رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم فاطيما يوسف


 رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثاني والعشرون


تمرُّ الأعوامُ بنا كأنها ظلٌّ عابر، لا نكاد نشعر بثقلها ولا بوجودها، ولكن تسكن أرواحنا لحظةَ حبٍّ صادقة تظلُّ حيّةً في القلب، فـتُضيء العمر كلّه بنورها، فـنظرةً واحدة قد تُوقظ فينا ما خمد، وارتعاشةَ عينٍ قد تهزم الكبرياء وتعلن عن ميلاد قلب عاشق، فـكيف ننسى البدايات التي علّمتنا المعنى الأول للدفء، وعرّفتنا لذةَ الانتظار ولهفةَ اللقاء؟ فـأول نبضة حبٍّ تبقى في الذاكرة كأول نفسٍ دخل صدرَ الحياة، لا تموت مهما تتابعت الخيبات، ولا تبهت مهما طال الغياب، فبعض اللحظات تُعاش مرةً، لكنها تُخلّد إلى الأبد وتظل ساكنة الروح والوجدان كشعاع أملٍ نعيش على نوره عتمة الليالي .
ما إن سمع "ماهر" الحوار الدائر بينهما حتى توتر بشدة، وشعر بأن "رحمة" على وشك أن تُشعل في وجهه نيران المواجهة، ولن تتركه دون حساب. حاول أن يُخفي ارتباكه خلف ملامحٍ ثابتة، وبدأ يلتقط أنفاسه ببطءٍ ليُهدئ أعصابه، فهو يدرك أنّ لحظة الانفـ.ـجار قادمة لا محالة، قرر أن يُمسك بزمام الموقف بعقلٍ بارد، وأن يستعد لكل سهمٍ قد تطلقه نحوه،
وبينما كان يفكر في طريقةٍ لمواجهتها، منحته هي الفرصة على طبقٍ من ذهب، حين سمعها تخاطب ابنتها بنبرةٍ مفتعلة تختلط بالغضب:
ـ يا نهار ابوكي اللي مطين بطين هو والزفته اللي اسمها "كارما" دي اني هخلي يومهم عاد مش معدي النهاردة، ويانا يا البت دي عاد في البيت.
كل ذلك وهي تدور حول ابنتها في ضيقٍ لا يحتمل، كأنّ الأرض تضيق بها بما رحبت، تضرب كفًّا بكفٍّ في حنقٍ مكبوت، وتعـ.ـضّ على أسنانها غضبًا ،كانت تمشي ذهابًا وإيابًا، والنـ.ـار تشتعل في عينيها، 
واصلت حديثها مع نفسها، تردّد كلمات ابنتها بنبرةٍ يختلط فيها الذهول بالغضب، وكأنها لا تصدّق ما سمعت، فتعيد الجملة مرةً بعد أخرى وكأنها تُفككها بأسنانها:
ـ بقي رايح يجول لها انتِ جميلة ويمسح لها الدم ويشيلها، بيستغفلوني والله العظيم يا "ماهر" لا تبجى ليلتك مش معديه عاد النهاردة .
في تلك اللحظة، استغلّ "ماهر" الفرصة واقتحم الغرفة بخطواتٍ حادّة، ألقى حقيبته على المقعد بعـ.ـنفٍ جعل الصوت يرتدّ في الأرجاء كصفعةٍ قاسية، وكانت عيناه تقدحان شررًا، وفي ملامحه بريق الغضب،
التفتت "رحمة" إليه، بنظارتها المشتعلة التي لا تقلّ حدةً عن نظرته، فقد خبرت طباعه جيدًا، وعرفت من هيئته أنّ عاصفةً قادمة لا محالة،
وقفا متقابلين، المسافة بينهما قصيرة، لكن النـ.ـار التي اشتعلت في العيون جعلت الهواء أثقل من أن يُتنفّس،
اقترب منها خطوةً واحدة، حتى صار صوته يلامس أذنها، وهمس بنبرةٍ مملوءة بالغضب والكبرياء المكبوت:
ـ هو مين دي عاد اللي ليلته مطينة بطين ومش معدية النهاردة؟! وازاي تجولي الكلام دي قدام البنت، وتتكلَمي بالطريقة داي؟
دي انتِ اللي ليلتك ان شاء الله هتتقلب عليكِ النهاردة يا بت "سلطان" ، علشان تعرِفي تتحدتي عني زين قدام البنت، همي اسبقيني على الأوضة .
لم تكن "رحمة" تتوقع أن يكون "ماهر" قد سمعها وهي تتحدث بتلك الحدة، لكن شيئًا في داخلها تمرّد على الخوف، فقررت أن تواجهه بثباتٍ لا يخلو من تحدٍّ، متسلّحةً بما قالته "فيروز" ، أما هو، فاقترب من ابنته بخطواتٍ محسوبة، ثم انحنى يقبّل رأسها برفقٍ مصطنع، وأصابعه تعبث بخصلات شعرها في تودّدٍ بارع المكر، كانت نظراته بين الطفلة والأمّ كوميض برقٍ يسبق الرعد، يجمع بين اللين والوعيد، وبينما يبتسم لابنته:
ـ كان لازمن تسلمي بابا تسليم أهالي اكده وتحكي لماما عن يومك الجميل اللي قضيتيه النهاردة مع "كارما" ؟! دي انتِ هتخلي الليلة فعلا مهتعديش النهاردة يا "روزي" .
نظرت"فيروز" إلى والدها بعينين يملؤهما العجب، حاجباها التقيا فوق عينيها الصغيرتين كقوسين من دهشةٍ بريئة، ثم أمالت رأسها قليلًا ،وهي تقول بصوتٍ رقيقٍ يحمل براءة الطفولة وفضولها النقي:
ـ يعني ايه يا بابي تسليم أهالي دي؟
مامي بقت جميلة قوي، وبقت كل يوم تقول لي عملتِ ايه في الحضانة؟ وتجيب لي بيجامة زي بتاعتها، اني بحب مامي قوي يا بابي علشان هي بقت تحبي "روزي" ، ما تزعلش مامي .
احتضن "ماهر" ابنته بحنو ثم أخذ يطبع قبلاتٍ حانية على وجنتيها، ومرر أنامله على شعرها الناعم في رقةٍ:
ـ من عيوني يا جلب بابي هو اني اجدر ازعل مامي، انتِ ومامي أغلى حاجة عِندي في الدنيا كلاتها،يلا نامي دلوك علشان وراكي حضانة الصبح، وكمان انتي تعبتي النهاردة جامد في اللعب، يلا يا حبيب بابي فين بوسة بابي الكَبيرة .
