رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الثالث والعشرون
ما أقسى أن يسبق القرار الشعور،
وأن تُقال "نعم" بينما الروح تصرخ "لا".
أن يُهنّأ القلب على خسارته،
ويُجبر العاشق على التظاهر بالثبات،
في حين كل شيء فيه ينهار بصمت.
ليس كل "مبروك" فرحًا،
ولا كل قبول رضا...
بعضها يُقال لتدفن ما تبقّى من حلم.
فيا من ظننتِ القلب يصرخ بحبك،
اعلمي أن الصمت أقوى من أي صرخة،
وأن الابتسامة أحيانًا تخفي بحرًا من الدموع.
ويبقى القلب صامتًا، يحمل كل الألم وحده...
خرج يوسف من منزل عمِّه، خطواته سريعة تحمل في طيَّاتها غضبًا مكتومًا، وصيحات شمس تتعالى خلفه وهي تقترب من سيَّارته.
مع نزول حمزة من سيارته، عيناه على ساعته، التقطت أذنه صوتها المألوف..
رفع رأسه والتفت ناحيتها، يراقبها وهي تتحرَّك صوب يوسف الذي قاد سيارته مبتعدًا دون أن يلتفت إليها.
توقَّفت شمس بتذمُّر، تعقد حاجبيها وتهمس في نفسها:
_أكيد اتخانق مع ضي..وهتوقع على دماغك ياشموسة.
قالتها ولم تدري أنَّ خلفها عينان تلتهمان تفاصيلها بنظراتٍ فاحصة.
استدارت لتعود إلى منزلها، لكن خطواتها تباطأت حين قابلت نظراته مباشرة.
أومأت له برأسها وتحرَّكت دون حديث، إلَّا أنَّ صوته استوقفها بنغمةٍ هادئة مشوبةً بشيءٍ من الجرأة:
_عاملة إيه ياشموسة؟
تصلَّبت للحظة، ثم أجابته بابتسامةٍ خافتة:
_كويسة..شكرًا لحضرتك.
ثم التفتت نحوه، تحدِّق في عينيه بثبات وقالت:
_محدش بيدلَّعني بالاسم دا غير القريبين منِّي..ومع احترامي لحضرتك، بس لا إنتَ قريبي، ولا حتى قدِّي..
نوَّرت ياأستاذ حمزة.
قالتها ثم تابعت طريقها بخطواتٍ سريعة باحتقان وجهها من الخجل والغضب، ولكن أوقف عقلها الدفء الغريب في نظراته..
ظلَّ حمزة يتابعها حتى غابت عن ناظريه، تنفَّس بعمق كأنَّه يحاول طرد أثر نظراتها من ذهنه، التقطت عيناه دخول سيارة بلال من بوَّابة الكمبوند..
أشار له بيده، وماإن توقَّفت السيارة حتى ترجَّل بلال مبتسمًا، يرفع نظَّارته فوق خصلاته بطريقةٍ مألوفةٍ لديه:
_ياهلا بكابتن حمزة الجارحي، منوَّر ياباشا.
ابتسم حمزة وهو يصافحه بحرارة:
_أهلًا يادوك.
غمز بلال بطرف عينه بخفَّة:
_شايف الكمبوند بتاعنا جاي المعدة.
ضحك حمزة وهو يسير بجواره قائلًا:
_أبدًا والله، بابا كلِّمني وقال لي أعدِّي عليكم هنا، اتفاجأت لمَّا لقيته هنا.
توقَّف بلال لحظة، ينظر إلى سيارة إسحاق المركونة على مقربة، ثم قال بدهشة:
_آه والله..ماخدتش بالي، من زمان أوي ماشفتوش.
قهقه حمزة بخفَّة وهو يتابع السير بجانبه:
_إحنا يُعتبر بنشوف بعض في الأعياد بس.
أدار بلال رأسه نحوه، يردُّ بمكرٍ لطيف:
_يعني النهاردة العيد؟ غريبة..أمِّي ماقالتليش!
انفجر الاثنان بالضحك، لكن ضحكتهما لم تكتمل، إذ قطعها صوت أرسلان الغاضب يرتفع بالداخل
تبادلا نظرةً متوتِّرة، قبل أن يتَّجها تلقائيًّا نحو مصدر الصوت.
بالداخل قبل دقائق فقط،
بعد أن نطقت ضي بتلك الكلمات وخروج يوسف بتلك الطريقة المتشنِّجة، هبَّ أرسلان من مكانه، عروقه تنتفض وهدر بصوتٍ يزلزل أركان الصالة:
هوَّ إنتي للدرجة دي مش محترمة ولا متربية، للدرجة دي الانحطاط خلَّاكي تِقِلِّي أدبِك على أبوكي؟!
