رواية غوثهم الفصل المائة والتسعون 190 بقلم شمس محمد


 رواية غوثهم الفصل المائة والتسعون 

في البعد لوعةٌ..
وفي القرب رحمةٌ
وفي الوصل راحة.. في الوصل راحة
إذا الحبُ مُنيتي
وما بُغيتي في القرب غير وصالها
فيا طول أشجاني
إذا يإلهى ضالتى
فخلصني من أسر الطبيعة
يا رب وأهدني بنورك يا الله
نور بصيرتي…
____________________________________
عزيزتي وحبيبتي..
لازلت أتساءل هل حقًا رُزقت أنا بكِ؟..
فلو كنت جاحدًا برحمة الخالق عليَّ فأنتِ خير الدليل أن رحمة الله وسعت كل شيءٍ حتى أنا ذاك العبد البعيد عن خالقه،
وفي الحقيقة لقد أردت أن أتحدث عنكِ حتى يمل مني الحديث، أردت أن أخبر العالم بما أخبره لي قلبي..
أنكِ أتيتِ عوضًا عن كل الخسائر الفادحة التي عانيت منها،
كنتِ ولازِلتي الملجأ الآمن لي في حياةٍ عثرة مؤلمة،
قلبي يُحدثني أنكِ دومًا الرحمة التي رُزِق بها إنسانٌ مثلي،
فهل تعلمين معنى أن العالم بأكمله يكون ضدك حتى نفسك؟
وأنا كانت مشكلتي الكُبرى في نفسي أنني عدوٌ لنفسي،
فكان الطريق مُظلمًا وأنا به مستوحشٌ كما لو كنت ضريرًا،
لكن يوم أن أبصر القلب وجدكِ من وسط اليأس قمري وشمسي،
أيا نفسي التائهة مني، أخبريني هل أنا قد أفقد في عينيكِ نفسي؟ أم أنكِ أنتِ بعضي كُلي وكل نفسي؟.
فيا نفسي التي فقدتها وتاهت مني في الحياة،
قلبي يخبرك أنكِ في الحياة والطريق
قمرٌ مؤنس وحشتي، وفي اليأس والظلام نور شمسي..
<“كانت مشكلتي في عينيك حُبي للغرق رغم خوفي”>
كفتية الكهفِ لم أدرِ في حُبكِ كم لبثت..
كان العمر يمضي ويمر بغير حسابٍ مني، فلم أعد أعلم بأي أرضٍ ولدت، ولا بأي وقتٍ خُلِقت، تمامًا كما لو كنت أبحر في بحرٍ بغير مرسى، لا أعلم أين أنا وكأن خارطتي بغير إتجاهٍ يشير إلى الشمال فراحت من بعده كل الاتجاهات،
تمامًا كمن ضل قلبه عن كل صوابٍ،
فكنتِ أنتِ الصواب من بين كل أخطائي
والطريق من بعد كل تيهٍ…
رُصفان كانت كما الضفتين على طريقٍ طويلٍ تزينه الأشجار القصيرة المزودة بإضاءات ذهبية لامعة تُجيد سرقة العين والعقل منذ الوهلة الأولى في المُطالعة، جوٌ صافٍ ولحظة وحيدة من بين كل اللحظات أتت فكانت سلامًا من بعد الحرب، تمامًا كما لحظة الصمت التي تأتِ بعد أن توقف صوت الرصاص والرشقات النارية على خيامِ الضعفاء، ليلة القمر بها كان بدرًا كأنه ضيفٌ في حضرة السماء اللامعة…
وفي هذا الطريق سارت دراجة “مُـنذر” يقودها بسرعةٍ جنونية وخلفه زوجته التي كانت اليوم في أوج سعادتها، يبدو أن ليلة سعدها أتت اليوم حتى أنها ظنت أن الغرفة لن تسع أجنحة الفراشات لديها، ليلة كل شيءٍ بها نصرها فيها، العائلة حيث دعم أخيها وأسرتها لها، الرفقة حيث زملاء العمل وهم يفتخرون بها، حتى الحُب كان مُنصفًا لها حينما كان “مُـنذر” أول الداعمين وأكثرهم دعمًا، كان جيشًا منيعًا لها وهي تقف بقوةٍ لأنها تعلم أنه في خلفها..
التفت لها برأسه وهو يقود فوجدها تضع رأسها فوق ظهره وذراعها ممدوتان لخصره تحتضنه بقوةٍ فابتسم هو بسعادةٍ ثم حرك كفه يمسح فوق كفها بها ثم قال بصوتٍ صارع الهواء كي يصلها:
_أتمنى تكوني النهاردة مبسوطة.
رفعت رأسها واقتربت من أذنه تهمس له بصوتٍ أصاب قلبه المقتول بسهام عينيها:
_إزاي مش هكون مبسوطة في مكان أنتَ فيه؟.
تحدثت، وكأنها تربط سعادتها وفرحها به هو وحده، بينما هو فتابع طريقه بصمتٍ حتى وجدها تنطق بلهفةٍ وهي تحرك رأسها للجهة الأخرى تزامنًا مع قولها بلهفةٍ:
_أدخل يمين بسرعة، بسرعة يا “مُـنذر”.
تابع إشارتها ثم تحرك حيث أشارت هي وما إن تحرك بدا الانبهار جليًا في عينيه، حيث كان على مقربةٍ من بناءٍ يشبه القصور ليلًا، وقف مشدوهًا بعينيه وكأنه سُرِق من نفسه، أوقف الدراجة؛ فنزلت هي بسرعةٍ كبرى كفتاةٍ قادها والدها لنزهةٍ في مدينة الملاهي، وقفت تشتم عبير الهواء النقي بينما هو فراقبها بحاجبين معقودين، وفاهٍ مفروغٍ وقد التفتت له وهي تقول بسعادةٍ:
_دا مكان جديد معمول علشان يواكب الحضارة المصرية، بص للمكان كدا هتلاقيه شبه القصور الملكية، عارف؟ طول عمري كان نفسي أكون أميرة من العصر الفيكتوري، نفس الرقة بتاعة العصر دا وهدومهم حتى حياتهم، كان نفسي في ملك يكون وسيم ورقيق ويكون مهووس بيا أنا، علشان كدا بحب أتأمل أي مكان أثري زي دا، علشان أعيش الحلم دا، حتى لو الواقع مش زي ما أنا عاوزة بس أنا بقلبه للحلم اللي اتمنيته.
وقف أمامها يبتسم بهدوءٍ بينما هي فاقتربت من الضوء أكثر ولمست ببنان أناملها الشجر المُزين بالأضواء الذهبية وأغمضت جفونها ترسم الحلم بخيالها كأنها به تعيشه كما لو كانت في واقعها، بينما هو وقف خلفها وقد أخرج هاتفه ثم قام بتشغيل نغمة رومانسية ثم وقف خلفها متجاوزًا المسافة التي كانت بينهما ثم همس في أذنها بقوله:
_حتى لو الواقع مجابش ليكِ الأمير اللي كان نفسك فيه، تقبلي بواحد زيي يكون أمير علشانك أنتِ حتى لو الواقع بتاعه غير كدا؟.
كانت ليلة حقًا أسطورية، ليلة بدأت بنجاحٍ وانتهت باعترافٍ،
يبدو أن ختامها مسكٌ كما يُقال، وهو اختتم ليلته بمسك الختام والحديث، التفتت هي له بعينين سابحتين في بحور عينيه هو فوجدته يمد كفه لها ثم قال بهدوءٍ:
_تقبلي تعيشي الليلة دي في حلم من أحلامك؟.