قفزت إلى أحضانِه كمن تلجأُ إلى وطنها الأخير، وطبعَت على وجنتِه قبلةً تتّقدُ شغفًا، تُعلنُ بها تحيّةَ المساءِ بلغةٍ لا تُقالُ بالكلمات:
ـ تصبح على خير يا بابي وادي البوسة داي لمامي، وقول لها؛ "فيروز" تقول لك تصبحي على خير.
كلُّ ذلك و"رحمة" واقفةٌ تهتزُّ ساقاها بعصبيّةٍ ظاهرة، لا تسمعُ ما يُقال، وقد ضاقت بنفسِها حدَّ الاختناق، التفتَ إليها "ماهر" بعدما تركَ ابنتَه، فرآها كما هي، جامدةَ الملامح، تائهةَ النظرات، فتحوّل وجهُه فجأةً إلى الغضب، وتغيّرت سحنته، جذبها من يدِها بعنـ.ـفٍ صامت، وخطواتُه تضربُ الأرضَ كأنّها أوامرُ عقاب، حتى وصلا إلى الغرفة، أغلق البابَ خلفه بإحكامٍ كمن يُعلنُ بدءَ محاكمةٍ سرّية، وما زالت يدُه قابضةً على يدِها لا يُفلتها، أجلسها على الكرسيّ وأحاطها بذراعيه، محاصرًا إيّاها بين كتفيه، ثم قال بصوتٍ يقطرُ غضبًا مكتومًا:
ـ هتعجلي ميتا يا بت "سلطان" وهتعرِفي انك أم مسؤولة، وكل كلمة بتطلع من لسانك جدام بنتك لازم توبقي بحساب؟
كيف تجولي لها نهار بوكي مطين بطين؟! انتِ ازاي نزلتي للمستوى دي جدام البنت؟
وأكمل صياحه بها بصوت بغضب: 
ـ انتي ازاي يا هانم ما تحسبيش كل كلمة جبل ما تطلعيها من لسانك؟ ولا الظاهر جعدتك مع المجرمين والحرامية في المحكمة كل يوم والتاني ما خليتكيش تفرجي بين البيت والشغل وبين معاملتك مع بتك ومعاملتك مع جوزك بالطريقة الحديد بتاعتك دي؟
في تلك اللحظة، ارتعدت "رحمة" كورقةٍ في مهبِّ ريحٍ عاتية، فقد أفزعها صوتُه الغليظ وغضبُه المتفـ.ـجّر، وطريقته التي تشي بعاصفةٍ لا تُبقي ولا تذر، كانت تدرك أنّ الكلمتين اللتين تفلّتتا منها في ساعةِ انفعالٍ كانتا ثقيلتين كالحجارة، لكنّها عزمت ألّا تترك له الساحة يقلبُ الطاولة عليها، ولا أن يُلبسها ثوبَ الذنب وحدها،
جمعت أنفاسها وحدّقت فيه بثباتٍ زائفٍ يخفي ارتجافًا داخليًّا:
ـ اه جول بقى ان انت سمعت الحوار من اولَه والكلام اللي جالته بتك فقلت أقلب الترابيزة عليها، واجيب الحوار من آخرَه، وامسك في الكلمتين اللي قلتهم من حرقة دمي من الكلام اللي بتك قالته لي يا حضرة المحامي العظيم، تصدِق بالله انت طلعت دماغك مش سهلة فعلا بس بلاش حوار جلب الترابيزة علشان اني كشفاك كويس جوي يا "ماهر" .
كان "ماهر" مصمّمًا ألّا يدعَ الأمر يتفاقم معها، يعلم أن "رحمة" إن هو انصاع لما تريده، فالنهاية ستكون إمّا بانسحاب "كارما" من حياته، أو باعترافٍ يهدم ما بناه بأنّها أخته،
هي لا تزال غارقةً في عملها كما كلِّ يوم، أمّا هو فثابتٌ على رأيه، لا يلين ولا يهادن، غيرَ مستعدٍّ للتفريط في "كارما" ولا في راحة ابنته، أيًّا كان الثمن،
ارتفع صوته بغتةً كصاعقةٍ تضرب صمتَ الغرفة، ثمّ هدرَ وهو يضرب الكرسي بقبضته كمن يُعلن حربًا لا رجعة فيها:
ـ ايا كان السبب يا هانم أي حاجة تُحصُل وعايزه تعاتبيني فيها تعاتبيني بيني وبينك وما تتحدتيش قدام البنت واصل، ولا تنطقي اصلا من لسانك الكلام الشين دي،انتي واحدة واخدك دكتوراة في القانون يعني المفروض لسانك دي ما ينطجش الا كلام زين وخصوصا قدام البنت، دي أول حاجة،ثانيا يا هانم انتِ ازاي تستدرجي البنت وتسأليها على اللي حوصل بعد ما جت من الحضانة ما بينا وما بين المربية بتاعتها وكانك عايزة تجرريها بطريقة لا تليق مع ام لبنتها نهائيا، انتِ اكده بتعلمي البنت الفتنة وان هي تحكي لك كل حاجة بتحوصل سواء كانت تنفع او ما تنفعش، اني مفاهمش هتعجلي وتكبري ميتا وتعرِفي انك بجيتي ام ونفسية بتك وتربيتها علي انها تُبقى بنوتة جميلة حاجة مهمة جدا، انتِ صدمتيني فيكي .
نهضت "رحمة" من مكانها غاضبةً، كأنّ الشرر يتطاير من عينيها، وردّت عليه بعينين تقدحان شرارا؛أتظنّ أنّك وحدك من يملك القرار؟! أم أنّ صوتك العالي سيجعلني أرتجف؟!
