رواية غوثهم الفصل المائة والواحد والتسعون
اللهم إنا نسألُكَ الفوز عند القضاء
ومنازل الشهداء وعيش السعداء
و النصر على الأعداء ومرافقة الأنبياء،
اللهم اعطنا إيمانًا صادقًا
وعلمًا نافعًا و قلبًا خاشعًا ..
يا كريمُ يا حليم يا فتاحُ يا عظيم
يا جبارُ يا عليم يا توابُ يا رحيم..
سبحانك .. سبحانك .. سبحانكَ يا الله…
عفوكَ و رضاكَ يا رب
يا ربي عُدت إلى رحابكَ تائبًا
يا ربي عُدت إلى رحابكَ تائبًا
مستسلمًا .. مستمسكًا بعُراكَ
أدعوكَ يا ربي.. أدعوكَ يا ربي ..
لتغفرَ زلتي، لتغفرَ زلتي
لتغفرَ زلتي وتُعينني وتُمدني بهداكَ..
_”نصر الدين طوبار”
____________________________________
أني أعود لكِ من بعد كل تيهٍ..
كأنك الطريق الوحيد من وسط السُبل التي أخوضها مُجبرًا عليها، لا أعلم كيف لي أن أنصفكِ بحديثي في حين أن الحديث لن ينصف فيكِ مثقال ذرةٍ من جمالٍ،
فالجمال حينما يوهبه الله لمخلوقٍ يجعل الأعين لا تُبصر غيره من بين الورىٰ، وأنا أصابني العمى عن الجميع من بعدكِ، فلم أعد أذكر كم مرة انبهرت بجمالٍ من بعد جمالكِ، أو كم مرةٍ وقعت في فخ إحداهن من بعد مجيئك أنتِ، حتى أنني لم أظن ولو لوهلةٍ أن النهاية حقًا شارفت على القدوم، لكنها أتت..
ففي نهايتي اليوم وأنا ألقى مصرعي في دياري، لم ألمح سواكِ..
رأيت من وسط النهاية عينيكِ التي كانت سببًا في توبة الآثم، لمحت صورةً لكِ فتذكرت الجنة التي كنت بعيدًا كل البُعدِ عنها، وقفت اليوم في بيتي أودع نفسي لعلها تأتيكِ أنتِ، وقفت خلف الشمس الغاربة انتظر شروقها من جديدٍ وقد ظننت الشروق يأتيني من عينيكِ،
فيا جنة الآثم أقبلي توبة العاصي لعلكِ المُلتقى الأخير..
فالناس دومًا يقولون أن من ترك ملك،
لكن والله قلبي لكِ وإن ترك فقد هلك..
<“هذا صديقي أعرفه منذ الصغر وخمسمائة معركة”>
هذا صديقي..
أعرفه كما أعرف نفسي حق المعرفة، لم يكن يومًا بغريبٍ عني، رأيته في المعارك يأخذ صفي ضد جيوش الأعداء ويُحارب بكل إقدامٍ واستبسالٍ كأنني أنا جيشه الوحيد، هذا صديقي أعرفه منذ الصغر وما يقارب الخمسمائة معركة نصرني فيهم جميعًا..
معركة حامية الوطيس على مشارف الاشتعال، نيران حقدٍ نظير نيران ثأرٍ تُضرم كي يؤخذ الحق من سارقيه، لقاءٌ أشبه بلقاء الفلسطيني الحُر لمعتدٍ إسرائيلٍ على أرضه، لذا كان لصاحب الحق كامل الحق في الانتفاضة، حيث قام الصديقان بالإندفاع غضبًا لأجل حقهما فقاما بفرض الحصار عليهما من الجهتين، حيث “عُـدي” من الأمام ومن الجهة الأخرى كان “نـادر” الذي سحب مقعدًا ثم قام بدفعه تجاه الرجال كي يُشتت حركتهم، وما لبث ثوانٍ إلا وزاد الاشتباك قوةً حيث تلقى “نـادر” ضربة فوق رأسه فأثرت في خبطةٍ قديمة جعلته يتشتت لوهلةٍ …
كانت الرؤية أمامه مشوشة وضائعة، كل شيءٍ كان في غير محله حيث كاد أن يترنح ويسقط لكنه تلقى ضربة من رجلٍ جعلته يستفيق ويعود لوعيهِ فكانت عودته أكثر قوةً، بينما “عُـدي” فكان في الداخل على الحدود الداخلية للشركة يقف مستبسلًا كي لا يقترب أحدهم ولو بمقدار شبرٍ من الداخل، حارب وظل يتلقى الضربات ثم يُكيل الضربات حتى تدخل معه الموظفون بالمكان، ولأن التحالف قوة وحده؛ كانت الغَّلبة للمتحدين حيث نجحوا في إخراج البقية للخارج ومعهم من يرأسهم، وحينها وقف “عُـدي” أمامه يهدر بغضبٍ أعمى وصراخٍ هادرٍ:
_اللي حصل دا أقل حاجة عندنا علشان حقنا، وحقنا هيرجع، كونك بقى خدت على قفاك من “سـامي” فدي حاجة متخصش حد فينا، الله يعوض عليك في اللي راح يا “نبيل” بيه بس أبقى شوف حد يبروزلك خيبتك علشان دخول هنا مش هتدخل غير على جثتي أو جثة حد فينا.
أنهى الحديث ثم قام بدفع آخر رجاله بينما أشار للبقية فوقفوا عند الباب كما الحصن المنيع، وحينها ركض هو نحو “نـادر” الذي ضرب الرجل الذي كان معه ثم دفعه أرضًا وأرتمى على أقرب مقعدٍ قابله يلهث بعنفٍ وهو يشعر أن الدوار أصاب رأسه، فتحدث “نـبيل” يهدر بغضبٍ:
_اللي حصل دا أنا هعديه بمزاجي علشان الشدة اللي أنتوا فيها بس، لكن حقي هاخده والشركة هدخلها غصب عن أهاليكم، المحامي بيخلص الإجراءات ومسألة وقت مش أكتر وهاجي تاني، بس المرة الجاية هرميكم أنتوا برة، ومعاكم يوسف بنفسه..
_دا عند أمك..
هكذا كانت الكلمة من خلفه قاطعة ومانعة صدت علبه سُبل الحديث، وما كان منه إلا أن يلتفت ليلمح “يـوسف” يقف على أعتاب المكان خلفه كما الأسد الذي عاد للغابة كي يُرهب الضباع، اقترب الخطى المتبقية ووقف أمام “نـبيل” يهدر فيه بغضبٍ وصوتٍ ملأ الأرجاء بأكملها بقوةٍ عادت تتمركز في قلب صاحبها:
_أنا العمر اللي فات دا كله محدش عرف يكسر نفسي ويذلني، هتيجي أنتَ يا خيال المآتة تعمل كدا؟ دي تبقى خابت وباظت على الآخر، فوق لنفسك بدل ما أفوقك أنا، وعلشان أنا ابن أصول مرضاش العيبة لحد ولا الخيبة لمُسن زيك، هجيبلك فلوسك، بس وعزة وجلالة الله لو أنتَ وألاضيشك حد منكم قرب هنا تاني، ساعتها مش هسمي على حد منكم، وبكدا عداني العيب.
وقتها تفاجئوا جميعًا بعودته، كانت عودته صادمة، مُلجمة، عودته فجعت العدو، وأسعدت الحبيب، فقرر لذلك “نـبيل” أن يتراجع أمامه ثم قال بصوتٍ أهدأ من العواصف السابقة:
_أكيد هنتكلم تاني يا “يـوسف” ماهي مخلصتش كدا.
حينها لمع المكر في عيني “يـوسف” ورفع أحد حاجبيه يقتبس من الحديث ما ينفعه هو كي يُحول مجرى الحديث لصالح أرضه فيرويها بالحق:
_طب كويس إنك عارف إنها مخلصتش، علشان مش هسكتلك على النمرة الـ**** دي ودخولك بالبلطجية بتوعك وإيديك اللي اتمدت على أخواتي هقطعهملك يا “نـبيل” مش أخلص من أخوك وبنته تطلعلي أنتَ بقرفك.
رمقه الآخر بنظرة بغضٍ ثم ترك المكان ورحل منه وخلفه رجاله يتبعونه بعدما قاموا بخذلانه أمام الجميع، بينما “يـوسف” فانتظر رحيله ثم التفت يطمئن على أخويه وحينها وجد “نـادر” يفرك مؤخرة رأسه وهو يطلق آنات الألم فاقترب منه يسأله بثباتٍ كي يواري خلفه لهفته:
_أنتَ كويس؟ حصلك حاجة؟.
حرك الآخر رأسه نفيًا ثم جاوبه بأغرب ردٍ يُقال في مثل هذا الموقف الذي كان جللًا في كل ما يخصه:
_كويس متقلقش، بس عاوز آكل حواوشي.
توسعت عينا “يـوسف” وفرغ فاهه ذاهلًا فيما ضحك “عُـدي” ثم ضرب كتف “نـادر” وهو يقول بنبرةٍ عَلُقَ بها أثر الضحك:
_أنتَ لسه زي ما أنتَ؟ تتضرب وتاكل بعدها؟.
أومأ موافقًا بقلة حيلة فيما انتبه “عُـدي” لقدوم أخيه فهرول نحوه يحتضنه بقوةٍ وهو يُربت فوق ظهره وقال تزامنًا مع حركته تلك:
_نورت مكانك من تاني، أيوة كدا أرجع من تاني ولمهم.