تجمَّد إسحاق في مكانه، يحاول تدارك الموقف، ثم قال بنبرةٍ هادئة يحاول بها إخماد النيران:
_أرسلان، إهدى ..البنات الأيام دي مندفعين شوية، متكبَّرش الموضوع.
لكن أرسلان لم يسمع، لم يرَ إلَّا نارًا سوداء اشتعلت في صدره وأحرقت كلُّ اتِّزانه.
أشار بيده نحو الداخل وهو يصرخ بصوتٍ مبحوحٍ من فرط الغضب:
مش عايز أشوف وشِّك قدَّامي ياضي..
تدخَّل إسحاق بحدَّةٍ لم يعتدها منه:
أرسلان، احترم وجودي ياأخي!
استدار إليه أرسلان بعينينِ دامعتين كمن فقد السيطرة على نفسه:
_حضرتك متعرفش حاجة ياعمُّو... البنت دي أنا..أنا معرفتش أربِّيها.
هرولت ضي للداخل، ودموعها تسبق خطواتها المرتجفة، تتعثَّر بأنفاسها، بينما غرام لحقت بها مسرعةً محاولةً تهدئتها.
أمَّا أرسلان فظلَّ واقفًا مكانه، صدره يعلو ويهبط كمن يوشك أن يُغشى عليه..
توقَّف بلال، عيناه تتنقَّل بين وجه والده وإسحاق بتوجُّس، لا يعلم ماالذي حدث ولا من أين انفجرت هذه العاصفة.
اقترب بخطواتٍ متردِّدة من والده:
_بابا، فيه إيه، صوتك عالي كده ليه؟
رفع أرسلان رأسه نحوه، والغضب مازال يشتعل في ملامحه:
_اتِّصل بابن عمَّك وشوفه راح فين..أو روح له بنفسك.
كان إسحاق جالسًا في مكانه، يتابعهم بحيرة لا يفهم سبب كلِّ هذه الضجَّة.
اقترب بلال منه بسرعة، محاولًا التدارك:
_آسف ياعمُّو إسحاق، صوت بابا خلَّاني أنسى وجود حضرتك..عامل إيه؟
ربت إسحاق على كتفه بابتسامةٍ هادئة:
_كويس ياحبيبي..وإنتَ؟
_الحمد لله..حضرتك بخير؟
_الحمد لله.
في تلك الأثناء كانت أنفاس أرسلان تكاد تحرق المكان بما فعلته ابنته، لا يعلم ماالذي حدث لها حتى وصلت إلى هذا الحدّ.
اقترب حمزة وجلس بجواره بهدوءٍ محاولًا تهدئة الجوّ فقال لوالده:
_مقولتش حضرتك هتيجي يابابا؟.
طالعه إسحاق للحظة، ثم اتَّجه ببصره نحو أرسلان الذي ازداد احتقانًا.
قاطعهما بلال وهو ينظر لهاتفه:
_بتِّصل بيوسف ومش بيردّ.
رجع أرسلان بجسده للخلف على المقعد، تمتم بضيق:
_مش هيردّ..حاول توصلُّه، أو شوف عمَّك يمكن يعرف مكانه.
قطَّب بلال جبينه متسائلًا:
_هوَّ فيه إيه، إيه اللي حصل؟
قطع حديثهما دخول إلياس المفاجئ، ألقى السلام وقال وهو يوجِّه نظراته إلى إسحاق:
_مصدَّقتش لمَّا شفت عربيِّتك برَّا.
نهض إسحاق يصافحه بمحبَّة:
_وحشتني يابني، والله جيت مرَّة قبل كده بس كنت في إسكندرية.
_حمد لله على السلامة إسحاق باشا.
_الله يسلِّمك.
التفت إلياس نحو حمزة الذي وقف ليحيِّيه:
_إزيك ياعمُّو إلياس؟
_كويس ياحبيبي، إنتَ عامل إيه؟
_الحمد لله.
وبينما تبادلا التحيَّة، وقعت عينا إلياس على أرسلان الجالس والغضب يغلي في ملامحه، لكنَّه استدار على سؤال:
_هوَّ يوسف فين ياعمُّو؟
جلس إلياس متأمِّلًا ملامح أرسلان المشتعلة، ثم قال بهدوء:
_معرفش..أنا لسه واصل، يمكن يكون في البيت.