كانت كلماتها بعينيها تتكسّر بضعف لينطق لسانه بظلمه لها :
ـ اه خدوهم بالصوت جبل ما يغلبوكم! والله اني ما جرجرتش البت في الكلام زي ما انت ما بتجول وزي ما انت عايز تطلعني غلطانة وخلاص، اني جاعده مع بتي بسالها عن يومها وهي اللي حكت بالتفصيل، فما تحاولش تطلِعني غلطانة وتعلِق لي المشنقة وخلاص يا "ماهر" ، وبخصوص شغلي انت عارف زين جدا اني هحاول انهي القضايا المتعلقة في رقبتي وما بقبلش قضايا جَديدة،
وأكملت "رحمة" كلامها، وقد رفعت سبّابتها في وجهه، ونبرات صوتها تمزّقت حدّةً وغليانًا، كأنّ الغيرة قد أعمت بصيرتها تمامًا وقالت:
ـ انت ازاي بقى تجول لمربيه بتك يا فاضل يا عظيم انتِ جميلة جوي؟ وازاي كمان تلعب معاهم وهي تجري وراك وتحاول تمسكها؟ وقال يا عيني كانت هتجع وانت لحجتها ومسحت لها رجليها اللي اتعوَرت؟! انت ازاي جدرت تعمل اكده؟ إن شاء الله تنكِسر رقبتها متلمسهاش واصل ؟
ردّ عليها "ماهر" ببرودٍ قاتل، وصوته يحمل نغمة التحذير لا الانفعال، وقال بثباتٍ يخفي وراءه العاصفة:
ـ اولا ما تشوحيش في وشي ولا ترفعي يدك في وشي تاني يا "رحمة" يا بت "سلطان" ، اني حذرتك، انتِ مش بتحدتي ويا عيل من الشارع، انت هتحدتي ويا جوزك يا محترمة دي أول حاجة، تاني حاجة طبيعي جدا ان هي لما تتعور وهي بتلعب ويانا اني والبنت وبتحاول تعمل اللي المفروض انتِ تعمليه، وبتحاول تكون مربية مناسبة لبتك، فا ان اني اداويها واظن انت ما جيتيش لجتيها في حضني مثلا .
اتّسعت عينا "رحمة" بدهشةٍ ممزوجةٍ بالغيظ من جرأته ووقاحته، وتطاير الشرر منهما كأنهما جمرتان اشتعلتا في وجه الليل، وردّت بصوتٍ عالٍ لا يحمل أدنى اكتراث لتحذيراته، وقالت بنبرةٍ حادّةٍ تمزّق سكون الغرفة:
ـ انت كمان هتعترِف جدامي انك عميلت اكده فعلاً! انت جبت البجاحة داي كلاتها منين يا أخي وجبت القسوة والبشاعة داي كلاتها معاي منين؟ انت لا يمكن تكون "ماهر" اللي اني حبيته، اني مفهماش انت هتعمل معاي اكده ليه؟ بتعذب فيا وعايز تطلَعني مهملة وخلاص؟ اني تعبت منيك خلاص، اني هاخد بتي واسيب لك البيت وخليك مع الجميلة اللي انت عمال تتغزَل في ملامحها وهمشي وهسيب لك الدنيا بحالها، ها.
وحينما همّت بالخروج تاركةً له الغرفة، أمسك "ماهر" بذراعها فجأة، وثبّتها عند الباب بقوةٍ حاسمة، حتى وجدت نفسها محصورةً بين جسده والباب، لا مهرب لها ولا متنفس، انحنى قليلًا نحوها، وصوته خرج هادئًا كجليدٍ يذوب فوق نار، نبرةٌ باردةٌ تحمل خلفها طوفانًا مكتومًا، وقال ببطءٍ يخترقها:
ـ حذاري تطلعي بره البيت يا "رحمة" وتاخدي البت معاكي يا اما ورحمة بتي اللي ماتت وما لحجتش اتهنى بيها من اهمال أمها لا هربيكي كويس وهخليكي تعرفي تبجي ام ازاي؟ لو كنتِ ناسية يا هانم اللي اني بعمله دي كلاته علشان كانت بتي هتموت بسببك، لولا ستر ربنا والموقف دي كان ممكن يتكرر مره واتنين وتلاتة، 
وأكمل "ماهر" حديثه بجمودٍ يخلو من الرحمة، مدّ يده إلى خُصلات شعرها، يلوِيها بين أصابعه كأنّها خيوطٌ من نارٍ يحاول ترويضها، ثمّ تركها تنساب على كفّه قبل أن يدفن يده في عنقها، يُثبّت وجهها بين كفّيه بثباتٍ قاسٍ، رفع عينيه إلى عينيها وقال بنفس نبرته الباردة، نغمةٌ لا تحمل انفعالًا ولا هوادة:
ـ وبعدين فيها ايه عاد اني واحد مراته مهملة فيه، لو تفتكري حضرتك اخر لقاء كان بيني وبينك كأي زوج وزوجة بجاله كد ايه؟! من بجالي سبوعين تقريبا ما شفتش الهانم زيها زي أي ست هتستنى جوزها باشتياق، كل لما ارجع الاقي حضرتك يا اما نايمة جار بتك، يا اما نايمة في الاوضة اهنه وفي سابع نومه، اجي اصحيكي تجولي لي سيبني يا "ماهر" اني تعبانة اني طول النهار بلف على رجلي ، لما انتو يا حريم مش كد الشغل وهمه وتعبه هتشتغلوا ليه، ولا هو العِند وتحقيق الذات والشعارات الهبلة داي ناقح عليكم واصل ؟!
ضربته على صدره وهي تجز على سنانها بغضب من وقاحته واعترافه المميت لها:
ـ انت كيف تكون راجل جادر اكده، كيف مفتري اكده، هتعترف جدامي انك جولت لها اكده عادي وتطلع السبب فيا اني كمان، ان أني اللي مهمله فيك، انت ايه يا اخي رهيب بجد، انا بجى اللي بجول لك يا "ماهر" اني مش رايداك وطلجني وهسيب لك البيت دي وهمشي .
حاولت أن تتحرّر من بين يديه اللتين احتجزتاها كقيدٍ فولاذي، تتلوّى في مكانها كعصفورٍ يحاول الإفلات من قبضة الصيّاد، لكن "ماهر" ظلّ متمسّكًا بها، يضغط على وجهها بين كفّيه بقوّةٍ تُعلن عن تصميمٍ لا يلين، اقترب أكثر حتى كاد نَفَسُه يختلط بأنفاسها، وقال بصوتٍ حادٍّ يقطر تأكيدًا وسلطانًا:
ـ خروج مين من البيت يا بت سلطان؟! انتِ هتعيشي اهنه وهتموتي اهنه وما فيش حياه من غيري ومن غير بتك، انتي اللي لازم تعتذري عن اهمالك فيا وفي البنت وفي حياتنا واظن طلبت منك ان انا عايز طفل تاني وانتي كانك ما صدجتي اني جولت اكده بعدتي نفسك عني وعن حضني، واني مصمم على اللي في دماغي يا "رحمة"؛ "كارما" مهتمشيش الا لما تخلصي كل الحوارات اللي عنديكي، واظن ان اني عرضت عليكي انك تضمي قضياكي للمكتب حداي واني هخلصك من الزحمة اللي فيها وانتِ اللي رفضتي وعميلتي نفسك هيرو، اتحمَلي بجى وما لكيش دعوة باللي اني بعمله طالما انتِ مهمله فيا .