مدت كفها بكفه وهي تبتسم له موافقةً وقد ابتسم هو لها وقربها منه وحينها توسعت ضحكتها الرنانة وقد دار هو بها وهي بين ذراعيه وارتفع صوت ضحكاتها ينافس سكون الليل ثم أنزلها وبدأ يراقصها والكلمات ترتفع أكثر:
_وين كنتِ من زمان؟
عقلي طار وقلبي غار، لفيت عليكِ الدنيا
وما لقيتك بولا مكان، ليش ما عرفتك من زمان،
عطيتك قلبي وكمان، ممكن شوفتك على الطريق
مريتي مرت غريب، وآاااه،
يبا يبا وينك من زمان؟..
يبا يبا وينك وينك قلبي قال…
كانت تضحك بسعادةٍ وهي معه، سعادة أبدية تمنتها أن تكون هكذا، تخشى لحظة الفراق بل ترغب أن يأتيها الموت قبل أن يرحل هو عنها، كل شيءٍ معه هو غريب، مميز، نادر الحدوث، حتى هو معها الشخص الألطف على الإطلاق كأنها أخرجت أفضل النسخ منه هو، لذا في أقرب فرصة تباغته كي يُسعدها لم يبخل عليها بها، كان الحديث بين الأعين هو الأصدق على الدوام، لكن رغبة الأذن في السماع كانت تُلح عليها، لذا سألته بهمسٍ خافتٍ:
_قلبك قالك إيه؟.
أغمض عينيه ثم قال بصدقٍ حينما وضع جبينه يلصقه بجبينها ثم رفع كفه يحاوط وجهها كأنه يستمع لما يُمليه عليه قلبه؛ فكان الحديث منه صادقًا بقوله:
_ولأنني لا أعرف طريقًا يُغيث قلبي مما به غيرك،
فحتى لو تغربت سأعود لكِ أنتِ؛
فمن غيرك آتي لها وأنا محمل بالخيبات،
لأعود بنصري معي وسكني وبيتي بين يدييِّ؟.
ضحكت وهي أمامه فوجدته يحضتنها من جديد كأنه حقًا يرغب في إحياء قلبه المقتول، لحظة لم يكن هو فيها هذا القاتل المجرم العدو الهارب من العدالة، وإنما كان الطفل البريء الذي لم تكتب له النجاة بطفولته، كان ذاك الطفل الذي كان يراه بأحلامه يضحك من قلبه الدامي وكأنها هي من أتت لتخيط جراح هذا القلب، لذا تشارك معها الضحك والسعادة، تمامًا كما اليتيم حينما يعود للملجأ الذي لا يعرف غيره أمنًا وأمانًا وفي الهوية هو موطنه..
____________________________________
<“ثم قالت الضباع، أنظر متى يُخفض الأسد رأسه واطعنه”>
في كل مرةٍ تجد الأسد شامخًا..
أعلم أن الضباع تبحث عن من يواسيها في الخسارة، فكل نصرٍ للأسود يُعد مأتمًا للضباع، وتلك الضباع وإن لم تكن جبانةً لكانت خائنة، فمن يخون الأسد الحكيم هل ستجده يصون النمر المتمرد؟..
[● في اليوم التالي ليلًا ●] ليلٌ مُظلمٌ، السماء به داكنة، النجوم اختفت، الغبار يخالط الهواء ليلًا فتشعر أنك مريض بالتهابات الجيوب الأنفية من مجرد زفرة عابرة، صوت نباح الكلاب يعلو وسط الصمت المُطبق، الظلام تلك الليلة يسود ويؤخر الشمس عن موعدها، وصوت نهاد البومة يحضر بين الثانية والأخرى، كل شيءٍ أشبه بظلامٍ فقط، وفي هذه الليلة كان “إيـهاب” يقف على رأس “مُـحي” الحاضر بصفة الطبيب..
كان “ماكسيم” بين الحياة والموت عند مفترق الطرق، لحظة وشيكة كاد أن يخرج فيها أنفاسه الأخيرة ليعرقل بذلك سير مخطط “إيـهاب” ومنذ الصباح وهو يرعاه بنفسه، أعطاه “مُـحي” الإبرة الطبية الثانية ثم أخبره باحترامٍ يليق بمهنته:
_حاليًا هو بقى أفضل بكتير، بس خلي بالك يا “إيـهاب” دي مفيهاش هزار لو راح فيها هنا هتبقى مصيبة عليك، دا مش شوية، دا عالم أثار وليه اسمه، وقتها هيتقال إنك إرهابي بيدمر السياحة، مش أنا اللي هقولك البلد دي ماشية إزاي.
أما “إيـهاب” فكان غائبًا في غياهب ظُلمة الانتقام، كان عقله بعيدًا عن مرمى العمل، كان تائهًا في انتقامٍ لم تنطفيء نيرانه وإنما هي لازالت متأججة تحرق في قلبه وحده، وقد لاحظ ذلك “مُـحي” فسأله باهتمامٍ:
_أنا بكلمك يا “إيـهاب” أنتَ روحت فين؟.
انتبه له أخيرًا وقد وزع نظراته بينه وبين المُثجى أرضًا ثم قال موجزًا بجمودٍ كمن يهرب من الحديث بجمودٍ:
_مش خلصت وعملت اللي عليك؟ انطر بقى من هنا وروح شوف وراك إيه، وياريت محدش يعرف باللي حصل، مش ناقص تقطيم من حد يا “مُـحي” أنا اللي فيا مكفيني.
ناظره “مُـحي” بعتابٍ ثم رحل من المكان وتركه وحده، حينها جلس “إيـهاب” من جديد فوق مقعده وقد وصله صوت سعال “ماكسيم” فخرج من شروده اللحظي ليجد الآخر يقول بصوتٍ واهٍ كأنه صارع كي يخرج هذا الصوت:
_عندي ليك عرض هيخليك تعيد حسبتك الخسرانة.
مركز الآخر نظراته على غريمه بعينين قويتين يحيطهما الجمر الملتهب، كانت نظراته تحكي وتقول ما يود هو فعله، لذا أتاه الحديث من الآخر متحاشيًا التقاء البصر معه:
_هديك اللي تطلبه كله، مليارات لو تحب تأمن بيهم مستقبل “دهـب” بنتك، ومش بس كدا أنا هخلي العالم كله يفتخر بأخوك، نص المباني الأثرية اللي لسه بيتم اكتشافها والعالم المدفونة تحت الأرض محدش عارف حاجة عنها، هساعد أخوك إنه يكون هو اللي اكتشف كل دا وساعتها العالم كله هيخلد اسمه وذكراه، قولت إيه بقى؟.
ترك “إيـهاب” مقعده وتحرك مقتربًا من “ماكسيم” ثم جثى على رُكبتيه ليصبح في نفس موضعه ثم قال بسخريةٍ تهكمية:
_قولت إن ابن **** و ****.
توسعت عينا “ماكسيم” من السب البذيء الذي وصفه به الآخر لكن “إيـهاب” تركه ثم عاد يستقر فوق المقعد يضع قدمًا فوق الأخرى ثم قال بنفس الأسلوب الغير منمق:
_بقى أنتَ عاوزني أبيع أخويا وأصلي ليك أنتَ بالفلوس؟ ماهو دا تفكير الجعانين اللي زيك، لكن اللي زيي أنا ياخد حقه تالت ومتلت من عينك أنتَ وبلدك كلها، حقي هييجي هييجي، ومش منك أنتَ لوحدك، منك ومن كل *** كان معاكم في اللي عملتوه، إنما خلاصة القول مني ليك فهي حكمة اتقالت زمان، لايقة على وصفك دا.