ضحك “يـوسف” ثم ربت فوق ظهره وقال بفخرٍ لمعت به عيناه:
_متقولش كدا وأنا سايب مكاني رجالة تاكل الزلط، أخواتي ورايا يسدوا عين الشمس كمان، أنا رجعت بس علشان أكون في ضهركم.
أنهى الحديث ثم أبتعد عن الأول والتفت لـ “نـادر” يحدثه بكذبٍ أو رُبما ترجيحٍ في الكلامِ كأنه يخمنه:
_شكلي كدا هبدأ أحبك.
والرد جاء بسبةٍ نابية من الآخر عقبها بقولهِ حانقًا:
_هو أنتَ كل دا مش قادر تحبني؟ يا أخي متخلينيش أقل أدبي عليك وأقولك كلام ميصحش يتقالك، دا أنا طفحت الكوتة معاك.
ضحك له “يـوسف” ثم ضمه بقوةٍ بعد فراقٍ طال بينهما وقد زاد العناق قوةً حينما قال “يـوسف” ممتنًا له:
_قد القول وأكتر كمان، وأنا عارف إنك في ضهري.
وهكذا اختتم حديثه بعد ربتة حنونة فوق ظهر “نـادر” الذي طالعه مُبتسمًا بعينين تقطران حُبًا وفخرًا، لذا أهداه “يـوسف” نظرة حنونة ثم تحرك نحو الداخل يجلس في انتظار محاميه كي يتابع معه بقية الإجراءات القانونية الخاصة بشؤون العمل وانتقال الملكية من مكانٍ لآخرٍ في طرفة عينٍ، لطالما كان يؤمن أن الحق لا يضيع لطالما كان وراء منه مُطالبٌ يسعى بكل طاقةٍ كي يسترد حقه ويستعيده ولو كان في فاه الأسدِ بذاته..
فها هو عاد ومن المؤكد عودته سوف تُرعب الجميع منه..
____________________________________
<“لطالما كان الحق حقًا فلا بُد من استرداده”>
الحق لا يضيع إلا حينما يتركه صاحبه..
لكن لطالما كان الحق حقًا فلا بُد أن يؤخذ بالقوةِ، يُسترد بالخديعة كما أُخِذَّ بها، فتخيل أن حقك موجودٌ بين أنياب وحشٍ ضارٍ يتخفى خلف سياجٍ حديدية قابضًا على حقك بقوةٍ، وعليك أن تقتحم سياجه كي تسترد حقك، إما أن تتصنع العمى كأن شيئًا لم يكن..
انتصف النهار، بدأ الغروب يفرش لونه البرتقالي في السماء فتسدل ستار لونها على الجميع، لحظة رائقة كما فراغ الدماغ من بعد التفكير المؤرق، صفوٌ ملأ الأجواء، إلا من قلبٍ كانت الدماء فيه تغلي كما الماء فوق المرجل، كان “إيـهاب” يجلس في انتظار مساعده والمُضحي لأجله “مـيكي” وهو يأمل في وصوله له سالمًا بما معه، كان يجلس في الغرفة التي أصبحت تروقه مؤخرًا، فهو لا زال يتذكر كم كان يكرهها في السابق لمجرد تذكرته بأمر الخيول المريضة، لكن الآن أصبح الحال ليس ما كان عليه، لقد أصبحت تلك الغرفة ملاذًا له تمامًا كما المكتبات هي المكان الوحيد المفضل لدى القاريء..
أتته نغمة صوتٍ كان في أشد الحاجة للسماع إليها، كان يتأهب بحواسه كاملةً ما إن وصله صياح “مـيكي” بقوله مُناديًا:
_يا عـمهم، جيتلك يا عـمهم.
خرج له “إيـهاب” على أعتاب الغرفة فوجده يقول بنبرةٍ تحمل أطنانًا من الزهو اللامتناهي بالنفسِ:
_جيبتهولك يا عمهم، وزي ما أمرت في شيكارة زبالة لامؤاخذة.
اِفتر ثُغره ببسمةٍ مذهولة، أو رُبما فخورة، وقد تكون إثر الصدمة، وقد تكون متعجبة من سرعة التنفيذ، تباينت مشاعره واختلفت ردود الأفعال بعقله، لكنه لم يدرِ سوى بشيءٍ واحدٍ وهو أنه ضم “مـيكي” لعناقه لأول مرةٍ وربت فوق ظهره ربتتين قويتين ثم قال ممتنًا له كأنه حقًا يعترف بفضله عليه:
_عفارم عليك يا “مـيكي” عمرك ما خيبت ظني في حاجة طلبتها منك، روح بيتك أرتاح أنتَ والرجالة أجازة ليكم يومين، يلا.
أبتعد عنه الآخر بحبٍ فاض بعينيه ثم قال بحبٍ صادقٍ:
_أنتَ عارف غلاوتك عندي، أنا بعزك وبعتبرك أبويا مش بس أخويا الكبير، وحقك حقي واللي ييجي عليه كأنه جه على حقي أنا، عن إذنك هروح أرتاح شوية قبل ما بنت الرغاية تفضل تزن عليا، وتعملي تحقيق.
ضحك له “إيـهاب” ثم ربت فوق ظهره وأذن له بالرحيل، بينما هو نفسه خرج من الغرفة بخطواتٍ واسعة واقترب من الخارج يقصد السيارة المصفوفة وسط فناء البيت، اقترب بثباتٍ ثلجي يُنافي النيران التي كُلما مر عليها تأججت أكثر وازداد لهيبها، اقترب ومال على السيارة يفتح حقيبتها وما إن رأى بعينيه مُراده قال بتهكمٍ أقرب لنشوة الإنتصار في نبرته:
_نورت يا “مصيلحي” ولا أقولك يا “مـولانا”؟.
كان الآخر بداخل السيارة مُكبل الأطراف جسده مُكوم في شوالٍ من الخيش الخشن، نظراته هلِّعة ومرتعدة، وما إن وصله صوت “إيـهاب” ارتجف جسده رجفة قوية جعلت كتفيه يهتزان بينما “إيـهاب” فقام بحل وثاقه كي يترك لعينيهِ المُهمة الأصعب وهي قتل الآخر بنظراته، وحينها قبض فوق خصلاته وشد لحيته بقوةٍ وهو يهدر من بين أسنانه بغضبٍ أعمى:
_اللي جاي ليك مني صعب، قابل بقى وسد ووريني.
أنهى الحديث ثم أغلق الباب بقوةٍ جعلت جسده يرتعد من جديد، بينما “إيـهاب” فصدره يظل يعلو ويهبط بقوةٍ، أنفاسه ازدادت حرارةً وهو يتجه نحو المقعد كي يقود هو السيارة؛ وتلك المرة كان يقودها للجحيم بذاته، أو ربما هو كان الجحيم نفسه، كل شيءٍ حوله كان يدعوه لإقامة حفلٍ للنيران كي يعود بحقه المسلوب وحق روحه المحترقة، كان أشبه بالرماد المنثور فوق رمل الصحراء، لكنه سيبقى ويظل رمادًا بمجرد هبوبٍ بسيطٍ يعرف كيف يسير طوعًا عن الرياح..
في مكانٍ آخرِ…
بالتحديد في مقر المصحة التي تلقى بها “يوسف” العلاج، كان “جـواد” جالسًا في مكتبه حائرًا يشعر بمشاعر غريبة، انقسم نصفين وكلًا منهما أمسى عدوًا للآخر، نصفُ يؤيد فعل “يـوسف” ويراه حقه وإن لم يفعل غير ذلك فهو يعتبر من باب الخذلان لنفسه أولًا، والنصف الثاني فكان يعاند ويُكابد كي يظهر صوته حيث أفصح له عن الخطأ الذي حدث، فما فعله “يـوسف” في نظر الطبيب ماهي إلا جريمة نفسية حتى في حق نفسه..
عاد “جـواد” للخلف برأسه تزامنًا مع استعادته للمشهد وقد رأى بعينيه المشهد يُكرر عليه حينما كان يجلس بمكتبه، آنذاك ولج له “يـوسف” وفتح الباب وهدر بعنفٍ كأنه يعود للخلف دون أي ذرة علاجٍ، وقد أتى قوله هادرًا:
_أنتَ قدامك حلين مالهمش تالت، يا تخرجني من هنا وتسيبني أخرج يا أقسم بالله أكسر المكان على دماغ الكل هنا وهخرج برضه، فأنتَ أكسب شري وشر نفسي علشان لو خسرته صدقني كلنا هنزعل يا “جـواد”.
وقتها فرغ فاه “جـواد” وهو يرمقه بذهولٍ لا يُصدق ما يراه بأم عينيه، لا يصدق كيف تبدل وضع “يـوسف” هكذا في طرفة عينٍ وكيف أنقلبت الآية لهذا الحد؟ وقبل أن يطيل تعجبه قطع عليه “يـوسف” السبيل بقوله صارخًا:
_بقولك خليني أخرج، قولتلك قعدتي هنا بخسارة ليا، وقولتلك مينفعش أقع الوقعة دي وأنتَ مهتمتش غير بس إنك تثبت نجاحك ولو على حسابي، “سامي” ابن الـ**** خد كل حاجة بالتوكيل اللي معاه، قعادي هنا أكبر غلط، أظن أنتَ سبق وجربت لما عمك داس على حقك، سيبني آخد حقي ووعد لو ناري أنطفت هجيلك تاني.
