى غفور رحيم حليم تواب، الله سبحانه يقبل التائب ويفرح به، بل هو أشد فرحًا به (كما هو التعبير النبوي) فيغفر له سبحانه ويبدل سيئاته حسنات، ومهما كان ذنبك عظيمًا وكبيرًا فهو شيءٌ ورحمة الخالق وسعت كل شيءٍ، هوني على نفسك وسلمي أمرك لله، ربنا يتقبل توبتك، أما حقك فدا هييجي وربنا هينصرك، قلة حيلتك وضعفك وهوانك على الناس تشتكيهم لربنا، وربك وحده قادر يرد المظالم لأهلها، توكلي على الله.
جلست فوق الأريكة ببكاءٍ وكل ما يدور بخلدها أن مثلها لا تستحق البقاء في هذا البيت الصالح وهي به كما الزرع الطالح، كانت تجلس بقلة حيلة وقهرٍ وكمدٍ حتى أتت لها “قـمر” التي وقفت ووصلها حديث زوجها بالكامل مع الفتاة حينما كانت تقف تراقبه بفخرٍ، وما إن لمحتها الفتاة رفعت عينيها لها، فمسحت “قـمر” فوق وجهها وقالت بحنوٍ:
_ربنا يسعدك ويعوضك بكل خير، لو أنتِ وحشة بجد مكانش ربنا كرمك بفرصة تانية إنك ترجعي من كل اللي حصلك وتخرجي من الدوامة دي، ربنا كرمك بفرصة تانية يبقى استغليها صح وربك يكرمك بالعوض اللي ينسي قلبك كل حزنه وزعله، وعلى فكرة وجودك هنا أصلًا فرصة لوحده، زي ما أنتِ شايفة كلنا ماسكين إيد بعض، بنصلي ونشجع بعض على الطاعات، وأهل البيت دا كلهم زي الملايكة وسط البشر، أتطمني وصلِّ على النبي كدا.
ابتسمت لها الفتاة فضحكت “قـمر” معها ثم مسحت فوق كتفها وما إن لمحت زوجها يتحرك خطت خلفه حتى وصلت شقتها فوجدته يلتفت لها وهو يقلد طريقتها معه أمسًا بقوله:
_لو فكرت مجرد التفكير بس تقرب منك ولا عينها تترفع فيك أنا هاخد عينها من وشها، كان لازمتها إيه بقى الخربشة الكدابة دي يا قطة؟ دا أنتِ ناقص تديها الكِلية بتاعتك، يا شيخة إتلهي بقى.
اقتربت منه تقول بتلقائيةٍ لا يعهدها هو من غيرها:
_ماهو أنا هطلة، فضلت تفضفض هي معايا الصبح وتقولي اللي حصلها صعبت عليا أوي، قولت حرام البت تكون شافت كل دا في سنها الصغير دا علشان كدا بهون عليها، بعدين أنا ثابتة على موقفي ناحيتك لو فكرت ترفع عينها وتبصلك هعميهالها.
ضحك لها بيأسٍ ثم أقترب يُلثم جبينها كأنه يفخر بها ثم وقف وقال بنبرةٍ هادئة يخبرها عن نبتة الخير المزروعة أرض قلبها:
_في نوع من الناس كده زيك، سهل تتناقش معاه، سهل تطلب منه حاجة، سهل تكلمه، سهل ترضيه، سهل يعذرك،
ويخليك تتعامل معاه بتلقائية بدون ما تحسبها كتير وتفكر في كلامك معاه هياخده عليك بأنهي شكل يخليك تفكر مليون مرة قبل ما تقصد بابه، فقال ﷺ :
“حُرِّمَ على النار كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سهلٍ، قرِيب من الناس”
وقال أيضًا ﷺ:
‏«يدخلُ الجنَّةَ أقوامٌ أفئِدَتُهُم مثْلَ أفئِدَةِ الطير»
فمن هم؟ هؤلاء هم الودودون الطيبون الذين يألفون ويؤلفون، وأنتِ اللهم بارك جميلة أوي وقلبك جميل وروحك حلوة وتخلي أحد يحبك ويحب يتعامل معاكِ، علشان كدا أنا بحب روحك أوي.
ولأنها متمرسة في قلب الموازين اقتربت منه أكثر تهمس برقةٍ مفتعلة وهي تلمس لحيته ببنان أناملها عن عمدٍ:
_هي روحي بس اللي حلوة؟ طب وأنا؟.
