رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم فاطيما يوسف



 رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثالث والعشرون  بقلم فاطيما يوسف



في قلبِ العتمةِ يُولَدُ النورُ أحيانًا على مهلٍ، كأنَّ الرحمةَ تختبرُ الصبرَ قبلَ أن تمنحَه، وهي كانت له وطنًا لا يَخذُلُ، ويدًا تُعيدُهُ كلَّما ضلَّ طريقَهُ إلى نفسِهِ، هو الممزَّقُ بينَ عالمَيْن، وهي الجسرُ الذي يَصِلُ بينَهُما دونَ أن يَنكسِرَ، وفي عينيها أدركَ أنَّ الشفاءَ ليسَ دواءً، بل حُبٌّ يُصدِّقُ رغمَ الخوفِ، فبها تعلَّمَ أنَّ بعضَ القلوبِ تُنقِذُ لا بالكلامِ، بل بالثباتِ حينَ ينهارُ كلُّ شيءٍ، وكانت هي السَنَد والاحتواء، بل كانَت هِيَ كلُّ شئٍ يُضِئُ عَالمُه المُظلِم .


ـ "كارما محمد البنان" ! أخته ؟!

وأكملت "رحمة" بصوت متفاجئ:

ـ يابن الايه يا "ماهر" يا بنان ، دي انت طلعت الواد اللي هو ولبستني السلطانية على مقاس دماغي .


هتفت "سكون" بذهول :


ـ هو إنتِ كنتِ تعرفي إن حداة أخت؟! أمال ما نعرِفش عنيها حاجة ليه من ساعة ما إتجوَزتم؟! ولا هو كان مخبّي عنِكِي؟! ولا إيه بالظبط؟! أني دماغي لفّت يمين وشمال!


كانت "رحمة" ما زالت تحدِّق في الورقة بعينين واجمتين، تحاول أن تستوعب الاسم الذي خطـ.ـفته الدهشة من أنفاسها، أخذ عقلها يسترجع مشاهد البدايات، يوم تعرّفت عليه، يوم تغيّر مسار عمرها، وما زالت الصدمة تطرق قلبها بعـ.ـنفٍ وهي تهمس بصوتٍ متكسّرٍ يختلط بين الذهول:


ـ أيوه، أني كنت عارفة إن هو له أخت من الأب، لما قال لي إن باباه إتجوز بعد والدته الله يرحمها ،بس ما قعدتش في مصر وسافرت، رجعت لبلدها، بس وقتها ما سألتوش بلدها إيه، ولا هو قال، وكمان هو كان قايل لي إن ما فيش أي تواصل ما بينهم نهائي، فعلشان اكده نسيت الموضوع دي واصل، وما كنتش متوقعة إن هي تطلع أختُه عاد.


ضحكت "سكون" ضحكة عالية وهي تضـ.ـرب كفا بكفٍ وسألتها: 


ـ طب معروف عنيكي إن إنتِ محاميـة شاطرة جدًا وذكيـة جدًا، هي ما حاولتش في مرّة تعمل حركـة اكده ولا اكده تحسّسك إن هي أختـه، معقولـة؟!


هزّت "رحمة" رأسها في ذهولٍ ما زال يغلّف وعيها، غير قادرةٍ على استيعاب ما وصلت إليه، كان سؤال "سكون" كصفعةٍ أيقظتها من غفلتها، فشعرت كم كانت ساذجة حين لم تُفكّر بالأمر من قبل، أو حين سمحت للغيرة أن تُعمي بصيرتها وتجعلها تراها مجرّد امرأةٍ تُحاول سـ.ـرقة زوجها لا أكثر،

ثم أدركت أن معرفتهم الواسعة في "لبنان" وكثرة القضايا المشتركة بينهم كانت كفيلة بأن تُبعد عنها الشكّ:


ـ إنتِ فعلًا عنديكي حق، كانت كل حاجـة كانت هتعملهـا وهتقولـهـا بتبيّن إن هي مش أي واحدة وخلاص، يعني أول ما جت لقيتـهـا بتحضن وشـه وبتدلّع عليـه، وعارفـة كل تفاصيل حياتنـا، الموضوع دي خلّانـي أغير منـهـا، وأبصّ لهـا من ناحيـة إن هي عايزة تخـ.ـطف جوزي منـي وتدمّـ.ــر حياتـي، ما فكّرتش نهائيا إنـهـا ممكن تكون أختـه، وخصوصًـا إن عمري ما شفتـه بيكلَمـهـا ولا بيتواصَل معـاهـا، ولا كان بيكلّمنـي عنيـهـا من الأساس،

"ماهر" استغلّ النقطـة داي، وعرف يلعب عليّ زين قوي، علشان أني عارفـة فعلا إن هو إنسان مش سهل أبدا.


جلست "سكون" أمامها في ذهولٍ تام، تُصغي إلى كلماتها كأنها تُنصت إلى حكايةٍ خرجت من بين أنقاض المستحيل، ملامحها متعجبة،وبعد لحظاتٍ من الصمت ا التقطت أنفاسها وسألتها بصوتٍ خافتٍ يحمل ارتباك الحيرة:


ـ طب يا أستاذة يا فطينـة، يلا طلعتِ مش فطينـة خالص! هتعملي إيه بعد ما عرفـتِ إن هي أختـه؟ أو هتتعاملي معـاه كيف؟ وهتعرفيه إنك عرفـتِ ولا لأ؟ وهتتعاملي مع "كوكي هانم" عمتِك اللي طلعتْ لك في المقدّر جديد كيف؟ بصّي، تجاوبينـي على الأسئلـة الفضوليـة داي كلاتهـا دلـوك علشان ما هحلّكِيش عاد، دي إنتِ القعدة معـاكِ مسليـة جدًّا، دي انتِ عليـكِ، حوارات وحواديت مش على حدّ والله العظيم.

كانت "رحمة" غارقةً في دوّامةٍ من الأفكار، عقلها يشتعل بمحاولاتٍ لترتيب ما تهدَّم بداخلها، لكنها في تلك اللحظة لم تكن تملك سوى الصمت، رفعت عينيها نحو "سكون" بهدوءٍ غريبٍ لا يشبهها، وقالت بصوتٍ خافتٍ متماسك رغم الارتجاف الذي يسكنه:


ـ تصدِّقي إن أني ما أعرِفش أني هعمل إيه معاهُم ولا هتعامَل كيف؟، أني كنت عاملة زيّ النحلـة الدايرَة الأيّام اللي فاتَت داي علشان أخلّص شغلي وأنهي القضايا المتعلّقـة برقبتي، وأفوق لجوزي وبتي اللي كانوا هيضيـعوا منّي بوَهم الغيرَة، دلوك المواضيع اتبدّلَت تمامـًا.