كان هدأ عن السابق وكأنه بدأ يدرك كيف للتعقل سبيلًا، لذا لمح “جـواد” نظرة الانكسار في عينيه والغُلب فعاد يتذكر قلة حيلته، حينها كان شخصه مُنقسمًا لطرفين ضد بعضهما، فطرف منهما نصف الطبيب وأراد له أن يوقف مريضه، بينما النصف الآخر فقرر أن ينصف الجانب الإنساني منه، لذا في تلك الحرب كان لابُد من انتصار أيًا منهما، وظهر ذلك في رده بقول:
_أمشي يا “يـوسف” لو دا هيريحك أمشي، بس مش هخليك تمشي علشان أديك الحُرية تعمل اللي أنتَ عاوزه، بس علشان تبقى عارف إنك فعلًا دلوقتي اتغيرت ومش لسه “يـوسف” بتاع زمان، بدليل إنك قدامي بتطلب تخرج، علشان “يـوسف” اللي أنا أعرفه مكانش هيستنى كلمة مني، ودا في حد ذاته علاج.
وقتها لم يكن “يـوسف” في حالٍ يسمح له بالامتنان أو الشكر، لكن حقًا ما جعله يتعجب من الحدث هو أنه لم يكن هو بذاته القديمة، لم يكن هو الذي يستمع لمئات الأصوات وتنشب العراكات برأسه، لم يكن هو الحائر تلك المرة في فعلٍ أو رد فعلٍ، بينما كل الأصوات برأسه اتفقت على شيءٍ واحدٍ وهو
“التحالف لاسترداد الحق المسلوب”..
خرج “جـواد” من شروده على صوت هاتفه بزفر بقوةٍ ثم ترك المكان بأكمله ورحل، رحل قبل أن تُغرس أشواك الذكريات في قلبه فتدميه بما لم يقدر على تخطيه، لطالما كانت الذكريات مهربًا من الآلام، فبعض الذكريات تصبح هي مصدر الآلام بذاتها، وها هو يواجه ماضٍ قديمٍ في حياة آخرٍ جعلت ذكرياته أشواكًا..
____________________________________
<“مجرد نهاية تشبه في تكوينها البداية”>
يقولون أن من تَركَ؛ ملك..
لكن في الحقيقة أن من ترك وهو يُحب هلك، فهل يُهلك المرء إلا من الأشياء التي أحبها؟ إن كنت لا تعرف فدعني أخبرك أن الغرق لا يأتينا إلا بسبب تلك الثقة الزائدة عن الحد التي وثقناها في البحرِ، فأمنا غدره، وتغافلنا عن عمقه، ولم ندرك أن العُمق يخفي في باطنه السحبِ، وماخفي فيه كان أعظم..
البيت كما هو، بيتٌ كبيرٌ مليءٌ بعائلةٍ متنوعة بالأفراد، كلٌ منهم من شاكلةٍ مختلفة لكن في النهاية هم نفس الأصل ونفس الأخلاق، لذا في حديقة البيت بمناسبة حضور “آيـات” وترك زوجها لها معهم _على غير المعتاد_ كان البيت مُبهجًا، وقد أقرت بذلك “هـدية” التي أحبتها وتعجبت كيف تلك الملاك تجلس بين البشر، حتى مع جلوسها وسط رفيقاتها كانت تشبه زهرة مميزة وسط حقل زهورٍ خاطف للعين..
جلست “آيـات” تضحك مع هذه وتمازح تلك وتضحك مع “مهرائيل” التي قضت معها معظم اليوم بالتقريب، وقد أتت لهما “مـارينا” هي الأخرىٰ وجلست بينهما مع قدوم “قـمر” و “نـهال” بدأت الجلسة تزداد فرحًا وأملًا في غدٍ يعود عليهم بالحياة وسط كآبة الليل بقمره الغائب.
استمرت الجلسة حتى صدح صوت هاتف “مهرائيل” برقم زوجها فانسحبت من جوار رفيقتها تجاوبه وحينها قال “بيشوي” متذمرًا بصوتٍ أعرب عن السخط:
_يعني أخلص من أبوكِ تطلعلي صاحبتك؟ دا أنتِ غريبة أوي، يلا يا ستي أنا مروح أهو وواقفلك برة علشان تيجي معايا.
ضحكت هي ثم قالت بسخطٍ أقرب لسخطه:
_والله ما حد باصص في العلاقة دي غيرك، أهو بقينا نتقابل زي الأعياد كل سنة مرة، خارجة أهو بس استنى هسلم عليهم، وعلى فكرة أنا هسيبك تستنى عادي براحتك، خليك بقى.
_عادي، استنيت كتير، وهستنى بس مترجعيش تزعلي أنتِ.
ضحكت رغمًا عنها ثم عادت لرفيقتها تجلس بجوارها وهي تستأذن منها للرحيل فقالت الأخرى بهمسٍ خفيضٍ:
_ممكن تطمنيني؟ روحي أعملي التحاليل بكرة علشان كلامك دا بيقول إنك حامل، وطمنيني عليكِ علشان مفضلش قلقانة كتير كدا، ومتقوليش لجوزك غير لما تتأكدي علشان ميتعشمش على الفاضي، يلا أخرجي بدل ما يدخل دلوقتي ياخدك، يعملها والله…
قبل أن تختم حديثها وجدته يدخل بالفعل البيت وصوته يظهر بالخارج فضحكت النساء بينما “مهرائيل” فغمغمت بيأسٍ ثم تحركت من جوارهن وخرجت له، ظلت “مـارينا” جالسةً بجوار “آيـات” التي ضمتها وجعلت رأسها يستقر فوق كتفها، فسألتها “نـهال” بنبرةٍ ضاحكة وساخرة:
_وحضرتك قاعدة ليه؟ مش عندك جوز تروحي علشانه؟.
حركت رأسها نفيًا بقوةٍ وقالت بثباتٍ وشِدةٍ:
_لأ معنديش ياستي، هو عارف إني معاها علشان هي وحشتني، فأكيد مش هيكلمني، ولو كلمني مش أنا اللي أروح علشان حد كلمني، أنا ست مسيطرة وليا كلمتي برضه.
في تلك اللحظة وبمجرد أن أنهت الحديث صدح صوت هاتفها برقم “يـوساب” زوجها فتجاهلت عن قصدٍ الضحكات العالية وسحبت الهاتف تجاوب على حديثه فوجدته يقول بصوتٍ هاديءٍ:
_أنا مروح بدري النهاردة، تعالي يلا علشان أروحك في طريقي.
دارت بعينيها في المكان ثم اعتدلت وجاوبت بهدوءٍ كي لا تلفت النظر لها وهي تتراجع عن المبدأ في طرفة عينٍ:
_تمام، خمسة وخارجة أهو.
شهقت “قـمر” وكذلك البقية حولها، بينما هي وقفت وقالت بصوتٍ ضحوك أقرب للتقهقر والتراجع:
_طبعًا أنتوا عارفين إن لكل قاعدة استثناء، دا بقى هو الاستثناء.
انتشرت الضحكات عليها وقد تحركت هي وانسحبت له في الخارج وما إن خرجت من البيت ولجت السيارة له وما إن رآته ضحكت له ثم قالت أمامه بما جعله يطالعها بتعجبٍ:
_تصدق؟ كنت قاعدة مستنياك تتصل علشان أخرج والله.
ضحك مرغمًا ثم اقترب منها يُلثم وجنتها وقال بمشاكسةٍ:
_وأنا بصراحة كنت مستنيكِ علشان تخرجيلي.
هكذا رد عليها ثم اعتدل وقاد السيارة بينما هي وضعت رأسها فوق كتفه وضمت ذراعه بكفيها بقوةٍ وقد تحرك هو بالسيارة فيما بدأت هي تسرد وتقص عليه تفاصيل يومها وهي تعلم أنه الوحيد الذي يكترث بأمر حديثها وخبالها وكل المواضيع العشوائية التي تسرد عنها هي في أغرب الأوقات..
بينما في الداخل فانسحبت “قـمر” من بينهن كي تصنع لهن مشروبًا باردًا في هذا الجو متوسط الحرارة، تحركت نحو المطبخ بشرودٍ وقلبها مع عقلها كليهما في حربٍ يسأل ويحاول أن يصل لوجهةٍ واحدة وهي كيف هو حال الشقيق؟ وقفت أمام الرُخام تصنع أكواب العصير وقد شعرت بكفين يحاوطان جسدها من الخلف ثم همس دافيء اخترق سمعها:
_القمر سرحان في إيه؟.
التفتت هي برأسها له تطالعه بخجلٍ ثم قالت بصوتٍ خفيضٍ:
_بعمل عصير، وسرحت في “يـوسف” بصراحة.
ضحك هو رغمًا عنه ثم اقترب يُلثم وجنتها وعاد للخلف يضم خصرها بقوةٍ ثم همس بشقاوةٍ مُحببة لقلبها:
_الراجل زي الفل ورايق ومبسوط، وكل اللي هو عاوزه بس إنك متنكديش على نفسك، عاوزك كدا تروقي على نفسك واللي معاكِ علشان يخرج مبسوط منك، اسمعي مني أنتِ بس.
