رواية غوثهم الفصل المائة والسادس والثمانون 186 بقلم شمس محمد


 رواية غوثهم الفصل المائة والسادس والثمانون 


مُبكيةٌ هي نونيّة القحطاني،
ومنها ما يقول:
وَنَشَرْتَ لِي في العَالَمِينَ مَحَاسِنًَا
‏وَسَتَرْتَ عَنْ أبصَارِهِمْ عِصْيَانِي
‏وَاللهِ لو عَلِمُوا قبِيحَ سَرِيرَتِي
‏لَأَبَى السَّلَامَ عَلَيَّ مَنْ يَلْقَانِي
‏وَلَأَعْرَضُوا عَنِّي وَمَلُّوا صُحْبَتِي
‏وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كَرَامَةٍ بِهَوَانِي.
____________________________________
لقد كان العالم قاسيًا بما يكفي مع شخصٍ مثلي..
قاسيًا لتلك الدرجة التي جعلتني كل يومٍ أرافق الوحدة في الليلِ وأنا أتساءل هل تلك القسوة التي رماها العالم في وجهي كأنها صفعات تتوالى وتسقط بغير رحمةٍ كان قلبي يومًا يستحقها؟ هل حياة شخصٍ مثلي رقيق القلب يخشى خدش أحدهم ولو بمجرد نظرة عينٍ يستحق أن تُدمي الكلمات قلبه؟ لقد كنت دومًا الطرف الأكثر صمتًا أمام قتل الكلمات لي بطعناتٍ غادرة، ولعل ما أثار حزني يومًا ما هو أن تلك الكلمات التي قتلتني لم تخرج إلا من فم عزيزٍ كنت أحسبه بمقام كل عزيزٍ..
لكن لا بأسٍ لطالما كنت الطرف الذي اختار بكل طواعيةٍ منه أن يصمت ويتقبل جروح الكلمات له بصدرٍ رحب؛ بدلًا من ردها الصاع باثنين فيمكنني أن أهنأ بنومٍ رحبٍ وأنا المظلوم في قصتي ظالمٌ في قصص الآخرين، لكني أثق في قلبي تمام الثقة أنه حتى لو تعرض للظلم من أحدهم لن يجرؤ أن يرد الظلم ظُلمات حتى ولو في قلب القُساة عليه كما فعلوا هُم وغادورا تاركين خلفهم كلماتٍ لم تغادرني، كلماتٌ لطالما كان أثرها في قلبي عالقًا كما أثار الجروح الناتجة عن حروقٍ،
لذا أيها العالم، هذا هو قلبي وهذه هي قسوتك..
<“كان صديقي وجداري يوم أن سقطت عليَّ الجدران”>
من بين كل العالم الظالم سوف ينصفك شخصًا واحدًا..
شخصٌ ليس كما هؤلاء المُدعين الذين تخلوا عنك حينما سقطت الجدران وإنما هذا سوف يدخل وسط الجدران يمسك بيدك ويجرك من أسفل الركام، هذا الذي سوف تجده في الطريق صُدفةً يوم أن تهزمك كل الطُرقات، شخصٌ لو أخبره العالم عن مدى قُبحك لن يجرؤ حتى يستمع لبقية الكلمات دون أن يسترد لك حقك من العالم..
أثناء خلوته وهو وحده فُتِح الباب فجأةً عليه وأقترب صاحب القلب الحنون يجلس على عاقبيه ثم مد كفه يمسح فوق خصلاته، وحينها رفع “يـوسف” رأسه بتروٍ ليراه أمامه، كان يبكي وبمجرد أن وجده أمامه فرغ فاهه وتوسعت عيناه لا يصدق أنه أمسى أمامه، بينما “أيـوب” فابتسم له برفقٍ وقال بصوتٍ غلبه الحزن على حال رفيقه:
_هون عليك فما هي إلا دنيا..
وقبل أن يكمل كان “يـوسف” ارتمى عليه وتشبث به بقوةٍ ثم صرخ باكيًا بقهرٍ كأنه يشكو له قسوة أيامه، لم يجرؤ أن يتحدث بحرفٍ بل فعلها صوت أنفاسه المُضطربة، لم يجد من الكلام فصيح الشكوى لكن قبضة يده الواهنة فعلت، لم يستطع أن يعبر عن كمد روحه لكن صوت ضربات قلبه كان الدليل على ذلك، وقتها كان كمن ألقى نفسه في قارب النجاة بعد أن وجده وسط الطوفان، كلاهما كان في أشد الاحتياج لهذا العناق كي يترك قلبه يبكي قبل عينيه، ضمه “أيـوب” بقوةٍ والآخر يرتجف بين ذراعيه من قسوة الذكريات عليه ومما فعلته به دماغه..
أما “يـوسف” فكان يشكك في مصداقية لحظةٍ مثل هذه، كان يشعر أن رأسه وصل حقًا لحافة الجنون وألقاه بجوفها كي تصبح الخيالات مرئية بتلك الطريقة المُفجعة، عاد للخلف بخوفٍ في عينيه لمحه الصديق الذي ابتسم بوجعٍ وقال بحنوٍ يمازحه وهو يمد أنامله كي يمسح له عبراته:
_جرى إيه ياعم الخَّيال؟ شاطر بس تقولي أنا خيل حُر وطبعي حُر أومال فين بقى؟ دا أنا شايف قطة سيامي قاعدة قدامي، واضح إن الحَجَّة كانت بتبسبس لكم كتير وأنتوا صغيرين.
كان يمازحه بغلبٍ كي يتحدى القهر المرسوم فوق ملامحه وقد ضحك له الثاني رغمًا عنه ثم مسح عينه اليُمنى وهو يقول بصوتٍ مبحوحٍ يُجاريه في مزاحهِ بقولهِ:
_احمد ربنا إني في الحالة دي، علشان غير كدا كان زماني قايم ومعرفك إزاي تتكلم، إيه اللي جابك هنا؟ إيه اللي رماك على المُر؟.
في تلك اللحظة ابتسم له الآخر بنفس الحنان ثم قال بسخريةٍ مماثلة لتلك التي يتحدث بها رفيقه:
_اللي أمر منه، فيه أمر من إني أعرف إنك في ضيقة وماجيش ليك؟ جيت أقولك هون على نفسك دي دنيا، دينا فانية ميتزعلش عليها، أوعى المِحنة دي تخليك فاكر إنك ضعفت ولا حتى وقعت، بالعكس المِحنة دي تخليك متأكد من رحمة ربنا بيك، الابتلاء هِبة من الله يُعطى بغير دعاءٍ، ‏فترى حالك تُصاب بمرضٍ لأنَّ الله اختار لك المغفرة، وتُصاب بابتلاء لأنَّ الله أراد لك الرحمة، وتُصاب بالحزن لأنَّ الله سيجعلك تشعر بلذّة الفرح، رحمة الله لا تجفّ، لا تجفّ أبدًا، أنا هنا علشانك.
والجملة الأخيرة قد سبق وقالها هو ذات مرةٍ ولم يتخيل ولو لحظةٍ أن كلمته تُرد له ليختبر الشعور ذاته، لذا أومأ موافقًا له ببسمةٍ باهتة بينما “أيـوب” سحبه من كفه حتى استقاما سويًا وأجلسه فوق طرف الفراش ثم جلس أمامه وسحب زجاجة المياه يسكب منها في راحته ثم مسح بها فوق وجه “يـوسف” الذي ابتسم له بعينين دامعتين، فتحدث هو برفقٍ:
_”هوِّن عليك فما هي إلا دنيا.”
عُبيدة بن الجراح مُواسيًّا عُمر بن الخطاب قائلًا:
“يا عُمر،
إنّما هيّٰ أيامٌ ونَمْضِي؛ لا تحزن
فبكىٰ عُمر وقال:
كُلنا غَيّرتنا الدُّنيا إلّا أنتَ يا أبَا عُبيدَة
“الحمدلله أنها دنيا وستنقضي
الحَمدللّٰه أنَّها ليسَت دَارَنا ولا دِيارَنَا وأنّ المُستقر بجوارِ رَبِّ العَالمين.