رفعت حاجبها بدهشةٍ ممزوجةٍ بالقهر من وقاحته، وقد بلغ بها الصبر منتهاه، فاضطرّ قلبها أن يتكلّم حين عجز لسان الكبرياء عن السكوت. سألته بصوتٍ خافتٍ يحمل ضعفًا موجعًا وارتعاشةً صادقة، كأنّ الكلمات خرجت من جرحٍ لا من فم:
ـ يعني انت عايز ايه دلوك يا "ماهر" علشان نخلُص من الموال المهبب دي، علشان اني تعبت وأعصابي تعبت وما بجتش متحمَلة جبروتك دي عليا؟
خفَّ "ماهر" من شدّة قبضته التي كانت تُحاصر وجهها، وتحوَّلت قوّته إلى لمسةٍ دافئةٍ تحمل من الحنين ما يذيب الحواجز، اقترب أكثر، حتى تداخل أنفاسهما في أنفاسٍ واحدةٍ متقطّعة، وتلعثمت "رحمة" في تنفّسها من أثر قربه ونظراته التي التهمت كلّ ما تبقّى من مقاومتها، ثمّ مال نحو أذنها، وهمس بصوتٍ أجشّ كأنه خرج من أعماق صدرٍ يغلي بالعاطفة المكبوتة:
ـ عايز مرتي، وعايز حضنها، ومش عايز اشوف ست غيرها، ومش عايز أوكد لها بدل المرة ألف مرة إن هي أجمل ست في الكون كلاته، وان اني ما حبتش غيرها ولا هحب ولا هشوف ست في الكون غيرك يا بت "سلطان" .
كان "ماهر" جبارًا في قربه، جبارًا في مشاعره التي فاضت عليها كتيارٍ لا يُقاوَم، حتى فقدت كلّ تماسُكها، وتفكّكت أوتار أعصابها بين يديه، أنفاسه الساخنة لفحت عنقها كنسيمٍ مشتعلٍ بالذكريات، وقلبها ارتجف بين ضلوعها،اشتاقت إليه حدّ الوجع، فقد طال بعدها عنه حتى ذبلت من الفُراق، لكن صدى كلماته التي قالها لـ"كارما" ظلّ يغرس شوكه في صدرها، يمنعها من الاستسلام الكامل لدفئه.
اقتربت أكثر، حتى صار صوته يسمع نبضها، وهمست هي الأخرى بجانب أذنه بصوتٍ متهدّجٍ يحمل عتابًا رقيقًا كالموسيقى، ونعومةً تُخفي خلفها حريقًا صامتًا:
ـ بس انت جولت لها انتِ جميلة، ازاي جالك جلب تجولها لحد غيري؟
قبلها من عنقها برغبة ،فـتجمّد الزمن بينهما، وتبدّد ما كان من غضبٍ في هواء الغرفة المثقل بالحنين، حتى غلبت العاطفة على الحذر، والاشتياق على المنطق، كانا كمن يخوضان صراعًا بين قلبٍ يشتاق وعقلٍ يأبى، بين نارٍ تشتعل في الصمت وذكرياتٍ تعيد إشعالها كلّ لحظة،
نظر إليها "ماهر" بعينين يختبئ فيهما مكر العاشق الواثق من أثره، وهمس بنبرةٍ تخفي تحتها شوقًا عارمًا:
ـ وماله يا رحمتي الإنسان لازم يقدر الجمال والجميلات، هو اني جولت لها تعالي عايزك في موضوع سر في اوضتنا مثلا ولا عايزك في سريري علشان اكده زعلانة؟
شهقت "رحمة" شهقةً حادّة كأنّ الهواء انقطع عنها لحظة سماعه، وارتدّت إلى الوراء بخطوةٍ غاضبةٍ، تدفعه بكلتا يديها في صدره دفعَ من فقد توازنه بين الدهشة والكرامة، كانت عيناها تبرقان وتفضحان ما يجول في صدرها من غضبٍ وجرحٍ وإهانةٍ دفينة،
نطقت بصوتٍ مبحوحٍ اختلط فيه الذهول بالوجع:
ـ اه يا وقح انت! بجد ما شوفتش زيك يا "ماهر" اني معرفاش اني مستحملة العيشة داي معاك كيف اصلا وانت بتحرج دمي بكلامك دي؟
شدها لأحضانه مرة أخرى وهو يلوي خصلات شعرها بين يديه ويقربهم من انفه يشتم عطره بلهفه وشوق، ثم حذرها بنبرة رجولية مفرطه من قربها ووحشتها له:
ـ لما تكوني في حضني بعد اكده ما تطلعيش منيه يا بت "سلطان" ، ما تلعبيش في عداد عمرك مع "ماهر الريان" اني سامع دقات جلبك وحاسس باعصابك المفكوكة في قربي، فبلاش تمثلي ان اني مش وحشك وتجعدي تتلككي علشان تعملي أي حاجة اكده نتخانَق عليها وخلاص،
واقترب من أذنها وهمس باستفسار ناعم: 
ـ هو انا مش واحشك برده يا رحمتي؟
وما إن أنهى سؤاله، لم ينتظر منها جوابًا، فهو يعلم ويوقن تمامًا أنها تفتقده، يقرأ ذلك في نظرات عينيها المفعمتين بالعشق والحنين، وبقربه منها، لم يعد قادرًا على الاحتمال أكثر، فاجتذبها إليه بقوةٍ وشوقٍ عارم، إلى عالمهما الخاص، ذاك العالم الذي لا يسكنه سواهما، التقت أرواحهما كعاشقين بلغ بهما الوجد حدَّ النخاع، كأنّ ما جرى بينهما من خلافٍ لم يكن سوى شرارةٍ أشعلت بداياتٍ جديدة لقربٍ عاصف لم يعرفاه من قبل، وكما اعتاد "ماهر الريّان" ، كان قادرًا على أن يجذبها إلى دائرته بقوةٍ لا تُقاوم، فيما كانت هي، كعادتها، تستسلم لذلك العالم الذي لا يشبه سواه، بكل شغفٍ واندفاعٍ لا يُجارى.