ضحك بيأسٍ ثم تنهد بقوةٍ وقال بقلة حيلة أمام دلالها عليه:
_كلك قمر كأنك اسم على مسمى، ممكن بقى تحاسبي علشان أغير هدومي وألحق الورشة؟ ولا أفضل قاعد هنا وأكل عيشنا يقف علشان خاطرك يعني؟ اتفضلي شوفي وراكِ إيه.
حركت كتفيها ببراءةٍ كاذبة ثم توجهت نحو الداخل وهي تدندن بكلماتٍ مُبهمة فيما وقف هو ينظر في أثرها بتيهٍ ثم قال بضحكةٍ يائسة:
_شقية برضه “قـمر” دي.
وحديثه كان صادقًا،
فهي دومًا تملك خفة بالروحِ والطباع تجعل القلب ينتمي إليها ولو من مجرد لقاءٍ عابرٍ وسوف يمضي، وهو أول العابرين وأول الساكنين في الفؤادِ، لذا كان يأمن على نفسه من القسوة في رحاب حنانها عليه..
____________________________________
<“لعلها تلك المرة هي فرصتك الثانية”>
رُبما تلك المرة هي فرصتك الثانية..
وتكون تلك هي العطايا الأكيدة من بعد العُجاف الذي مر على أيامٍ سلب منها كل شيءٍ كان يُثبت النفس في محلها كي لا تسقط، فلعلها آتية ولعلها قريبة ولعل كل شيءٍ ودَّ المرء أن يناله قد حقًا قُدِرَ وكُتِبَ له..
في مقر العمل بشركة “الراوي”..
كان “عُـدي” في خالة قلقٍ تتزايد بسبب غياب أخبار رفيقه، بدأ القلق يبلغ أشده عليه وهو يشعر أن هناك كارثة أُلقيت فوق رأسه، هو وحده من كان يعلم بخبايا سفره لوالده وهو وحده من يحمل القلق في قلبه، ظل جالسًا وهو يحاول للمرة الألف من بعد الألف الأول وفي كل مرةٍ نفسها النتيجة، لذا ألقى هاتفه بغضبٍ وجلس وحده حتى أتت “رهـف” تجاوره وهي تقول بنبرةٍ يائسة:
_أنا حظي معاك في الخطوبة دي نكد بس؟ يعني مرة زعلان علشان أختك ومرة زعلان علشان “إسماعيل” ومرة دلوقتي علشان “يـوسف” مش هنا ومرة قبل كدا علشان “نـادر” مشي وسابك، طب وبعدين؟ هتفضل منكد عليا كتير؟.
انتبه هو لها وزفر بقوةٍ ثم قال بسخريةٍ:
_حظك ياختي، هو بأيدي إن القلق يفضل ياكل فيا كدا؟ كل ما بالي يرتاح شوية يرجع القلق تاني ياكل فيا على حد جديد، بس قولي يا رب، ربك يفرجها وأتطمن شوية وأطمنك معايا، خليكِ أنتِ بس في الملايات اللي بتدوري عليها دي.
لكزته فب في مرفقه بغيظٍ منه، بينما هو عاد للخلف خوفًا من ضربتها قبل أن تطوله بيدها، وما إن عاد ضحكت هي ثم قالت بدعمٍ وهي تحثه أن يظل صامدًا كما هو:
_ربنا يطمنك عليهم كلهم وتفرح بأختك كمان وتشوفها عروسة زي القمر، أنا حقيقي والله مبسوطة أوي إنها رجعت تاني “ضُـحى” اللي كلنا عارفينها وبنحبها وواخدين على حلاوة روحها، صحيح هي قالتلي إنها مرات أخ حرباية بس أنا هبقى أرشيها.
ضحك لها بحنوٍ ثم ظل يراقبها وهي تتحدث بسعادةٍ وتشاركه بعض المُخططات كي يختار معها لأجل بيتهما سويًا وفي تلك اللحظة أتت موظفة من الخارج تسأله بأدبٍ:
_مستر “عُـدي” لو سمحت فيه حد برة طالب يشوف حضرتك أو مدام “مـادلين” وبيقول إن الأمر ضروري.