الحمدلله أنها دُنيا وسَتنقضى،
وعسَانا فى الجنة نأنَس ويُؤنَسُ بنا
كل ما فيها مُتعِب، وكل من فيها مُتعَب
لبَّيك إنَّ العيشَ عيشُ الأخره.
عسانا في الجَنَّة نأنس ويؤنَس بنا ، حسبُنا أنَّنا نؤجر حتى على الهمّ والحُزن الذي يُصيبنا ، حسبُنا أنَّ التعب في أمرٍ ما سنُلاقيه غداً في ميزان حسناتنا بإذن الله لولا التَّصبُّر بالآخرة ورؤية الرحمن والجِنان ولقاء العدنان صلَّى الله عليهِ وسَلَّم لانخلعت الأكباد عند الابتلاءات”..
سكت هُنيهة ثم قال مُكملًا بنفس الطريقة:
_الحمدلله على البلاء لعل يعقبه العطاء، الحمدلله على المِحنة التي ستليها المِنحة، الحمدلله على الكُربة يوم أن تأتينا من بعدها الفُرجة، هون على نفسك إن كل فترة صعبة بتيجي هي تمهيد لفترة تانية أجمل وألطف، يعني ممكن يكون البلاء دا ضيقة حال تمر بيه فتفتكر ذنب كنت بتعمله فترجع في التفكير تاني وتبطل الذنب دا، ولما تبطل الذنب ربنا يفتح لك أبوابه، لعل ما تحمله نفسك تظنه أنتَ بالغًا على قدرة تحملك، لكن في الحقيقة ربنا بيديك الحمل وبيديك الطاقة اللي تتحمل الحمل دا، ربنا سبحانه وتعالى قال:
_”لا يُكلّفُ اللهُ نفسًا إلا وسعَها”
وإنَّ الله إذا كلَّف أعان، فلا تنظُر لثقل التكليف، وانظر لقدرة المُعين الذي لا يُكلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وسعَها ويقدر لها الحمل بقدر طاقتها وتحملها، وكل مسؤوليةٍ ألقاها الله على عاتقك.. أنتَ لها
فاستعن بالله ولاتعجز، أنتَ حقك تزعل مش هقولك لأ، بس أزعل لما الحاجة تكون تستحق الزعل، مفيش دنيا ولا ناس ولا حياة ولا أي حاجة تخلي الإنسان يزعل طول ما لسه فيه نفس والجنة مضاعتش منه.
كان الحديث في أوج وقته، تلك هي اللحظات التي كان ينتظر فيها “يـوسف” مثل هذا الحديث، تلك الكلمات التي أثلجت نيران قلبه جعلته يتنهد بقوةٍ ثم قال ببسمةٍ حنونة اقتبسها من وجه من يُجالسه:
_عارف؟ وأنا داخل هنا “جـواد” طلب مني رقم علشان لو حصلي حاجة يتواصل معاه، مفكرتش مرتين وأنا بحط رقمك وكنت متطمن إنك مش هتخذلني حتى قدام نفسي، وحطيت رقم “إيـهاب” علشان ولا مرة أداني ضهره، بس دلوقتي أنا لما شوفتك وسمعتك بتتكلم حسيت إن “مصطفى” لسه عايش مماتش، بشوفه فيك حتى في كلامه، كأن تعب الأيام اللي فاتت كلها دي كانت نتيجتها في وجودك معايا.
توقف عن الحديث ما إن تأثر “أيـوب” بينما مسح هو ببان أنامله عينيه ثم قال بصوتٍ مُحشرجٍ:
_لما سمعتك بتتكلم افتكرت أول مرة سمعت فيها منه قصص الأنبياء، ساعتها كل مرة كان بيقولي إن كل نبي ربنا بعته كان بيبتليه علشان المؤمنين يتعظوا ويقدروا على الابتلاء، كل مرة كنت بفرح أوي وأنا معاه بصلي وبذاكر وبسمع كل كلامه، دلوقتي فرحان علشان بسمع كلامك، بس ينفع تحكيلي قصة سيدنا “يوسف” وتقرأ ليا السورة علشان بتطمن وأنا بسمعها؟.
والصديق لن يرفض مطلبًا هكذا،
لذا ضمه لصدره مومئًا ببسمةٍ هادئة ثم مسح فوق صفحة وجهه من الجهة اليسرى وبدأ سرد الحكاية بأسلوبٍ منمقٍ وهاديءٍ وهو يسترشد ببعض الآيات فيحتاج لتفسير البعض والتذكير بالحكمة من البعض الآخر، أما الرفيق فهو ألقى رأسه وحمله على كتف صديقه، وصوت قلبه يشبه نوم الصغير في حجر أمه ينام قرير العين..
____________________________________
<“ألا ليت لطريقك بنفسي ما ذهبت”>
في تلك اللحظة الصادمة وحتى نهرب من قسوة الطريق، سوف نُدرك أن كل الخطوات التي خطوناها كانت بمحض الإرادة الكبرى في لحظةٍ لم نحسب لها حسابًا، لذا أي طريقٍ قصدناه ربما كان الهدف منه هي الوصول بقدر ما كان الهدف هو الهروب من طريقٍ أكثر قسوة، وما بين قسوةٍ وقسوةٍ سوف نختار تلك القسوة التي يهواها قلبنا..
في اليوم التالي بعد انتهاء فرض المغرب..
وبأحد المساجد الكُبرى في حي “السيدة زينب” جلس “بـاسم” على طرف المأذون الأيمن وعلى يساره جلس “نزيه” والد “شـهد” وقد حضر عقد القران كوكيلٍ ينوب عن أبيها في لحظةٍ كهذه، وقد حضر “مُـنذر” بزوجته معه ومعه “إسماعيل” أيضًا الذي شهد على عقد القران الغريب الذي أتى فجأةً على عجالةٍ وقرارٍ أهوجٍ من “بـاسم” الذي رفض الألم لها أكثر من ذلك..
أما هي فكان أنسب وصفٍ لها “رماد محترق”..
فهل يشعر الرماد بشيءٍ؟ هكذا كانت تشعر هي أنها مجرد رماد محترق لن يؤثر به شيءٌ مما يُحيط به، حتى لحظةٍ مثل هذه وهي تُضاف لرجلٍ آخر يحمل مسؤليتها وهي لا تشعر بأي شيءٍ، تشعر كأنها مجرد عارٍ يلتصق باسمه، تجلس وحدها بغير عائلةٍ ولا أي فردٍ سوى زوجة عمها التي أتت تجاورها، وعمها الذي رحب بكونه وكيلًا لها في عقد قرانها، وتلك الفتاة اللطيفة “فُـلة” التي تجاور “كِـنز” وتتبادل معها أطراف الحديث..
انتبهت من شرودها على صوت “بـاسم” يقول بثباتٍ وكفه يتلاحم مع كف “نـزيه” أسفل القطعة القماشية البيضاء:
_قبلت زواج موكلتك “نـورهان نبيل حسين الزاهي” على كتاب الله وسُنة رسوله الكريم والله على ما أقول شهيد..
_بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خيرٍ..
هكذا اُختتم عقد القران وهي تجلس هكذا بموضعها وقد انتبهت للمباركات التي بدأت تسقط عليها من نساء الحي وصديقات خالته والكثير والكثير وهي وسط الزحام تخشاهم جميعًا، ولولا تلك الجرعة الخفية التي تناولتها صباح اليوم لما كانت أكملت بهذا الثبات، لذا وقفت تبتسم بتوترٍ للجميع وهي توميء فقط بحركةٍ بالكاد تُرىٰ، حتى أتى هو وتحرك نحوها وما إن اقترب منها وجدها تهرول نحوه بخوفٍ، فضمها هو..!!
ضمها للمرةِ الأولى في حياته وهو يُحق له أن يضمها بعد أن أصبح له كامل الحق فيها، لذا ضمها بقوةٍ ما إن تذكر هذا الحق الذي لم يمر عليه سوى دقائق قليلة معدودة ثم همس لها بدفء الصوت العميق الذي يملكه هو:
_متخافيش من حد وأنا معاكِ، أنا سيبت كل الدنيا علشانك أنتِ.