ضيقت جفونها ثم ابتعدت عنه وهي تقول بحنقٍ:
_ابعد بس أنتَ عني مش ناقصة هي فضايح، وبعدين دا أنتَ قلبك مات بقى، مش خايف حد ييجي المطبخ ويشوفك يا شيخنا؟.
لاحظ أنها تستغل الموقف كي تبتعد، فاقترب هو منها ثم همس لها بشقاوةٍ أكثر من السابق وهو يتعمد أن يصل للنهاية المرغوبة وهي إخراجها من تلك الحالة التي تتلبسها؛ فتحزنها:
_لأ مش خايف علشان لو حد جه هقوله بربيها، ما أنا زي بابا.
كانت كلماته مُبطنة بسبب ردها عليه بالأمسِ وحينها دفعته بعيدًا عنها ودارت حول الطاولة الواسعة بالمطبخ وحينها دار خلفها وهي تضحك بصوتٍ عالٍ جعله يرمقها بتحذيرٍ وقد فصلت الطاولة بينهما فهدرت بأنفاسٍ مقطوعة:
_حاسب يا “أيـوب” أخرج وأقصر الشر أحسنلك.
_أنسي يا قطة، قولتلك هقول بربيها.
هكذا جاوبها ثم مد كفه يسحب كفها ثم قربها منه بغتةً وفي طرفة عينٍ كانت أمامه وقد بدأ الخجل يعرف طريقه لوجهها بسبب المكان وخوفًا من دخول أحدهم، وحينها تجاهل هو كل ذلك وسألها بنبرةٍ حنونة دافئة توغلت لقلبها:
_أنتِ كويسة النهاردة؟ بقيتي أحسن دلوقتي؟.
حركت رأسها موافقةً وهي تُطالعه بحبٍ ثم قالت:
_بقيت كويسة علشان أنا معاك، يمكن من غيرك كان زمان الحال بقى غير الحال، أنتَ حنين أوي يا “أيـوب” وقلبك جميل أوي.
وقتها ابتسم بحلاوة ملامحه ثم ضم كفها بين كفيه وطالت النظرات بينهما بغير حديثٍ وكأن الأعين تتحدث عوضًا عن الكلمات المفقودة باللسان وقد اقترب منها يُلثم جبينها وفي تلك اللحظة وصل “عبدالقادر” وقد صدح صوته من الخارج فالتفتت “قـمر” تولي زوجها ظهرها بينما هو ظل واقفًا خلفها وقد أخرج هاتفه يتصنع الانشغال فقال والده لـ “قـمر”:
_معلش يا بابا لو هتعبك ممكن تعمليلي كوباية قهوة؟.
التفتت له توميء بخجلٍ بسبب اقتراب “أيـوب” منها ومسكه لكفها وقد بحثت عن صوتها كي ترد عليه الجواب بأقصى ما لديها من طاقةٍ:
_حاضر يا بابا..أتفضل حضرتك وأنا هجيبها.
أومأ موافقًا وسرعان ما انتبه لابنه يقف خلفها يسد عنها الطريق فعقد حاجبيه ثم سأله باستنكارٍ لتواجده هُنا:
_أنتَ بتعمل إيه عندك؟ وواقف كدا ليه؟.
وقتها تحول لون وجهها بخجلٍ وحاولت أن تسحب كفها من بين قبضته، لكنه قبض بقوةٍ أكبر ثم جاوب بثباتٍ يُحسد عليه في موقفٍ هكذا:
_بربيها.
توسعت عيناها تزامنًا مع شهقةٍ انفلتت من بين شفتيها، فيما رماها هو بنظرة انتصارٍ ثم عاد بعينيه لوالده الذي قال مستنكرًا من جديد كأنه أتى كي يُذهل هنا:
_بتعمل إيه يا حبيبي؟.
_بربيها على الغالي والله، أصلها كانت عاوزة تشرب حاجة جديدة جيت أوريها إن مطبخنا كله خير الحمدلله، هي بس تفتح عينها وتسمع كلامي وربك هيكرم من وسع، بس نعمل إيه؟ ناس غاوية فقر بقى.
حاولت أن تنسحب هي فيما ضحك “عبدالقادر” حينما أدرك أن ابنه يُبطن حديثه وكلماته خلف بابٍ لم يدرِ هو مقصد دخوله، لذا تجهز للرحيل ثم قال يُجاريه في شقاوته حينما وجد ملامحه متلذذة بهذا الشكل:
_لأ وإحنا طول عمرنا بيتنا عمران الحمدلله، اشتغل بس أنتَ بذمة شوية ودور كويس عندك هنا ولا هنا، يمكن تلاقي.
هكذا أنهى حديثه ثم رحل فيما فرغ فاهه تزامنًا مع ضحكة “أيـوب” الرنانة في المطبخ حينما فهم أن والده أدرك عبثه، وقد أنسلت هي نفسها من قبضته مستغلة تلك الضحكة العالية، وما إن خرجت من المطبخ ومرت بجوار الباب توقفت لبرهة عابرة وقد صدح صوت جرس البيت وحينها ضبطت الحجاب وما إن فتحته ولمحت الزائر ارتمت عليه بقوةٍ بغير تفكيرٍ، فضمها “يـوسف” وحملها في نفس اللحظة وقال بشوقٍ ولوعةٍ:
_وحشتيني أوي، مقدرتش أروح من غير ما آجي أشوفك.
طال العناق بين ذراعيه وهي فقط تبكي، تبكي لأجله وليس فقط مجرد مرة، وإنما مرة وألف مرة، تبكي لأن الحياة لم تكن معه يسيرة على الإطلاق، بينما هو فيكفيه يقينًا أن عينيها تذرف البكاء لأجله هو، يكفيه أن المدينة البعيدة التي حُرِم منها طوال أيام عمره يوم أن عاد إليها وجدها تتذكره وتُرحب به، كان اللقاء له يُمثل الحياة، بينما لها فمثل الانتصار على الظلم، وقد خرج “أيـوب” ولمحهما سويًا فتعجب من وجود رفيقه هُنا وأدرك أن هناك كارثة قد حلت حقًا،
لكن لا يُهم، فحتى لو كل الكوارث حلت
يكفيه أنه هنا والرفيق الذي ظن به الخير هنا..
____________________________________
<“علاقة غريبة وطرفيها أغرب، هو الحرب وأنا السلام”>
لولا الاختلاف ما تواجدنا هُنا..
فدومًا نجد في كل الأشياء لونين بدون أحدهما يبهت الآخر، كأن قيمته تقل وزهوته تنعدم، كأنك تسهر في ليلٍ معتمٍ لكن بدون قمرٍ، كأن القمر متخفٍ والنجوم أبت الظهور، فما هي قيمة الليل بغير قمرٍ ولا نجوم سوى فقط وحشة تُهلك الساهر؟..
أوقف السيارة أسفل البناية وقد التفت لخطيبته يسألها باهتمامٍ:
_أنتِ كويسة يا “رهـف” دلوقتي؟.
بين الحين والآخر كان يطمئن عليها بعدما لاحظ بهوت ملامحها وهروب الدماء من وجهها، وقد كان جوابها هو المعتاد منها ألا وهي مجرد إيماءة عابرة له، وقد تنهد بقوةٍ ثم سألها باهتمامٍ:
_أنتِ كويسة طيب؟ من الصبح أنتِ مش عجباني.
وكأن الرد ثقيلٌ منها، فأطلقت زفرة قوية ثم قالت بقلقٍ:
_مبحبش الخلافات والمشاكل مع اللي بحبهم، بخاف في لحظة الأمور تزيد عن حدها ويحصل حاجة وحشة لحد بحبه، مش هتصدقني لو قولتلك إن اليوم اللي بيعدي من غير مشاكل أو حتى صوت عالي، نفسي أعيش في سلام كدا من غير قلق ولا خوف ولا تفكير زيادة، وبصراحة أنا معاك بكون متطمنة ومش بفكر كتير، بس المشاكل ورانا ورانا.
اِفتر ثغره ببسمةٍ هادئة ثم قال يُشاكسها بقوله:
_لأ طولي بالك شوية، دا أنا هجيبك تقعدي في حارة العطار، دا أنا بتخانق هنا كل يوم، طولي نفسك وبالك معايا كدا شوية.
ضيقت جفونها ثم استعدت للنزول وهي تقول:
_لأ دا أنا كدا أحبسك في البيت بقى.
_أنا بقول كدا برضه، أنتِ أولى من الغريب.
هكذا جاوبها وهو يستعد للنزول وما إن ولجا البناية مرت دقائق في حديثٍ عابرٍ وقد ولجا سويًا السطح الذي أصبح جلسةً للجميع منذ أن اعتدل الطقس وبدأت الأجواء تصبح خُفافًا على القلب، وما إن ولج ولاحظت أمه ثيابه وأثر الدماء في قميصه الأبيض اقتربت منه تسأله بلهفةٍ:
_أنتَ تعبان يا حبيبي؟ مين اللي عورك كدا؟.
ولأنه لم يكن يومًا كاذبًا؛ صارح الجميع بما حدث وقد سرد أيضًا عن مجيء “يـوسف” وظهوره فجأةً في المكان، وحينها انتبهت له “عـهد” فاقتربت منه تسأله باستنكارٍ بالغٍ كأنها لا تُصدق:
_بتقول مين جه؟ “يـوسف” جه إزاي يعني؟ وهو فين لما هو رجع وجالكم؟ أنتَ سيبته يروح فين لوحده طيب؟.