التفت إليه أرسلان سريعًا، لكنَّ إلياس أضاف:
_هوَّ قال لي هيعدِّي على ضي.
قاطعه إسحاق بصوتٍ متَّزن:
_كان هنا فعلًا، بس مشي.
التفت أرسلان نحو إلياس، ينظر إليه بخذلانٍ واضح، بينما ظلَّ إلياس متحفِّظًا، يظنُّ أنَّ شقيقه لا يرغب بالحديث أمامهم..لكن صوت إسحاق أعاده من شروده:
_كويس إنَّك جيت ياإلياس، كنت مستنِّيك علشان ناخد رأيك في موضوع.
أدار إسحاق رأسه نحو حمزة وابتسم :
_قرَّرت أورَّط أرسلان في العيلة، مالهوش أمان، فقلت أربط الولاد ببعض..حمزة وضي.
انغلق وجه أرسلان للحظة، أغمض عينيه يحاول السيطرة على الغضب الذي تفجَّر داخله، هنا فقط فهم إلياس سبب احتقانه..سحب نفسًا عميقًا وزفره ببطء، يحاول أن يتدخَّل بحكمة حتى لا يتفاقم الموقف.
أمَّا حمزة فاتَّسعت عيناه في ذهول، تجمَّد بمكانه لا يصدِّق مايسمع، عينيه تتنقَّل بين والده وأرسلان في صمت.
التقط إلياس كلُّ ذلك بحدسِ خبرة عمله السابق، فمال للأمام وهو يرفع صوته بنبرةٍ خفيفة الظلّ لكسر التوتُّر:
_شكل أرسلان فعلًا ناوي يخلع منَّك ياإسحاق باشا.
ضحك إسحاق بخفَّة، يضيِّق عينيه نحو أرسلان كأنه يستفزُّه بمودَّة:
_مستحيل..هوَّ عارف نفسه، حاول يبعد قبل كده ومقدرش يعيش بعيد عن حضن إسحاق..صح ياأرسو؟
لوَّحت عيناه بالألم ولم يعلم ماذا يقول، فلقد وضعته ابنته بموقفٍ مخزي، سحب نفسًا ثم قال بصوتٍ خافت لكنَّه حاد:
_عمُّو، حضرتك عارف غلاوتك عندي، وولادك ولادي والعكس..صمت يسحبُ نفسًا، وحاول أن يكمل حديثه ولكن إسحاق أوقفه:
_متأكِّد من دا حبيبي، ولو شايف حمزة مش مناسب انسى الموضوع، مش علاقة هتخسَّرنا بعض، أنا بس حبِّيت أناسبك، والولد أُعجب بالبنت وهيَّ واافقت..بس
هنا قاطعه إلياس سريعًا قبل أن يفلت زمام الأمور، وقال بنبرةٍ حاسمة وهو ينظر نحو إسحاق مباشرة:
_أبدًا ياإسحاق باشا، حضرتك عارف قيمتك عند أرسلان، وهوَّ يتمنَّى ذلك، بس الموضوع مش زي ماحضرتك قولت..لأنَّك جاي تخطب البنت وهيَّ مخطوبة، والمفروض خلال أيَّام هنكتب كتابهم.
التفت إسحاق سريعًا إلى أرسلان، هنا فهم غضبه من ابنته، فتراجع بجسده مذهولًا..هل غصبها أرسلان على الارتباط..قرأ أرسلان مايدور بعقل عمِّه فقال:
_ ضي متخانقة مع يوسف، وهوَّ كان جاي علشان يشتروا الدبل، وحضرتك عارف الباقي..التفت إلى حمزة ونظر إليه بحزن:
_مش عارف أقولَّك إيه حبيبي، ربِّنا يرزقك ببنتِ الحلال.
ابتسم حمزة ونظر إلى والده:
_ولا يهمَّك ياعمُّو، بابا أصلًا اللي مستعجل، وأنا كنت شايف ضي أخت، بس حضرتك عارف إسحاق باشا مستعجل، وأتمنَّى حضرتك اللي متزعلش ضي زي أختي.
ربت إسحاق على كتفه بعدما علم سبب ثورته الغاضبة:
_كنت قول ياأرسلان بدل الغضب دا كلُّه.
قاطعهم رنين هاتف إلياس..نهض معتذرًا وهو ينظر إلى أرسلان:
_ بعد إذنكم..قالها وغادر يردُّ على هاتفه..
أيوة يامالك.
_فيه واحد زار رؤى النهاردة ياباشا.