ناظره الآخر بالمزيد من القلق والاضطراب فوجده يقول بسخريةٍ:
_ولأن الخيل قد قلّت فتحلَّت
حمير الحي بالسرجِ الأنيقِ
فإذا ظهر الحمار بزي خيلٍ
فلا كاشف لأمره إلا النهيقِ..
أنهى البيت ثم رمقه بنظرة شملته من الأعلى للأسفل ثم قال بسخريةٍ تهكمية:
_مجرد ما بتفتح صوتك بيبان إنك غبي والله، حمار بس شكله حلو مش أكتر، يا أخي بيقولوا إنك ذكي معرفش ليه يبان عليك ليك هيبة وذكي، مع إني من ساعة ما اتعاملت معاك لقيتك مش فارق كتير عن صاحبك ابن العالمة، الفرق بس بينكم إن إحنا مش عارفين مين هي أمك..
سكت هُنيهة يرسل له نظرة وقحة ثم عاود الحديث بقوله:
_تصدق ولا عارفين كمان مين أبوك؟.
أنهى الحديث ثم فتح الهاتف يطلب رقمًا قد يكون مجهولًا للسامع وقد فتح هو مكبر الصوت كي يصل الحديث لمن يجاوره ثم عاد يرتخي في جلسته بوضع أكثر أريحية ثم قام بالرد على من يحدثه بشموخٍ:
_ها يا عمنا؟ طمني إيه الأخبار وصلت لإيه؟.
جاوبه الآخر بحماسٍ جليٍ في نبرته وصوته:
_متقلقش يا “عـمهم” عملت كل اللي قولت عليه، الحكومة حطت على المكان وأتبلغ عنهم وخدوا المساخيط اللي طلعت، ومش بس كدا، المكان دا أتشمع كله وكل العمال اتجابوا في شوال.
_طب وحبيبنا؟.
هكذا قاطعه “إيـهاب” بلهفةٍ بعدما انتفض من جلسته فأتاه الجواب بثقةٍ أتت بمحلها بعدما أحسن صُنعًا بفعله:
_معانا، وشوية وهتلاقينا جايين عليك.
ابتسم “إيـهاب” بسمة واسعة زينت مُحياه ثم أغلق الهاتف وعاد للخلف يتنهد بعمقٍ كأنه اقترب من مُراده ثم ترك المكان وصعد للأعلى حيث شقته، توجه متجاهلًا نظرة الخوف في عيني “ماكسيم” حتى يلوذ بنظرة الاحتراق الأخيرة، توجه لشقته بهدوءٍ فوجد فتاته تزحف أرضًا وهي تضحك وتملأ أركان البيت بضحكاتها، وقد كانت “سـمارة” خلفها توازي حركاتها حتى جثى هو على رُكبتيهِ أمامها فوجدها ترفع رأسها له وهي تُهاديه بضحكةٍ واسعة كأنها التقطته هو من بين الزحام…
حينها حملها هو بين ذراعيه ولازال جالسًا على رُكبتيهِ، وقد وضعت رأسها فوق كتفه ثم مسحت بكفها الصغير فوق ظهره، حينها ضحكت له “سـمارة” ثم جلست بنفس وضع جلسته ومسحت فوق ظهر ابنتها، بينما هو لثم حبيبته الثانية ثم قال بنبرةٍ دافئة:
_الدنيا بوجودك جنة، ياريت الدنيا كلها زي حضنك يا “دهب”.
الصغيرة بالطبع لم تستمع له وإن كانت استمعت فهي بالطبع لن تفهم ما يقول، لذا يكفيها نبرته فقط حتى تضحك معه ثم تمد أناملها الصغيرة تلاعب ذقنه بخفةٍ فيضحك هو بصوتٍ عالٍ يُجلجل في البيت، وقد انتبهت له زوجته فاقتربت منه تسأله بوجهٍ باسمٍ:
_شكلك رايق أوي النهاردة.
انتبه لها ليُلاقي عينيها بعينيه ثم قال بصدقٍ:
_رايق أوي لدرجة إن لو حد سألني أنا عندي كام سنة هقولهم عمري بدأ من اللحظة اللي شوفتك فيها، ولو حد سألني أنا إمتى كنت مبسوط، أكيد هقول من اليوم اللي ربنا كرمني فيه بيكِ وببنتي، رايق أوي ومبسوط فوق ما تتخيلي.
تعجبت هي ثم قالت بطريقتها المعتادة:
_ياخويا هو حد يكره روقتك؟ ربنا يفرحك ويروق بالك دايمًا، بس خليك فاكر إني أنا والبت اللي على إيدك دي هنتوه من غيرك ونضيع كمان، مالناش غيرك يا “إيـهاب”.
أومأ لها موافقًا وقبل أن يرد عليها طُرق الباب فتحرك بصغيرته وحينها وجد “إسماعيل” أمامه، تعجب من المجيء في هذا الوقت بينما شقيقه تنهد بقوةٍ وقال بتوسلٍ له باغته به بغير مقدمات:
_وغلاوة بنتك اللي على إيدك دي كفاية، خلاص بقى أنا مش عاوز أخسرك، حرام علينا نعيش مع بعض من غير قلق يا “إيـهاب” ولو شوية؟ أنا مش قادر أخسرك تاني، غوره في ستين داهية وخلينا نفوق منه.
راقب ملامحه بقلقٍ وقد سأله بنبرةٍ قوية بعض الشيء:
_في إيه يا “إسماعيل” من إمتى وإحنا بنخاف ولا بنجيب ورا؟ قولتلك أنا قدها وقدود كمان، هو مش هيخليني أرجع عن اللي أنا ناويه، حقك هييجي منه ومن اللي معاه كلهم، ودس بس البداية، كل مرة هو بيصرخ فيها ويتذل أنا بفرح أكتر، ناري صحيح بتزيد بس بفرح علشان كنت أنتَ بعيد عني في يوم من الأيام وأنا هنا عاجز إني أوصلك.
وحينها أتت الصرخة من فم “إسماعيل” بزعقةٍ منفعلة:
_وأنا هعمل إيه من غيرك غير إني هعجز طول عمري؟ أفهمني بقى يا “إيـهاب” أنا ماليش غيرك، ماليش حد بعدك في الدنيا، دا واللي وراه لو حد فيهم فكر يقرب منك أنا مش هتقوملي قومة من تاني، يا “إيـهاب” دا أنا عقلي طار مني وماكنتش فاكر حد غيرك، نسيت نفسي واسمي ومعرفتش أنساك، لساني مكانش بينادي على حد غيرك، أبوس إيدك كفاية، أنا ومراتك وبنتك عاوزينك، علشان خاطري كفاية.
توسله بصوتٍ متهدجٍ فاختطفه شقيقه في عناقه يغلق عليه بقوةٍ بجوار صغيرته كأنه يضم ثُلثي عالمه، ضمه كي يُطمئنه ولأول مرةٍ يشعر أنه يود الرجوع عن طريقٍ قطعه، لأول مرةٍ يشعر أنه تهور فيما فعل لذا حينما ضم شقيقه وابنته تنهد بقوةٍ ثم قال موجزًا ومُنهيًا الحديث بقوله:
_سلمها لله وربك كريم وقادر على كل شيء.