انصدمت "سكون" من طريقة كلامها وسألتها: 


ـ واه! يعني هتهملي في بتِك، وهتسيبيها لعمتها هيّ اللي تربيها؟ وترجعي تنشغلي بقضايا المكتب تاني بعد ما كنتِ خلاص قرّبتي من بتِك، وهيّ كمان بدأت تحسّ بالأمان في حضنك؟ أني مش معاكي يا "رحمـة" خالص، ولا مع تفكيرِك دي أبدًا.


نفت لها تماماً اللي ما تظنه وما شعرت به و أكدت لها: 

ـ صدِقيني يا "سكون"، أني عمري ما هرجع أُهمل في بتـي تاني، ولا أبَعد عنيها، ولا بعد ما قرّبت من حضنها وقرّبتها منـي، وبقت جزء من يومي وتفكيري وحياتي، أسيبها تاني، أني عارفـة إنّي كنت غلطانـة جدًّا، وعارفـة إن "ماهر" عيمل اكده علشان خاطر يخلّينـي أقرّب من بتـي، وخصوصًا موقف الأسنسير دي هو اللي خلاه يعمل اكده، بس دي ما يمنعش إنّي لازم آخُد حقّـي منّيـه، وألاعِبُه كيف ما هو لاعبنـي بالضبط، لازمن أخلّيه يلفّ ويدور حوالين نفسُه زي ما خلّانـي ألفّ وأدور حوالين نفسي، هجنّنُه، هطلّع عينيه، وفي نفس الوقت مش ههمل في بتـي.


لوت "سكون" شفتيها بامتعاض من تفكيرها ثم هتفت وهي ترشدها بمحبة: 


ـ طب وليه الصراعات دي يا بنتـي بينك إنتِ وجوزِك؟ خلّـي بيتِك يا "رحمـه" هادي وحنين وجميل، بيت زي أي بيت ما فيهوش صراعات بينك وبينـه، علشان ترتاحي نفسيًّا، وهو كمان، مخايفينش من كتر الصراعات دي ما تركزوش في قضيّـه أحدُهم وتودّوه في داهية؟ أني مفهماش إنتُم الاتنين عقلُكُم عامل اكده ليه؟ ده ولا كأنّكُم في حلبة مُصارعـة، مش بيت سكن وسكينـة ومودّة ورحمـة!


أجابتها "رحمة" بابتسامة شقية نمت على شفتيها وثغرها وهي تعلن كيد النساء على "ماهر":

ـ ببساطـة يا "سكون" يا حبيبتي، علشان أني وهو لما حبّينا بعض واختارنا بعض كانت طباعنـا مشطشطـة زي بعض، أني وهو حبّنا ناري وقُربنـا ناري، غير أي حد، تصوّري؛ أني لو بقيت هاديـة معاه، والله العظيم ليشك فيّ، وهو كمان لو غيّر من طريقـة الشخط والنطر والغيرة الزيادة عن اللزوم، أني هشكّ فيـه، مش كل زوجين عايشين مع بعض لازمن طريقـة حياتهم توبقـى زي أي زوجين تانيين، إحنا بصراحة، مهما تمرّ بينا العواصف، لا هو يقدر يستغنـى عنّي، ولا أني أقدر أستغنـى عنّـيه، بس الحاجات اللي بتحصُل بيناتنا داي كل مرّة بتقرِّبنا أكتر، وأنب مصمّمـة إنّي آخد حقّي من "ابن البنان" ، وهجنّنه، وهطيّر النوم من عنيـه، علشان تُوبقـى الجولة بيناتنا متعادلـة ميّة في الميّة.


تنهدت "سكون" بغلبٍ من عقلها المتشبس الأهوج:

ـ لااه يا أختـي، أني ما أقدِرش أعيش في الصراعات داي، أني واحدة بحبّ الجو الهادئ والهدوء النفسـي ما بيني وما بين جوزي، إيه لازمتها الخناقات والغيرة العنيفـة والطريقة الجامدة بتاعتكم داي؟ الحمد لله على نعمة العقل اللي عندينـا أني و"عمران".


ضحكت "رحمة" على طيبة "سكون" وحملت حقيبتها وقالت بنبرة شقية : 

ـ طب خليكي إنتِ مع الممحون "عمران" أخوي، هو صوح اتأخر ليه؟ أني كنت عايزة أشوفه وأسلَم عليه قبل ما أمشي، ابقى سلّمي لي عليه علشان هروح أبدأ المعارك أني و"ابن البنان".

ردت عليها "سكون" : 

ـ الله يعينك على الحرب اللي انتِ فيها، انتِ واللي متجوزاه، ما لكيش صالح بيا اني وجوزي احنا حالة مختلفة خالص، بلا هم وجع قلب، وهسلم لك عليه حاضر،هو تلاقيه عنديه شغل متعطل في المزرعة علشان اكده بيتأخر.


                *******

في مساء مشوبٍ بصمتٍ ثقيل، كان "فارس" يجلس في المقعد الأمامي للعيادة، مائل الرأس قليلًا ناحية الروبوت الجالس جواره، ذاك الكائن المعدني ذو الوجه الاصطناعي الذي صُمِّم ليُشبه والدته الراحلة، كانت "فريدة" إلى جانبه تمسك يدها في قبضتها كأنها تحاول أن تمنع نفسها من التوتر، عيناها لا تفارقانه، بينما الطبيبَة تُراقب المشهد من وراء زجاجٍ خفيفٍ في غرفة الملاحظة، ويبدو أن الأدوية المثبتة التي كتبتها له وأمرت "فريدة" زوجته ان تلتزم بها وبمواعيدها طيلة تلك المدة المنصرمة كي تجعله يستقبل تلك الجلسة اليوم، فهي الجلسة الفارقه في علاج "فارس" 

حين دعتهم الدكتورة للدخول، كان الهواء أثقل من أن يُستنشَق، والمكان رغم دفئه بدا باردًا على نحوٍ غريب، جلست الدكتورة على مقعدها المعتاد، مستندة إلى ظهر الكرسي بصلابة هادئة، وعيناها ترصد كل حركة في وجه "فارس" وكأنها تزن أنفاسه قبل أن تزن كلماته، أمامها جلس "فارس" ممسكًا بيد الروبوت التي بدت أقرب إلى يد بشرية من شدّة دقّة صنعها، بينما "فريدة" جلست على الطرف، كأنها خائفة من أي تماس قد يُفـ.ـجر ما تبقّى من عقل زوجها،

كان السكون يسود المكان حتى كسَرته نبرة الدكتورة الواثقة الهادئة:


ـ "فارس" ، أني النهاردة معايزاكش تبصلي كدكتورة، بصلي كصوت من جواك، صوت يمكن بيحاول يقولك الحقيقة اللي انت مقادرش تسمعها، صوت خارج من عقلك مش من قلبك ، النهاردة بس حابين نركن قلبنا على جنب شوي ونستخدم حاجة واحدة بس في جلستنا .