انتبه لها وللهفتها فقال بهدوءٍ يقصده كي يُطمئنها:
_متقلقيش، هو كويس وقعد مع المحامي يحل الدنيا بس معرفش رسيوا على إيه مع بعض، بس دلوقتي هو راح يشوف “قـمر” ويتطمن عليها، قالي مش هيقدر يطلع غير لما يروح يطمنها ويتطمن عليها ويشوف “أيـوب” وزمانه جاي.
انتفض قلب “غالية” بخوفٍ على ابنها وشعرت لوهلةٍ أنها ترغب في الركض لحمايتهما من جديد، فهي لم يخف عليها تغير الأحوال في غيابه، كانت تلحظ تبدل “قـمر” التي تعمدت الهروب من أمامها، ولاحظت كذلك الكذب في نظرات “عـهد” كلما أتت سيرته في الغياب، كل شيءٍ حولها كان يخبر قلبها أن هناك كارثة أصابت ابنها، واليوم هي ترى بعين قلبها غرق ابنها في بحرٍ لا مرسى له..
في الجهة الأخرى كانت “ضُـحى” تتحدث في الهاتف مع زوجها الذي بدا الضيق واضحًا عليه وهو يقول بنبرةٍ أعربت عن تعب قلبه:
_مش راضي يسمعني، بيعمل اللي في دماغه بس، معرفش بعت الرجالة فين والنهارده أداهم كلهم أجازة يريحوا في البيت، مش ناوي يسكت، عاوز يخليني عايش قلقان يا “ضُـحى” وبقيت بفتكر كل حاجة حصلت من تاني، مش قادر أهرب من اللي حصل وهو عايش جوايا، ماهو صعب برضه أفضل خايف بسبب حاجات حصلت ولسه أثرها عايش جوايا، دا مش حل ودي مش حياة.
كانت تعلم أنه لازال أسيرًا في ماضٍ لم يجد منه مهربًا، تعلم أن الماضي مر لكن أثره لم يمر، وكأن الأشياء التي انتهت كان انتقامها في ترك الأثر فينا، لذا قالت تشد أزره بقولها:
_بص أنا معاك يا “إسماعيل” بس صدقني دا مش حل اللي أنتَ عاوزه، “إيـهاب” غيرك وطبعه غيرك، مبيعرفش يسكت عن حقه، ولو الحق دا يخصك أنتَ هو مش هيرجع في كلامه، هيدوس الكل من غير ما يرحم، وبعدين لو هو تعب علشانك وعلشان حقك بلاش تحبطه، خليه حر ويعمل اللي يريحه، اللي شافه في غيابك مكانش شوية، إحنا كنا بنموت كل يوم ١٠٠ مرة.
تنهد “إسماعيل” وفرك خصلاته ثم قال بخيبة أملٍ:
_أنا لسه ميت يا “ضُـحى” ومش لاقيني…
ترك حديثه ثم عاد من جديد يقول بهزيمةٍ ساحقة:
_عارفة؟ أنا في كل دا مش هاممني غير إني خايف أخسر “إيـهاب” وخايف أرجع من غير ضهر تاني، خايف عليه يضيع مني وأنا أضيع في غيابه، متعرفيش أنتِ من غيره بكون عامل إزاي، بالظبط زي العيل التايه ماشي يدور بعينه على أمه، ياريته يفهم أنا من غيره بكون إزاي.
لاحظت هي أن الحديث أخذ مجرى آخر غير الذي كانت ترغبه هي، لذا قالت بلهفةٍ مُسرعة تقصد ممازحته في الحديث:
_جرى إيه يا “إسماعيل” هو أنا مكلماك علشان تحكيلي قصة حبك لأخوك؟ يا جدع راعي مشاعري شوية، دا إيه العلاقة المرعبة دي؟ بتلعبوا بمشاعر بنات الناس ليه طالما بتحب أخوك كدا؟ ما كنتوا عيشتوا مع بعض وخلاص، بتدخلوني بينكم ليه؟.
ضحك رغمًا عنه ثم مسح وجهه بأحد كفيه ورد عليها بغلبٍ:
_أعمل إيه بس، كبرت مالقيتش غيره في حياتي، عيني مبترتاحش غير لما تبصله، بس قبل ما تزعلي أنا كلي مبرتاحش غير وأنا معاكِ، بقولك إيه يا “ضُـحى” أنتِ نكدتي عليا وعلى اللي جابوني، روحي أغسلي مواعينك وأنا هروح أشوفه هو بيعمل إيه، عن إذنك يا مطرقعة.
أغلق معها بينما هي ضحكت بيأسٍ وما إن عادت للجلسة وجدت الملامح على غير المعتاد وقد جلست بجوار “عـهد” وهي تسألها بعينيها عن سبب هذا التغير فركضت “عـهد” من جوارها تتقيء بعدما اشتد عليها الألم والتعب ولم تعد بقادرةٍ أكثر من ذلك على صد تعبها ورسم الثبات فوق وجهها.
بينما في بيت العطار كانت “قـمر” تجلس بين أحضان “يـوسف” بشقتها وقد أتى “أيـوب” يحمل حامل التقديم عليه الشطائر المصنوعة لكليهما وقد جلس بجوار رفيقه وقال بمشاكسةٍ:
_استأذنك بس يا هندسة الحاجة اللي أنتَ حاضنها دي تخصني.
رمقه بطرف عينه ثم زفر بقوةٍ وقال بضجرٍ:
_ما تريح، ريح علشان أنا على أخري، البت وحشاني ياعم، أقولك؟ أنزل أحضن أختك وسيبني أنا حاضن أختك، يلا شوف حالك ياعم.
ضحك “أيـوب” رغمًا عنه ثم ترك الطعام وقال بحنوٍ:
_طب بما إني زي بابا بقى اقعدوا كلوا مع بعض لقمة وأنا هروح أشوف حالي، علشان تعرف بس إن قلبي طيب، لو حد فيكم احتاج حاجة كلموني، وأدي دقني أهيه لو عبرت حد منكم.
بنفس الطريقة، ونفس الأسلوب، ونفس الحنو، هو كان الصورة الأخرى للأب الغائب، نعم الملامح ليست نفسها، والشكل ليس هو، والزمان ليس بنفس الزمان، والصوت ليس بنفس الصوت، لكن وحده القلب وحلاوة الطباع به هي التي تُعيد ذكرى الماضي ومن مضى للقلب فتجعله يعود للحياة..
طالع “يـوسف” أثره بحنوٍ ثم تنهد وعاد لتلك التي تجلس في أحضانه ثم لثم جبينها وقال بهدوءٍ:
_مهانش عليا مطمنكيش بعد اللي حصل، بس أنتِ قولتي لـ “عـهد” يا “قـمر” وعلى فكرة أنا عارف إنك قاصدة اللي عملتيه دا، فمتعمليش فيها بريئة علشان مقلبش عليكِ.
ابتعدت عنه بملامح ساخطة بانت في عُقدة حاجبيها وضمة ذراعيها ثم قالت تجاوبه بلين قلبٍ:
_آه كنت قاصدة، علشان هي قالتلي إنها حامل ومستنية رجوعك علشان تعرفك وتفرحك معاها، قولت يمكن دا يفرحك ويساعدك، علشان كنت عارفة إنها هتجيلك مش هتسيبك لوحدك، هي أصلًا متقدرش تخليك لوحدك، هي وجودها ليك مهم، “عـهد” عاملة زي السحر في حياتك بمجرد بس ما تكون معاك أنتَ بتفرح، تنكر إن وجودها فرحك؟ أنا حاولت أساعدك والسبب هو ثقتي في “عـهد” وحُبها ليك.
ابتسم لها ولحُبها له الذي لم يتخيله هو ولو لمرةٍ واحدة، في كل مرةٍ يواجه حبها له يعلم تمام العلم أن قلبها لازال يملأ الأرض حُبًا له، لذا ضمها من جديد ثم لثم جبينها بقوة وفي تلك اللحظة صدح صوت هاتفه برقم “عُـدي” وما إن جاوبه وجده يقول بلهفةٍ:
_هات دكتور من عندك وتعالى “عـهد” تعبانة وبترجع.
ترك موضعه بلهفةٍ وخلفه سارت “قـمر” التي وصلها الحديث عبر الهاتف وقد ركضت خلف شقيقها وهي تضع الحجاب فوق رأسها وقد لحقته حتى خرجت من البيت ولحقته بينما هو مر على “مُـحي” الذي كان يقرأ في المصحف بداخل عمله فناداه بلهفةٍ يكسوها القلق:
_قوم يا “مُـحي” وهات جهاز الضغط، “عـهد” تعبانة وخلي بالك هي حامل شوف هتعمل إيه ولا إيه اللي هينفع تاخده.
وفي لمح البصر تحرك معه الآخر بعدما سحب الأشياء التي يريدها وقد تغاضى عن كل شيءٍ حدث وعن ظهور رفيقه وعن خبر الحمل وكل ما كان يشغله هو رؤية الأخرى التي من المؤكد تحتاج لرعاية أو مجرد عناية روتينية في وضعها هذا..