وهكذا اختتم الحديث وقد شعر بزوجته التي أتت تقف بجواره ثم مدت كفها تضعه فوق كتفه كأنها تؤكد رجائها له بصمتٍ فرفع عينيه لها بنظرة اعتذارٍ كأنه يعترف ويُقر أنه حقًا تسبب في تعبها وقلقها وهو الذي قطع لها وعدًا ألا يتسبب في حُزنها وقلقها، وهو لم يكن بخائنٍ للعهد، لذا قال لها بهمسٍ خافتٍ:
_أنا عمري ما كنت خاين للوعد، ووعدي ليكِ تكوني بخير.
أومأت هي له ثم أخذت منه ابنتها التي ظلت تُغمغم بصوتٍ غير مفهومٍ بينما “إسماعيل” فعاد للخلف ليرى حديث شقيقه في عينيه فتنهد بقوةٍ ثم قال بصدقٍ يخبره بما في قلبه:
_وجوده مخوفني يا “إيـهاب” طمني أنتَ.
حينها ضمه “إيـهاب” من جديد وتلك المرة بقوةٍ أكبر،
قوة تكاد تعترض طريق العالم وتقف في مواجهته لمجرد أن الخوف بات قريبًا من شقيقه، لذا ولأجل الشقيق سيخون نفسه ووعده، وليس فقط مجرد مرة، وإنما لأجله يفعلها ألف مرة..
____________________________________
<“ياليت قلبك كان موصولًا بقلبي حتى أحمل عنكِ حزنك”>
عزيزتي “قـمر”..
اليوم أعدكِ أنني أحدثك بكل صراحةٍ، فأنتِ وبكل صدقٍ نور قلبي، ملاذي الآمن وسط خوف البشر، طمأنينتي من الخوف، قمري في سماءٍ مُظلمة بلا نورٍ كي يؤنس وحدتي، عمري المعلوم بدلًا من أيامٍ مجهولة، حبيبتي أولًا، شريكتي ثانيًا،
طارفة عيني أولًا وأخيرًا، أنا لكِ كنفٌ يحمل عنكِ خوفك..
الليلة الثانية تمر وسط صمتٍ وعتابٍ صامتٍ نطقته الأعين فقط، لذا عاد للشقة بعد أن أنهى عمله في مركز الصيانة ومحل الفخاريات ثم ذهب للمسجد ينهي بعض الأعمال فيه، وفي الحقيقة هو كان يهرب من حرب عقله ضده في العمل الكثير، كان يرمي نفسه وسط المسئوليات خوفًا من صدامه مع الشيء الذي يؤرقه، لكنه ما إن عاد للبيت وجدها تجلس فوق الأريكة وهي تثني رُكبتيها وتشرد في الفراغ كمن يبحث عن قمرٍ في سماءٍ فارغة..
اقترب يلقي التحية بنبرةٍ هادئة فوجدها تعتدل في جلستها ثم ردت عليه بنبرةٍ خافتة، وما إن جلس وجدها تقف وهي تسأله:
_تحب أحضرلك العشا؟.
رفع عينيه لها فلمح الحزن جليًا في عينيها وحينها قال بأملٍ:
_لو هتاكلي معايا يبقى تمام، غير كدا بلاش.
وقفت حائرة لوهلةٍ ثم أومأت له موافقةً وتحركت من أمامه، بينما هو فتحرك يغتسل ويبدل ثيابه حتى يترك لها متسعًا من الوقت تتحرك فيه بكامل راحتها، وما إن خرج لها وجدها تضع الطعام فوق الطاولة وقد سبقته وجلست وجاورها هو يجلس ثم قال قبل أن يبدأ في تناول الطعام:
_تسلم إيدك، متوقعتش إنك تخرجي من موجة حزنك علشان تعملي الأكل، بس هو قليل كدا ليه؟ مش عوايدك دي، مش هتاكلي معايا؟.
حركت رأسها نفيًا له ثم قالت بهدوءٍ:
_مش أنا اللي عاملة الأكل أصلًا، بابا صمم ناكل كلنا مع “آيـات” وقالي إنه هيطلع الأكل علشانك تاكله هنا، كل أنتَ بألف هنا، أنا شبعانة الحمدلله، بس هقعد معاك علشان متزعلش.
ابتسم لها بحنوٍ ثم حرك كفه يربت فوق كفها وعاد يتناول الطعام الذي نسى طوال اليوم أن يتناوله، بينما هي فحقًا كانت ترغب في الاعتذار منه، لذا سألته وهو يتناول طعامه:
_”أيـوب” أنتَ مش زعلان مني صح؟.
انتبه لها وما إن لمح الخوف في عينيها تنهد ثم ترك الملعقة وقال بعدما أعاد ترتيب أفكاره وحديثه على طرف لسانه:
_بصراحة كنت زعلان منك، بس والله العظيم بمجرد ما بشوفك بنسى إني زعلان، ودا طبع فيا، بنسى زعلي من مجرد بصة في وش اللي قدامي بنسى بصراحة، لكن منك لو ابتسامة حلوة زي عيونك كدا يبقى كتر خيرك أوي عليا.
ضحكت هي له، ليست بسمة كما طلب وإنما ضحكة مغلوبة على أمرها أمام طيبته ولين قلبه وقد ضحك هو لها ثم مسح كفيه من أثر الطعام وعاد يمسك كفها وقال بهدوءٍ:
_أيوة كدا أضحكي، اضحكي علشان أنا والله راجل غلبان وطيب، حرام تستخسري فيا ضحكتك دي، عارف إن حقك تزعلي، بس مش من حقك تلوميني على حقه، وهو حقه عليا أحفظ سره وأمانته، مش كفاية متضايق من نفسي؟ والله يابنتي أنتِ وأخوكِ تعبتوني نفسيًا وجبتولي المرض، بس أعمل إيه بحبكم.
ضحكت من جديد له وقد ترقرق الدمع في عينيها وحينها ارتمت عليه تضع رأسها فوق عضلات صدره ثم تنهدت بقوةٍ وهي تقول بلومٍ لنفسها:
_حقك عليا بس أنا كنت مخضوضة، يمكن تايهة وخايفة وزعلانة، بس أنا والله كنت مضروبة فوق دماغي، وحيدة وأنا شايفة أعز ما ليا بيعاني من تاني، بس واثقة إنه كويس علشان ربنا بيرعاه وعلشان أنتَ معاه وفي ضهره، ربنا يباركلنا فيك.
وسرعان ما تذكرت حديث شقيقها فعادت للخلف وقالت بلهفةٍ:
_عارف؟ “يـوسف” مرة قالي إنه بيشوف بابا فيك، قولتله أنا عاوزة أعرف بابا كان عامل إزاي، وساعتها قالي إنك نسخة منه، قالي لو عاوزة تعرفي باباكِ بصي لجوزك، وقالي كمان إنه عمره ما تخيل إنه يحب حد زي ما بيحبك، بس هو حبك أنتَ كأنك “مصطفى” الله يرحمه، وأنتَ واقف في ضهره كدا افتكرت كلامه وعرفت ليه بيقول عليك إنك بتفكره ببابا.
ضحك رغمًا عنه ثم مسح وجهه وقال بنبرةٍ بان فيها تأثره:
_وأنتِ بتعتبريني أبوكِ برضه؟.