_اعرف كلِّ حاجة عنُّه وابعتلي التفاصيل..واعمل حسابك تتغدَّى معانا بكرة إنتَ وغادة والولاد، من زمان مجتوش عندنا.
_تمام هشوف غادة، وبعدين أردّ عليك.
تمام..
قالها وأغلق الهاتف ينظر إلى منزل أرسلان، تنهَّد بغضبٍ بعدما علم بما فعلته ضي..فاق من شروده على صوت يزن:
_واقف كدا ليه؟
_مفيش..إنتَ رايح فين؟..
_فيه اجتماع في شركة العامري، فيه حاجة ولَّا إيه؟.
أومأ له وتحرَّك معه إلى سيارته:
_بكرة إن شاءلله هنكتب كتاب يوسف وضي، بس هيكون بينَّا، وإن شاءلله الحفلة لمَّا ماما ترجع.
ربت يزن على كتفه وتمتم بسعادة حقيقية:
ألف مبروك، ربِّنا يسعدهم يارب.
أومأ إلياس وحمحم:
_عايز أعزم طارق، بس إنتَ عارف الدنيا هتبقى إزاي.
تنهَّد يزن وقال:
_من رأيي تعزمه، لازم الاختلاط ياإلياس، متنساش طارق أخو ميرال وخال الولاد، ودا منقدرش نتجاهله، وغادة عمِّتهم، فلازم المواضيع تتَّاخد عادي..دا رأيي.
_تمام هكلِّمه، واللي فيه الخير ربِّنا يقدِّمه.
_سلام ونتقابل بكرة، هرجع متأخَّر.
أومأ إلياس بصمت، يتابع خطوات أرسلان وهو يودِّع إسحاق بعينين تائهتين، سحب نفسًا طويلًا وزفره بوجعٍ مكتوم:
_أعمل إيه معاك يايوسف..وإنتي ياضي ليه تقولي كدا..أوف، قالها وعيناه تتجوَّل بالمكان..اقترب أرسلان منه بخطواتٍ متردِّدة بعد مغادرة إسحاق:
_أنا آسف ياإلياس على اللي حصل.
استدار إليه إلياس، وصوته خرج متماسكًا بصعوبة:
_ أرسلان عقَّل ضي، يوسف لازم يتجوِّزها ياأرسلان..لأنُّه لو مااتجوزهاش مش هيتجوِّز خالص..أو بمعنى أدق..مش هيلاقي اللي تقبل بيه.
تجهَّم وجه أرسلان، واقترب منه يمسك بذراعه بحدَّة:
_إنتَ مخبِّي عليَّا حاجة؟
رفع إلياس نظره إليه، وللمرَّة الأولى لمع بريق الدموع في عينيه:
_قال بنفسه إنُّه مش هيتجوز.
ارتبك أرسلان، وانعقد حاجباه بدهشة حقيقية:
_قال كده! طب ليه، أنا مش فاهم حاجة..إيه اللي خلَّاك متأكد؟
أشاح إلياس بوجهه كأنَّه يخاف أن تُقرأ الحقيقة في ملامحه:
_عارف خوفك على بنتك من اللي بعمله..بس والله يوسف طيب وحنيِّن..مش أنا اللي بقول كده، إنتَ عارفه كويس.
تنهَّد وهو يبتسم بحزن:
_ولو شمس كانت أكبر وقالت لي إنَّها بتحبّ بلال، عمري ماكنت همنعها.
ازدادت حيرة أرسلان، ضغط على ذراع أخيه بقوَّة أكبر:
_إلياس..إنتَ مخبِّي عنِّي إيه؟
رجع بجسده للخلف، ونظر بعيدًا وكأنَّه لا يريد الحديث:
_نجوِّز الولاد الأوَّل..أنا عارف إنِّ يوسف هيتعبنا، بس متأكد إنِّ ضي هتغيَّره..لأنَّها بتحبُّه.
_طب وعلى فرض هوَّ مش بيحبَّها أو... في حدّ في حياته؟
التفت إليه إلياس بعينين منهكتين:
_ياريت..ياريت يكون في حد في حياته..بس هوَّ نفسه قال..مش عايز يتجوِّز أصلًا.
ابتسم أرسلان رغم توتره، ربت على ساقيه كمن يحاول طمأنته:
_بكرة يحب صدَّقني..المشكلة إنِّ كلية الطب مافيهاش وقت للحب، وإنتَ عارف..
بلاش تضغط عليه، أنا شايف فعلًا ضي مش في دماغه.