حرك رأسه للأمام فسألته هي على الفور كتمهيد لجلستها:

ـ تعرِف ايه عن الموت، أو عن فراق بعض الأشخاص الغاليين على قلوبنا؟

هل بتؤمن بحقيقة الموت ؟


اندهش من سؤالها ولكنه أجابها على الفور:


ـ طبعا انا اؤمن بالموت لأني مسلم ومؤمن بربنا سبحانه وتعالى، ومؤمن ان الموت قدر، سؤالك غريب يا دكتوره وايه علاقته بجلستنا؟


ابتسمت بهدوء وقالت :

ـ سؤال مش غريب ولا حاجة، وبعدين انت رديت على آخر سؤالي وما ردتش على بدايتَه اللي هو كيف نقدر نتخطى موت الغاليين على قلوبنا؟

أجابها بما يشعر به :

ـ أنا لحد دلوقتي ما فيش حد غالي عليا فارقني وسابني، أنا اغلى حاجة عندي في الدنيا أمي، وأهي موجودة قدامك، وما ليش إخوات، وبابا لسه عايش فعلشان كده ما جربتش الإحساس ده قبل كده. 


نظرت الدكتورة إلى الروبوت نظرة ساخرة تقصدها ثم نطقت :

ـ أممم.. في حقيقة غفلانة عنك ان اني ماشيفاش والدتك داي، كيف انت شايفها واني مشيفاهاش عاد؟

ابتسم "فارس" ابتسامة طفيفة وقال وهو ينظر إلى الروبوت بحنو غريب:

ـ حقيقة إيه يا دكتورة؟ تقصدي ايه بكلامك؟

انتِ نظراتك وانتِ بتتكلمي بتبص لماما بنظرة غريبة، هي ماما معجبتكيش دي حتى جميلة وكل اللي يشوفها بقى يحبها ويتعلق بيها زيي، 


ثم نظر إلى "فريدة" والروبوت معا ببسمة مكملا براحة :

ـ أنا كنت بخبيها في الاول علشان "فريدة" ما كانتش تعرف عنها حاجة، دلوقتي بقيت بزورها كتير وباخدها معايا في كل مكان طالما "فريدة" اتعرفت عليها ما يهمنيش أي حد في الدنيا تاني. 


ظلت الدكتورة صامتة لثوانٍ طويلة، ثم مالت قليلًا للأمام، ونظراتها انغرست في عينيه كأنها تُحاول أن تنفذ إلى الداخل، ثم رددت بعملية:


ـ أني مهنكرش إن هيئتها حلوة وجميلة ومغرية كمان ، بس سؤالي بسيط، لو داي توبقى والدتك فعلًا، ليه ما بتحسش بحرارة إيدها؟ ليه صوتها ثابت بنفس النغمة حتى وهي بتضحك؟


كان "فارس" يُحاول تجاهل السؤال، لكنه نظر لحظة إلى الروبوت ثم أعاد النظر نحوها بحدة:


ـ إنتي مش فاهمة، دي ماما وبتعرف تعمل كل اللي انتِ بتقولي عليه ده، وبتبتسم عادي جداً، تحبي أطلب منها تبتسم لك ؟


تنهدت الدكتورة ببطء، ثم قالت بصوتٍ منخفضٍ فيه تحدٍّ ناعم:

ـ طيب يا "فارس" نختبر دي سوا ونشوف كلاتنا اللي هتقوله دي صوح ولا حاجة تانية؟ بس خليك فاكر اننا متفقين إنها ده جلسة عقل .

التفتت نحو الروبوت وقالت له بهدوء بنفس نبرة "فارس" المعتادة على سماعها حتى لايعترض بأنها لم تفهم نبرتها:


إنتِ فاكرة يا ماما آخر مرة "فارس" زعل منك فيها كان ليه؟ أو إيه الموقف اللي حصل منه خلاكِ تخاصميه كتير وقلبك يشيل منه ؟


ظل الروبوت صامتًا لثانيتين قبل أن يجيب بصوت آلي خافت:

ـ "فارس" لا يزعل من ماما، "فارس" يحب ماما ، " فارس" حلو وجميل وولد حلو خالص.


نظرت الدكتورة إلى "فارس" وسألته بدهاء:


ـ احنا متفقين إن الجلسة جلسة عقل، هل يا دكتور "فارس" في أم وولدها عاشوا مع بعض السنين داي كلاتها وما كانش في بينهم أي مواقف زعل أو ضيقة، هل دي يعقل ؟!


كان الصمت بعدها أطول من اللازم،

فـانزلقت نظرات "فارس" بين الدكتورة والروبوت، ثم قال بعصبية مكتومة:

ـ هي نسيِت، وأكيد هي ما فهمتش معنى سؤالك قوي، عادي يعني بيحصل إن الأم دايما شايفه ولادها قدام أي حد حلوين وملايكة فردها طبيعي. 


اقتربت الدكتورة أكثر، وحدّدت نبرتها كمن يضـ.ـرب الوتر الأخير في آلةٍ مهشمة وهي تلعب معه على المكشوف كي تحدث الصدمة:


ـ ولا مرة افتكرت يا "فارس" إنك اللي مبرمجها ترد اكده؟ إنك مش سامع صوت أمك، انت سامع صوت نفسك لما بتحاول تِهرب من وجعها وهي مش اهنه؟


تصلّب وجه "فارس" ، وكأن الجملة طعنة خفية دخلت صدره دون استئذان،

ثم قال بصوتٍ مرتعشٍ حاول أن يُخفيه بابتسامةٍ باردة:

ـ انتي بتحاولي تشكّكيني في نفسي يا دكتورة؟ ولا بتحاولي تعرفيني إن دي مش ماما وانها حد تاني مليش وجود ؟


أجابته بنبرة عقلانية، لا تخلو من الحدّة القليلة كي تجعله يصحو من غفوته وهي تعرض عليه الحقيقة الصادمة :

ـ أني بحاول أرجِّع لك نفسك يا "فارس"، مش عايزاك تفضل أسير جهاز انت صنعته علشان تعيش في وهم إن الموت ما أخدش منك حاجة، الموت أخد، بس هو كمان بيسيب وراه حاجة لو احنا عرفنا نستقبلها.


ظلت الجملة مُعلقة في الهواء، كأنها دعوة صامتة للمواجهة،اقترب "فارس" من الروبوت ولمس خدّه المعدني ببطء، وهو يوزع نظرات عينيه اللائمة بينه وبينهن ، وقال بصوتٍ متهدّج:

ـ بس هي اللي كانت معايا وأنا مكسور، هي اللي كانت بتسمعني كل ليلة، "فريدة" كانت بتزعل مني كتير وتعدي ليالي تخاصمني وانا ما عملتلهاش حاجه تزعلها، في اوقات كتير محدش في الدنيا كان حاسس بيا إلا هي.