أومأت له بخجلٍ وهي تضحك بوجهٍ ضربته الحُمرة فمد هو كفه يمسك عنقها وسرعان ما بدل نبرته لأخرى أكثر جمودًا يخبرها بصوتٍ عالٍ:
_أبوكِ مين يابت هي ناقصة وقفة حال؟ هتشبهينا، قال أبوكِ قال، عيب على الحضن اللي كنت مكبشة فيه إمبارح دا.
شهقت فجأةً من تحوله بينما هو دفعها بخفةٍ ثم قال بتهكمٍ:
_قال أبوكِ قال.
_لأ بقولك إيه هو أنتَ تطول تكون زي أبويا؟.
هكذا اندفعت في وجهه بينما هو أمسك فكيها وقال بثقةٍ:
_لأ مطولتش أكون زي أبوكِ، أنا بس بقيت جوز بنته ودا أحسن ليا بصراحة.
حينها عادت تبتسم وقبل أن تتحرك من أمامه وجدته يمسكها من جديد ثم قربها منه وهمس لها بعبثٍ يليق به كثيرًا:
_طب إيه يعني؟ مش محتاجة تتربي شوية بما إني زي بابا؟.
عادت من جديد تضحك رغمًا عنه فوجدته يضحك هو الآخر وبعد محايلات وإلحاحٍ منه وافقت أخيرًا تشاركه الطعام وسط مزحاته معها كي يخرجها مما هي فيه، حاول بجل طاقته وهي حاولت تلك المرة لأجله، لذا كان من السهل عليه أن يمسك بكفها ويخطو بها من فوق الجسر الآمن كي يعبرا الطريق الموحش سويًا..
____________________________________
<“كنتِ أنتِ صوابي الوحيد من بين كل الأخطاء”>
تعددت الخطايا، وكثرت الآثام..
لكن من بينهم جميعًا كنتِ أنتِ الصواب الوحيد من بين كل الأخطاء، كنتِ ولازلتي طريقًا يرشد تائهًا مثلي فيعود للطريق كمن لا يعرف غيره، خارطتي أنتِ في حين طريقي كان ضالًا..
في صباح اليوم التالي..
وبعد مرور اليوم الثالث على تواجدها هنا كانت تجلس في الغرفة وحدها، الأيام تمر بثقلٍ، والساعة تكاد تكون تنتهي بالفعل، لم تعش في حياتها أيامًا صعبة مثل هذه حتى حينما أنفصل والدها عن أمها وتفككت أسرتها، الأيام هُنا غريبة وثقيلة ومؤلمة، وهي وحدها تواجه وتُجابه، وحدها تُركت هنا كأنها نفايات تم الخلاص منها..
جلست “نورهان” بعد أن تناولت الطعام وتناولت الجرعة المبدأية من علاج اليوم؛ جلست في الغرفة تتطلع للحديقة الخضراء وهي ترفرف بأهدابها وقلبها يسألها عنه، مجرد خيالات كثيرة أتت لعقلها، خافت؟ نعم هي خافت منه وخشت أن يجد راحته في بُعدها عنه، لذا كلما ذكرها به قلبها هربت منه للعقل تلقائيًا تذكره أن أي احتمالٍ قد يكون واردًا منه في البعد..
ولجت لها الطبيبة وقالت بنبرةٍ هادئة ذات طابعٍ عملي:
_مساء الخير يا “نورهان” ينفع تيجي معايا الجنينة شوية؟.
أومأت لها بمسالمةٍ وحركت رأسها بعيدًا عن الحديقة ثم تحركت معها بخطواتٍ بطيئة، كان موعد جلستها في الاسترخاء اليومي حتى تواكب الأحداث التي طرأت على حياتها، لكن تلك المرة كانت الجلسة من نوعٍ آخرٍ، وجدت أمامها “كِـنز” تجلس في انتظارها، حينها ركضت عليها مهرولةً بينما الأخرى فضمتها بقوةٍ وقالت بصوتٍ باكٍ مشتاقٍ:
_وحشتيني يا روح قلبي، وحشتيني أوي، طمنيني عاملة هنا إيه؟.
بكت الأخرى بين ذراعيها وفقدت القدرة على الحديث كأنها فقدت الأبجديات، بكت وتركت نفسها كما الغريق الذي تمسك بالقشة كي ينهض من طوفانٍ أغرقه، طال العناق بينهما وقد أنسحبت الطبيبة وتركهما وحدهما فقالت “كِـنز” بصوتٍ باكٍ:
_البيت وحش أوي من غيرك، مش البيت بس، الحياة كلها وحشة علشان أنتِ مش فيها، يارب تكوني هنا بخير، حد هنا مزعلك؟ “بـاسم” قالي إنك هنا كويسة وبيعاملوكي كويس، مش زي ما بنشوف في الأفلام، طمنيني !!.
بالطبع امرأة مثلها قضت كل أيام عمرها في حضور التلفاز سيأخذ العِبرة في حياتها من المسلسلات الدرامية والأفلام المتنوعة لذا كانت فكرتها عن الموضوع ضيقة نوعًا ما، حينها مسحت “نـورهان” عبراتها ثم قالت بصوتٍ باكٍ:
_بيعاملوني كويس بس أنا مش قادرة خلاص، اليوم هنا بيمر بطيء أوي، أنا هنا بقالي كام يوم بس وحاسة إنهم شهور، وقالولي مفيش زيارة هنا خالص غير بعد شهر، جيتي إزاي؟.
ضحكت الأخرى وقالت بنبرةٍ أصبحت لعوبة:
_الحب وسنينه ياختي، جوزك شاف صرفة هنا علشان نعرف نجيلك ونعرف نتطمن عليكِ، بس تصدقي الواد طلع خايب ودايب من غيرك، بصراحة الدكتور هنا تعبه لحد ما وافق نزورك، بس هو حاول لحد ما موافق عليه أخيرًا.
ابتسمت بسمة ذهولٍ وحينما لم تجده جلست وقالت بخيبة أملٍ:
_أنا بهدلته معايا أوي يا “كِـنز” طلعت عينه وخليته يشيل فوق طاقته، علشان كدا ناوية أصلح كل دا لما أخرج من هنا، حرام عليا أظلمه كدا، كفاية اللي عاشه وشافه مش هبقى حمل زيادة.
حينها كان وصل بعد أن أطمئن عليها في الخارج من الطبيب المسئول وما إن استمع لحديثها سألها بنبرةٍ مشدوهة:
_فـ ناوية على إيه يعني بعد كدا؟.
انتبهت له ووقفت تلقائيًا بينما هو فكان يحدجها بنظرة نارية بعد أن استمع لها فقالت هي بصدقٍ بعدما أخذت القرار من قلبها:
_ناوية أعفيك مني ومن مشاكلي، هخليك تخلص من وجودي يا “بـاسم” وتخلص من ورطتي فيك، صدقني أنا مش حل ليك، بالعكس أنا وجودي لوحده أزمة أصلًا، مكانش ينفع أخليك تختارني بالغصب، علشان كدا أول ما نخرج من هنا هخليك تطلقني، ومش هنسى وقفتك معايا.
في الحقيقة هو على مشارف ارتكاب جريمة قتل، جناية يود أن يقوم بها ويفصل رأسها عن جسدها كي لا تتحدث تلك المخبولة، أراد أن يُسكتها بأي شكلٍ، لذا اقترب منها ثم ركز بعينيه في عينيها الضعيفتين وهي ترمقه بنظرة انكسارٍ رغم أنها كانت تتدعي القوة الكاذبة فوجدته يضمها له بعناقٍ قوي جعلها ترجف بمجرد أن فعلها، بينما همس هو لها بعبثٍ:
_أمي الله يرحمها كانت بتقولي كلام الحريم ميتاخدش عليه، وأنا عاذر هرموناتك وإني وحشتك أوي، علشان كدا هعديلك الهرتلة دي، علشان لو خدت على كلامك هزعلك مني، أظبطي كدا.