كانت ترتجف وكأن قلبها يركض في نفسها بين ضلوعها، لذا ابتعدت عنه بعينين باكيتين ثم همست برجفةٍ هي الأخرى تزامنًا مع اهتزاز حدقتيها:
_أنا…أنا حاسة إني خايفة أوي، ودماغي مصدعة كأنها بتتكسر، ينفع نمشي لو سمحت؟ علشان خاطري.
أومأ لها موافقًا ثم مسح لها عبراتها بكفه وهو يبتسم لها، وقد سمح لنفسه أخيرًا أن يتجول بعينيه في شوارع تقاسيمها كما الهائم على وجههِ بغير هُدى، راقب صفاء عينيها اللامعتين بدفءٍ بني اللون يخالطه العسل الهاديء، ثم خصلاتها الناعمة التي عادت لأصلها ولونها البُني بخيوطٍ شقراء مخبوءة بين طيات الخصلات، وجهها المستدير بطابع حسنٍ مع غمزة خفية في الخدِّ الأيسر، ورسمة العينين الملكية، واكتملت الطلة بغرةٍ فوق الجبين تزينه..
ابتسم لها ثم مال عليها يهمس بوقاحةٍ:
_لا بس طلعتي حتة أصلي مش فِستك، كنت فكرك سَكة.
توسعت عيناها وحركت رأسها بغير فهمٍ فأكمل هو متابعًا نفس النهج بنفس الطريقة الوقحة بضحكةٍ خبيثة التقطها هي:
_أقصد يعني إنك طلعتي حلوة بجد، حلاوة تخلي العين فرحانة بالبصة ليكِ، معرفش المرة دي ليه بشوفك وأنا مرتاح رغم إني طول عمري قدامك قلبي مقبوض، قلبي اتقبض من أول مرة شوفتك فيها.
ولأنها أعجز وأضعف من أن تُجابهه لذا سكتت عن الحديث ورحلت من أمامه تجاور زوجة عمها التي ظهر الحزن جليًا فوق ملامحها وقد كانت هي في أصعب لحظاتها، تذكرت ابنتها الراحلة وهي تجلس هنا في عقد قران ابنة عمها، تلك المسكينة التي يسير أباؤها على نفس النهج السابق في التدمير، نفس المصير الذي أودى بابنتها كاد أن يُلاحق تلك التي تجلس أمامها، لذا أتت بلهفةٍ وأقنعت زوجها بالموافقة بدلًا عن أخيه، والآخر نظرًا للكسر الذي صدع روحه لم يرفض الاستجابة، بل أتى وهو يرحب بذلك كثيرًا..
في الخارج وقف “مُـنذر” بجوار رفيقه يبارك له ومعهما وقف “إسماعيل” الذي بارك له بودٍ له ثم قال بهدوءٍ يقترح عليه:
_فكك من حوار الشغل اللي أنتَ فيه دا، طالما ناوي تفتح بيت تعالى اشتغل معانا أحسن، أمسك الكافيه بتاع “يـوسف” أنتَ وخفف على “سـراج” وعليا وأظن يعني براحتك، مش هنكلمك في مواعيد وبهدلة وتأخير، براحتك خالص.
ابتسم له تقديرًا لموقفه ثم ربت فوق كتفه وهو يقول بنفس النبرة:
_تسلم يا “إسماعيل” كلك أصول وواجب، بس أنا لسه مش هقدر آخد أي خطوة دلوقتي غير لما أرتاح شوية بس وأكمل الحاجات الأساسية اللي موقف عليها كل حاجة بس أوعدك لو احتاجت أكيد هاجي لأخواتي يعني.
ودعه “إسماعيل” وتحرك من المكان بعد أن فضل يتركهما وحدهما ولأنه يعلم أن رفيقه مع زوجته وتواجده لم يشكل فارقًا فرحة بعد أن قدم التهنئة، بينما “مُـنذر” ألقى سيجاره ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_متقلقش، كل حاجة هتكون بخير والمكان دا تبع “جـواد” يعني مكان مضمون برقبتي، مش هتلاقي بقى حد هناك بيدخل حاجة ولا حد بياخد فلوس ويضحك على حد، أهم حاجة بس في الحالة دي هو وجودك معاها، دا هيفرق كتير أوي.
أومأ له “بـاسم” موافقًا ثم انتظر حتى وجد المكان بدأ يفرغ من حوله وقد اقترب منه “نـزيه” عم زوجته وهو يقول بهدوءٍ أوضح عليه الانكسار:
_ربنا معاكم ويسعدك، بس عاوزك تخلي بالك منها، أبوها حاليًا مش مدرك المصيبة اللي بيعملها وهو بيضيع بنته من أيده وواقف من بعيد فاكر نفسه شاطر، متخليهوش يشمت فيها ومتخليهاش تتحوج ليه في يوم من الأيام، ولو احتاجت أي حاجة أنتَ أو هي كلمني، وأنا في ضهركم.
كان “بـاسم” يعلم أن جرحه في ابنته “شهد” لم يبرأ،
لذا تقبل حديثه بصدرٍ رحبٍ ثم وعده بتلك النبرة الصادقة التي لم يخلفها هو في أي وعدٍ له:
_في عيني ومتقلقش عليها، وإذا كان على أبوها فأنا عملت اللي عليا بدل المرة ١٠ وهو لحد آخر لحظة مكانش مصدقني، علشان كدا منين ما تكلمه قوله إن بنته مش مستنية أي حاجة منه أو من حد غيره طول ما أنا عايش، وشكرًا ليك إنك جيت ووقفت معانا، كتر خيرك.
رحل عمها بعد ودعه وودعها وهي تقف بجواره وكفها يلتف مرفقه ولا تصدق أن تلك اللحظة حانت وأصبحت له، أما هو فكان يُسقط عينيه عليها وهز يتعجب كيف آلت به الأحوال حتى وقف هُنا وهي بجواره كفها يلتف حول كفه، واسمها أصبح مُلاصقًا لاسمه وقلبها أتى يُكمل الجزء الفارغ في قلبه كأنه خُلق خصيصًا كي يكون هُنا، لقد وقف وصمد ورفع صوته وتحدى وتجرأ كي ينل حُبه وحقه فيها..
تمامًا كما الثائر الحُر الذي انتفض لأجل الدفاع عن موطنه وأرضه، فكما سبق ونزل ووقف وسط الحشود، اليوم لأجلها يتحدى الحشود، كما سبق وصرخ مُطالبًا بالعيش والحُرية والعدالة الإجتماعية، اليوم صرخ مُناديًا بارتواءٍ من ظمأٍ كانت هي السبب الأول فيه وكأن نهره جف في حُبها، وكما صرخ يطلب بالحُرية فوق أرضه؛ أتى اليوم عليه ووقف يطلب بالأسرِ الذي لا ينفك في عينيها، وكما صرخ بالعدالةِ الإجتماعية؛ الآن وفي تلك اللحظة هو يقبل الظُلم ويرضى به لو كانت هي الظالمة في قصته، الآن الحُر قبل ورضخ أن يكون أسيرًا
وتلك المرة أسره هو الحُرية بذاتها..
____________________________________
<“كل شيءٍ كان في مكانه الصحيح حتى لمحته العين”>
لقد قالوا من سبقونا بالعمرِ..
أن كل الأشياء تبقى في نصابها الصحيح تحت رضا القلب حتى تلمحه العين وتبدأ أن تُغير مجرى كل شيءٍ، فلو لمحت العين الناقمة ما كان نعمةً في يد الإنسان، حينها القلب سوف يسعى لقلب الموازين بأكملها كي ترضى العين فقط..
في حارة العطار..