نظرت إليه "فريدة" بعينين دامعتين وهمست بندم واعتذار حينما قرأت نظرات الطبيبة لها ان تتحدث هي في ذاك الوقت بدلا عنها:


ـ حقك علي يا "فارس" أني كنت غلطانة وان شاء عمري ما هزعِلك مني تاني يا حبيبي ، علشان انت كل حاجة حلوة في حياة "فريدة" .


رمقها بنظرة احتياج إلى رقتها، ثم رفع صوته قليلًا وهو يعاتبها :

ـ انتِ عارفة إن أنا عمري ما هزعل منك، بس انتِ كنت بتقسي عليا قوي، وكنت كتير ببقى محتاج حضنك وانك تبقي جنبي وكنت بتسيبيني، بس انا مش زعلان منك يا "فريدة" ولا عمري هزعل منك علشان زي ما أنا كل حاجة حلوة في حياتك، انتِ كمان كل حاجة حلوة في حياتي. 


ابتسمت له بحنو وهي تضغط على يديه المتمسكة بيده ، نظرت الدكتورة له ببرودٍ محسوب، ثم قالت:

ـ المفروض يا "فارس" اننا في الدنيا دي مطلوب مننا نتحمل الألم والأمل، والزعل ووقت الراحة النفسية ما بين كل راجل ومراته، الحياه مش كلها وردي، ربنا سبحانه وتعالى قال؛ 'ولقد خلقنا الانسان في كبد'، عايزاك تقتنع من جواك ان مش علشان خاطر اني والانسان اللي مرتبط بيه واللي اني هحبه متخانقين يوبقى اروح ألجأ لحاجة مش عقلانية تخليني أنسى بيها الوجع، في حاجات تانية كَتيرة ممكن تخفف عننا الوجع، زي الذكر والعبادة والعمل، ننشغل في حياتنا مع ولادنا ، أني مش هحاول أقنعك دلوك ومرة واحدة ،أني هطلب منيك حاجة صغيرة قوي،

خد نفس عميق، وغمض عينيك اكده.


تنفس ببطء، وعيناه أُغلقتا تحت إشرافها الهادئ، ثم سألت بهمسٍ ثابت

ـ قولّي آخر مرة حضنت فيها أمك كانت إمتى وحسّيت بإيه؟

ارتعشت شفتاه وهو يهمس ببسمة تزينها الأمل كما الأطفال:


ـ كانت ريحتها بتفوح ياسمين، كنت حاسس بالأمان، بحضن دافي بيخبيني من الدنيا كلها، كنت بقعد تحت رجليها وأنا حاضنها وكأني حاضن الجنة، كانت هادية وجميلة.


ردت بهدوء ودهاء وهي تقارن الواقع بالخيال الذي يسرح به الآن كي تصدم واقعه وخياله ببعضهم:

ـ واللي قدامك داي، بتفوح منها ريحة إيه؟


ظل صامتًا، كأن السؤال اخترق روحه، ثم فتح عينيه ببطء وقال بصوتٍ مبحوح:

مفيش ريحة، مفيش إحساس، مجرد صورة حلوة لأمي قاعد قدامها احكي لها احتياجي ليها .


نظرت إليه بثبات وقالت:

ـ يوبقى داي مش أمك يا "فارس" ، الأم ما بتتفهمش بالعقل، بتتحس، واللي قدامك دي مش بتحس، بتنفّذ ،انت محتاج ترجع تحس.


بدأت نبرة "فارس" تهتز، كأنه يُكابر على حافة الانهيار وهو ينطق اسم " الروبوت" ويعترف بكينوته الجمادية أخيراً مما جعل فريدة تندهش فأشارت إليها الطبيبة أن تتمهل ولا تبدي أي ردة فعل كي تستطيع إكمال حديثها معه وهو مغمض العينين:

ـ بس أنا مقدرتش أعيش من غيرها، كنت بموت كل يوم، الروبوت ده أنقذني، بقول لها كل اللي انا عايزه اسمعه منها وهي بتسمعه لي فبحس إن أنا مرتاح.


ردت الدكتورة بصرامة فيها رحمة :

ـ بالعكس هو ما أنقذكش، هو جمّدك، خلاك تعيش في نسخة من وجعك، بس بوشّ مبتسم، الإنقاذ الحقيقي إنك تقف قدامه دلوك وتواجهه ان هو مش حقيقة، وتتقبَل حقيقة فراق أغلى الناس على قلبنا، وندعي لهم بالرحمة، وتبص في وشه وتقول له؛ انت مش حقيقي أنا اللي حقيقي، والموت هو اللي حقيقة، وربنا هو المعين تعرِف تقول له اكده؟


سكت "فارس" لحظات طويلة، ثم قال بصوتٍ مكسور:

ـ وانا لو سبتها، هبقى مش عارف أتخطى بعادها صدقيني، هحس إني لوحدي.


قالت الدكتورة بثقة:

ـ لاااه، بيتهيئ لك ، انت هتوبقى مع نفسك ومع اللي حواليك وهيحبوك، ودي أول طريق للشفا.


وعلى حين غرة استغلت نظرة بداية الاقتناع بجديثها ثم مدت يدها ببطء وأغلقت الزر الخلفي للروبوت، فتوقّف عن الحركة وسقط رأسه للخلف بصوتٍ خافت، في تلك اللحظة، بدا "فارس" كمن تُسحب منه روحه، ارتعشت يداه، ثم أطلق أنينًا مكتومًا، كأن كل الحزن الذي كبته سنينًا بدأ يخرج دفعة واحدة،


اقتربت الدكتورة منه، وضعت يدها على الطاولة وقالت بصوتٍ منخفضٍ حازم:


ـ أني مش عايزاك تبكي عليها دلوك، عايزاك تبكي نفسك اللي فقدتها معاها.


وهتفت بجوار أذنه بصوت عالٍ مسموع كي تُخرِس صوته الداخلي :

ـ إنت أهم، "فارس" اهم ، بتك أهم، مرتك اللي هتحبك أهم، بيتك وشغلك وحياتك أهم .


نظر إليها بعيونٍ غارقةٍ في الدموع وقال:


ـ أنا مش فاهم ازاي أعيش من غيرها؟


ردت بهدوءٍ عقلاني فيه دفء خفي:

ـ هتعيش واحدة واحدة، هتتعلم تحكي عنها من غير ما تبنيها من حديد، هتحبها من غير ما تبرمجها علشان تريحك، إحنا هنحب والدينا حيين او ميتين يا دكتور .