لكن إلياس قاطعه كمن نطق حكمًا:
_يوسف مش هيتجوِّز غير ضي.
_بس هوَّ رافض ياإلياس، والبنت بنفسها قالت إنَّها موافقة على حمزة..تفتكر بعد كده هيرضى؟
_هيوافق..ماتخفش.
قالها إلياس بثقة هادئة أربكت أرسلان، فزفر الأخير بحدَّة وهو يرفع حاجبيه بدهشة:
_أكيد اتجنِّنت! دا راجل، هتجبره على الجواز؟ وبعدين متزعلش منِّي ياإلياس..إيه اللي يخلِّيني أعذِّب بنتي بجوازة زي دي؟
التفت إليه إلياس، نظراته هادئة لكن فيها حزمٌ غريب:
_علشان بتحبُّه، وهتوافق ياأرسلان.
ثم أكمل بصوتٍ مبحوح بنبرةٍ يعرفها من يعرف الألم:
_ولو قالت قدَّامه إنَّها موافقة على حمزة علشان تغيظه...فدي غباوة منها، مش أكتر..
عارف إنَّها اندفعت، وصعب أرجَّع يوسف تاني، بس ماعندناش حل تاني..ولازم أعمله.
ضاقت عينا أرسلان بشكٍّ وقلق، سأل ببطء:
_ناوي على إيه ياإلياس؟
ابتسم ابتسامةً خافتة تحمل وجعًا أكثر من الطمأنينة:
_مش على حاجة..بس عايز أقعد مع ضي الأوَّل..
وبوعدك، لو فعلاً مش عايزاه زي مابتقول..الموضوع هينتهي هنا.
ظلَّ أرسلان يتطلَّع إليه لثوان، قبل أن يومئُ أخيرًا بتفاهمٍ مائلٍ للحذر، ثم أشار بيده نحو الباب:
_طيب..تعال، كلِّمها وشوف رأيها.
توقف الياس ونظر اليه
_اسحاق بيحبك اوي.. الراجل دا كل يوم بيكبر في نظري اكتر واكتر
ابتسم يهز رأسه:.
_ هو فعلًا كدا..
ابتسم الياس بمرارة وقال:
_رغم مكانة حمزة إلا انه جه طلب ضي.. انت عارف يعني ايه
هنا توقف ارسلان ينظر اليه بذهول
_مفكرتش في الموضوع كدا خالص
ربت الياس على كتفه
_ لا فكر.. لانه راجل من دهب، بس احسن حاجة ان الموضوع جه متأخر
بمنزل طارق..
كانت تداعب طفلها، استمعت إلى رنين هاتفها، رفعته تنظر إليه مبتسمة:
_بابي بيتِّصل تعال نردّ عليه.
_أيوة يابابي..همست بها وهي تداعب طفلها.
على الطرف الآخر:
_هنودة صباحك ورد حبيبتي.
نهضت بعدما وضعت ألعاب طفلها أمامه:
_صباح الخير حبيبي..وصلت القاهرة ولَّا لسة؟
_لسة نازل من الطيارة حالًا، وقلت أصبَّح عليكوا، واجهزي علشان هنخرج نتعشى برَّة.
_تؤ..تعال بالسلامة الأوَّل، ارتاح وبعد كدا نشوف هنقدر تخرج ولَّا لأ.
ابتسم بحنان عليها، رغم جنونها بعض الأحيان إلَّا أنَّه يعشقها بكلِّ حالاتها:
_تمام..قدَّامي ساعتين، فيه اجتماع مهمّ في شركة العامري تصفية السنة وأكون عندك.
_بحبَّك.
_وأنا أكتر..قالها وأغلق الهاتف، انحنت تحمل طفلها وصعدت به إلى غرفتها:
_تعال نشوف مامي هتلبس إيه تستقبل به بابي.
صعدت إلى غرفتها، تنظر بثيابها، تمرِّر أناملها بينهما، ألى أن وقعت عيناها على ذلك الفستان الأسود..سحبته تستنشق رائحته وذهبت بذاكرتها إلى قبل سنتين..
خرجت من الشركة بعد انتهاء عملها.. تأخرت تلك الليلة، وكانت الساعة قد تجاوزت العاشرة مساءً..ازدادت الأمطار فغمر المكان سكونٌ قاتل.