كان “أيـهم” يجلس مع “بـيشوي” في المكان يتابعان العمل مع “عبدالقادر” الذي كان يجلس يتابع معهما ويُلقي بعض الإرشادات بشأن العمل الجديد، وقد لاحظ “بـيشوي” وجوم ملامح رفيقه فسأله بنبرةٍ أظهرت التعجب:
_مالك بس؟ فيه حاجة مضايقاك؟.
حرك رأسه له نفيًا وقبل أن يُجيب وصلهما صوت همسٍ خافتٍ يأتي من جهة الباب حيث يدل على قدوم أحد الأشخاص:
_السلام عليكم.
التفتوا لمصدر الصوت وقد انتفض “أيـهم” من موضعه حينما لمح طليقته تقف على أعتاب الوكالة ورمقها بسخطٍ وعينيه اتقدت بهما النيران وهو يقف بتلك الهيئة وهي أمامه تتشح بالسواد بأكملها كأنها فقدت عزيزًا على نفسها _لم تجد أعز من نفسها كي تفقده_ حتى أن الليل ترك أثره فوق ملامحها وأسفل عينيها، كانت تقف أمامهم وهي تضم كفيها معًا وقد انتبه لها “عبدالقادر” فقالت هي بصوتٍ واهن:
_معلش يا حج أنا جيتلك وعشمي فيك كبير بعد ربنا، عاوزة بس أشوف “إيـاد” مرة واحدة من على بُعد حتى، مرة واحدة بس وهو بيضحك وفرحان، ولو ينفع بس يسلم عليا والله يبقى جميل في رقبتي وعمري ما هنساه، أنتَ متعرفش أنا والله العظيم بقالي قد إيه بحاول أشوفه، مرة واحدة بس والله مش عاوزة حاجة تانية.
توسعت عينا “أيـهم” من وقاحتها وجرأتها في طلبٍ هكذا منه، بينما والده فوقع في فخ الحيرة أمامها وخاصةً هي تحدثه بهذا الانكسار، وعلى العكس تمامًا كان “بِـيشوي” الذي قال بصرامةٍ وقوة طبعٍ حاد:
_وهو دلوقتي بس افتكرتي إنك ليكِ ابن؟ ليه مصممة تعيشي دور الضحية وأنتِ جاني أصلًا، جنيتي على الكل وقبلهم نفسك لما ضيعتي من إيدك كل حاجة كانت عندك، بيت ستات الحارة كلها تحلم بشباك فيه، وعيل غيرك بيتمنى ضافر منه، وراجل كان مخليكِ متهنية ومستتك وعمره ما رفع عينه فيكِ بكلمة تزعلك، بس أنتِ بقى غبية، عينك شافت وطبعت وقلبك ضيع كل حاجة منك، وجاية دلوقتي تسألي على ابنك؟.
بكت وهي أمامهم وهي تعلم أن تلك السكاكين التي تنغرس منه في قلبها تستحقها هي دون ذرة إيلامٍ منها، لذا سكتت لبرهةٍ ثم قالت بصوتٍ خفيضٍ بالكاد يُسمع:
_أنا والله مش جاية أخرب عليه حياته، أنا بس جاية أشوف الحاجة الوحيدة النضيفة في حياتي، مرة واحدة بس أشوفه ومش هقرب منه تاني ولا هاجي هنا ولا أمشي من نفس الشارع حتى، بالله عليك يا حج وافق.
كان في أصعب المواقف التي مرت عليه، وقف لا يعلم أيهما يُرجح؛ صوت العقل الذي تغلبه الحكمة وهو يخبره ألا ينجرف خلف خديعتها أم يُنصت لصوت القلب الذي أخبره في النهاية أن هي أمٌ ومهما كانت القسوة في قلبها ومهما كانت طباعها، ستظل فطرتها كأمٍ تغلبها، لذا تنهد بقوةٍ ثم قال بصوتٍ رسم فيه الثبات:
_إحنا يا بنتي والله عمرنا ما جينا عليكِ، عمرنا ما ظلمناكِ ولا حتى حد فينا رفع عينه فيكِ، بس أنتِ جيتي علينا كتير، بهدلتينا قدام الخلق واتكلمتي في حقنا وقولتي إننا بنعاملك زي الخدامة طالما لينا مصلحة عندك، فتحنالك بيتنا وكنت بعتبرك بنتي التانية وياما جيت على ابني علشانك وكنت بظلمه كل مرة أخليه ييجي على نفسه علشانك، بس ولا مرة كنتِ تستاهلي الخير دا، كل مرة كنت بشوفه تعبان وهو بيحايل ويهادي كأنه بيعامل عيلة صغيرة وهي مصممة تيجي عليه، بس طالما أنتِ أم وعاوزة تشوفي ابنك حاضر، بس لو هو وافق يشوفك، واحمدي ربنا إني هجيب سيرتك من تاني معاه.
هكذا أخبرها نهاية حديثه بصرامةٍ قاطعة جعلتها توميء له موافقةً بلهفةٍ ثم اقتربت منه وهي تقول بصوتٍ منكسرٍ تستجديه وتستطعف الجزء الرحيم بقلبه:
_والله العظيم عرفت قيمته وقيمة اللي عندي لما راح مني، أنا مش عاوزاه زعلان ولا عاوزاه متضايق، أنا بس عاوزة أشوفه وأملي عيني منه حتى لو مرة واحدة بس يبصلي فيها وخلاص حتى من غير كلام، وربنا يباركله في أمه ويفرحه معاها، أنا ماليش وش حتى أظهر قدامه.
كان كلًا من “أيـهم” و “بـيشوي” يتابع الحديث بنظراتٍ ساخطة والنقم يتقطر من عيني كليهما وقد لمح ذلك “عبدالقادر” فأضاف مُكملًا كي يُنصف ابنه:
_بس لأجل الحق وعلشان خاطر ابني لو هو راضي إنك تشوفي ابنك يبقى كان بها ولو هو مش موافق يبقى خلاص، ورأيه هو قبل رأي ابنه وبكدا أبقى رديت اعتبار ابني بعد اللي حصل كله.
هدأت النيران في قلب “أيـهم” وشعر أن الطاولة تستدير له كي يأخذ من فوقها حقه، لذا رفع رأسه بشموخٍ كأنه يتحدى ضعفها بمركزية قوته:
_لو عليا أنا أصلًا مش عاوزه يجيب سيرتها تاني، هي فكراني لسه أبو قلب طيب اللي بيحن في الآخر، بس دا كان الأول، إنما دلوقتي مشاعري كلها حتى لو كانت الكره مش من حقها، ولو هي ناسية أنا مش ناسي، ابقوا فكروها إنها باعت ابنها وقبضت تمنه كمان وقهرته على نفسه، خليته بيخاف يتعامل معايا علشان فاكر إني هبيعه أنا كمان، خليها تشرب وتدوق من اللي عملته هي.
وحديثه أكمل الطعنات في الجرح النازف فقط..
لم تقو على الرد أو الدفاع عن النفسِ أو حتى مُجابهة النظرات الحادة، هي فقط أدارت جسدها بانكسارٍ ثم طأطأت رأسها للأسفل بانكسارٍ ثم سارت هائمةً على وجهها من جديد تهرب لمرقدها منذ أن عادت لأرض الوطن تختبيء فيه، كأنها بذلك تُنكر وضعها وما آلت إليه..
فنحن دومًا ما نلجأ للإنكار؛ حتى نهرب من لحظة طيشٍ دفعنا خلالها الثمن أكثر من المُستحق، هُنا، حيث اللحظة الفارقة حينما نفيق على الفاجعة الكبرىٰ
أن ما فات في العمر لن يُعاد،
وأن ما مر علينا منه حتى الآن منه لم يُستفاد،
فأي بكاءٍ هذا نبكيه؟
وهل ما ضاع من العمر بقدر ما فيه؟..
____________________________________
<“وأنا كُلي حنينٌ لكن تغلبني المسافات”>
البُعد لوعةٌ ما بعدها لوعة..
والقرب رحمةٌ وما أقربها من راحةٍ،
فتجد المرء بعيدًا عن أحبته ضعيفًا كمن يقف في حربٍ وحده حاملًا معه كل سلاحٍ يقويه، حتى يكون برفقة من يحبهم تجده يخلع عن نفسه كل الأسلحةِ ويرميها
وكأنه وجد السلاح الأقوىٰ من كل سلاحٍ..