عقد حاجبيه وخرج من المكان وخلفه خرجت “رهـف” ظنًا منها أن الأمر يخص العمل، وما إن خرج هو ووجد الضيف تعجب وردد اسمه مستنكرًا بغرابةٍ:
_دكتور “عبدالمعز” !! خير فيه حاجة؟.
انتبه له الطبيب الذي لتوهِ أدرك موقفه المحرج لكنه حمحم بقوةٍ ثم قال بنبرة صوتٍ هادئة حاول رسم الطبيعة فيها على عكس خجله من الموقف:
_أهلًا بيك يا أستاذ “عُـدي” أنا بصراحة كنت جاي ليك أو لمدام “مـادلين” وبالصدفة عرفت إن الباشمهندس “يـوسف” مش هنا وسافر في شغله وكذلك القبطان “نـادر” كمان، فممكن نتكلم مع بعض؟.
أومأ له موافقًا ثم رحب به وهو يُشير له نحو مكتبه وقد لمحهما “عـاصم” من على بُعدٍ لكنه تجاهل كليهما وولج مكتبه، أما “رهـف” فبمجرد أن ربطت الحلقات ببعضها وشكلت سلسالًا شهقت بفرحةٍ وتحركت مسرعةً نحو مكتب “مـادلين” التي كانت تقف وسط المتدربات تلقي عليهن التعليمات، وقد اقتربت الأخرى منها تقول بشقاوةٍ:
_الحلو اللي بيتدب علشانه مشاوير أخباره إيه؟.
التفتت لها عاقدة حاجبيها وهي تسألها عن مقصد كلماتها فضحكت بوهجٍ بان في عينيها وملامحها وهي تفسر لها بقولها:
_الدكتور اللي مخليكِ حيرانة برة وقاعد مع “عُـدي” وكان عاوز يشوفك، تحبي أقوله إنك مش هنا ومشيتي بدري؟.
توسعت عيناها حدَّ الجحوظ وفرغ فاهها وفي لمح البصر كانت تهرول من مكانها لمكتب المذكور وما إن ولجت ولمحته أمامها توترت بشدة لكنها وأدت تلك الحالة في مهدها وبدلتها بقوةٍ تمتاز هي بها حينما سألت بتعجبٍ:
_خير يا دكتور؟ فيه حاجة مهمة؟.
انتبه لها والتفت يستقر بعينيه عليها بينما “عُـدي” فكتم بسمته ثم قال بثباتٍ وهو يشير نحو الجالس:
_الدكتور “عبدالمعز” جاي وليه طلب مهم عندك، طالب أيدك رسمي بس قال أهم حاجة تكوني موافقة ودي رغبتك مش ضغط حد عليكِ، وقال إن “نـادر” و “يـوسف” يكونوا هنا بما إنهم أولياء أمرك حاليًا.
توسعت عيناها وتعجبت من الموقف حتى أنها لم تظنها بتلك السهولة، وقد وقفت أمامه بخجلٍ كأنها فتاة في العشرينيات من عمرها تختبر تلك المشاعر لمرتها الأولى، وما إن طال صمتها وقف “عبدالمعز” أمام “عُـدي” وقال بهدوءٍ:
_طب على اتفاقنا إن شاء الله لما يرجع “يـوسف” من السفر بس أنا قولت يعني آخد الخطوة علشان أبقى كسبت وقت لحد ما ربنا يكتب بسلامتهم، عن إذنك وأشوفك على خير.
ودعه “عُـدي” بعد أن قرر اتفاقه معه ورحب بفكرته بينما هي وقفت تائهة لا تعلم كيف تتصرف في هذا الموقف الغريب عليها وكيف تخبر الجميع بموافقتها وترحيبها، ثم عادت تتذكر وضعها وعمرها فأصابت الخيبة قلبها شر الإصابة في مركز القلب، كل شيءٍ حولها كان ضدًا لها، فرصة أتت لها على طبقٍ من فضة كما من تمنى أن يرى الفاكهة ويشتهي قربها ولم يمنعه عنها إلا الصيام، كان الوداع منه لها بنظرةٍ أخيرة جعلتها تخجل من هذا الموقف فأخفت عينيها عنه وتركته يرحل..