بينما “يـوسف” فاعتراه الخوف عليها وشعر كأن الأرض تميد به، ثقلت أنفاسه وشعر بالثقل وهو يقترب من البيت كأنه يخشى مواجهة الآتي، صعد من بين قلقه واضطرابه وخوفه وكل شيءٍ حدث وقصد شقة والدتها وما إن ولج وجدها فوق الفراش وهم حولها، ومن بين الجميع تلاقت الأعين بها هي، كانت تشكوه بعينيها لنفسه، فهرول لها يضمها بقوةٍ، ضمها أمام الجميع فظنوا أنه في أشد الحاجة كي يُطمئنها، وفي الحقيقة هو من كان في أشد الحاجة كي يُطمئن نفسه..
ضمها وضمته تلك لا تُعني سوى عودة الغريب لموطنه..
____________________________________
<“والحق حقٌ أن يتبع ولو كان شاقًا على النفس”>
ولو أن المرء تجاهل كل شيءٍ شاقًا على نفسه..
لما كنا رأينا الناجحين في مكانٍ ما، لذا عليك بشيئين لا يصح غيرهما، إما أن تُحارب الباطل في نفسك، وإما أن تصرخ مناديًا وساعيًا خلف الحق، وكُلما كان طريق الحق شاقًا عليك تذكر أن أهل الباطل توغلوا بسكوت أهل الحق عن حقوقهم..
في منطقة نزلة السمان..
بالتحديد في المكان الخاص بـ “يـوسف” وقف “مُـنذر” بجوار رفيقه “بـاسم” الذي استلم العمل الجديد منذ انتصاف النهار، وقد حدثه الأول يشرح له بهدوءٍ كي يرفع الكُلفة بينهما:
_المكان هنا مكانك، الشباب عاوزين حد ثقة ويكون مفتح يدير المكان و “يـوسف” لما عرف مقالش حاجة، بالعكس دا رحب أوي بالفكرة وقال إنه هيخفف الحمل من عليه، وأظن كدا أفضلك، أحسن من البهدلة في المطعم على كام مليم، طالما ناوي تمشيها عدل بقى من تاني.
ألقى “بـاسم” سيجاره في منفضة السجائر ثم زفر بقوةٍ وقال:
_الفلوس قصرت معايا علشان علاج “نورهان” ويعتبر معيش فلوس غير الوديعة اللي سايبها للزمن، علشان كدا قولت آجي هنا، وغير كدا مبحبش حد يتمريس عليا، وكنت هتحمل عادي طالما بشوف شغلي، بس “نورهان” مضمنش هتتحمل ولا لأ، علشان كدا لازم آجي شوية على نفسي.
ربت “مُـنذر” فوق كتفه ثم قال بغير تصديقٍ لما آلت بهما الاوضاع إليه مؤخرًا:
_تصدق الحال غريب فعلًا؟ مين كان يصدق نعمل كل دا؟ بس واضح إن ربك أراد وكتب لينا نحب علشان نعرف إن فينا نور لسه منطفاش، اتعودنا ناخد بس، بس لما حبينا بقينا عاوزين ندي اللي حوالينا كل حاجة اتحرمنا منها، شوف اللي يريحك وأعمله وأنا معاك في اللي تعوزه، والفلوس متشيلش همها، أنا وأنتَ واحد، مش أول مرة نكون مع بعض.
ضحك له “بـاسم” ثم غمز وقال بشقاوةٍ:
_أحلى مسا.
رحل “مُـنذر” وتركه في عمله الجديد، بينما “بـاسم” جلس فوق المقعد من جديد وترك عينيه تسبحان فوق صورته مع “حمزة” وحينها تردد صوت الراحل في أذنه بقوله الحماسي:
_أسمع مني، بكرة اللي زيك وزيي الناس كلها هتعرف قيمتهم، أنتَ رهيب يا “بـاسم” وليك طُرق بتخليك توصل لأي حاجة، بتجيب المعلومة لو من بوق الأسد، غير كدا تصويرك لوحده وكشفك للقرف دا يخلي العالم كله يفتخر بيك، إحنا بس عاوزين شوية حرية وشوية نور في الطريق، بس هييجي يوم والناس كلها هتقدرنا وتعرف إن لولا العلم والشغل والشباب البلد دي مش هتقوملها قومة من تاني..
ابتسم “بـاسم” بسخريةٍ مريرة وهو يترك سبيل الذكرى ثم فتح هاتفه وبالأخص ذاك التطبيق الغريب الذي يثير غثيان معدته في كل مرةٍ يضطر لتصفحه، موقع خاص بكشف المستور، وإظهار العورات، موقع لا تجد منه فائدة بقدر ما تجد منه الضرر، ألا هو موقع “تيك توك” وحينها وجد أسرة كاملة الأفراد يجلسون في الانتظار لمن يمن عليهم بهدية، ابتسم بسخريةٍ أكبر، ثم انتقل لمقطعٍ آخرٍ ليجد مجموعة شباب مراهقين ومعهم مجموعة مراهقات في دويلةٍ ما تفتح لهم أذرعتها وتصنع منهم أبطالًا، عاد الضيق يخيم عليه ويطبق فوق صدره، ثم أغلق التطبيق وجلَّ ما استطاع أن ينطق به كان:
_الله يرحمك يا “حـمزة”.. الله يرحمك ويرحمنا.
تذكر أمر الحبيبة التي استحوذت على نضاله، لذا أخرج هذا الرقم الذي تحصل عليه من المكان ثم طلبه، كان ينتظر الجواب مُتلهفًا بشغفٍ لكنه صُدِم حينما أغلق الهاتف بوجهه، فعاد له الإحباط، لكنه لم يدم طويلًا حيث مرت دقائق وصدح الهاتف بنفس الرقم فجاوب مسرعًا وبعد حديثٍ عابرٍ، مدت الفتاة يدها لـ “نـورهان” بالهاتف فأخذته منها تضعه فوق أذنها بخوفٍ، فتنفس هو بقوةٍ ثم قال بثباتٍ كاذبٍ:
_أنتِ كويسة؟.
توسعت عيناها وسألته باستنكارٍ غلفته الدهشة:
_”بـاسم”..!! بتكلمني إزاي؟.
_بكلمك بالطريقة الوحيدة اللي عرفت أتصرف فيها، بس أوعي تعرفي حد يا “نورهان” متوديناش في داهية، المهم أخبارك إيه؟ أنتِ كويسة عندك؟.
هكذا كان جوابه عليها، بينما هي ترقرق الدمع في عينيها وظهر في تهدج صوتها وهي تقول بصوتٍ باكٍ:
_كويسة الحمدلله، ولسه مصلية من شوية، من ساعة ما صليت وأنا قاعدة فيا حاجة غريبة، أول مرة أصلي أصلًا ومش عارفة ليه فضلت أعيط كتير، وبعد ما صليت دعيتلك كتير أوي.
تأثر بحديثها ورق قلبها وكذلك تبدلت نظراته فابتسم دون أن يعي لذلك ثم قال بحنوٍ على عكس جموده الدائم معها:
_ربنا يتقبل منك ويرجعك ليا بالسلامة.
ابتسمت هي تلك المرة بسعادةٍ ورفرفت بأهدابها وقد طرق ببالها أكثر الأشياء التي تقلقها وكانت تعطيه الحق فيما سبق فيها، لكن تلك المرة هي تخشاه وتخشى أن يفعلها، لذا سألته بترقبٍ:
_”بـاسم” أنتَ قولتلي قبل كدا كل ما تضايق بتروح الكباريه، أنتَ أكيد الأيام دي متضايق، روحت الكباريه تاني لما أنا مشيت؟.
أدهشته بسؤالها الذي لم يتوقعه منها لكنه لم يكن بكاذبٍ كي يخفي عليها أي شيءٍ، لذا سألها أولًا كي يُخيرها:
_عاوزة الحقيقة ولا اللي يريحك؟.
خافت من سؤاله، لكنها جاوبت بثباتٍ:
_الحقيقة منك هتريحني يا “بـاسم”.
وبهذا الجواب سدت عليه سُبل الكذب، فجاوبها بصدقٍ:
_اليوم اللي مشيتي فيه أنا روحت، روحت بس علشان أعاند نفسي وأثبت إنك مش فارقة ولا قادرة تضعفيني، بس لما دخلت هناك مقدرتش أعملها حتى وأخونك في خيالي، أنتِ متستاهليش حتى أخونك بعيني، علشان كدا مقعدتش حتى، طلعت أجري ونمت في أوضتك، ولسه بنام فيها وباخد الباندا في حضني..
ضحكت من بين عبراتها ومسحت دموعها ثم ردت:
_وأنا مصدقاك.
_حيث كدا بقى شدي حيلك علشان محتاج اشرحلك عملي أنا كنت عامل إزاي من غيرك، أصل بصراحة الكلام مش هيفيد بحاجة، حتى إسألي باندا بتاعك دا أنا حضني حنين إزاي.
لو أغلقت بوجهه هي معها كامل الحق، لكن كيف تفعلها وهي من الأساس تحتاج لصوته كي تُكمل الطريق الذي بدأته؟ لذا قررت أن تسعد بتلك اللحظات التي تستمع فيها لحديثه وقد أشارت لها الفتاة أن تسرع فاستعدت هي لذلك كي تغلق معه سريعًا، وحينها عادت لكن بحالٍ غير الحال، عادت والبسمة لم تفترق عن ثُغرها الذي بدأ يستعيد لونه الوردي وبدأت ملامحها تعود لرونقها بعدما كانت تُغلفها هالة سوداء تخفي ملمحها..