كانت تجلس تفكر في عرضه عليها، ولازالت أسيرة في موقفه وحديثه معها منذ ما يُقارب الساعتين، كانت تجلس في صمتٍ وهي تبتسم ببلاهةٍ كمراهقةٍ سقطت في شباك الحب وأجاد الصياد التقاطها من مخبئها، كُلما تذكرت العرض وطريقته المهذبة ابتسمت بسعادةٍ، حتى أن معلومة تواجد ابنته في حياته لم تشكل معها أي فارقٍ وإنما هي رحبت بالفكرة، شعرت أن الحياة التي كانت تنقصها أتت لها في مرةٍ واحدة، وقبل أن تبدأ الصراع مع الذات، كان صوت قلبها يخبرها بتهكمٍ:
_يعني مهما كان وضعك في الجوازة دي مش هيكون أصعب من وضعك في جوازتك من “عـاصم” وأنتِ كنتِ مجرد ست محسوبة كمالة من ضمن الكماليات عنده، ضحيتي علشانه بكل حاجة وفضلتي في ضهره وهو ما صدق باعك لما لقى ليكِ غلطة واحدة بس، دا بيحبك وباين عليه، حتى لو هو راجل مش مجرد شاب بيدور على حب عمره بس أنتِ مش هتقدري تكملي لوحدك كدا، حقك تتحبي بجد وحد يقبلك بعيبك ومميزاتك وبكل حاجة فيكِ.
زفرت بقوةٍ وقبل أن تتحرك أتت “فـاتن” تجلس بقربها وهي تقول بصوتٍ ظهرت فيه الراحة بعد أن حدثها ابنها صباح اليوم أخيرًا:
_ها يا عروسة؟ قولتي إيه موافقة؟.
انتبهت لها لتخرج من قوقعة شرودها وقد لمحت الفضول في عيني الأخرى فقالت لها بقلة حيلة:
_مش عارفة يا “فـاتن” بس محتارة، أنا معرفش عنه حاجات كتيرة غير إنه بس دكتور هنا وبقالي تقريبا خمس شهور بشوفه وبتعامل معاه بكل أدب واحترام، هو برضه ذوق وشهم وباين إنه ابن ناس ومتربي، فمش عارفة بصراحة، العمر مش حمل غلطات تانية زي دي، خايفة أورط نفسي أو أورطه هو فيا أنا.
اقتربت “فاتن” منها أكثر ثم قالت بصوتٍ حماسي:
_بقولك إيه باين بجد إنه بيحبك، أنتِ قولتي شهم وذوق ومحترم، بعدين أنا عارفة إنك مش بيهمك كلام الناس وإلا كان زمانك زعلانة وخايفة من الكلام، بس أنتِ مش هتعملي حاجة غلط، أنتِ أتطلقتي من “عـاصم” وحقك تتجوزي وتعيشي حياتك، على الأقل تعوضي نفسك عن السنين اللي ضاعت منك عليه وهو حتى مبيقدرش دا، وافقي وعيشي حياتك علشان اللي ضاع منك مش شوية، خدي حقك الباقي من الدنيا راحة بال مع راجل يحبك، متزعليش مني، لوحدك هنا هتعملي إيه؟.
شردت “مادلين” أمامها في الحديث وظلت على حالها الصامت بسكونٍ وقد عاد حديث الطبيب يراود فكرها حينما قال لها بصدقٍ دون أن يُخفي مشاعره عنها:
_أنا عارف إن الموضوع جاي بسرعة معاكِ بس أنا والله بقالي شهور كتيرة بفكر في الموضوع بكل جدية، عاوز أقرب منك ومش عاوز أعمل حاجة غلط تخليكِ تتحطي في موقف سخيف أو كلام يضايقك، و “مُـحي” بصراحة شجعني كتير وجيت علشان آخد خطوة، وعارف عنك كل ظروفك وكل حاجة، وعلى فكرة أنا معنديش أي مشاكل ولا حتى عاوز أعرف سبب الانفصال، بس عاوزك أنتِ معايا، وياريت تحسبيها صح.
تنهدت بقوةٍ وقد حسمت أمرها أخيرًا..
كان الأمر لأول مرةٍ يتوافق بين العقل والقلب وكأن كلاهما تعب من كثرة النضال على شيءٍ لم ينل منه سوى المتاعب، لذا لاذت بالصمتِ أمام كليهما تاركة القرار يأخذ مجراه في عقلها وقلبها..
____________________________________
<“إذا رأيت سبب الكارثة دعه لكوارث نفسه”>
إن المرء لا يُشقى بمن حوله وكأن العالم لا يعنيه،
وإنما المرء بذاته يترك نفسه لعداوتها وكأن نفس المرء هي ما تُشقيه، لذا العدو الأول للفردِ يكمن في نفسه التي تفرض عليه سطوة التحكم والجلدِ، مجرد نفس ساكنة وواهنة تأمر القلب بكل ما يجعله يقع في أخطاء الهوىٰ؛
فياليتنا لأنفسنا ما سمعنا ولا القلب هوىٰ في الهوىٰ..
بدأ يهدأ من توتره أخيرًا بعد أن عاونه “مارسيلينو” في مهاتفة أمه صباح اليوم وما إن أطمئن عليها هدأت نيران قلبه وبدأ عقله يستهدى أخيرًا حينما وصله صوتها، ولأجل الحق هدأ نصف قلبه والنصف الآخر ظل مشتعلًا بنيران الأحطاب بسبب غياب صورة “حـنين” عنه وعن عينيه، كلما تذكر والده وهو يقوم بتقطيع تلك الصورة أراد أن يتحرك ويقطع رأسه عن عنقه كما تسبب في إشعال النيران بقلبه..
أتى “سـامي” ووقف بجوارهِ وهو يقول بغلظةٍ وفظاظةٍ:
_أعمل حسابك هننزل مصر مع بعض قريب، مش هسيبك هنا، بس لما ننزل أنتَ هتفضل تحت عيني، مش هقدر أسيبك لوحدك برضه، علشان أنا متأكد إنك غبي وهتضيع نفسك وتضيعنا وتضيع كل اللي أنا ببنيه، وبالنسبة لحق “يـوسف” و “قـمر” بقى فدي حاجة متخصكش، الحق دا حقي اللي أبوهم كان واكله مني وهو بيذلني وبيعايرني وأنا وسطهم؟ بتحبه أوي كدا؟ أومال عملت اللي عملته في ابنه دا ليه؟.
آنذاك وقف “نـادر” في مواجهة أبيه يُرشقه بنظرات نارية حادة ثم رد عليه باستهزاءٍ يُقلل منه ومن حديثه:
_أنتَ بجد مصدق نفسك؟ يعني عايش دور الضحية وعامل فيها إن العالم كله جاي عليك وبصوا الناس وحشة إزاي، بصوا أنا بحارب وسطهم إزاي؟ أقولك على الكبيرة كل الناس زبالة وتقرف، وكل الناس حابين دور الضحية، مع إن الضحية بجد قرر أن يسيب الأذى يوصله ويتاخد كوبري علشان كل واحد عاوز يوصل لحاجة يوصلها، وكفاية أوي ظلمك للناس اللي جيت عليهم وخدت منهم كتير، دا أنتَ لولاه كان زمانك لسه مالكش لازمة ولا حد يعرفك أصلًا.
كاد “سـامي” أن يصفعه فوق وجهه لكنه عاد للخلف يحمي نفسه من صفعة والده ثم أمسك كفه وقال بصوتٍ هادرٍ أعرب عن غضبه الأعمى:
_إيه؟ فاكرني لسه هخاف منك ولا هفضل السلبي الساكت دايمًا علشان خاطرك؟ أنتَ فعلًا خدت أكبر من حجمك في حياتي وحياة الكل، هبقى عليك ليه وأنتَ ولا مرة بقيت عليا؟ كل مرة كنت بتفضل نفسك علشان أنتَ أناني وبس، ولما جاتلك الفرصة سيبتني ومشيت واديتني ضهرك، بس أنا لما أوصل هناك بالسلامة هسيبك وأقولك أنتَ مع السلامة، يحصلك مهما يحصلك أنا ماليش دعوة بيك، ودا كدا آخرك معايا خلاص.