أما هو فلم يعلم لما أخذ هذه بتلك السرعة كأنه لم يعد حكيمًا في تصرفاته لكن ظهورها أمامه يجعله في أغرب حالاته، وقف أمام المرآةِ في الشركة حينما لمح صورتها معلقة كأفضل مديرٍ تنفيذي بالمكان، وقف يراقب بسمتها وملامحها الرقيقة ثم عاد يُطالع نفسه بهيئته المتواضعة، كان أسمر البشرة، عيناه بنيتان داكنتان اللون، خصلاته قصيرة إلى حدٍ ما متوسطة النعومة، جسده لم يكن بالقوة المبالغ بها وإنما كان كما غيره من الرجال في عمره، أنفه محدب برفعة بسيطة، جبينه مستقيم بملامح بشوشة، وقف يشرد في ملامحها في تلك الصورة ثم تنهد ورحل من المكان كأن عقله أنذره بالفارق بين كليهما..
أما “عـاصم” فخرج يراقبه وهو يقف أمام صورتها وحينها تعجب منه لكنه لم يضع في خياله مجرد الفكرة أنه هذا الرجل قد يكون قاصدًا طريقها هي، لذا عاد نحو مكتبه وولج يستقر به وكلما حاول أن يُصرف الفكرة عن رأسه، عادت وتربصت بخياله ووقفت بالمرصاد أمام محاولات صده..
____________________________________
<“يا كُل كلي أنا لكَ بظلي ومعك بكلي”>
رُبما هذا الذي مر عابرًا من الطريق أصبح هو مقصد الطريق بذاته، هذا الذي كان غريبًا ولم نعرفه أصبح هو الوحيد الذي في القلب ومن بين جميع الغرباء أصبح القلب لا يعرف غيره، هذا الذي كان بعضًا أصبح اليوم كل الكُل بذاته…
دومًا الليلة التي تكون بعد المواجهة أشد صعوبةً، وهو بعد أن واجه ماضيه وجهًا لوجهٍ كان يخشى على نفسه من شيءٍ مجهولٍ لا يعرفه، جزءٌ منه مفقودٌ وجزءٌ عاد وما بينهما كان فراغًا ساحقًا، كان في حالة تيهٍ لا يعلم كيف المفر منها، لكنه شعر أنه في أمسِ الحاجةِ لها، شعر كأن بعضه يشتاق لكله فخرج من غرفته بعد أرتدى ثيابه وما إن خرج وجد أمامه “مُـنذر” يقصد التوجه لعمله..
وقفا في وجه بعضهما وقد قال “مُـنذر” بلهفةٍ يطمئن عليه:
_أنتَ كويس؟ رايح فين كدا؟.
حرك “إسماعيل” كتفيه ثم قال بضجرٍ وضيقٍ:
_زهقت خلاص من قعدتي لوحدي، عاوز أخرج شوية علشان كل شوية أفتكر حاجة جديدة من ساعة ما خدت الموبايل وأشوف صور فبصراحة زهقت وعاوز أخرج شوية، هينفع أخرج شوية ولا لسه مفروض عليا الحذر بتاعك دا؟.
ابتسم له “مُـنذر” ثم مسح فوق ذراعه بحركةٍ ودية وهو يقول معطيًا له إذن الرحيل والتحرك من البيت:
_تروح مكان ما تحب براحتك، ولو عاوز تروح أماكن قديمة مفيهاش مشاكل كمان، المهم بس إنك تطمنا عليك وتسيب موبايلك مفتوح، وياريت متفضلش تملا دماغك بأسئلة ملهاش أي لازمة غير إنها بس بتتعبك على الفاضي، سيب كل حاجة لوقتها، بعدين بص للجانب الكويس وهو إنك خلاص افتكرت الجزء المهم، إيه اللي حصل وقتها وحياتك ترتيبها كان إيه بالظبط، وخليك عارف إن “ضُـحى” أهم عامل لحد دلوقتي علشان كدا إحساس إنك بتميل ليها دا طبيعي.
فهم “إسماعيل” أن من يتحدث معه أدرك رغبته لذا هرب من أمامه ثم أخرج سيارته ورحل بها من البيت، لا يعرف إلى أين يتوجه لكنه ترك نفسه كما الآلة تتصرف كيفما تشاء، قاد السيارة بعقلٍ مشوشٍ وتغيب عن الواقع وما هي إلا دقائق مرت شكلت ساعة كاملة ووجد نفسه أسفل مقر العمل لدى “ضُـحى”..