تتميز هذه المنطقة بأنَّها مخصَّصة للشركات فقط ولا تلوح فيها حركة.. تأفَّفت ورفعت هاتفها، تفاجأت بنفاذ بطَّارية هاتفها..ظلَّت تمشي تحت المطر حتى شعرت بإرهاقها، فتوقَّفت حائرة حين مرَّت سيارة فظنَّت أنَّها تاكسي فأشارت إليها.
توقَّفت السيارة، وفتح الزجاج ليتكلَّم أحدهم بصوتٍ متهافت:
أكيد في الخدمة ياجميلة..
التفت إلى صديقه وقال:
قلتلك من ساعة يالَّه نِمشي من هنا، بس يالَّه يمكن ربِّنا أخَّرنا للجمال دا.
فتح الباب الخلفي لها بدهاء:
تعالي يالَّه، وماتخافيش، الليلة هتكون متعة للصبح مش كدا يابرنس؟
أخرج الآخر زجاجة كحول وفتح هو الآخر بابه وضحكاته تزيد هند خوفًا، وعيناه تلتهمانها كجياع.
آه..وعد، الليلة هتكون ورد للصبح يافلَّة، يالَّه بقى اتبلِّينا وكدا وحش.
تراجعت هند للخلف وامتلأت عيناها بالدموع..دارت لتعود علَّها تلوذ بأمن الشركة، لعلَّه ينقذها من هؤلاء الذئاب..ركضت لكنَّها تعثَّرت، انكسر كعب حذائها، خلعته وسارت حافية.. همُّوا بها، فقبض أحدهم على حجابها بقسوة وحاول سحبه، مع صرخاتها تمزِّق الليل.
رفعت يديها تدافع وتخدش، تمزِّق بأظافرها وجهه، لكنَّها لم تزل تحت سيطرتهم..أطلق الآخر ضحكة:
_أموت أنا في كدا ياقطَّة.
ركلته بضربةٍ يائسة، مع مرور سيارة بسرعة جانبهم ولم تتوقّف..وقعت عيناها عليها، فتعلَّق الأملُ بعينيها: صرخت باسمه عدَّة مرَّات:
_طارق!
داخل السيارة كان طارق يقود عائدًا إلى منزله، يتحدَّث مع يزن عبر الهاتف:
خلاص هعدِّي عليك بكرة، قبل ماأسافر الغردقة..وعرَّف رحيل لازم تكون موجودة.
كان منشغلًا بالهاتف ولم يلاحظ الطريق لوهلةٍ مايحدث، ولكن وقعت عيناه على ذراعين تلوِّحان في الظلمة. توقَّف فجأة، أغلق الهاتف ونظر في المرآة؛ ثم اهتزَّ نظره من نافذة السيارة حين سمع الصرخة..تراجع بالسيارة سريعًا، ونزل منها مهرولاً.. بعدما وقعت عيناه على ذلك المشهد الذي كان أكثر قسوة.
صرخ طارق وهو يتقدَّم:
ابعد ياحيوان!
تجمَّد أحدهما والتفت الآخر يخرج سلاحًا أبيضًا رفعه بوجه طارق ونفَسٍ بارد:
لو قرَّبت هنموِّتك.
لكنَّ طارق لم يبرح مكانه، عينيه سريعتا الحساب، السيارة خلفه، بابها مفتوح..رفع يده بحركةٍ محسوبة، ليس تهديدًا، بل محاولةً للتماسك:
_اهدوا..سيبوا البنت.
قالها حينما توضَّح وجهها أمامه ورأى الخوف يعتلي ملامحها، دفعت الشاب بقوَّة حينما وجدت الآخر منشغلًا بحديثِ طارق.
برهةً كافية لطارق أن يقترب أكثر، قبضَ على ذراع الرجل المسلَّح بلمحة البرق، ومزج بين الحزم والتهديد..
تبدَّل ميزان القوى، ليلكمه طارق بقوَّة فقد فيه اتِّزانه وأخذ الآخر يركض في الظلام وخلفه طارق، دقائق و عاد مسرعًا إليها، مدَّ يده ورفع حجابها من فوق الأرض، ثم بصوتٍ منخفض وحنون:
إنتي كويسة، اتأذيتي؟
تنهّدَت، عيناها تلمعان بالغضب والخوف والامتنانِ معًا..حاولت أن تردَّ بصوتٍ مكسور:
_ شكراً..قالتها بارتجاف.
نظَّف وجهها من بقايا الطين، أمسك بحقيبتها المرميَّة وقال:
تعالي، اطلعي العربية..هوصَّلك بيتكم.