طالعه “سـامي” بنظراتٍ نارية وقد صدمه رد فعل ابنه بينما الثاني جلس ببرودٍ كأنه لا يكترث بمن يقف أمامه ثم عاد للخلف وقال بجمودٍ قاصدًا ومتعمدًا أن يصل هذا الشعور لوالده:
_وحاجة كمان هقولهالك، أنا متغيرتش خالص بالعكس، أنا لسه زي ما أنا بس مع اللي يستاهلني أكون أنا، إنما أنتَ بقى فمتستاهلش مني غير إني أتعامل معاك بالوش اللي أنتَ تستاهله، علشان أنا مش قادر أقبل فكرة إنك للأسف تستاهل مني أحسن معاملة، أنا هعاملك بمعاملتك اللي أنتَ سبق وعاملتهالي، علشان تعرف إن المعاملة بالمثل بتزعل، وكلمة أخيرة ليك، اللي أنتَ بعتني علشانهم وعلشان نفسك، بكرة هما اللي هيبيعوك وبأرخص سعر كمان، بس الأيام دول وأنا مستنيها وهي بتيجي عليك وساعتها هشمت فيك بصراحة.
لم يجد الآخر ردًا يجاوب به، بل ترك نظراته تتحدث عن حاله وهو يرى ابنه بهذا التجبر، لذا التفت وقرر أن يرحل من المكان وقبل أن يخرج نهائيًا من الغرفة وقف يقول برفعة أنفٍ وشموخٍ كاذبٍ:
_بكرة أنتَ بنفسك تقول ياريتني كنت فضلت معاه.
ابتسم “نـادر” بسخريةٍ وراقب انسحاب والده من المكان أمام عينيه وهو يتمنى لو يعود الزمن به هو وأمه فترفض تلك الزينة من الأساس قبل أن يأتي هو ويصبح النتيجة الحتمية لهذا القرار الأهوج الذي دمر حياته حتى قبل البداية، كان يجلس في كربٍ منزويًا على حاله بعدما خلع عن وجهه قناع الجمود الزائف وعاد للحقيقة المُرة وهي أنه برغم بعده؛
“يغلبه الحنين وهو كله حنين لحنين”..
____________________________________
<“آهٍ لو كل شيءٍ كان يصير بنفس قوة الطير”>
في بعض الأحايين كل الأشياء التي تصير تغلب المرء..
فيعود منكبًا على حاله في صبابته منفردًا وحده ومتفردًا بتعبه، أشياء تحدث من خلف عدة أبوابٍ وكل بابٍ يُخبيء خلفه كارثة لا يعلم عنها أي شيءٍ، فآهٍ لو كانت الحياة أخف وآهٍ لو كانت قوة إرادته كما قوة الطير..
حل المساء كله وازدادت العتمة طُغيانًا..
ففي سكون الليل الطاغي والصمت المُطبق وفي وضعٍ جديدٍ تحركت “نـورهان” من غرفتها تزحف فوق رؤوس أصابعها كي لا تلفت الأنظار نحوها، لم تستطع أن تقاوم أكثر من ذلك حتى لا تأخذ الجُرعة المُخدرة، كلما تذكرت أمر عقد قرانها وتخلي والديها عنها عاد التعب يبلغ أشده عليها، لذا قررت أن تهرب من واقعها المؤلم هذا في جرعةٍ مخدرة تستغل فيها غياب “بـاسم” عن البيت بعد أن غاب منذ عقد القران..
اقتربت من الطاولة الموضوعة بصالة البيت كي تأخذ منها الجرعة بعد أن وضعتها فيها بحركةٍ هوجاءٍ وما إن أخرجتها ووضعتها في كفها عادت صورته ترتسم في خيالها، عاد صوته وهو يهمس لها عن انتصاره فيها فشعرت بالخيبة تصيب قلبها قبل قلبه لذا هرع الدمع من عينيها مدرارًا وارتمت على رُكبتيها ومن ثم ألقت الكيس من كفها بطول ذراعها وفي تلك اللحظة كان بالفعل وصل هو..
وصل وشهد بعينيه عليها وهي تنهزم وتنتصر في آنٍ واحدٍ، رآها تستند على الطاولة بكفين واهنين وصوت البكاء بدأ يعلو ويشق الصمت شقًا، لذا اقترب منها يمسح على رأسها وما إن تلاقت الأعين ببعضها وتواصلت المُقل؛ لمح الاحتياج في نظراتها، وقرأ القهر في عينيها وفوق ملامحها لذا ضمها لصدرهِ بقوةٍ يغلق عليها في مدينة عناقه بين ذراعيهِ وهو يردد بشفقةٍ عليها:
_بس، بس علشان خاطري بس، والله العظيم لو هيريحك هسيبك تاخديه بس دا بيضرك أنتِ وياكل في جسمك، مش عاوز أخسرك وأنا ما صدقت لقيتك، مش عاوزك تضيعي مني زي ما أنا ضيعت من نفسي، أنا لقيت نفسي الضايعة مني فيكِ أنتِ، بلاش تخليني أحس إنك هتضيعي مني، ساعديني علشان أعالجك وترجعي تقفي على رجلك، أنا هبقى كويس وأنتِ كويسة قدامي.
كان يرجوها أن تُنصت له وهي بين ذراعيه تبكي بتعبٍ وقد رفعت كفها تتشبث به وهي تقول بلهفةٍ تستجديه بدلًا من أن يرحل عنها ويمل صُحبتها وقُربها منه:
_علشان خاطري خليك معايا ومتسبنيش لوحدي، أنتَ آخر أمل ليا في الدنيا دي بعد ما كل حاجة جت عليا حتى أنا ذات نفسي، عارفة إني وحشة ومقرفة كمان بس أنا نفسي حد واحد بس يقولي أني على الأقل فيا حاجة حلوة، حاجة واحدة بس، خليك علشان خاطري معايا، كلهم بيمشوا لما يزهقوا بس محدش فيهم حتى بيحاول يساعد.
عادت من جديد المقل تتلاقى مع بعضها فضمها من جديد لصدره وقد جلس بوضعٍ أكثر راحةٍ له ومد كفه يُخلل أنامله في خصلاتها ثم تنهد بقوةٍ وقال بصوتٍ دافيءٍ ورخيمٍ:
_كل حاجة تغور في داهية بس أبقيلي أنتِ، عارفة؟ أنا كل يوم كنت بهرب من اللحظة دي، لحظة وقوعي فيكِ وأنا قاعد جنبك كدا وبحاول أبعد عن طريقي في طريقك، بس كل يوم كنت باجيلك تاني، فكرتني بالبلد دي، كل يوم الواحد يكره حياته وعيشته فيها ويفضل خايف منها ويبعد ويغيب عنها ويتوه ويفضل أمله بس يموت في أرضها مش في الغُربة، أهو أنا عاوز الموت حتى يكون معاكِ أنتِ، مش عاوز أفارقك لا حي ولا ميت، نفسي أشوفك أحسن واحدة في كل الدنيا من غير أي وجع حتى، علشان كدا دورتلك على المكان اللي اتطمن عليكِ فيه، موافقة؟.
سألها بخوفٍ وترقبٍ من رفضها وقد توقع هذا الشيء منها، توقع أن ترفض هي وتُصر على هذا الشيء لكنه لمح الاستسلام في عينيها وهي تضع رأسها فوق كتفه ثم قالت بخضوعٍ له:
_قبل كدا مكانش عندي حد أعمل كدا علشانه، دلوقتي أنتَ موجود أهو وهروح علشانك أنتَ، علشان أنتَ تستاهل أحاول علشانك، طالما أنتَ معايا وهتساعدني، وزي ما قولتلك لو بعدها عاوز تطلقني حتى أنا مش هعارضك.