كانت الكلمات كأنها مفاتيح تُفتح بها بوابات الصمت داخله، فانفجر بالبكاء، ليس بكاء طفلٍ على فراق، بل بكاء رجلٍ أدرك أنه عاش زمنًا في ظله، لا في حقيقته،

بينما "فريدة" التي ظلت صامتة طوال الجلسة، مدت يدها نحوه بهدوء، لم تلمسه، فقط تركتها في الهواء بينهما،


ابتسمت الدكتورة بخفة، وقالت وهي تنظر لهما بنصر:

ـ النهاردة مش نهاية الجلسة، دي بدايتها،

أنت أخيرًا سمعت صوت وجعك، وبكده نقدر نبدأ علاجك الحقيقي.


رفع "فارس" رأسه نحوها، الدموع لم تجف بعد، لكن في عينيه بريق خافت يشبه أول ضوء بعد عاصفة طويلة ،قال بصوتٍ واهنٍ لكنه صادق:

لو أقدر أعيش من غيرها فعلاً، هبقى محتاج أعرف إزاي؟

ابتسمت الدكتورة وقالت بنبرةٍ فيها تحدٍّ لطيف:

ـ ودي شغلي بقى، يا دكتور، مليكش صالح إنت تحضر الجلسات منتظمة وبس .


وحينها شعر للحظةٍ أن الأرض بدأت تستقر تحته من جديد،

وانتهت الجلسة، لكن في صمت "فارس" كان هناك وعد خفي، أن الطريق إلى التعافي لن يكون سهلاً، لكنه أخيرًا بدأ،


وبعد أن غادرو أرسلت الطبيبة رسالة صوتية إلى "فريدة":


ـ شوفي يا داكتورة "فريدة" في حاجة مهمة وعامل أساسي لازمن تعمليه، وهو إنك تحاولي تبوظي الروبوت بأي طريقة تخليه دايما مهنج، تخربيه بمعنى أصح، علشان كل لما يفكِر يلجأ لَه يلاقيه ما ينفعش، ودايما تراقبيه لما ياجي يروح ناحيته، وحسسيه ان انتِ الأمان، وانك الحقيقة، وانك بس الوحيدة اللي تقدري تسمعيه،


بس تخلي بالك ليكون حاطط في الروبوت أجهزة تصنت، أو كاميرات مراقبة لحمايته لأن مريض الانفصام بيبقى ذكي جداً، وحاجة زي دي ما تفوتهوش، اني مدياله أدوية تخليه ينام شويه ويرتاح علشان يقدر يفصل بتفكيره، انتِ هتستغلي الوقت دي في إنك تعملي أي طريقة ما تخليكيش تنكشفي قدام كاميرات المراقبة اللي في الروبوت، مثلا تخلي بنتك تدلق ميه عليه فطبيعي ان هو هيهنج، فانتِ تحاولي تنشفيه وانتِ بتنشفيه تدوسي على زر اللي يقفله خالص وقتها تقدري تعملي فيه اللي على كيفك، وبعدها تفتحيه وكأن شيئا لم يكن ، وتكرِري العملية داي لحد ما يُبقاش له وجود خالص، ويحس إن هو فعلا حتة حديدة ما لهاش لازمة، ويقتنع كمان بفكرة فقدانها السريع فيفقد الأمل وميحاولش يعمل غيرها ،ضروري جدا يا "فريدة" تعملي الحاجات اللي اني هقول لك عليها داي وان شاء الله الشفاء العاجل في أقرب وقت.


                *******

كان الصباح هادئًا على غير عادته، والضوء النافذ من خلف الستائر يبدو باهتًا كأنما يشاركها ثِقل يومها، كانت "مها" تتحرك في البيت بصمتٍ يشبه الدعاء، عيناها تبحثان عن شيءٍ لا يُرى، ووجهها ساكن إلا من حزنٍ قديم يطل بين حينٍ وآخر، ثم أخرجت هاتفها وقامت بالاتصال على زوجها :

ـ بعد إذنك أني هخرج شوي وهرجع قبل معاد رجوع البنت من الحضانة ؟

رفع رأسه من الأوراق التي أمامه،ثم ابتسم ابتسامة صغيرة فيها دفء وهو يسألها :


ـ رايحة فين يا أم "الزين" مش تعرِفيني ، مش عادتك الخروج الصبح اكده ؟


أجابته باختصار وصوت ممتلئ بالحنين والوَحشة:


ـ هجيب شوية طلبات للبيت متقلقش علي .


أذن لها بحنو اعتاد عليه معها :

ـ طيب، خلي بالك من نفسك ، ولو احتاجتي أي حاجة رني علي طوالي .


هزّت رأسها، ثم خرجت، وأحس هو بحزن صوتها وظل يفكر ما بها ،

كانت الشوارع شبه خالية، والهواء يلفح وجهها بنعومة باردة، لا شيء حولها سوى وقع خطواتها على الرصيف، كأنها تمشي إلى ذاكرةٍ تعرفها جيدًا، وصلت المقابر، جلست أمام قبرين الصغيرين، وضعت حقيبتها بجانبها، ويدها ترتجف وهي تلمس شواهد الرخام الباردة، لم تحتج أن تتكلم كثيرًا، فقد كانت نظرتها وحدها كفيلة أن تروي حكاية الأم التي لم تنسَ أبناءها يومًا، حتى تمتمت بصوتٍ خافتٍ متهدّج:


ـ وحشتوني يا حبايبي، والله كل يوم بحسّ إن قلبي لسه عندكم، وحشتني يا "زين" انت و"زيدان" ، عمري ما نسيتكم ولا أقدر أنساكم .


نزلت دمعة على خدّها وهي تتابع بقهر:


ـ كنتوا هتبقوا في حضني دلوك ،بتجروا حوالي وتضحكوا، بس خلاص، ربنا اختار لكم راحة أكبر، وأنى اللي هملت فيكم وأني السبب في موتكم وفراقكم عني يا حبايب الروح والقلب .


مرّت دقائق طويلة وهي صامتة، تكلّمها الريح وترد عليها العصافير من بعيد، إلى أن سمعت وقع خطوات خلفها، التفتت، فإذا بـ"جاسر" يقف على مسافةٍ قريبة، ملامحه مزيج بين القلق والحنان، لم تتكلم، ولم يسألها كيف عرف، جلس بجوارها بهدوءٍ شديد، ووضع يده على كتفها :


ـ كنتِ فاكرة إني هسيبك تيجي لوحدك يا أم "الزين" ، صوتك بس وانتِ هتتحدتي وياي في التليفون كان كفيل يعرِفني انتِ رايحة فين .

التفتت إليه بدهشة:

ـ إنت إزاي جيت اهنه ، وازاي عرفت إني جاية اهنه من الأساس .