أجلسها بجانبه، وشدَّ من سترته حول جسدها الذي ينتفض رعبًا وقام بتشغيل السيارة، والمطر يواصل ضربه على زجاج السيارة.. غرقت في دوامتها، لتخفض رأسها فوق كتفه.. مغشيًا عليها
مرَّت عدَّةُ أيام، إلى أن عادت "هند" إلى الشركة.
دخل "طارق" مكتبه يشير لسكرتيرته بنبرةٍ هادئة:
_ابعتي لي هند، وانتي كمِّلي شغلك برَّة.
لم تمر دقائق حتى كانت تقف أمامه، تفرك كفَّيها بخجلٍ واضح.
قال مبتسمًا بخفَّة:
_حمد الله على سلامتك.
_الله يسلِّمك يامستر طارق.
رفع نظره نحوها:
_فيه عربية هتوصلَّك بعد الشغل، ماتطلبيش أوبر تاني..وأخرك الساعة خمسة.
هزَّت رأسها امتنانًا:
_شكرًا لحضرتك.
تردَّدت لحظة ثم دنت من المكتب قليلًا، وقالت بصوتٍ متقطِّع بالعاطفة:
_عايزة أشكرك..مش عارفة من غيرك كانوا عملوا فيَّا إيه.
تنهَّد وقال بهدوءٍ رزين:
_متشكرنيش ياهند، أيِّ حد مكاني كان هيعمل كدا.
_روَّحي كمِّلي شغلك.
أومأت ورحلت بخطواتٍ خفيفة، بينما عينيه تابعتا ظلَّها حتى غابت خلف الباب.
مرَّت أيَّامٌ أخرى بهدوء، إلى أن جلست "ميرال" معه في مكتبه:
_نعيمة بتشكرك جدًّا ياطارق، أنقذت بنتها.
التفت إليها دون اكتراثٍ مبالغ:
_تشكرني ليه؟ معملتش غير اللي أيِّ حد هيعمله.
ربتت على ساقه وقالت بابتسامةٍ حنونة:
_ربِّنا يبارك فيك ياحبيبي.
سكتت قليلًا ثم قالت بخفَّةٍ فيها عمق:
_مش ناوي تتجوِّز ياطارق؟
تراجع في جلسته، نظر نحو النافذة:
_وأرجع أتوجع تاني؟ لأ، ماليش نصيب.
قاطع حديثهما طرقاتٌ خفيفة، تلتها "هند" وهي تدخل حاملةً دفتر مواعيده:
_أبلة ميرال! وحشتيني، وأنا بقول الشركة نوَّرت ليه.
ضحكت ميرال، وامتدَّ الحديث بينهما بعفويةٍ محبَّبة..ضحكاتهما كانت تخترق المكتب وتُربك انتباه طارق الذي اكتفى بالمراقبة؛ تلك البراءة التي تتسرَّب من كلمات هند كانت كافية لتزيح بعض الغبار عن قلبه.
استرسلت ميرال وهي تضحك:
_والله أوَّل ماأجيب سيرة المحشي لإلياس، بطنه توجعه من اللي عملته طنط نعيمة، وكلِّ مانعزمه يهدِّدني إنُّه مش هييجي.
_جوزك دا عايش على الهوا.. والمصَّاصة، ياأبلة
انفجرت ميرال ضاحكة، بينما التفتت هند فوجدت عيني طارق تراقبانها بتركيز..همهمت بخجلٍ مرتبك:
_آسفة يامستر طارق، نسيت نفسي... أنا أصلًا لمَّا بشوف أبلة ميرال بنسى الدنيا.
تدخَّلت ميرال بخبثٍ أنثوي لطيف:
_ابنِ عمِّك عامل إيه، لسه بيجري وراكي؟
ضحكت هند:
_لا الحمد لله، اتجوِّز وريَّحني منُّه أخيرًا.
قالتها ثم التقطت دفتر المواعيد ووضعته أمام طارق وهي تقول بابتسامةٍ سريعة:
_أشوف شغلي بقى قبل ماأنطرد.
مرَّ أسبوعٌ آخر..
منهمكةٌ بعملها، قاطعها رنين هاتفها الداخلي، لتسمع صوته الجاد:
هند، تعالي لي على المكتب.
تحت أمرك ياأفندم.
جمعت أوراقها سريعًا واتَّجهت نحو مكتبه، لكن السكرتيرة الخاصَّة له اعترضتها أمام الباب:
مستر طارق مشغول دلوقتي، عدِّي عليه في وقت تاني.