نزل من السيارة يقف مستندًا عليه وقد ضم كلا ذراعيه يطالع المكان بغرابةٍ وعيناه ترصد البوابة وبعض الخيالات من الماضي تميض وتخبو كلما تمركز بصره على المكان، وقبل أن ينزعج وجد نفسه يزفر بقوةٍ كي يُخرج تلك الفوضى منه، كانت بعض الذكريات عادت له فتذكر منها موقفًا مشابهًا لهذا، لذا ظل هكذا ينتظرها بوقفةٍ ملولة حتى ظهرت هي فجأةً تخرج من البوابةِ وحدها..
حينها اعتدل في وقفته ووقف يراقب قربها منه بينما هي وقفت أمامه تائهة لا تعلم كيف وصل لها في تلك اللحظة، كان يقف على مقربةٍ منها وبعد رؤيته لها خطى نحوها المسافة الفاصلة فوجدها تسأله بانبهارٍ ظهر جليًا في عينيها وكذلك انشداه نبرتها:
_أنتَ جيت هنا إزاي؟ ومين قالك تيجي أصلًا؟.
كانت تظن أن هناك من أرشده إليها لذا سألته عن هوية المرشد ولم تكن تعلم أنه أتاها عمدًا متعمدًا قاصدًا وجهتها هي وحدها دونًا عن جميع البشر، لذا حرك كتفيه وقال بصوتٍ مُتعبٍ:
_جيت علشان مش عارف طريق غيرك أنتِ.
استشفت هي حالته من صوته المتعب ولمحت خيبة الأمل في عينيه، لذا مدت مدت كفها تمسك بكفه ثم قالت بحنوٍ عليه حتى أكثر من حنوه هو على نفسه:
_وأنا طريقي مرحب بيك حتى لو جاي هنا تايه، أنا مبردش حد ولا بقفل بابي في وش حد، فاكر مرة لما قولتلي زمان أول ما اتعرفنا على بعض؟ ساعتها قولتلي إنك خايف على طريقي من طريقك، وأنا ساعتها قولتلك اللي يسيب الدنيا كلها ويجيلي أنا هكونله دنيا لوحده، كتر خيره قلبك لسه فاكرني.
في تلك اللحظة كسر كل القواعد أمام نفسه لأجلها وضمها له بقوةٍ جاعلًا رأسها يتوسد صدره وهو يمسح فوق تلك الرأس برفقٍ حتى استكانت هي لتلك اللحظة وتمسكت بذراعه فقال هو بتيهٍ وقلة حيلة لا يخشى ظهورها أمامها:
_كتر خيرك أنتِ إنك لسه متعشمة فيا وفي قلبي خير.
ابتعدت عنه تمسح فوق موضع نبضه برفقٍ بينما هو فسكت أمامها وفقط ثبت عينيه على عينيها يُعيد عهد أنسٍ كان قد مضى لكن أثره لازال باقيًا في نفسه مهما حدث ومهما طال به الزمن لن تُطمس هوية هذا الوطن من عينيه ولا من ذاكرته..
____________________________________
<“يا نصري في الطريق القاسي، كوني لي حنانًا”>
أحيانًا قسوة الطريق هي بذاتها التي تجبرك على شيئين..
أما أن تعود من طريقك في المنتصف وإما أن تكمله كأنك تخوض حربًا مع نفسك وليس مع طريقك، لذا قبل أن تخوض طريقًا عليك أن تعلم هل قدرتك كافية كي تُكمله أم أن تلك القوة التي دفعتك لهناك مجرد قوة واهية وسوف تنقضى مع العثرة الأولى؟..
انتصف النهار ومعه فقد نصف طاقته تقريبًا..
كان النصف الأول من يومه ملولًا والنصف الثاني صعبًا عليه، ففي النصف الأول جلس وحده دون أن يفعل أي شيءٍ غير الارتكان بين زوايا الغرفة بعيدًا عن صخب المشفى بالأسفل، كانت لفافة تبغه ترافقه في كل ثانيةٍ ولم تمر دقيقة بدونها بعد أن أخبره “جـواد” عن حرمانه منها كخطوة أولى لحمايته..