ابتسم هو مُرغمًا ثم ضمها ولثم قمة رأسها بعمقٍ ثم عاد وضمها لصدرهِ وترك نفسه معها لصفو تلك اللحظة النادرة، هي تتشبث به وتسكن بجوارهِ وهي لأول مرةٍ تدرك قيمة وجود حياة بعض الأفراد في حياة الآخرين وكأنهما نجمة وقمرٌ في سماءٍ واسعة معتمة يستأنس كلاهما بالآخر..
وقفت “كِـنز” على مقربةٍ منهما عند مقدمة الرواق وقد لمحت ابن شقيقتها وهو يحتضن زوجته ويتمسك بها فتنهدت براحةٍ أخيرًا كونه نال جزءًا من راحته المفقودة ولمعت العبرات في عينيها تأثرًا بغياب شقيقتها في مثل هذا اليوم، وقفت تراقبه حتى نامت “نـورهان” بجواره فضمها هو له أكثر ثم سحب كفها يُلثم باطنه وعاد يراقب ملامحها وهي غافيةً بجوارهِ كأنه أبٌ يشرد في مولودته الأولى فلم يصدق أنها أصبحت معه وأمامه نصب عينيه..
قصته معها تشبه قصة نضاله لأجل الوطن..
قصة كفاحٍ في حبٍ لم يُجنِ منه إلا الكوارث وفقط،
لكن لو كان تواجدها هي بكارثةٍ، فحبه لها أم الكوارث بذاتها،
والقلب الساذج لازال مُرحبًا ومستعدًا للمزيد من الكوارث
لو كانت هي سببها..
____________________________________
<“يأتي الليل ويوقظ معه أقسى الحكايات”>
في الليل دومًا يسهر المتعبون ويتألم المجروحون..
وكأن الليل خُصص للسهر واستيقاظ الجروح التي لا تبرأ مهما مر عليها الوقت، لكن كان يتوجب أن يتألم كُلٌ منا بجراحه عن قرب وكأن تلك هي المشاركة، فالحياة أبدًا لم تكن مجرد رياضة تحتاج للمشاهدة فقط، فلو أمضيت حياتك بأكملها تُشاهد، سوف تأتيك اللحظة التي ترى فيها حياتك تمضي بدونك
لذا كان علينا أن ننتقل للجانب الآخر من المخاوف،
كي نواجه ما كان يؤرق ليلنا..
كان “أيـوب” في بيته يُقيم ليله وخلفه “قـمر” كعادةٍ لهما سويًا كل يومٍ مع بعضهما، هو القائد لهذا البيت وهي خلفه تُسلم الأمر له، هو الذي يُقوم خطواتها إن أعوجت، وهو الذي يمسك بكفها إن ضلت الطريق، لذا كان أكبر الانتصارات في حياتها أنها أصبحت تقارن به هو، أنهى الصلاة وجلس يُسبح على أنامله وأناملها معًا كي يتقاسما الأجرِ سويًا، أما هي فكانت تبتسم له ثم تحركت ولثمت وجنته بحبٍ جعله ينتبه لها ثم سألها بعينيه مشككًا في فعلتها:
_بت !! مش عاوز شقاوة وقلبة دماغ مش مرتاحلك، عاوزة إيه وأنتِ حلوة أوي كدا وشكلك مش مريحني؟ مقلق منك بصراحة.
ضحكت على طريقته وهي تقول بتأنيبٍ مفتعلٍ:
_إيه يا “أيـوب” علطول كابسني كدا؟ أنتَ الخسران عمومًا.
رفع كلا حاجبيه لها وضيق جفونه لكنها عادت وقالت بحبٍ له:
_كل مرة بحس إني مبسوطة بيك أوي، بفضل أقول يا رب يكون عندي ابن زيك وأقدر أربيه نفس تربيتك وأخلاقك، اللي زيك يخلي الناس يفرحوا طول عمرهم رغم إنه بيعيش هو نفسه في مشاكل ودوامة ملهاش أول من آخر، علشان كدا بحبك وبحب نفسي لما أنتَ حبيتها.
ابتسم هو لها بحنوٍ ثم لثم جبينها ووضع رأسها فوق صدره يضمها باحتواءٍ له وقد تركت هي نفسها معه وهي تتنهد بقوةٍ وقلبها الخائف يحاول أن يتمسك ببعض الهدوء بدلًا من عواصف الخوف الهوجاء التي تضربه في مقتلٍ وهي تشعر أن هناك ضررٌ يصيب عزيزًا عليها وصوت قلبها يُخبرها أن “يـوسف” هو الذي يحتاج لها ولعناقها..
وفي الجهة الأخرىٰ..
عند “يـوسف” بداخل مشفى الأمراض العقلية كان يجلس وبجواره “جـواد” وهو على أذنه الهاتف يتحدث مع زوجته تحت نظرات طبيبه الذي كان يدفعه للتكملة، كان يتحدث معها وهي تستفسر وتطمئن عليه وعلى أحواله وعن سبب غيابه حتى قال هو بنبرةٍ متعبة ومُنهكة:
_عارف إني مقصر معاكم كلكم بس والله مفيش شبكة والتليفون هنا ممنوع علشان بريمة البترول خطر يكون قريب منها أي جهاز وعلشان طول اليوم بكون مع العمال ومش بدخل غير بليل، النهاردة بس اتمشيت شوية علشان أعرف أكلمك.
تنهدت وهي تحاول تكذيب صوت قلبها وقالت بصوتٍ كذبت خلاله وهي ترسم عليه الاطمئنان الكاذب:
_طب الحمدلله، عمومًا إحنا بخير كلنا هنا ناقصنا بس نشوفك، وعلى فكرة “ضُـحى” بقت كويسة أوي و “إسماعيل” كمان بقى فاكر حاجات كتيرة أهمها حياته مع “ضُـحى” وعلى فكرة رجعوا تاني للخناق على الفرح والتفاصيل ودا مؤشر كويس، والدنيا ماشية كويس الحمدلله، كلنا بخير فاضل بس تكون معانا.
طاف بعينيه في المكان ففهم عليه الطبيب لذا تحرك وتركه وحده بينما هو زفر بقوةٍ ثم قال أخيرًا بنفس التعب الذي بلغ عليه أشده:
_بصراحة !! أنا تعبان أوي هنا، تعبان وحاسس إن الدنيا بتضيق بيا كأني في قبر، ماكنتش أعرف إني هكون تعبان ومضغوط كدا بس دا اللي حصل، حاسس إني محتاجك علطول جنبي، من ساعة ما جيت هنا مش حاسس إني محتاج حاجة غير إنك تكوني معايا وماسكة أيدي علشان أكمل، كل حاجة جوايا بتقتل في التانية والحرب دايرة جوايا، والخيبة بجد إني سواء انتصرت أو انهزمت فأنا محاربتش غير نفسي في النهاية، أنا عاوزك تكوني معايا.
كان يتحدث بمطلق الصراحةِ دون أن يُخبيء كلمة واحدة أو يتركها مكتومة في سريرته، لذا لاحظت هي ذلك وأصاب الحديث قلبها بوابلٍ من هواجس الخوف أسفرت عن سقوط قلبها من موضعه فقالت بلهفةٍ:
_فيه إيه يا “يـوسف” ومال صوتك كدا؟ أرجع طيب وتعالى ليا، أو قولي أجيلك إزاي وأكون معاك؟ مشيت ليه ووافقت تروح مكان زي دا بيتعبك؟ ما كنت خليتك معانا هنا والحمدلله معاك اللي يكفينا، ليه يا “يـوسف” تعمل كدا في نفسك وفينا؟ تعالى ليا يا حبيب عيوني وأنا والله لو هاكلها معاك بملح بس راضية، دا مش صوت واحد كويس حتى ولو لساعة..