أجابها بحنو وهو يمد يده لها كي تقوم من على الأرض ويجلسان على المقاعد المخصصة لزائرين المقابر :

ـ من أول ما خرجتِ وأني حاسس إنك مش مرتاحة وفيكِ حاجة غريبة ببص على التاريخ عرفت إن زي النهاردة كان عيد ميلادهم وقلت أكيد إنك جيتي اهنه وقلبي مطاوعنيش فجيت لك يا "أم الزين" .


ارتمت داخل أحضانه وهي تبكي بشدة ثم نظرت إلى القبرين وقالت بصوتٍ مبحوح:


ـ أني دايمًا لما ببقى تعبانه من بعادهم، باجي اهنه بحسّ إنهم بيسمعوني، اتوحشتهم قوي يا "جاسر" اتوحشت ريحتهم اللي عمري ما نسيتها واتوحشت ملامحهم البريئة الجميلة، تفتكِر هما هيسىعوني وهيحسوا بوجودي كل لما أجي لهم ؟


شدد من احتضانها ليقول برفق :


ـ أكيد هيسمعوكِ يا حبيبي، وأكيد حاسين بيكِ وبوجودك وبروحك حواليهم اللي عمرها ما نسيتهم وأكيد كل مرة هتبكي وتنقهري اكده هيحزنوا عليكِ وعلشان اكده لازمن تاجي لهم بالابتسامة الزينة والقلب المرتاح علشان يطمَنو عليكِ، دول ملايكة الرحمن اللي سكنو جنته يا حبيبتي، يعني عايشين في مكان أحسن من وجودهم في الدنيا داي، علشان إنتِ أم طيبة وجميلة قوي يا "أم الزين" .


ابتسمت ابتسامة حزينة وقالت:

ـ أم إيه يا "جاسر" ؟إذا كان اهمالي ليهم هو السبب في موتهم وفراقهم اللي لسه هيكويني. 


ضم حاجبيه بانزعاج من كلامها لينطق نافياً:


ـ لا، ما تقوليش اكده، انتِ كنتِ ليهم أم جميلة وحضنك كان مليان حنان ، ودلوك حدانا بتنا داي أحلى بنت في الدنيا، وشبهك في كل حاجة، ولسه ربنا كمان هيرزقك بولد جاي اهه في الطريق لازمن امه متحزنش وهو في بطنها ولا ايه يا "أم الزين" يا قمر انتِ.


نظرت له في صمتٍ، ودموعها بدأت تترقرق من جديد، لكنه أكمل وهو يربّت على يدها:


ـ ربنا عمره ما حرمك، هو بس بيبدّل الوجع نعمة، يمكن أخد منك حاجة غالية، بس رجّع لك أضعافها حب وحنية وبيت وسَكَن، وعيال تانيين ، لازمن نحمد ربنا على ابتلائه ودايما تكوني واثقة إن الخير يكمن في الشر مهما كان وجعه .


نزلت دموعها أكثر، لكنها كانت مختلفة هذه المرة، دموع راحة وليست ندمًا:


ـ أني كنت فاكرة إن الوجع مش هينتهي، بس كلامك بيخليني أصدِق إن يمكن فعلاً ربنا بيراضيني، بس غصب عني مقدراش مفكِرش فيهم أو أنساهم.


ـ هو بيراضيك فعلاً، وأني شاهد، شوفي نفسك لما تبصي في وش بتنا وهي هتضحك، دي ابتسامة من السما ليكي، ولسه ولدنا اللي جاي دي هيكمّل فرحتنا وهنسميه "زين" بردو علشان اتعوَدت عليكِ "أم الزين" ومفيش غيره الاسم دي يليق عليكي قلباً وقالباً.


ضحكت ضحكة صغيرة وسط دموعها، وقالت وهي تمسح وجهها بطرف طرحتها:

ـ يمكن كنت محتاجة أسمع الكلام دي النهاردة بالذات، تعرِف اني هحمد ربنا كل يوم والتاني على نعمة وجودك جاري .


ـ علشان اكده ربنا بعتني ليكِ.


ـ بس أنا ما قلتلكش أني رايحة فين.


ـ قلبي اللي قال لي، مش محتاجة تقولي.


ثم مد يده لها وهو يساعدها على القيام نظراً لثقل جسدها وانتفاخ بطنها :

ـ يلا قومي نروح على البيت بزياداكي حزن عاد وكمان زمان البنت راجعة من الحضانة. 


تحركت معه وفي الطريق إلى منزلهم جلب لها كثيراً من الشيكولاتة والالبان والفاكهة التي تعشقها، وحينما عاودو إلى المنزل وخلعت ملابسها وذهبت كي تتنعم بحمام دافئ، وهو جلس يجري بعض المكالمات الهامة حتى رآها وهي تخرج من الحمّام تتهادى في خطواتها الهادئة، تلفّ حول جسدها البرنس الوردي وتُمسك طرف المنشفة التي تُحيط بشعرها كأنها تُخفي تحتها عطراً سرياً من الجنة،كان بخار الماء لا يزال عالقاً بأنفاسها، وعيناها يكسوهما بريق دفء يشي بأن داخلها سكينة غريبة، جلست أمام المرآة، تُمشّط خصلاتها التي تسرّبت من تحت المنشفة، والأنوار الخافتة في الغرفة تُغلف المكان بظلال ناعمة، بينما كان "جاسر" يُنهي مكالمة عمله الأخيرة وهو يُلقي عليها نظرة طويلة لم يستطع أن يُخفيها،


توقف عن الكلام، أغلق الهاتف، ثم اتكأ على الأريكة وهو يُتابعها بعينين تُخفي أكثر مما تُظهر، كأنها أمامه لوحة من الجمال والأنوثة، نظر إلى انعكاسها في المرآة، وصوته انساب من خلفه دافئًا رقيقًا:

ــ يا أم الزين بقى يخربيت جمالك يا شيخة وريحتك اللي تهوس ،هو في ملاك بيتجسد في الدنيا بالشكل دي يا عالم ؟


التفتت إليه بابتسامة صغيرة، كأنها تُعاتبه بخجل أن يتحدث عنها بهذه الطريقة، وردت وهي تُنزل عينيها للأرض كعادتها حين يذيبها الكلام:

ــ بطل كلامك دي بقى يا بكاش انت، ما زهقتش من طلة ولا ريحة "ام الزين" ما اتعوَدتش عليها علشان كل شويه تغازل فيها ؟


اقترب منها بخطوات بطيئة، كأن كل خطوة تقوده نحو شيء خاطـ.ـف كأنها مغناطيس يجذبه للاقتراب منها ، ثم وقف خلفها، ويداه تستقران على خصرها برفق كأنه يخاف أن يُفسد اللحظة قال بصوتٍ خافت:

ــ وأني أقدر؟ دا أنتي كل مرة بشوفك فيها بحس كأني هشوفك لأول مرة، بنفس اللهفة بنفس الاشتياق اللي في قلبي لقربك .