عادت للخلف فوجدته يبتسم لها وحينها تعجبت منه، كيف يبتسم في نفس اللحظة التي يوبخها ويحدثها فيها بتلك الطريقة؟ ثم من أخبره أنها تشتاق له؟ من أخبره أنها تُعاني من تضارب في المشاعر؟ من أخبره أنها ودت لو تعانقه حتى في تلك اللحظة هي ترغب في عناقه من جديد؟ زاغ بصرها بعيدًا عنه بينما هو عاد يُعانقها من جديد ثم قال بجرأة معهودة من شخصه الوقح:
_بصراحة الحضن دا حلو أوي خسارة نفوته كدا.
وقفت في الخلف “كِـنز” بملامح ضاحكة وقد لمحت بعينيها ضحكة “نورهان” أخيرًا والسعادة البادية فوق وجه ابنها فتهدت بقوةٍ ثم وقفت تتضرع للخالق أن يحفظهما لها سويًا، أرادت أن تكون شقيقتها متواجدة معها وترى بنفسها ابنها وهو يعود للحياة من جديد بعدما كان في وضعٍ أقرب للموت،
أرادتها أن تفخر به وهو يختار الصواب الوحيد من وسط كل الاختيارات الخاطئة..
____________________________________
<“لو لم تكن تعلم أن تلك هي النهاية، عليك أن تتعلم”>
في بعض الأحيان..
يكون الباب موصدًا، سوف تجده مغلقًا لتدرك أن كلمة النهاية تتجهز كي تُضاف في الختام، لكن في بعض الأحيان قد يخونك الطريق وتظن أن النهاية تلك هي البداية الجديدة بذاتها، لذا تذكر أن القصة لم تنتهِ بعد لكن النهاية أتت..
كان “نـادر” في المشفى بعد أن أخبره الطبيب أنه استفاق خاله من تلك الغيبوبة، حينها عاد للمشفى مسرعًا وقد ولج لخاله فوجده يسأله بصوتٍ متقطعٍ:
_حاجتي راحت فين يا “نـادر” كلها؟ مفاتيح الخزنة والفيزة والكريديت ومفاتيحي كلها فين؟ يعني إيه مش لاقيين حاجة؟.
طالعه “نـادر” بحيرةٍ في أمره ووقف أمامه فارغ الفاه فوجد خاله يصرخ بصوتٍ عالٍ بعض الشيء:
_رد عليا !! الحاجة اللي كانت معايا راحت فين؟ سلمتها لـ “يـوسف” صح؟ استغليت اللي أنا فيه دا علشان تكسرني؟ رد عليا الحاجة فين؟ كل حاجة اختفت وراحت؟ وديتهم فين؟.
لم يعد “نـادر” يتحمل طريقته واتهامه فصرخ في وجهه يوقف سيل اتهامه له:
_أكتر من كدا مش هسمحلك تتكلم معايا، أنا مش حرامي ولا حتى مُتآمر عليك علشان تشك وتتهمني كدا، ودا غلطي أنا علشان سيبت حياتي وجيت آقعد معاك أنتَ، شوف حاجتك كدا راحت فين مع نفسك وريني مين هيفضل معاك، “مـادلين” كان معاها حق في كلامها عنك، أنتَ أناني ومش هامك غير نفسك بس، ولو على “يـوسف” فأخويا برقبتك مليون مرة، وآخر مرة هسمحلك تتكلم عنه كدا.
توسعت عينا “عاصم” وطالع ابن شقيقته مشدوهًا بحديثه بينما “نـادر” فحمل حقيبة ثيابه ثم ابتسم بسخريةٍ وقال بتهكمٍ مريرٍ:
_عارف؟ أنا كنت جاي وناوي أقعد معاك لحد ما تخرج من هنا، بس تصدق خسارة فيك؟ أنتَ اللي زيك ميستاهلش غير إنه يكون لوحده، يعيش كدا ويموت كدا، حتى في نهايتك مش قادر تفهم الصح من الغلط، هتتعظ إمتى طيب؟ هتفوق لنفسك إمتى؟.
كان يعاتبه بحديثه بينما عمه فتجاهل حديثه وهرب بنظرته لمكانٍ آخر بعينيه خوفًا من لقاء النظرات، وقد صدح صوت هاتف “نـادر” في تلك اللحظة فأخرجه يجاوب على المكالمة وحينها توسعت عيناه وأوشكا بؤبؤاه على الخروج من محجريهما، وما إن أغلق المكالمة ابتسم بسخريةٍ لعمه وقال حديثه الصادم:
_عاوز تعرف حاجتك راحت فين؟ صاحب عمرك سرقك، “سامي” بيه اللي أنتَ كنت معمي وراه خد منك ومننا كل حاجة، التوكيل اللي سيادتك كنت عامله ليه استغله وخد منك كل حاجة، كنت خايف تضيع وتروح لـ “يوسف” وهو صاحبها، أديها راحت للغريب، أشرب عمايلك السودا فينا.
أنهى الحديث ورمقه بنظرة بغضٍ وكرهٍ ثم تحرك من المكان كارهًا كل شيءٍ حوله، يكره تواجده ولحظاته حتى والده يعد السبب الأعظم في نيل الكره منه، خرج من الغرفة وركب سيارته يختبيء بها كي يهرب من هذا العالم الموحش عليه، بينما في الداخل فكان عمه على مشارف الوقوع في جلطةٍ تنهي عمره بلا شكٍ، زاد الوغز في قلبه وشعر أنه قلبه بدأ يتوقف عن العمل وتعرق وجهه بالكامل وجبينه تندى بقطراتٍ بادرة مقارنةً بدرجة وجهه، وحينها حاول أن يصرخ ويتحدث لكن تلك المرة الجلطة بالفعل داهمت جسده وأوقفت القلب..
وصل “نـادر” لمكانٍ وصله بعدما ترك لنفسه حرية التصرف، أوقف السيارة أمام المشفى التي تعمل بها “حنين” ولا يعلم كيف وصل لها، حينها أدرك أنه بالفعل منساق خلف قلبه لها لذا تحرك حتى وصل لغرفة جلوسها وما إن لمحته وصلت له فوجدته يقول بقلة حيلة:
_عاوز أتكلم معاكِ يا “حنين” ممكن؟.
وافقت على الفور ثم خرجت للحديقة بالخارج وخرج هو معها يجلس فوق المقعد الرُخامي، بينما هي تحركت تجلب له مشروب العصير ثم مدت يدها له وهي تقول برقةٍ أثناء رفرفة أهدابها:
_العصير دا علشان شكلك مش واكل أي حاجة، باين عليك وشك أصفر وإيدك بتترعش جامد، وأكيد أنتَ مش واكل ولا شارب مياه، الأوردة مش باينة في إيدك، اتفضل.
رفع عينيه لها وتعجب من فعلها بينما هي جلست على مقربةٍ منه ثم مدت يدها له بالعصير فأخذه منها ثم تنهد بقوةٍ وقال يخبرها عن الذي يحمله في قلبه:
_ماليش نفس آكل ولا حتى أشرب، ماليش نفس لأي حاجة في الدنيا، بقيت زاهد الدنيا كلها حتى مش قادر أجري ورا حاجة، هتقوليلي جيتلي ليه طيب؟ هقولك وربنا مش عارف، معرفش وصلت ليكِ إزاي بس والله أكيد أنا عارف إنها لما ضاقت عليا جيتلك، أنا تعبت يا “حنين” تعبت وضاقت عليا أوي.