               ********
معرفاش ليه يا "آدم" قلبي حاسس انك فيك حاجة غريبة اليومين دول! على طول سرحان وكل اما أجي اتحدت وياك ما تردش علي الا كل فين وفين؟ اني ما فاهماش ايه اللي جواك، أو في حاجة حُصلت وانت ما راضيش تخبِرني بيها عاد؟
لم يُخبرها "آدم" بما رآه من تلك الفتاة، فكيف له أن ينقل إليها خبرًا كهذا، أو يصف ما حدث أمام عينيه؟ لم يستطع حتى أن يفتح معها الموضوع، إذ كان يحمِّل نفسه الذنب عمّا جرى، وكأنّه هو السبب في كل ما حدث، كانت أعصابه مشدودة إلى أقصى حد، والخوف والتوتر ينهشان قلبه؛ خوفٌ على نفسه، وعلى زوجته، من تبعات ما رآه، لم يعد قادرًا أن يعيش حياته معها كما كان، فقد صار ضميره يلاحقه كظلّه، يعاتبه في كل لحظة، حتى حين يحاول أن يطمئنها بكلماتٍ هادئة، كان صوته يفضح اضطرابه، وكأن الطمأنينة التي يمنحها لها، هي آخر ما يملكه من تماسك :
ـ ما تقلقيش يا حبيبتي انا كويس، الشغل في القناة بس هو اللي كان تقيل اليومين اللي فاتوا، وكمان الموضوع اللي حصل من البنت لسه لحد دلوقتي ما انتهاش، فطبيعي ان انا اكون متوتر بس الحمد لله على كل حاجة .
لم تستطع أن تقتنع بالكلام الذي قاله، فحدسها يهمس لها بأن هناك أمرًا أعظم مما يحاول إخفاءه، كانت تشعر أن ما حدث ليس هو كل الحكاية، فالرجل الذي أمامها تغيّر، صار شاردًا لا ينام جيدًا، لا يأكل كما اعتاد، ولا يعيش حياته بطبيعتها، نظراته تحمل خوفًا لا تفسير له، وصمته أعمق من أي حديث، اقتربت منه ببطء، بعينين تمتلئان قلقًا وحنانًا، وسألت بصوتٍ خافتٍ يكاد يرتجف، بينما أناملها تنساب بين خصلات شعره برفق:
ـ "آدم" إنتَ متوكد إن مفيش حاجة تانية؟ أني حاسة إنك مخبّي حاجة عني، ودي مخليني مش مرتاحة عاد ، انت عارف زين اني هحس بيك من نظرة عينيك .
نظر إليها للحظة طويلة، كأنه يبحث عن مهربٍ من عينيها، لكنهما كانتا تحاصره بالصدق والقلق، فابتلع ريقه في صمت، والاضطراب على وجهه كان أبلغ من أي جواب فصاح بضيق من حالته المريبة:
ـ ما انا قلت لك يا "مكة" ما فيش حاجة ما تكبريش الموضوع بقى، ارجوكي سيبيني لوحدي دلوقتي انا متضايق شوية وحاسس ان انا مخنوق مش قادر اتكلم مع حد، لما اروق هبقى اجي اتكلم معاكي، من فضلك سيبي لي مساحة شوية بجد مش قادر اتكلم مع حد خالص .
انصدمت من طريقته الحادة معها وغضبه عليها فرددت بحزن :
ـ وه! هتزعِق لي اكده ليه؟ومن ميته حد فينا هيتضايق لحالَه من غير ما يشارك التاني في حزنه قبل فرحه؟! حالتك غريبة هتخليني اتوكد ان في حاجة عفشة حُصلُت وما عايزش تخبرني عليها، أني ماهحبش اكون وياك على الحلوة والمرة ومرة واحدة تخبي عني حاجة تخصنا احنا الاتنين عاد! احنا في مركب واحدة يا "آدم" 
لم يكن قادرًا على تحمّل صوتها، ولا أيّ صوتٍ آخر، ولا حتى أن يتحدّث إلى أحد، فقد غمره اضطرابٌ غريبٌ أفقده اتزانه وكأنّ شيئًا في داخله انفـ.ـجر فجأة،
قام من مكانه بعـ.ـنفٍ، وكأنّ الصمت الذي حبسه طويلًا تحوّل إلى صرخةٍ مكتومةٍ خرجت دفعةً واحدة، وصاح في وجهها بصوتٍ جافٍّ يمزّق الهواء من حولهما:
ـ انا زهقت منك ومن الكلام معاكي، عمال اقول لك سيبيني لوحدي، انتِ ما بتفهميش أديني سايب لك البيت وماشي.
ارتجفت في مكانها، وقد اتّسعت عيناها من شدّة الصدمة، لم تتوقّع أن ترى منه كل ذاك الغضب ، ولا أن يتحوّل غضبه إلى بركانٍ يثور في وجهها دون إنذار لتنطق له قبل ان يخرج بحزن على معاملته معها في ذاك اليومين:
ـ أول مره تزعِق لي بالشكل دي، وأول مرة تتعامل وياي بالغضب الشديد دي يا "آدم" من يوم ما دخلت بيتك،بقالي اسبوع متحمَلة منك طريقتك داي، عاد لكن اللي مش هقبله منيك الاهانة والصوت العالي وانك تهيني بالشكل دي .