رفعت يدها لتُمسك أصابعه على خصرها، كأنها تُسكته عن الكلام، لكنها لم تنطق، انعكاس نظراتها في المرآة كان أبلغ من كل حديث، ظلّ يحدّق فيها، في ملامحها التي تتلألأ تحت الضوء الخافت، ثم انحنى برأسه ليهمس عند أذنها:

ــ انتي عارفة إنك السبب في إن الدنيا حلوة في عيوني؟ من غيرك "جاسر" ميعرِفش يعني ايه دفا وامان . 


تنفست بعمق وهي تُغلق عينيها، وكأن كل كلمة منه تُعيد ترتيب روحها التي بعثرتها الحياة من قبل، ثم ردت بصوت مبحوح:

ــ وأني من غيرك كنت هنسى يعني إيه أمان، كنت هنسى يعني إيه حد يطبطب على الوجع من غير ما أتكلم، ومكنتش هعرف يعني إيه إحساس الست كأنثى.


تمسك يديها الاثنتين ثم أدارها إليه وهو ينظر في عينيها طويلًا حتى كاد يقرأ نبضها، وقال:


ــ فاكرة يا "أم الزين" أول مرة شوفتك؟ كنتِ تايهة، ومليانة خوف، وأني كنت حاسس إني لو قربت منك هغير نظرتك التايهة الحزينة، والنهاردة لما ببصلك بحمد ربنا إنه رزقني بيكي.


اهتزت ابتسامتها بشيء يشبه الدمع، لكنها تماسكت، وقالت وهي تُمرر يدها على خده:

ــ تعرِف يا "جاسر" كنت فاكرة إن قلبي اتقفل خلاص، لكنك رجعته ينبض تاني، يمكن علشان ربنا لما بيحب عبده بيبعت له طبطبة على هيئة بشر، وأنت كنت الطبطبة دي.


ضحك ضحكة خافتة، فيها حنين ودهشة، ثم رفع يدها إلى فمه وقبّلها ببطء وقال بعبث وهو يداعب بطنها المنتفخة:

ــ هيقولوا إن الست في آخر حملها هتشتاق لحضن جوزها كَتير ، عايزك تثبتي لي هل المقولة داي صحيحة ولا كلام وخلاص عاد؟ ولو إني شايف في عيونك دلوك ما يثبت المقولة داي .


نظرت إليه نظرة طويلة وقد زار وجهها الخجل واحمر باللون الوردي من استفساره العابث، ثم قالت بنعومة وهي تميل برأسها قليلاً:


ــ انت مكار قوي على فكرة وهتسحبني وياك دلوك لحتة تانية والبنت على وصول من الحضانة ، وانت كمان وراك شغل عاد متعطلش حالك .


داعب وجنتيها بسبابته وهو يردد يعبث:

ـ وماله لسه بدري ولو فاضل وقت بسيط ، مينفعش أضيع اللحظة الحلوة دي بلقى ام الزين وطلتها القمر، 


ثم أمسك بوجهها بكلتا يديه، يُحدق في ملامحها وكأنه يُحفظها في ذاكرته، وقال بصوتٍ خافتٍ يُشبه الدعاء:

ــ يا رب ما تحرمني من الوش دا، ولا من الضحكة دي، ولا من السلام اللي بييجي كل ما تبصيلي بالشكل دي .


أجابته وهي تبتسم بخفة، تميل نحوه وتقول:

ــ ياروحي انت ولا يحرمني منيك ، دي اني محستش إني ست غير في حضنك .


اقترب أكثر حتى صارت أنفاسهما تختلط، همس عند وجنتها ببطء:

ــ إيه يا بابا الرقة دي ،أكاد من فرط الجمال اذوب يا ناس .

أغمضت عينيها للحظة، وكأنها تستسلم لطمأنينة كلماته التي تسكن القلب قبل الأذن، ثم قالت وهي تضع رأسها على كتفه:

ــ هحبك بطريقة تخليني أدعي كل يوم ربنا يحفظك ليا، وبخاف عليك حتى من الهوا، بحس إنك الهدية اللي مش لازم أتعبها ولا أخليها تزعل لحظة.


مرّر يده على خصلات شعرها برفقٍ شديد، وقال وهو يبتسم:

ــ وأني هحبك حب يخلي الدنيا كلها بسيطة، يخلي الشغل ملوش طعم غير لما أرجع ألاقي وشك، يخلي كل تعب يهون أول ما أسمع ضحكتك، انتي مش جزء مني، انتي أنا.


سكتت قليلًا وهي تُنصت لصوته، ثم رفعت رأسها ونظرت إليه نظرة امتنانٍ عميقة، وقالت بابتسامة خجولة:

ــ يا بختي بيك يا "جاسر" يا بختي بوجودك في حياتي.


احتواها بين ذراعيه، وأغلق عينيه وساد بينهما صمتٌ دافئ، صمت يروي أكثر مما تقول الكلمات، كانت أنفاسهما تسكن المكان، والليل يهمس خارج النافذة بلحنٍ بطيءٍ كأنه يُشاركهما هذا السلام، والبحر يرسل نسيمه من بعيد يُداعب الستائر كأن الكون كله يحتضنهما في لحظة صفاء نادرة، وكأن القدر نفسه يبتسم لأنهما أخيرًا وُجدا حيث ينتميان.


                 *******

سار عمران بخطواتٍ ثابتة نحو بيته، وقلبه يفيض بشعورٍ لم يعرفه من قبل، فــمنصب العمودية صارت له رسميًا اليوم، والناس سلّمت عليه بالتهنئة، والعيون تلاحقه بإجلالٍ وحب، شعر أن حملًا جديدًا وُضع على كتفيه، لكنه كان مرفوع الرأس، يعرف قدر نفسه ويعرف أن الطريق من الآن غير الذي كان،


دخل الدار، فاستقبلته أمّه بالأحضان التي تصحبها ابتسامة غلب فيها الفخر على الدموع، وهي تبارك له :

ـ الف مبروك يا جناب العمدة يا رافع راسي وسط البلد، وراس أبوك يا زينة شباب قنا كلاتها، ما تتصورش فرحتي بيك كد ايه، وبمنصبك الجَديد اللي الناس وثقت فيك وادته لك يا ولدي .


ابتسم وهو يقبّل يدها بِبرٍ وجذب راسها يقبلها هي الأخرى :

ـ دي بدعوتك يا أمي، أني من غيرك ولا حاجة، 

وكل خطوة حلوة ونجاح وتقدم فى حياتي بفضل ربنا ثم دعاكي يا ست الدار .