لاحظت حقًا التعب في صوته، نظراته ومظهره يخبرا عن حال قلبه، هي أصلًا منذ أن عاد لها من الغُربة وهي تعلم أنه لم يعد كما ذهب وإنما فقد جزءًا في شخصه لم يعد بعودته حتى، لذا قالت بهدوءٍ يلائم طبعها:
_كل الحكاية إن القلوب ساعات بتشوف في الوقت اللي عنينا بتبطل تشوف فيه، وأنتَ عيونك حتى لو كانت غايبة عن الشوفة بس قلبك شايف، عارف؟ زي العيل الصغير اللي تلاقيه لوحده وسط الكل وبمجرد ما يشوف أمه يجري عليها، هو مش عارف حاجة ولا فاهم بس متأكد إن ديه أمه، قلبه عارفها، يمكن النهاردة قلبك هو اللي عرفني يا “نـادر”.
وفي الحقيقة رغم فلسفية قولها إلا أنه كان حقيقيًا لذا طالعها بلمحة شوقٍ ثم سألها بألمٍ كأنه حقًا يبحث عن الحقيقة الغائبة:
_طب هو إزاي ولا مرة شافني بقلبه؟ إزاي أبويا ومش قادر يحس بيا؟ أنتِ عارفة؟ أنا كنت بستحمل كل حاجة بيعملها فيا علشان علطول كان بيقولي إن وجوده أرحم من إنه يسيبني لوحدي، علطول كان بيقولي إني هشوف اللي “يـوسف” شافه في غياب خالي، علشان كدا كنت بخاف يسيبني، كنت بقول على الأقل أبويا موجود، بس المرة دي وبعد اللي حصلي منه، أنا بقيت أتمنى إنه يكون ميت بجد، على الأقل هبقى عارف إني من غير ضهر، إنما في وضعي دا صعبان عليا نفسي أقول إن اللي كسرني هو أبويا.
تهدج صوته بأشواك الخيبة لذا أخفض عينيه بعيدًا عنها بينما هي أشفقت عليه حقًا، أرادت أن تواسيه بما هو أكثر من الحديث لكنها لم تجد ما يعينها على ذلك، لذا نطقت تشدد أزره بقولها:
_بس أرجع واحمد ربنا إنك فوقت وعينك فتحت، فيه غيرك بيفضل عينه مغمية وبعيد عن الطريق، صحيح باباك كان سبب في تعبك بس الحمدلله إنك مش معاه في عمايله دي، الحمدلله إنك المظلوم منه مش الظالم زيه، ودي فرقها كبير أوي، ربنا يقويك ويزيدك من نعيمه، بس بكرة تعرف الفرق وتعرف بنفسك إزاي وضعك دا أفضل مليون مرة من أي وضع تاني مش عاجبك.
أومأ لها موافقًا بقلة حيلة ثم عاد يشرد أمامه وقال بندمٍ:
_تعرفي إني زمان كنت ظالم زيه وأكتر منه؟ كنت مغمي عيني عن الحق والحقيقة وبمشي وراه وأعمل أي حاجة هو عاوزها، كنت أوحش إنسان ممكن تشوفيه في حياتك، تعرفي إني مش بزعل من اللي بيحصل فيا كله؟ علشان برجع وأقول أكيد دي ذنوبي القديمة هي السبب واللي مطمني أكتر إن ربنا مبيظلمش حد وياخده بذنب التاني.
أنهى الحديث ثم بدأه من جديد يقول بأملٍ:
_عارفة؟ أنتِ الحاجة الوحيدة اللي بتخليني أقول أكيد ربنا قبل توبتي وسامحني علشان كدا رزقني بيكِ، علشان لو كنت وحش مستحيل كان ربنا هيكرمني بيكِ، أنتِ رزق وربنا يكرمني وأطلع استاهل الرزق دا يا “حنين”.
عاد من جديد يُخجلها بالحديث لكن تلك المرة هو أراد أن يخبرها الصدق، أراد أن يخبرها الحقيقة المخبوءة في سريرته ويجاهد كي يخبرها وقتما يصح الصحيح، لكن في وقتٍ هكذا هو يحتاج لها، يحتاج لرفقتها وتواجدها، يحتاجها كي تمسك بيده وتعبر به من الطريق الموحش لآخرٍ مزهرٍ لعله يجد الحياة هناك..
____________________________________
<“في هذا التوقيت لن تجد مني إلا الصحيح”>
هناك لحظة فارقة ما إن تطرق أبواب حياتك لن يصح منك إلا الصحيح، لن تجرؤ على ارتكاب أي خطأٍ مهما كان بسيطًا، سوف تعمل بكامل طاقتك المتبقية حتى لو كنت غير قادرٍ ولم تملك مثقال ذرةٍ من الطاقة، شوف تعلم أنك في الوقت الصحيح للفعل الصحيح..
في مقر المصحة التي يتلقى بها “يوسف” العلاج وفي منتصف النهار كان “جـواد” يتحصر لجلسته معه، كان يعلم أن “يـوسف” سوف يتأخر كما المعتاد لذا كاد أن يتحرك من مكانه لكنه تفاجيء حينما وجد “يـوسف” أمامه، حينها طالعه بتعجبٍ ثم سأله بدهشةٍ من حضوره قبل الموعد:
_غريبة يعني، طول عمرك بتيجي الجلسة متأخر، أول مرة تيجي قبل ميعادك وكمان جاي لوحدك مش أنا اللي طلبت منك، أنتَ كويس؟.
ولج له “يـوسف” ثم جلس على المقعد المعتاد وقال بمصارحةٍ دون أن يخفي عنه مشاعره وصدق الحالة التي ساورته:
_فيه وقت مينفعش تعمل فيه حاجة غير الصح، والوقت دا حضر خلاص، كان لازم أفوق وأحاول تاني علشان خاطر ابني اللي جاي دا، مش عاوزه يخرج كارهني وكاره وجودي لما يلاقيني بتعصب قدامه وبفقد أعصابي، خايف مرة في نوبة من اللي بتيجي ليا أقرب منه وآذيه هو، عاوزني أكون طبيعي معاه، علشان كدا جيتلك، والمرة دي أنا مستعد.
في تلك اللحظة كان “جـواد” على يقينٍ أنه خطى معه على النحو الصحيح، كان يُدرك أنه حقًا أمام شخصٍ تعافى كُليًا من الماضي، شخص أصبح يخطو نحو الطريق الصحيح دون أن يكترث بحقل الألغام، لذا بدأ معه الجلسة بالحديث المعتاد والسؤال عن الماضي ثم يعود يقارنه بحاضره وقد كان الآخر أكثر من متجاوبًا معه في الحديث، كان “يوسف” بين الحماس المشتعل وبين الفرحة للخروج من طريق الجحيم، كان سعيدًا بما يفعل على الرغم من الخوف والقلق اللذان يقوما بالنهش فيه، وقد لاحظ ذلك طبيبه…
انتهت الجلسة أخيرًا وقد لفظ “يـوسف” أنفاسه ما إن أعلن ذلك الطبيب، حينها وقف وقرر أن يخرج من الغرفة بعدما حصل على إذن المخابرة الهاتفية من طبيبه كي يتحدث مع زوجته ويطمئن عليها، حينها طلب رقم زوجته التي جاوبت مسرعةً كأنها كانت تجلس في انتظاره، حينها تنهد كمن وصل للبر وقال:
_أنا عملت مع نفسي المستحيل علشان أقدر اسمع صوتك دلوقتي، طمنيني عليكِ أنتِ بخير يا “عـهد” ولا سايبة نفسك؟ أبوس إيدك خلي بالك منك ومنه، أنا مش هقدر أخرج مكسور في حد فيكم، كفاية “قـمر” اللي أنا متأكد إنها مكسورة.