أما النصف الثاني فكان قاسيًا عليه بسبب الجلسات النفسية الصعبة التي تعرض لها، إما عن طريق عمل آشعة على مناطق معينة بالرأسِ وإما الحديث عن بعض الآلام في ماضيه ومواجهة الماضي وجهًا لوجهٍ بقسوةٍ عن طريق تجسيد بعض المواقف أمامه وكل شيءٍ كان يضغط عليه، جلس هكذا بمللٍ دون هاتفه حتى بعد أن تم سحبه منه، فارتمى “يـوسف” فوق الفراش يحاول التحكم في طاقة غضبه قبل أن يقوم بتكسير الغرفة..
مرت دقائق عليه وحده وهو يرتمي فوق الفراش وقد صدح صوت الجهاز المجاور للفراش بصوتٍ يسأله بسخريةٍ:
_هو أنتَ جاي هنا علشان تكئب نفسك؟ ما تقوم شوفلك حاجة ألهي نفسك فيها بدل قعدتك كدا، وبطل سجاير شوية هتموت نفسك، طب موت بحاجة عليها القيمة يا أخي شوية.
زاد غضبه أكثر وبدلًا من الصمت هدر بعنفٍ:
_أخرس خالص مش عاوز أسمع صوتك، بس الغلط مش عليك، الغلط غلطي أنا علشان سمعت كلام **** زيه وجيت هنا، قافل عليا الباب بالمفتاح ليه؟ هو أنا مجنون بجد يا “جـواد” ولا أنتَ بتهزر؟ أفتح بدل ما أكسر الباب وأنتَ عارف إني أقدر أعملها.
في تلك اللحظة زفر “جـواد” وقال بهدوءٍ أثار استفزاز الآخر:
_براحتك، قوم حاول تكسره كدا ووريني، بس فايدتها إيه قعدتك هنا إذا كان العنف والتكسير عندك رقم واحد؟ قعادك هنا صدقني علشان تتدرب على التعامل وخصوصًا في أصعب حالاتك، مش عاوزك تخسر نفسك في نوبة غضب عقلك غايب فيها، إحنا في أهم لحظات حياتك يا “يـوسف” بلاش يا أخي ترجعنا ورا وترمي مجهود السنين اللي فاتت في الأرض..
وفي تلك اللحظة حقًا كان تعب “يـوسف” فقال بقهرٍ على حاله:
_تعبت، تعبت يا “جـواد” وصعبان عليا نفسي وأنا عمري ما كنت كدا، ليه عمري يضيع كله في إصلاحية وحبس ومصحة وخوف وقلق وغربة ووحدة؟ ليه واحد زيي يضطر في يوم ييجي هنا ويبقى دا حاله؟ “جـواد” لو بتعزني زي ما بتقول وبتعتبرني أخوك سيبني أمشي، مش هقدر أكمل والله، اليوم بيعدي عليا هنا بسنة، سيبني وأنا مش هقرفك تاني.
لوهلةٍ كاد “جـواد” أن يشفق عليه بعد أن حدثه بتلك النبرة لكنه قرر أن ينسحب من المخابرة فأغلق الجهاز وترك “يـوسف” وحده يعاني الويلات مع نفسه ورغمًا عنه انحدرت عبراته فوق وجنتيه وهو يشعر بقسوة المكان والوضع عليه، فحتى لو كان بنعيم الأرض سيظل في عين نفسه مجرد مريضٍ ولج مصحة يتلقى بها العلاج النفسي وهو على شفا حُفرةٍ من الجنون !!.
ولأن القلب جزءٌ من القلب فهي كانت بعيدة عنه في مكانٍ آخرٍ لكن ثمة شيءٍ همس لها أنه ليس على ما يرام، هناك ما بدر لذهنها أن الحبيب لم يكن بخيرٍ، لذا جلست “عـهد” طوال اليوم في الغرفة ترفض القيام بأي فعلٍ خاصةً وهي لم تطمئن عليه حتى تلك اللحظة، جلست وحدها حبيسة الغرفة وقلبها يسأل عن حال قلبه خاصةً بعد وداعه الغريب الباهت الذي اختلف عن كل مرةٍ تركها ورحل بها، فحتى حينما تركها أول مرةٍ كان وداعه مميزًا عن هذا الذي ظهر كأنه يهرب منها..
أخرجت هاتفه تحاول مهاتفته من جديد لكن نفس الشيء منذ باكورة الصباح لذا التزمت بالصمت وظلت تُردد دعائها له حتى يعود لها سالمًا ورابحًا الحرب التي يفرضها على نفسه، بدت وكأن الحال في غيابه أشبه بحال طيرٍ فقد كلا جناحيه ولم يعد بقادرٍ على الطير من جديد،
فهل يُعقل أن يغدو الطير سعيدًا بدون جناحيه؟..