لم يكترث لحديثها ولا وجعها وتركها وغادر المكان فجلست هي في مكانها تبكي بشدة على معالمته الحادة معها وكأنه تبدل من يوم وليلة ، اما هو خرج إلى سيارته واغلق الباب وزجاج السيارة الذي يعزله عن العالم بأكمله واستند برأسه على كرسي السيارة وتذكر ما حدث منذ يومين ، 
فلاش باك 
اتّجه بخطواتٍ مهيبةٍ نحو بيتٍ آخرٍ يحملُ في جوفه خبثاً سابقاً وعيباً قديمَ الجرح، وكان له في القصّة هذه رغبةٌ واحدةٌ شديدةُ الوضوح هي أن يواجهَ من حَفر له حفرةً وأبقاها مفتوحةً كي تسقطَ فيها سمعته وأسرته وبيته، وما إن وطأت قدماه باب العمارة حتّى شعر بأنّ الهواءَ يختلف من حوله وأنّ كلّ حرفٍ يريد أن ينطقَه سيحتوي على نارٍ إذا ما تردّد فمه أو ضاعَ صوته لحظة الغضب،
وقف "آدم" أمام باب الشقة التي ماتت براءتها قبل أن تُفتح مصراعاته داخله كالأمواج الهائجة، وحين انفتحتْ لهِ الدارُ شعرَ بأنّ قلبَه يقرعُ طبلةً لا تنطفئ، دخل والعيونُ تتبعهُ، ووجد "سيف" يقفُ في مواجهته كأنه خرج من ظلالٍ قديمةٍ بالغة السواد، كانت بينهما هوّةٌ من الكلمات المقطوعة والأنفاس المحرومة، وبدأ الحديثُ من "آدم" حادّاً ممتلئاً بلحمةٍ من الاتهامِ واللوعةِ والاندهاشِ ممزوجةٍ بالغضب الذي يختزنُ قوةً تضعها المحنة في مواقف الرجال فتولدُ منها نبرةً لا تُكسرهَا رياحُ الخيانة:
ـ انا جيت بس علشان اعرف منك ليه عملت فيا كده؟ وليه بكل قوتك تجرحني وتجرح عيلتي بالطريقة الوحشة دي؟ لية يا ابني عايز تدمر حياتي وعيشتي؟ وليه الحقد ده اللي عندك؟ لية جرّحتني قدام الناس وفضحتني ووطيت سمعتي تحت الأرض،وخليت كل الناس تشوفني على إنّي واحد اتاجر بالدين وواحد بياخد الناس ستاير ورا ضهرهم؟! ليه الحقد والغل اللي في قلبك ده كله يا ابن عمي ناحيتي وانا عمري ما عملت فيك حاجة وحشة ولا جيت ناحيتك غير لما انت اعتديت على اهل بيتي في وجودي وسمعتك بوداني.
صمت "سيف" لحظة ثم تلاشى على وجهه أي أثر للندم، وحلت مكانه ابتسامة باردة كأنها حافة سكين، كانت عيناه كحلقات الدخان التي لا تفارقها نارها، فتحدث بصوتٍ فيه استهتارٌ ممزوجٌ بشماتةٍ قديمةٍ كأنها وجدت أخيراً منفذاً لتنفّس ما في صدره من سم، وكان حديثه رتيباً مُحاكياً لحنّ الانتقام الذي نمّاه طويلاً في قلبه حتى صار يظنّهُ حقّه المؤجّل :
ـ جاي تسألني ليه دلوقتي بعد اللي انت عملته فيا ده كله، انت يا ابني اكتر واحد دمـ.ـرت حياتي، انت واحد ضـ.ـربتني واهنتني في بيتك وانت عارف ان هو مليان صحافة وإعلام وأي حاجة هتحصل فيه هتبقى على مرأى ومسمع، وبعترت كرامتي على الآخر، وخليت شكلي في الارض قدام العالم بحاله، وخلتني كائن حشرة ما سواش، وبسببك خطيبتي سابتني وراحت واتجوزت وعاشت حياتها وانت كنت السبب في كده، انت اللي فضحتني وانت اللي علمت عليا قدام الكل اني قليل وان مش راجل وده اللي خلاني اقرر اكيد اني لازم ارد لك بنفس الطريقة ولا اقل، باختصار يا شيخ "آدم" وهرد عليك بنفس طريقتك اللي انت بقيت ماشي عليها اليومين دول؛ هذه بضاعتكم ردت إليكم.
انفـ.ــجر "آدم" بغـ.ــضبٍ عملاقٍ كأنه يخرج من جوفٍ طويلٍ ما حواه طوال الليالي الماضية، وأخذت كلماته تمطرُ حِدّةً على صدر "سيف" حتى بدا أنّ الجوّ قد اشتعل بينهما ببراكين كلماتٍ تكاد تمزّق الجدران، واحتشد في صوته لهجةٌ قِدّها ثقل الألم الذي أحرَقَ عرضه وكرامته:
ـ هو انت عايزني كنت اعمل ايه وقتها وانت واقف تعاكس مراتي بكلام قذر وتعرض نفسك عليها؟ وانت عارف كويس ان هي مرات ابن عمك، يعني لحمك ودمك وعرضك وشرفك، المفروض تحافظ عليه، وتجبر عينيك على احترام اهل البيت اللي هما أهلك لكن انت اتعاملت بطريقة ما يعملهاش إلا ولاد الشوارع، مش ولاد العم اللي من لحم ودم وواحد، واذا كنت انا ضـ.ـربتك وأهانتك فده حقي في إني أدافع عن عرضي وشرفي، والا كده ما ابقاش راجل، كنت عايزني اعمل ايه يعني وانا بسمع الكلام ده منك يا استاذ "سيف" ؟
ألقى "سيف" بضحكةٍ مملوءةٍ بغرورٍ وبحقدٍ دفين، ثم شمر عن حقيقته كمن يخلع قناعاً كان يلبسه في مناسبات الشكوى، وتفوّه بكلماتٍ تحفر بالإبرة في صدر "آدم" ثم قذفها بلا رحمة كأنها أذىً مُبرمج
ـ لا يا بابا الحكاية مش بنفس الطريقة اللي انت بتتصورها، انا كمان كان عندي كرامة اتدمرت على ايدك، واقولك حاجة كمان لسه البقية في انتقامي تأتي ان انت السبب في كل اللي جرالي ، وعايزك تعرف ان اللي انا هعمله في حياتك ده اقل حق انت ظلمتني به من زمان وانا مش هغفر لك ولا هسكت ابداً.
ثارت في صدر "آدم" موجةٌ من السخطِ والإحباطِ حينما سمعُ الكلمةِ الأخيرة، وكأنّما السيفَ نفسه عاد يجرح فيه جرحه القديم، فانقضّ عليه كلاماً وصفعتهُ يداه فعليةً ليس مجرد كلمات، وانطلقت الدنيا صخباً حينْ أصبحت الصالة مسرحاً لصراعٍ جسديٍّ هادرٍ تتقاذف فيه الأياديُ اللكماتِ وتتهدّل الوجوه بين شدة الغضب وصرخاتِ الاستنكار، ووقعت قبل أن يفعل ما هو أشدّ؛ فكان الضرب رد فعلٍ بشريٍّ عنيفٍ على إذلالٍ مُستمرٍ قد طغى
تراجع "سيف" لمّا وجد قوّة "آدم" تتصاعد وتضرب كما لو أن غضب زمانه اجتمع في لحظة واحدة، وعاد يتكلمُ بنبرةٍ أبردُ وأكثر تحضيراً كمن يحاول إيصال رسالةٍ قاتلةٍ دون حاجةٍ لأن يمدّ في الجسد لأنّ الهدف الأعمق هو قلبٌ لا جسدٌ فقط، وقال بصوتٍ جلديٍّ كالثلجٍ:
ـ اسمع يا "آدم" الكلام اللي بتعمله ده مش هيفيدك خالص، الفيديو اللي معايا هيوصل لكل حتة، هوري الناس الشيخ "آدم" عامل ايه في جناحه في الفندق ،وهوقفك قدامهم في صورة مش ولابد بنفس الصورة اللي حطتني فيها زمان، بنفسك ازاي ان بيتك هيتكسر وسمعتك هتتبهدل وابنك هيبعد عنك، ومراتك مش هتقدر تبص في وشها وانا مش هبطل غير لما انا اشوفك مدمّر وانا مش هسيب لك حاجة حلوة خالص .