قالت وهي تمسح على شعره كأنها لا تزال تراه طفلها الصغير:

ـ خُد بالك يا ولدي العمودية مش كُرسي تتقعد عليه، داي مسؤولية واعرة يا ولدي، خليك دايمًا عادل، واللي في يدك يكون للناس قبل ما يكون ليك، اني واثقة فيك وفي شهامتك ورجولتك وطبطبتك على الضعيف .


حرك رأسه بإيمائة خفيفة :

ـ حاضر يا أمي، وعد علي أرفع راسك ومخذلكيش ابدا .


هزّت رأسها برضا وقالت:

ـ روح بقى فرِح مرتك، واستريح في فرشتك اليوم كان صعيب عليك في مجلس المشيخة طول النهار. 


صعد إلى غرفته بخطواتٍ هادئة، وفتح الباب فوجد "سكون" جالسةً بجانب النافذة، الضوء الخافت يرسم ظلها على الحائط التفتت إليه بعينين فيها ألف سؤال:

ـ حمد الله على السلامة ،كنت فين دي كلاته يا "عمران" هرن عليك من بدري ومهتردش علي قلقتني عليك؟

ابتسم واقترب منها، وقال بصوتٍ خافت وهو ينظر لها بعينين يملؤها الفخر :

ـ كانو مجتمعين النهاردة في مجلس المشيخة وقرّروا بالإجماع إن العمودية توبقى لجوزك وبقيت جناب العمدة.

سكت لحظة يراقب ملامحها، فاغرورقت عيناها بالدمع وهي تهمس:

ـ وه! بقيت حضرة العمدة "عمران سلطان المهدي" بجلالة قدره يا عمراني؟

تصدِق لايقة عليك العمودية، يا عمدة قلب السكون،وبمناسبة العمودية واول ليلة ليك في المنصب دي،يوبقى لازمن حضرة العمدة يتروق ونظبط له مزاجه .


قبلها من يدها بحب وردد :

ـ ايوه بقيت حضرة العمدة رسمي يا سكوني .


قامت واقتربت منه، تلمس كتفه وهي تبارك له :

ـ أني فخورة بيك يا عمراني ، انت اصلا تستاهل لقب العمودية دي لأنك كبير بعقلك وبالخير اللي هتقدمه للبلد وعلشان اكده محدش ينفع في المنصب دي واصل غيرك .


نظر إليها بمكر وهو يتدلل عليها بأوامره :

ـ طب هتروقي على عمرانك كيف يا أم سَليم؟حكم منصب العمدة دي دوشة، وصداع،ودماغي رايدة رواق بال،وليلة مختلفة من ليالي "سكون" لعمرانها،وبالمناسبة جبتلك الشوكولاته النوع اللي هتحبيه، وعليه عمرانك رايد كمان وصلة للحكمدار.


اختـ.ـطفت الشيكولاته من يده وابتعدت عنه قليلا وهي تنظر إليها بنهم :

ـ وه مهتزهقش من ليالي الحكمدار دي ، كانك رجعت عريس من الاول وجَديد وكل يوم هتطلب طلبات غريبة متليقش على جناب العمدة دلوك . 


جذبها بعـ.ـنف حتى ارتطمت بصدره وهو يمد أنامله ويزيح خلصتها الشاردة من على عينيها:


ـ وه، كانك متعرِفيش إن سن الأربعين حدا الراجل بيوبقى في عز شبابه والحاجات داي بالنسبة له ادمان.


وتابع بصوت رجولي جعلها تتآكل شفتيها بخجل من غزله :

ـ ومتنسيش كمان إني راجل كنت محروم قبل سابق فعايز حق سنين الحرمان داي تالت ومتلت يا سكوني، وكمان عايزك تهتم بيا اكتر علشان دماغي دلوك بقيت عمدة ومسؤولية جناب العمدة عايزة يكون باله رايق ومزاجه آخر انبساط وطبعا دي من اختصاص مرت العمدة .


داعبت وجنته بسبابتها وهي تهمس برقة أذابته :

ـ وه وهو مزاج جناب العمدة مهياجيش غير على الحكمدار اللي روشني بأغانيه .


حرك رأسه وهو ينظر إليها بعينين تكاد تتآكلها :

ـ ايوه امال ايه ، دي هو دي كيف ومزاج جناب العمدة "عمران سلطان المهدي" وكفاية بقى كلام الليلة عايزين ناكل الشوكولاتة.


خبأت الشيكولا في صدرها وحجبتها بعيدا عنه :


ـ وه هو انت عايز تاكل الشيكولاتة اللي انت جبتهالي بمناسبة العمودية وتشاركني فيها اياك ، اكده هقدم تظلم لهيئة المشيخة هقول لهم؛ إن العمدة هيهادي مرته ويوبقى عايز يشاركها في الهدية، وهم هيحكموا في التظلم إنك تكون عادل وما تاخدش الشيكولاته من سكونك .


غمز لها بإحدى عينيه:

ـ من النهاردة مفيش تظلم ولا حكم ولا أي حاجة من داي اني الحَكومة .


ضحكت بشدة لمداعبته فسحبها إلى أحضانه وهو يخـ.ـتطف منها الشيكولاتة ويتناولاها سويا على طريقة عشق العمران للسكون .


                *******

كانت "مكّة" تخرج من القناة بعد صلاة العصر، تسير بخطًى مثقلةٍ بالحزن، بعدما أثقلها تغيّر "آدم" وحالته النفسية الغامضة التي لم تدرك سرّها بعد. حاولت بكل سبيلٍ أن تقترب منه، أن تنتزع منه سرّ وجومه، لكنّه ظلّ جدارًا صامتًا لا يُرى خلفه شيء، وكأنّ بينهما بحرًا واسعًا فقدت مجاديف الوصول إلى ضفّته، كان ذلك أول جفاءٍ يعصف بينهما، فارتبكت روحها، وتاهت بين الحيرة والوجع، حتى أرهقها التوتّر الذي كبّل أعصابها،

وحين وصلت إلى سيّارتها، جلست وأغلقت النوافذ بإحكامٍ كأنّها تغلق أبواب العالم عنها، لا أحد يراها، لكنّها ترى الجميع لأن الزجاج معتم ،رفعت نقابها لتتنفّس قليلًا، غير أنّ اللحظة اختنقت فجأة حين التفتت فرأت من ينهض خلفها من المقعد الخلفي، عينيه الخبيثتين تلتهمانها بنظراتٍ ماكرةٍ يقطر منها الفُجور،

كانت الصدمة كريحٍ صرصرٍ جمدت دمها في عروقها، وكأنّ الظلّ الذي وثقت بفراغه قد خانها وتحول إلى ذئبٍ يبتسم في عتمةٍ خانقة وهو يردد :

ـ ده ايه الجمال ده كنت واثق ومتأكد انك وراكي حلويات ما شفتهاش قبل كده، يا أهلا وسهلاً بالحبايب .

الفصل الرابع والعشرون من هنا


تعليقات