أما هو فعاد للعمل بطاقةٍ كان يحاول الهروب من علمه بمصدرها، خاصةً وإن كان هذا المصدر يخصها هي وحدها، فبمجرد سماع صوتها عادت له الحياة في عينيه من جديد، لذا أخرج الهاتف يرى صورتها بين أحضان خالته وضحك حينما وجدها ترمقه في صورةٍ أخرى بنيرانٍ ثم تنهد وعاد يكمل العمل وأولًا وأخيرًا هي السبب في كل شيءٍ يفعله..
____________________________________
<“النيران في قلبي تحرق ألف مدينة بأهلها”>
في نهاية المطاف من سيقوم بتتويج القائد إذا قتل الجيش بأكمله؟ من سيكرم القائد إن كانت المدينة بأكملها خائنة؟ النيران في قلب الأحرار تحرق ألف مدينة خائنة، فلو كل المدن بأهلها كانوا ظالمين، فبنيران الحُرية سيكونوا مُحترقين..
فلا القائد وجد من يكرمه ويتوج رأسه،
ولا المدينة انتهى أهلها من ظلمهم..
كانت ابنته تتشبث به وكلما أراد أن يبتعد عنها عادت تبكي وتصرخ بين ذراعيه، وحينها يعود هو متقهقرًا ويتركها بين أحضانه تهدأ من نوبة البكاء، بينما “سـمارة” فكانت تعلم أنه يخفي عنها شيئًا ويهرب من فضح أمره، لذا تركته بكامل حريته حتى يعود ويُخبرها هو من نفسه، وما إن نامت “دهـب” زفر براحةٍ ثم تحرك يضعها بالفراش ولثم جبينها وقبل أن يخرج وقفت “سـمارة” تعترض طريقه وهي تقول بلهفةٍ:
_أنتَ وعدتني مش هتعمل حاجة تاني، متخلفش بوعدك معايا، أبوس إيدك أنا ماليش غيرك ومش عاوزة أخسرك، بلاش يا “إيـهاب” تعمل حاجة تانية.
ولأنه يعلم أنه خان الوعد أخفض عينيه أرضًا وقال وهو يستعد للرحيل والهرب من لقاء عينيها بعينيه:
_المرة دي مش هينفع أوقف، بس أوعدك دي الأخيرة.
هكذا رد ورحل، أما هي فلا نيرانها أنطفأت ولا هدأت أمواج اضطرابها، فهو دومًا يحنث بوعده معها وهي تغفر، لا تعلم أي ثغرةٍ تلك التي يجدها كي يُكمل ما بدأه وهي معه؟ لا تعلم كيف تغفر له خطاياه ووعوده الكاذبة، لا تعلم أي أرضٍ تلك التي يقف عليها بكل صلابةٍ دون أن يخشى اهتزازٍ، ولا تعلم أي مدينةٍ يسكن هو حتى يملك كل هذا التجبر، لكنه دومًا يربح عليها هي وحدها..
في الأسفل أتى “سـراج” بسيارته وهو يقودها بجنونٍ حتى هاجت وماجت الرمال أسفل إطارات السيارة وشكلت لوحة قديمة حاوطت سيارته الفارهة، وما إن ترجل منها وقف أمام “إيـهاب” يهدر فيه بغضبٍ:
_المرة دي حقي هاخده أنا، هو فين؟.
أشار له أن يتبعه وقد سارا خلف بعضهما، النيران في قلبيهما تحرق المدن، والأرض أسفلهما تتحمل صلابة جبال، الأرواح فيهما تهفو للتحرر من قيود الأغلال الصدأة، والجسد يتأهب لعراكٍ كي تهدأ ثورة الدماء به، وقد انتهى بهما المطاف في ساحة الركض التي ترك بها خيلين جامحين، ثم ترك معهما كلبين أقرب في شكلهما لذئابٍ ضارية، ثم فتح حقيبة السيارة وأخرج منها “مولانا” يجره جرًا فوق الأرض غير آبهٍ بصرخاته وآلامه، ثم فتح الباب الخشبي ورماه بالمنتصف فبدأت الكلاب تعوي والخيول تتحرك..
أما “سـراج” فجاور رفيقه الذي نزل على عاقبيه ثم كشف وجه الرجل في نفس اللحظة التي حضر بها “إسماعيل” بمحاذاة “نَـعيم” الذي كان يجاوره وهو يتحرك معه، وما إن لمحه “إسماعيل’ع” عادت أسوأ الكوابيس تتجسد في عينيه، عادت له الهزائم وهو الذي ظن نفسه ربح أخيرًا، بينما “إيـهاب” فرفع أكمام قميصه ثم قال من بين فكيه المشدودين:
_أنتً بالذات مش هقدر أسيبك، علشان لو النار في قلبي من الـ *** التاني ضعف، فهي منك أنتَ أضعاف مضاعفة، النار في قلبي منك تحرق بلد كاملة كل ناسها شبهك، علشان كدا قابل.
وقف “نَـعيم” بتعجبٍ وقد أدرك أن هذا هو الشيخ الذي جعل “إسماعيل” تحت سطوة الجن، لذا تلك المرة ترك “إيـهاب” يفعل ما يحلو له، بينما “إيـهاب” فتحرك يكشفه بعيدًا عن القماش الذي يخفي جسده ثم هدر بقوةٍ:
_لما كنت في السجن أول ما دخلت قابلت هناك راجل كبير، سن ومقام، كان بيمشي الكل يعمله ألف حساب، الكبير قبل الصغير بيحترمه، بس لما جه على طريقي وسكتي قالي أكبره زيهم، ساعتها رفضت وقولتله أنا كبير نفسي وماليش كبير، وقتها هو ضحك، وقالي إن هييجي يوم واحتاجه علشان بس يساعدني وهو يا يوافق يا يرفض، وقتها ضحكت عليه وفضلت أعاند معاه..
سكت هنيهة يُطالع وجه شقيقه ثم عاد لمن يحدثه وقال مستأنفًا حكايته:
_لحد ما كنت مرة في الحوش برة مستني الزيارة بتاعة “إسماعيل” بس هو مجاش ودي كانت أول زيارة ميجيش فيها، كنت هتجنن لحد ما أبو واحد كان مسجون معايا قالي إن “إسماعيل” اتخطف والسمان كلها مقلوبة عليه، ساعتها كنت تايه ومضروب فوق راسي، كنت هدفع نص عمري بس علشان أسمع صوته، ولما الحال ضاق بيا جوة روحت للكبير، وقفت قدامه وطلبت مساعدته وذليت نفسي، وساعتها ضحك وقالي حاجة عمري ما هنساها
“اللي ميجيش بمزاجه، بكرة هييجي لمزاجه”..
صفعه ببنان أنامله فوق وجنته ثم أكمل:
_وقتها عرفت هو ليه كبير علشان واثق إن في أي وقت كنت هحتاجه، وساعتها ساعدني وخلاني أتطمنت على “إسماعيل” وبعت رجالته لهنا كمان تطمني، وقتها أنا مصعبتش عليا نفسي، بالعكس، أنا علشان خاطر “إسماعيل” أرمي نفسي في النار، ودلوقتي أهو لو اللي هعمله فيك بنهاية عمري، أنا موافق، وأنتَ وحظك يا الكلاب المسعورة تنهش لحمك، يا الخيول الجامحة تدوسك، اختار موتة تناسب وساختك.
وجاء الرد عليه مرتجفًا بصوتٍ خفيضٍ بالكاد يُسمع:
_ا..ارحمني، أبوس إيدك ارحمني..
والرد منه كان بصرخةٍ مقهورة وهو يضربه فوق كتفه:
_وأنتَ مرحمتهوش ليه؟ لما كان تحت إيدك بيصرخ وخايف مرحمتهوش ليه؟ لما كان كافي الكل شره وقاعد في شقته بيوضبها علشان يتجوز فيها مرحمتهوش ليه؟ طفيت فرحته وسرقته من نفسه ليه؟ مرحمتونيش ليه وأنا قاعد عاجز مش عارف أوصله، اللي زيك خسارة فيه الرحمة.
أنهى رده ثم تحرك يقوم برخو حبال الخيول وكذلك أرخى قيود الكلاب ثم دفع الرجل بقدمه للمنتصف، وما إن علا نباح الكلاب مع صهيل الخيول وبدأت الرمال ترتفع من مستقرها فتشكل قسطلًا ورُهاجًا، بينما الرجل فظل يزحف للخلف بخوفٍ من الكلاب التي تعوي بصوتٍ تهتز له القلوب، وفي الخلف الخيول تركض بحركاتٍ دائرية كما تم تدريبها، وهو في النص ضحية سقطت فوق الأرض والأعين الشامتة تتطلع إليه برضا نفسٍ..
ظل يصرخ ويرفع صوته كي يُكابد قسوة الليل بأصوات الحيوانات القاسية حتى تحامل على نفسه ووقف أخيرًا وبدأ يركض في الساحة حتى اقتربت منه الكلاب فصرخ ما إن اقترب أحدهم منه كي يقبض على ذراعه بين فكيه، لكنه سقط في فخٍ أقوى، حيث حفرةٍ مظلمة سقط بها جعلته يصرخ، فاقترب منه “إيـهاب” وخلفه “سـراج” الذي كان يقف مذهولًا..
بينما الأول فطالعه بعينين تقطران غلًا ثم قال بتشفٍ:
_أهي دي الحفرة اللي تليق بيك، وريني مين هيخرجك من هنا، كدا بقى عندك كلاب صعرانة، وخيول جامحة ملهاش كبير، وتحت منك تعابين وأنتَ ونصيبك بقى، بس خليك فاكر حاجة مهمة، كل دا نتيجة أفعالك، فبشوقك بقى..