كانت الكلمةُ كمطرقةٍ تحطّمُ على قلبٍ بدا وكأنّه ينهارُ من الدهشةِ والخيبةِ، فشعور "آدم" بالانطفاءِ بدا يتسربُ من بين ضلوعه، ومع ذلك لم يطلعهَ ذلٌ فهو إنسانٌ يمسكُ بكرامته، فانبعثتْ منه صرخةٌ تفيض بالحقيقةِ والاحتجاجِ على القدرِ الذي صاربهُ:
ـ انت بني ادم قذر وحقير وكل اللي همك انك تنتقم لشخصك المريض من حاجه انت كنت غلطان فيها ومش عايز تعترف اصلا مفكرني ان انا هخضع لك وهتذلل لك انسى يا "سيف" واعمل حسابك هتضرب هضرب هتكسر هكسر،فجيب من الآخر عايز ايه مني بالظبط علشان تبطل القرف اللي انت بتعمله ده؟
ردّ "سيف" ببرودٍ قاتلٍ كأنه يُحصي صكوك الانتقام، وقال كلماته بتمثيلٍ باردٍ قبل أن يفتحَ فصلاً أكثر قساوةً من خطته السابقة، كلماتٌ فيها قصدٌ لتقطيع الروح إلى أجزاءٍ صغيرةٍ، ثم أعلن مطلبه في لحظةٍ لا تحتملُ رحمةً وهي دعوةٌ إلى استفزازٍ عميقٍ وجرحٍ لا يشفى بسهولةٍ:
ـ انا مش طالب منك تمن غير حاجة واحدة انت حتعملها معايا وهتدفع تمنها انت وامرتك هتقضي معايا ليلة واحدة بجواز شرعي،وده اللي هيبرد ناري واللي هيخليني منفذش كل اللي انا ناوي لك عليه،وزي ما خطيبتي سابتني بسببك انا كمان هخلي مراتك تسيبك بسببي ونبقى كده خالصين يا ابن عمي، وانا هبقى مبسوط لما اشوف وجعك وانا لو ما اخدتش حقي هخلي الفيديو يتنشر بكل تفاصيله وبعد كده تشوف العواقب يا "آدم".
ولم تمضِ نصف ثانيةٍ حتى انقلبت الدنيا في قلبه، كأنّ الزلزال الذي يتربّص بالأرض قد مضى، فانقضّ "آدم" عليه بكلّ ما تبقى من قوّةٍ، أصابعه تضربُ جسده كما يضربُ من يُحاول أن يستعيد شرفه، ثم انطلقت موجةُ الضرب تثلّجُ فيها صرخاتُ الامتعاضِ والإنسانيةِ وقد تكسّرت في الهواء كلمات "سيف" التي لم تستطع أن تبرّر وحشيتها، وقف "آدم" يصفع ويضرب حتى غابتْ عنه دقّةُ السيطرةِ على قواه فانهالت يديه على وجه "سيف" كأنّها عقابٌ يوميٌّ على جرحٍ قديمٍ لم يُبرأ،
تراجع "سيف" والدماءتسيل من وجهه من ألمٍ لم يكن قد حسبَ له حساباً، ثم نهضَ وهو يمدّ بيده هامساً بأنه لن يهدأ، وأنه سيحمل السيفَ في كلّ ظهرٍ يتراءى له، وهدد بعنـ.ـف أكثر قسوةً مما سبقه، مکرّراً أن الفيديو سيُبثّ وسيُفجع، وأنّ الدم لن يذهب من قلبه حتى يُردّ له ما أخذوه منه، وساد المشهد وقفةٌ بين رجلٍ هجّمَ دفاعاً عن بيته وسمعته وبين من دفعه جرحٌ قديمٌ إلى أن يصبح قاتلاً باردَ الحسّ والقلب، وبعد أن لقنه ضربا مبرحا تركه يترنج بآهات عنـ.ـيفة صرخ على أثرها لآدم قبل ان يخرج :
ـ والله ما هعدي لك اللي حصل ده بالساهل، والله لهدمرك وهرد لك كل قلم اديته لي يا ادم واضعاف الاضعاف وانت برده اللي بتبدأ كل مرة. 
********
ـ اني دمي محـ.ـروق يا "سكون" من البت دي ورايدة امشيها بأي طريقة من البيت، ومعرفاش "ماهر" متمسك بيها على الاخر. اكده ليه ؟وطهقت وزهقت والغيرة هتاكل في قلبي وكل، معرفاش اعمل ايه علشان ارجعها لبلدها واستريح منيها بت الرفضي داي ؟
وتابعت بسخط وهي تجز على اسنانها بغضب:
ـ فاضل ايه تاني علشان خاطر أحس ان اني ما رحتش لمنطقة الخطر وياهم؟! غير إنه قال لها انتِ جميلة وشالها ومسح لها الدم وكان خايف عليها انها تتعور، الممحون اللي ربنا يسامحه، قال وبكل بجاحة يرد عليا يقول لي؛ وماله الواحد لازم يقدر الجمال والجميلات، فرسني يا "سكون" وغظني وطلعت من الحوار بيني وبينه كيف ما هو رايد من غير حتى ما يعتذر وحـ.ـرق دمي زيادة عن اللزوم واني من وقتها مطيقاش حالي، ولا طايقة نفسي، المرة الجاية بقى هلاقيهم في حضن بعض وهيخونوني، ويرجع يرد علي بكل وقاحة ان اني اللي مهملة فيه ويقلب الترابيزة علي بدم بارد .
ضحكت "سكون" ضحكة عالية اندهشت لها "رحمة" لتنطق بتعجب :
ـ وه يا مرت أخوي هتضحكي علي وأني هطق وهموت من الغيظ قدامك ؟!