____________________________________
<“ولأن القسوة كانت نهجه كان لا يعرف طريقًا غيرها”>
وكأن بعض البشر القسوة هي طريقهم الوحيد..
فكلما حاول أن يعدل عنها وجد نفسه يواجه الشيء الأكثر صعوبة في الحياة، قسوة تملأ الوجد فيه كأن طريقه لم تشبه شائبة لينٍ، فاحذر من قساة القلب قبل أن تترك نفسك طُعمًا لهم..
في تلك الغابة البشرية التي وصلها رغمًا عنه كان يجلس وحده فوق الأرض كما هي عادته وعيناه لم تبرح الفراغ حوله، جلس بصمتٍ مُطبقٍ عليه وهو يحاول إيجاد أي حلٍ يحرر أسره من هذا المكان، وقد أتى “مارسيلينو” يحمحم بصوتٍ خشن لفت نظر الآخر الذي ابتسم بسخريةٍ وقال:
_إيه مش عارف تقولي إنك هتديني بسكينة في ضهري؟.
_يا عمي ميبقاش قلبك أسود شبه وش باباك كدا.
هكذا رد عليه وهو يجاوره فوق الأرض وقد راقبه “نـادر” بعينين ثاقبتين فقال له الآخر بتقديرٍ لموقف مشاعره منه:
_عارف إنك ليك حق تخاف مني، بس أنا لو وحش مش هصارحك وأقولك يعني، كل الحكاية وقتها إن “مُـنذر” ساب الشغل هنا وساب “ماكسيم” بعدما حياته بقت أفضل عند عمه، وقتها كان مطلوب مني أخلص عليك وأخلي “مُـنذر” يلبسها هو، بس بما إنه صاحبي أنا مقدرتش أعمل كدا، فكان الحل البديل إن أنتَ تروح فيها ويلبسها “يـوسف” وقتها خبطتك وكان قصدي موتك بس شكلك قطة بسبعة أرواح.
زفر “نـادر” بقوةٍ ثم رفع رأسه للسماء وقال بتعبٍ:
_أنا تعبت، وزهقت ومليت من حياتي، حتى الموت طلع مش عاوزني، ياريتني كنت موت وروحت فيها بجد، على الأقل كنت ارتاحت من اللي أنا فيه دا، كل يوم بكرهه أكتر وبندم على عمري كله وهو بيعاملني كأني لعبة عنده، كل حاجة باظت كانت بسببه، وكل حاجة بتخرب برضه بسببه، سايبني العمر كله أعيش بذنب إني ابنه لما بقيت بكره نفسي، ياريته ما كان جابني الدنيا ولا هي وافقت تتجوزه..
أدرك من يجاوره أن مقصد الحديث هو والده لذا سكت عن الكلام ثم تركه يجلس وحده لعله يختلي بنفسه فيجد حلًا بدلًا من كُربة النفس تلك التي تملأ روحه وكيانه بالكامل، بينما في عند البوابة العملاقة فكان “ماكسيم” يخطو بعنفٍ وبمحاذاته يتحرك “سـامي” الذي سأله بلهفةٍ:
_يعني برضه هترسى على إيه؟ وليه مصمم تخلينا نتحرك؟.
التفت له الآخر يهدر بصوتٍ جامدٍ:
_قولت هننزل مصر خلاص، لازم ننزل نتصرف في الحاجة وندخلها المينا قبل ما تتكشف، ومتنساش مقابر السمان كلها لسه زي ماهي مليانة واللي خدناه مايجيش نقطة في بحر اللي لسه مدفون هناك، وأنتَ هتيجي معايا، هننزل مصر في أقرب فرصة وانتهى الكلام.
_طب وابني هعمل إيه فيه؟ أنا مش جايبه هنا علشان اسيبه وأمشي وانزل أنا مصر ما من الأول كنت سيبته هناك وخلاص.
هكذا أوقفه “سامي” عن المزيد من الخيالات السابحة في بحور الآمال وقد التفت له الآخر وقال بصرامةٍ لا تقبل تفاوض:
_حل من اتنين يا تجيبه ويواجه مصيره معاك، يا يفضل هنا وهو ونصيبه، يمكن يموت أو يتقتل أو يحصله أي حاجة، مش هوقف حاجة علشان حد واللي خطتله لازم يحصل زي ما رتبت.