كان في تلك اللحظة يود أن يصرخ ويبكي ويقوم بتكسير كل شيءٍ حوله ثم يرتمي عليها تضمه هي كما تفعل دومًا لكن تلك المرة تحديدًا كانت المقاومة السبيل المفروض عليه، لذا زفر بقوةٍ ذاك النفس الذي خرج منه متقطعًا ثم قال بثباتٍ كاذبٍ:
_أنا كويس، كويس علشان سمعت صوتك وعرفت إنك بخير، عاوزك تدعيلي يا “عـهد” وتخلي بالك من نفسك، عاوز لما أجيلك ألاقيكِ بخير علشان أنا كمان أكون بخير، عاوزك بس تخلي بالك من “قـمر” علشان أنا حاسس إنها مش بخير للأسف، طمنيها وخليكِ معاها وأنا لما آجي هطمنك بمعرفتي.
رسم الوقاحة في حديثه الأخير وقد ضحكت هي رغمًا عن أنف حزنها وقالت بغلبٍ على أمرها معه:
_ياربي مفيش فايدة فيك وفي وقاحتك، بس أعمل إيه؟ وحشتني ووحشني شخصياتك الكتير اللي لحد دلوقتي مش عارفة أنا حبيت مين فيهم، وحشني التوتر اللي كنت بتوترهولي وأنتَ معايا.
وفي تلك اللحظة ضحك هو أيضًا ثم تنهد وابتسم حينما تذكر الماضي الذي كان سببًا في جمعهما سويًا، لذا قال بردٍ يُشابه الرد القديم الذي قاله لها:
_مش مهم أنا مين وشخصياتي مين، حتى لو كنا ١٠٠ مع بعض فكلنا اتفقنا عليكِ أنتِ وعلى حُبنا ليكِ، في النهاية كلهم بيكونوا واحد وهما عندك، خلي بالك من نفسك يا “عـهد” علشان خاطري، أنا ماليش غيرك أرجع أقوله كل اللي فيا.
وهكذا ختم مخابرته الهاتفية معها ثم سلم الهاتف لـ “جـواد” الذي ابتسم له بعد أن وفى كلاهما بوعده للآخر، حيث أخبره “يـوسف” أنه لن يضعف ويتراجع من منتصف الطريق، بينما “جـواد” فكان وعده له أن يترك له الهاتف كي يتحدث مع من يُريد كي تزداد عزيمته نورًا وقوةً..
جلس “يـوسف” من جديد وحده في الغرفة بعد رحيل طبيبه ثم استند فوق الجدار برأسه وفي يده ورقة وقلم، لكن يبدو أن حبره جف ودفتره فرغ ولازال هو يمتليء بما لم يستطع البوح عنه، لكنه يود أن يكتب، أراد حقًا أن يُعبر ويكتب لذا مسك الدفتر وكتب به جملة تصف حاله في كربه:
_”اليوم تُدون هزيمة مُحاربٍ
عن نصره في حربه مع نفسه، فمهما كان الأمر
سواءً كان بالربحِ أو الخسارة؛
هو لم يحارب سوى نفسه فقط”..
وبعد مرور ساعتين تقريبًا أتى “أيـوب” له وولج يجلس بجواره ثم ضمه لصدرهِ يمسح على فؤاده المتعب ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:
_”وَمَاْهُمْ بِضَاْرِيْنَ بِهِ مِنْ اَحَدٍ اِلَاْ بِإِذْنِ اُللَّهِ”
“وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ”
“وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ”
_ولو اجتمع الجن والإنس على أن يضروك بشيءٍ
لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك
قال رَسُولِ اللَّهِ ﷺ:
“إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، إحْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَأسْأَلْ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ”
لا تخشى من تدابير البشر فأقصى ما يستطيعون فعله هو تنفيذ إرادة الله كن مع الله ولا تبالي، وأعلم أنه لو إجتمع أهل الأرض على أن يضروك بشئ فلن يضروك إلا بما كتبه الله لك، الناس لا يملكون لك موتًا ولا حياة ولا رزقًا ولا سعادةً، وحده الله من يملك فلا تخف، ربنا يقويك وينصرك يا صاحبي ويسدد خطاك.
وكالعادة استسلم له “يـوسف” مُلقيًا بحمل رأسه فوق كتف الصديق الذي كان ولازال هو خير المُتكيء والجدار في تلك اللحظات التي يشعر بها أنه حقًا يرغب في إلقاء حمله فوق كتف أحدهم بدلًا من كونه الجدار الذي يتحمل فقط.
____________________________________
<“تركوا الخيول في ساحة القتال، فعادت بالحق”>
كانت العرب قديمًا إذا اختلط عليها الخيل الأصيل بغيرها،
جمعتها في صعيدٍ واحد، ثم أهانتها وضربتها
وعطشتها ثم عرضت عليها الماء؛
أما الأصيل فيأبى أن يشرب بعدما ضُرب وأُهين
ويمتنع برغم الجوع والعطش،
وأما الهجين الذى لا أصل له فيأكل ويشرب ولا يُبالي..
بعد مرور يومين من تلك الأحداث المتصاعدة وفي حدثٍ عظيمٍ في واحدةٍ من أكبر محافظات الجمهورية كان العالم يشهد هذا الحفل الكبير، لحظة اكتشاف مقبرةٍ في محافظة “الأقـصر” بعدما تم الإعلان عن هذا المكان الذي كان مخبوءًا أسفل الأرض، وقف “ماكسيم” وسط الناس يتلقى تكريمًا بمساعدة طاقم مصري بإشرافٍ من وزارة الآثار ووزارة السياحة أيضًا، وهو يقف بوقارٍ وسطهم وأبلغ ما يليق بوصفه كان:
_”وذُو جَهلٍ قدْ يَنامُ على حَريرٍ
وذُو عِلمٍ مفارِشهُ التُرابُ”..
وهو كان لصًا من نوعٍ آخرٍ، يرسم اللوحة ببراعةٍ ثم يجذب الناس أمامها وهم يجمتعون ويحتشدون مع بعضهم ومن ثم يتسلل بينهم كي يسرق كل ما يملكون حتى يعود ويرسم من جديد ويدعي في النهاية أن تلك هي الموهبة فقط، وقف يبتسم بفخرٍ وزهوٍ واسمه يتلألأ في سماء الإنجازات ثم استأذن من الجميع كي يرحل ويختلي بنفسه في الفندق بعد أن لاذ بعدة غنائم من أسفل المقبرةِ لا تُقدر بثمنٍ..
وفي وسط معبدٍ من المعابد الأثرية الكُبرى وبين أعمدتها الضخمة كان يسير برأسٍ مرفوعٍ وهو يفكر كيف لتلك الحضارة التي تُسرق وتنهب منذ آلاف السنين أن تبقى هكذا كما هي؟ حضارة عريقة لازالت ممتدة لسنين كثيرة كأنها لم تنتهِ أو لم يحن لها أن تنتهي هكذا، رفع رأسه يُملي عينيه وقد ابتسم بإعجابٍ صريحٍ وقال بصوتٍ مسموعٍ:
_بكرة كل دا يرجع لمكانه الأصلي، وصحاب الحق ياخدوه.
أنهى حديثه ثم التفت كي يرحل لكن عيناه جحظت للخارج ما إن لمح “إيـهاب” يقف أمامه وهو يدخن سيجاره وهو يُدندن بضحكةٍ سمجة ونظرة استفزازٍ قاتلة للعدو بأرضه:
_أديني حب أكتر، أديك الشوق يا سكر،
أديني حب أكتر، أديك الشوق يا سكر..
هرب صوت “ماكسيم” وشُل جسده وقد تيبس وتسمر محله وقد التفت للجهةِ الأخرى كي يهرب من تلك المواجهة حامية الوطيس التي لن ترأف به ولن ترحمه، فقابل في وجهه “سـراج” الذي وقف بعينين اتقدت فيهما النيران أو ربما هاج الموج الغاضب بزرقاوتيهِ وقد فتح المدية الخاصة به ثم قال بشراسةٍ نبعت عن انتقامٍ وثأرٍ أعمى:
_الخيول فاقت ورجعت الساحة، وريني شطارتك بقى.

تعليقات