ثم قامت من مكانها وحملت حقيبتها وهي تردد بسخط حينما استمرت "سكون" في الضحك :
ـ طب ماشي، هفوتك لضحكك ومقلتك علي وغايرة في داهية تاخدني.
لحقتها "سكون" وهي تتمسك بها ثم رددت بهدوء وهي تحاول كتم ضحكاتها رغماً عنها:
ـ يا بنتي اقعدي ما تُبقيش قفشة اكده، أصل اني كنت زيك بالظبط وكنت هموت نفسي وهعيط وهسح من الدموع على الأوهام اللي في دماغي، كيف حالك بالظبط لما كنت هشوف "عمران" قاعد ويا الداكتورة "نور" ، العلاقة كانت بيناتنا متوترة كيف العلاقة ما بينك وما بين "ماهر" بالظبط، فاهدي بقى واعقلي علشان أكيد اللي في دماغك كلاته أوهام في أوهام كيف اللي كانَت في دماغي بالظبط.
انصدمت "رحمة" من كلام "سكون" لتسألها بذهول :
ـ هو انتِ كنتِ هتغيري على أخوي "عمران" من الداكتورة اللي هتشتغل حداه في المزرعة؟! يا شيخه قولي كلام غير اكده!
نطقت "سكون" بتعجب هي الأخرى من استفسارها:
ـ وه! وهو "عمران" ميتغارش عليه ولا ايه يا ست "رحمة" دي أني كنت مش هغير بس ، دي أني كنت قايدة نـ.ـار جواي مهتنطفيش واصل.
ضحكت "رحمة" الآن وتبدلت الأدوار لتقول بتعقل:
ـ تك وكسة على النكد اللي كنتِ هتعيشي فيه يا "سكون" ويا "عمران" أخوي، 
هو أخوي دي هيشوف ست في الدنيا غيرك ولا عمره هيبص لحد غيرك؟!
دي ماشي يحب على نفسه ومفضوح على الآخر، دي ناقص يكتبه على جبينه "عمران" عاشق الـ"سكون" ، والنبي اركني على جنب انتِ، دي اخوي حداه حنية الدنيا كلاتها، وعمره ما يأذي أي ست تخصه أبدا سواء كانت مرته أو أمه أو واحدة فينا اني واختي، طمَني حالك يا اختي ما هيشوفش غيرك في الدنيا لو هجرتيه ميت سنة علشان أخوي الوفاء للي منه بروحه ودمه، أما اللي حداي قادر وبجح ووقاحة الدنيا كلاتها فيه ربنا يسامحَه على اللي هيعمله فيا.
تحدثت "سكون" بنبرة مغرمة :
ـ هو اني حبيته من شيء شويه فارس من فرسان الزمن اللي مش هيتكرروا أبدا عمراني حبيبي ربنا يخليه ليا يا رب، بس انتِ برده يا "رحمة" مش سهلة وإذا كان جوزك هيعمل اكده فكلاته بسببك، وبصراحة الراجل عمر العيبة ما طلعت منيه واصل، ولا له في الخيانة ولا الحوارات الهبلة اللي هتقوليها داي، واكيد البت دي ما هي إلا مربية لبتك وخلاص عاد، وبيستغل قربه منيها علشان يغيظك ويخليكي تهتمي ببتك شوي، علشان انتِ بصراحة مزوداها زيادة عن اللزوم، فكبري دماغك وحاولي تصلحي من نفسك وتفضي وقتك لجوزك وبتك اني نصحتك قبل سابق.
كانت تقضم أظافرها بغيظ يكاد يتآكلها ورددت بنبرة تشدو ناحية الانتقام:
ـ والله ما هفوتهم اسكتي انتِ طيبة زيادة عن اللزوم ، اني جبت كل المعلومات عنيها من بلدها، اسمها، وشغلها، واتربت فين؟ ولسه الورق واصل لي دلوك حالا وجايباه معاي في الشنطة ما شفتهوش لسه، هراجعه النهاردة واكيد البت داي وراها بلاوي، وإن ما كنتش أرجعها بلدها ما بقاش اني "رحمة سلطان المهدي" .
ضحكت "سكون" مرة أخرى لتنطق بإرشاد:
ـ بالذكاوة اكده يا ناصحة، هو انتِ هتعملي حالك ناصحة على جوزك! أكيد قبل ما يجيبها من بلدهم عارف عنيها كل حاجة، ودارس برك وجوك عن أي حاجة تخصها، والنبي ما تعمليش نفسك فتكة وشغل وجو المحامية بتاعك دي يطلع علشان ما تجيش تكحليها تعميها، اكيد قبل ما يجيبها عارف عنيها كل حاجه من يوم ما اتولدت لحد دلوك، ما هو مش معقول هيجيبها تربي بنته وهو ما يعرفش عنيها شيء؟
أخرجت "رحمة" الأوراق من حقيبتها لتطلع عليها بعناد وهي تردد :
ـ ولو كل واحد فينا ليه نظرة مختلفة عن التاني، وأكيد وراها حاجة والست بالذات بتشوف في الست حاجات الراجل ما هياخدش باله منيها، اني بقى مش هفوت لها الهوا واديني ها قدامك هطلع لك مليون حاجة.
ما إن أخرجت "رحمة" الأوراق وبدأت تقرأ ما كُتب فيها، حتى وقعت أول ورقة بين يديها، كانت شهادة ميلادٍها،
كانت "رحمة" قد استعانت بمعارفها الكُثر في لبنان، أولئك الذين عرّفها بهم "ماهر" خلال عملهما معًا، وهم من ساعدوها في الحصول على تلك الوثائق،
بدأت تقرأ بتركيزٍ متقطّع، غير مدركةٍ لما تُمسك به حتى نطقت الاسم الأخير بصوتٍ واضحٍ وثابت:
ـ "كارما محمد علي البنان..."
ساد الصمت فجأة، كأنّ الهواء نفسه توقف عن الحركة، وتبادلا نظراتٍ متجمّدةٍ من الدهشة والذهول،ثم نطتقا معًا، في صوتٍ واحدٍ كأنه صدى قلبٍ واحدٍ ينبض بالصدمة:
ـ "كارما محمد البنان" ! أخته ؟!
وأكملت "رحمة" بصوت متفاجئ:
ـ يابن الايه يا "ماهر" يا بنان ، دي انت طلعت الواد اللي هو ولبستني السلطانية على مقاس دماغي .

تعليقات