وحديثه كان بنكهة التهديد لذا وقف “سـامي” بموضعه متيبسًا بينما الآخر تركه ومضى من جواره يدخل البيت قاصدًا أن يتجاهل هذا الذي لوهلةٍ سقط قلبه من محله على ابنه الوحيد، وقد حانت منه التفاتة للخلف نحو موضع جلوس ابنه البائس وحده بغير ونيسٍ أو رفيقٍ حتى وياليت قلبه يشفق عليه، وإنما المخاوف كانت على نفسه هو..
____________________________________
<“لولا هذا الشخص من كل العالم لكان كل العالم أهلكني”>
بعض الأشخاص عِبر..
وبعضها عطايا، ومن بين كل البشر يأتيك شخصٌ يصبح كطوق النجاةِ لأيامك العجاف التي تجرفت أرضها من الخيرات، قد يكون البعض درسًا والبعض لُغزًا لكن هناك البعض الذي يعتبر نجاةً وأمنًا، شخصٌ يقف معك أثناء مضمار الحرب، ولولا تواجده معكَ لكان أرهقك الدرب..
بعد مرور يومين..
وفي الليل القاسي كان “يـوسف” في أصعب حالته النفسية، ليلة التي تعرض فيها للاعتداء بالضرب داخل مبنى الإصلاحية كانت ليلة لم تبرح خياله حينما أجبره شابٌ متجبرٌ مثله في العمر أن يركع على رُكبتيه كي يُلثم قدمه وحينما رفض اجتمعت الغرفة بأكملها يضربونه وهو وحده بينهم، ومن ذكرى صعبة لذكرى أصعب تذكر ليلة محبسه الأولى في ريعان شبابه حينما كان متهمًا في جريمة سرقة ونهب وكيف كان يُعامل من المُجرمين..
جلس على حافة الفراش وحده يضم الشرشف بقبضتيه في محاولةٍ منه للتحكم في غضبه، وكلما تذكر كيف تم الغدر به بدلًا من المرة مئات المرات رغب في العنف أكثر، لذا لم يكبح جماح عبراته التي انفجرت من خلف قضبان الجفون وهو يحاول فهم السبب الذي وصل به لتلك الحالة، كانت حربه قوية على نفسه وهو وحده يواجه طوفان الذكريات وياليت الذكرى تمر..
تذكر والده الراحل حينما ترك فيه خير الأثر قبل أن يرحل من أيامه تاركًا إياه وحده في المعركة يواجه الأعداء من كل حدبٍ وصوبٍ، بكى وظل يحرك رأسه بقوةٍ هربًا من تلك الأصوات التي تلومه والأخرى التي تجلده والبعض الذي ينصفه، وما بين الكل والكل هو الخصم الأضعف في تلك الحرب لذا سقط من فوق الفراش جالسًا القرفصاء واستند على جدارٍ يضم رُكبتيه وصوت صرخاته لازال عالقًا بسمعهِ..
وقد فُتِح الباب فجأةً عليه وأقترب صاحب القلب الحنون يجلس على عاقبيه ثم مد كفه يمسح فوق خصلاته وحينها رفع “يـوسف” رأسه بتروٍ ليراه أمامه، كان يبكي وبمجرد أن وجده أمامه فرغ فاهه وتوسعت عيناه لا يصدق أنه أمسى أمامه، بينما “أيـوب” فابتسم له برفقٍ وقال بصوتٍ غلبه الحزن على حال رفيقه:
_هون عليك فما هي إلا دنيا..
وقبل أن يكمل كان “يـوسف” ارتمى عليه وتشبث به بقوةٍ ثم صرخ باكيًا بقهرٍ كأنه يشكو له قسوة أيامه، لم يجرؤ أن يتحدث بحرفٍ بل فعلها صوت أنفاسه المُضطربة، لم يجد من الكلام فصيح الشكوى لكن قبضة يده الواهنة فعلت، لم يستطع أن يعبر عن كمد روحه لكن صوت ضربات قلبه كان الدليل على ذلك، وقتها كان كمن ألقى نفسه في قارب النجاة بعد أن وجده وسط الطوفان..

تعليقات