تنهدت “عـهد” حتى تمنع البكاء لكن البكاء غلبها وقالت بصوتٍ باكٍ تهدج إبان الحديث:
_أنا بس صعبان عليا فرحتي من غيرك، عاوزاك تكون معايا، مش عاوزة أروح للدكتور من غيرك، مش عاوزة أفرح من غيرك، عاوزة كل حاجة تكون معاك أنتَ، والله بحاول بس من غيرك مش هقدر أعمل أي حاجة يا “يـوسف” لازم أنتَ تكون معايا.
_هاجيلك، والله هيجيلك وهاكون معاكِ، أنا فضلت كتير مستني اليوم دا علشان أحقق حلم حياتي، كنت مستني أشوف عوض ربنا ليا معاكِ أنتِ، خلي بالك من نفسك لحد ما أجيلك وأكون معاكِ، وعلى فكرة أنا قربت، “جـواد” قالي إني مش هطول خلاص وفاضل حاجات بسيطة لو زبطت معايا خلاص كدا هخرج من هنا.
حينها شعرت هي بسعادته فابتسمت هي بتلقائيةٍ ثم مدت كفها تمسح فوق بطنها وعادت من جديد تتحدث معه حتى أغلق المكالمة معها بعدما قطع لها وعدًا أنه سوف يكرر مكالمته في أقرب وقتٍ يتيح له ذلك، وما إن أغلق معها وتحرك كي يضع الهاتف بحيازة “جـواد” صدح صوت الهاتف برقم “نـاجي” المحامي الخاص به، حينها عقد حاجبيه لكنه قرر أن يجاوب وما إن فعلها وصله صوت الآخر يقول بصوتٍ مضطربٍ:
_”سـامي” باع كل حاجة بالتوكيل اللي عمك عمله ليه، ومش بس كدا دا باع حصة الشركة وجاب شريك تاني، الوضع بقى بايظ وكل حاجة بتضيع يا “يـوسف” ياريت تيجي وتنزل من شغلك تشوف حل.
توسعت عينا “يـوسف” وفرغ فاهه مُستنكرًا وكأن الحديث كان خناجر تطعنه في قلبه فتدميه جراحًا، وقف تائهًا عن مقصد السُبل ولأول مرةٍ يتريث المجرم قبل أن يرتكب جناية يحاسب عليها، لذا ضيق جفونه ثم أغلق الهاتف والتفت للغرفة من جديد..
في مقر شركة “الراوي” بمنطقة الزمالك..
كان الوضع متوترًا على غايته، كان الجميع يعلم بجلل الأمر الجديد الذي طرأ على العمل والشركة لذا الجميع وقفوا في ساحة الانتظار وما إن ظهر “عُـدي” برفقة “رهـف” الجميع في حالة توترٍ وقد ظهر في تلك اللحظة والد “نـورهان” بطاقم حراسته وولج الشركة وهو يقول بزهوٍ:
_مساء الخير عليكم جميعًا، أنا الشريك الجديد هنا والشاري كل حاجة من “سامي” السيد ومعاكم في الهيكلة الجديدة للشركة.
حينها هدر “عُـدي” بغضبٍ أعمى وصراخٍ:
_نعم يا روح أمك؟ بتقول إيه يا حيلتها أنتَ؟..
رمقه الرجل بطرف عينه ثم رفع رأسه بشموخٍ فتحرك نحوه “عُـدي” وقبض على تلابيبه وشده له يصرخ في وجهه بقوله:
_اللي بتقوله دا في أحلامك، محدش هيدخل متر زيادة هنا، المكان دا ليه صاحب وصاحبه مش هنا وأنا مكانه لحد ما يرجع، تاخد الألاضيش اللي معاك دول وتغور في داهية زي ما جيت هنا يلا برة، بــرة بقولك.
صرخ وهو يدفعه وفي تلك اللحظة هجم عليه رجال حراسة الرجل يبعدونه عنه وقبل أن يهاجمهم هو حاول أحدهم أن يضربه، لكنه فلت من تلك الضربة حينما حمل المقعد ثم دفعه به ومن ثم ألقاه بعيدًا وفي تلك اللحظة أصبحت الشركة متقلبة رأسًا على عقبٍ، كل شيءٍ انقلب في طرفة عينٍ، حدثت اشتباكات ما بين رجال الأمن والحراسة وكل هم “عُـدي” أن يبعد “رهـف” عن تلك المشاجرة بينما هي فكانت تخشى فقده من جديد لذا أمسكت كفه تطلب منه بصوتٍ مرتجفٍ:
_علشان خاطري خليك معايا، هخاف من غيرك.
التفت للخلف يرى محاولة فض الاشتباك من رجال الأمن ورجال الحراسة ومحاولة الدفاع من الموظفين وحينها تنهد هو بقوةٍ ثم اعتذر منها بقوله:
_حقك عليا بس مش هينفع، كدا هتبقى فوضى.
أدخلها الغرفة التي قابلته ثم أغلق الباب عليها وعودته للمقر من جديد كانت قوية، وقف شامخًا في وجه الضيف واعترض الطريق وحده ثم أشار للجميع بالتوقف وحينها وقف ندًا بندٍ أمام الآخرين وقال بسموٍ ورفعة رأسٍ:
_قولتلك المكان دا ليه صاحب وأنا صاحب المكان دا، عاوز تدخل زيادة يبقى على جثتي إنك تعدي جوة، ولو فاكر إنك هتقدر تعمل حاجة تبقى عبيط، وريني بقى بقية عبطك، بس خليك فاكر أنا مش لوحدي.
وفي الحقيقة هو لم يكن وحده في الحرب، وإنما حضر صديقه وهجم من الجهة الأخرى يقف على الطرف الثاني ليصبح الرجل بحراسته في المنتصف بينهما، وقد تحدث “نـادر” تلك المرة بتهكمٍ:
_قالولي زمان إن العِرة بس هو اللي بيستغل وقعة الناس علشان يقوم هو على قومتهم، عينهم بتبقى على كل حاجة عند غيره ويعمل نفسه حبيبه، علشان كدا أديني فوقتلك أنتَ وعيلتك كلها، وريني اللي عندك بس متستغربش من اللي عندي.
حينها اشتد عود “عُـدي” وتذكر الماضي حينما كان “نـادر” دومًا في صفه في كل المشاجرات الدراسية فكانا سويًا مع بعضهما لحين يحضر “يـوسف” لهما ويُكمل ما بدأه كلاهما، لذا ضحك بخفةٍ ثم غمز لـ “نـادر” الذي اقترب أكثر وخلع سترته يعلن بذلك بداية الشجار الفعلي واسترداد الحق من سارقه..
لذا تذكر أن العودة دومًا مُفجعة للضباع إن كانت عودة أسدٍ للغابة بعد حصول الضباع على راحتها..

تعليقات