أولاه ظهره واختفى فصرخ الآخر مناديًا ومستغيثًا وقد رفع صوته ينادي على “إسماعيل” كي يعود ويغيثه، ظل يصرخ ويصيح ما إن وصله فحيح الثعابين التي تستقر أسفل قدمه، وفي تلك اللحظة تمنى الموت أهون على قلبه مما يُعانيه الآن، الخوف يحاوطه من كل مكانٍ ولم يأمن حتى لوقوف قدمه هكذا فوق الأرض..
بينما في الأعلى ركض “إسماعيل” يختبيء بين ذراعي شقيقه الذي ضمه بقوةٍ ثم ضم “سـراج” أيضًا وتلك المرة تنفس أخيرًا بحريةٍ ما إن أطفأ نيران قلبه، بينما “نَـعيم” فابتسم له ثم رفع إبهامه لأول مرةٍ يُحييه على عنفه، لكن في الحقيقة ما فعله هو ماهو إلا رد فعلٍ لفعلٍ صفعه فوق وجهه..
___________________________________
<“في النهاية سوف يحدث ما لم تتوقعه أنتَ منهم”>
سوف تعلمك الحياة شيئين لا ثالث لهما..
ألا تفرط في ثقتك في فردٍ لم تجمعك الحياة بتحدٍ مع نقطة ضعفه، والثاني ألا تحارب أحدًا في نقاط ضعفه، وإن جادت عليك سوف تعلمك كيف لا تحتفظ بنقطة ضعفٍ لنفسك..
في ظهر اليوم التالي بعد مرور ليلةٍ مرت أيًا كان وصفها..
كان “أيـوب” خارجًا من المسجد بعد أن أغلقه خلف خروج المُصليين، وقد وقف مع أحد الشباب بالخارج يتحدث في أمور تخص العمل وسيره، وقد سبقه “إيـاد” نحو المتجر الكبير بعدما انتهز الفرصة مع عمه كي يجلب له كل ما يريد من المحل، وأثناء مروره لمحها، هي نفسها لا غيرها أو حتى أخرى تشبهها، هي التي ولدته..
لمحها تجلس باكيةً فوق درجٍ قريبٍ من بيتهم، تلك المرة كانت تظهر على ملامحها، كانت عبراتها تهبط فوق وجنتيها، تلك المرة تألم لأجلها، وقف في صراعٍ بينه وبين نفسه أي الشرين يختار، يختار أن يبتعد فيجلس وحده برفقة عذاب الضمير، أم يقترب فتُدهس كرامته، أثناء صراعه تذكر حديث “أيـوب” عن صلة الرحم، غرق في فكره بينما هي رفعت رأسها فتلاقت الأعين ببعضها..
لأول مرةٍ تراه منذ ما يقرب عامين، أيام ضاعت منها بسببها هي، فلذة كبدها الوحيد تركته في الحياة صريعًا بين الأمواج تتقاذفه يمينًا ويسيرًا، تركته ولم تملك حتى حق نظرة عينٍ منه، لذا أخفت عينيها وهربت منه قبل أن يفعلها هو، بينما هو فربح الإنسان فيه، فاقترب يجلس بجوارها ثم كابد وصارع حتى أخرج الحديث بقوله:
_أنتِ كويسة؟ شوفتك هنا بتعيطي.
حركت عينيها نحوه وهي تبكي بقوةٍ أكبر وقد أنهارت أمامه، أما هو فكان مترددًا أمامها، لا يعلم كيف يتصرف في وضعٍ هكذا، لا يعلم كيف يكون الفعل في موقفٍ هكذا وهي التي حرمته منها بنفسها، لذا جل ما استطاع أن يفعله فقط مد كفه يربت على كفها بحنوٍ ثم قال بهدوءٍ:
_متعيطيش، ومينفعش تقعدي كدا في الشارع، تعالي أوصلك البيت ولو عاوزة حاجة أنا هجيبها ليكِ.
_عاوزة أحضنك مرة، ينفع؟.
هكذا جاوبته بينما هو فذهل من ردها، ربما كان يتوقعه وربما اعتاد قسوتها، لكنه حقًا لا يعلم ماذا يفعل، لذا سحب كفه من كفها ثم قال بجمودٍ قصده أمامها:
_تعالي أوصلك،
علمت من رده أن بابه موصودٌ لذا قالت ببكاءٍ:
_لو أنتَ هتيجي توصلني يبقى ياريت.
أسندها كي تقف ثم أبتعد عنها قليلًا وفي تلك اللحظة أتى “أيـوب” ولمحهما سويًا وقد رآها مع ابن شقيقه وحينها تولى “إيـاد” مهمة الحديث فقال لعمه بصرامةٍ لم تلق مع عمره الذي بدأ يزهو:
_هوصلها وآجي تاني، بعد إذنك.
أومأ له “أيـوب” موافقًا ثم ولج المكان ينتظره لكن عيناه كانت تتبع مكان ابن شقيقه وتحركه، يرى حصاد ما زرعه بعينيه في صغيرٍ رباه على يده ولعل الخير كان في ألمه.
في منطقة نزلة السمان..
تحديدًا ببيت “نَـعيم” قُبيل العصر بلحظاتٍ قليلة كان البيت ممتلئًا بالجميع، تجهز “تَـيام” كي يذهب للحارة وقد مر على والده في بهو البيت ثم جلس بجواره وهو يقول بهدوءٍ:
_أنا هتحرك دلوقتي بس ممكن أتأخر علشان “آيـات” هتقضي اليوم هناك وتيجي بليل، لو محتاج حاجة كلمني ومش هتأخر عليك.
ابتسم له “نَـعيم” ثم ربت فوق كتفه، وقد خرج “تَـيام” من البيت، بينما “مُـحي” فهرول فوق الدرج وهو يرتدي ثيابه وصاح باسم شقيقه عاليًا فلوح له الآخر بضجرٍ، وحينها ضحك “نَـعيم” عليهما فوقف “مُـحي” يُهندم ثيابه ثم مال على والده يُلثم وجنته وقال بشقاوةٍ مرحة:
_ونعم الرباية يا “نَـعيم” ابنك مشافش أدب يا حج.
لكزه في كتفه فعاد هو للخلف ثم تنهد بقوةٍ وقال:
_هروح الصيدلية بس هخليه يوصلني معاه، هتوحشني أوي.
تعجب منه “نَـعيم” لكنه عاد يراقب خروج ابنه خلف الآخر، بينما في الخارج وقف “تَـيام” بجوار السيارة الخاصة به وفي تلك اللحظة ركض له “مُـحي” وهو يقول بلهفةٍ:
_ماهو أنا لو كان اسمي “آيـات” كان زمانك فاتحلي باب العربية دي، بس نقول إيه مفيش رباية ولا أدب، زيرو أخلاق.
كاد شقيقه أن يصفعه، لكن في تلك اللحظة عاد الآخر للخلف ثم قال بمزاحٍ:
_وصلني معاك يا رب يجيلك عيل شبهي، عربيتي أديتها لـ “عبدالمعز” راح يجيب بيها بنته من عند حماته علشان عربيته بايظة، ها هتوصلني؟ “إيـهاب” مدي الرجالة كلها أجازة، أخوك هيتسوح، بس هنستنى العصر نلحقه في الجامع جماعة بعدها نمشي.
تذمر “تَـيام” واستعد للرحيل حينما أولاه ظهره وفي تلك اللحظة قفز “مُـحي” فوق ظهره ضاحكًا وحينها أراد “تَـيام” أن يسقطه أرضًا في نفس لحظة خروج “نَـعيم” وبجواره “إسماعيل” و”إيـهاب” ومعهم “سـمارة” تحمل ابنتها فوق ذراعيها وهي تضحك على الأخوين، حينها تعانقا سويًا أخيرًا..
وفي تلك اللحظة صدح صوت الأعيرة النارية تخترق الأذان وتُزلزل البيت بأكمله، أنقلب البيت رأسًا على عقبٍ ودب الذعر في قلوب الجميع خاصةً حينما استقر أحد الأعيرة النارية بجسد واحدٍ من الأخوين، حينها اهتزا الجسدان مع بعضهما وسقطا أيضًا مع بعضهما فوق الأرض…
هرول الجميع عدا “نَـعيم” الذي وقف في حالة صدمة، شلل أصاب جسده فعجز عن الحراكِ، هو وحده من يخشى الاقتراب، يخشى أن يرى الماضي يُعاد بأم عينيه، يخشى لحظة كشفه لفراش صغيره حينما وجده فارغًا منه، يخشى أن يقترب فيرى الماضي من جديد، اليوم الماضي يقف في حاضره يتعدى عليه وهو لازال يخشى الاقتراب فيجد جسد أحدهما كما الفراش خاليًا من الروح، ولوهلةٍ تمنى لو أن الرصاصة اخترقت جسده هو قبل أن يقترب ويرى بعينيه فراق الروح منه، لكن وحدها صرخة من فم أحد أبنائه باسم الآخر زلزلت القلوب بصراخٍ مقهور:
_”مُـــحي”..!!.
وفي هذا الحين علم “نَـعيم” أي الروحين غادرت الجسد كما سبق وغادرت روحٌ الفراش والبيت..