رفعت حاجبها بثقة واقتربت منها خطوة:
شكلك مش شايفة شغلك، لأنُّه هوَّ بنفسه اللي طلبني..ولو مش مصدَّقة..ادخلي اسأليه.
لم تنتظر ردَّها، بل دفعتها بخفَّة ودلفت إلى الداخل بثبات..
وقف طارق حين رآها، يشير نحو المقعد المقابل:
اقعدي ياهند..عايز أتكلِّم معاكي.
جلست متوتِّرة قليلاً، لكنَّه بدأ حديثًا هادئًا لم تتوقعه..لم يكن عن العمل، بل عن حياتها، عن طموحاتها، عن خوفها من الناس، عن قوِّة شخصيَّتها في المواقف..لم تفهم في البداية، لكنَّها أجابت بصدق، فكان يصغي باهتمامٍ صامت.
وقبل أن تنصرف، قال بنبرةٍ غامضة:
تمام..روَّحي دلوقتي، هنتكلِّم بكرة.
في اليوم التالي، دلفت إلى مكتبه مرَّةً أخرى، لكنَّه نهض هذه المرَّة فور دخولها..
سألته بتردُّد:
بلَّغوني إنِّ حضرتك نقلتني أبقى السكرتيرة الخاصَّة ليك؟
ابتسم بخفَّةٍ لم تفهمها، ثم قال دون مقدِّمات:
هند..تتجوزيني؟
تجمَّدت الكلمات على شفتيها..
تلك الجملة، رغم بساطتها، كانت كأنَّها نغمةٌ عازفةٌ على أوتار قلبٍ لم يمسُّه الحبُّ قبل ذلك.
تورَّدت وجنتاها، وارتجف جسدها بخجلٍ جميل، تنظر إليه فقط، عاجزةً عن النطق.
اقترب منها خطوةً بخطوة، ثم بسط كفَّيه، يضمُّ يديها بين راحتيه بحرارةٍ هادئة:
قبل ماتقولي رأيك..اقعدي مع ميرال، خلِّيها تحكيلك كلِّ حاجة عنِّي..وبعد كده هسمع ردِّك.
_ليه أنا..لا مستوى ولا عيلة؟
_مين قال كدا، مش يمكن لمَّا تقعدي مع ميرال تعرفي حاجات ورا الستار.
_عارفة كلِّ حاجة..نطقتها ببراءة، ليس لديها تزييف أو خبث.
_إيه رأيك فيَّا؟
سحبت كفَّيها ونظرت بخجلٍ للأسفل:
_على فكرة أهمِّ حاجة إنتَ إيه دلوقتي، متقلِّش بنفسك، علشان هتفضل تبصّ للناس إنُّهم أحسن منَّك، ودي مش حقيقة..الرجولة أفعال يامستر.
رفع ذقنها ونظر إليها بحبٍّ نطقته عيناه وقال:
_تعرفي بقالي شهر براقبك.
_عادي من حقَّك، لازم تعرف كلِّ حاجة عن الشخص اللي شغَّال معاك.
هزَّ رأسه بالنفي وهمس ببحَّته الرجولية:
_لا علشان طيَّرتي النوم من عيوني، وبما إنِّنا فاتحين قلوبنا إيه رأيك في العرض..ولو عايزة تتأكِّدي من حاجة تانية موافق.
نظرت لعينيه نظرةً طويلة، وابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيها:
موافقة..
ثم تابعت بصوتٍ خافتٍ يحمل يقينًا وحنينًا معًا:
وعارفة كلِّ حاجة عنَّك.
عند بلال بغرفة أخته..
التفت نحوها، وعيناه تشتعلان كأنَّها ارتكبت خيانةً لا تُغتفر، أشار إليها بحدَّةٍ قاسية:
_تعرفي؟ أنا مصدوم فيكي بجد، ومش عارف أتصرَّف إزاي..أهو بيقولِّك مبروك! افرحي ياستِّ ضي.
قالها بنبرةٍ جارحة وخرج من الغرفة، تاركًا خلفه صدى كلماته كطعنةٍ في صدرها.
ظلَّت تحدِّق في الباب المغلق، تتنفَّس بصعوبة وكأنَّ الهواء صار ثقيلًا عليها، جلست على الأرض تضمُّ ركبتيها، تضع ذقنها فوقهما، والعبرة تخنق صوتها وهي تهمس لنفسها:
_عجبك كده ياستِّ ضي؟ افرحي بقى..هوَّ خلاص مش هيبصلك تاني... ولا هيعبَّرك حتى.
نهضت ضي بسرعة، وعيناها مغرورقتان بالدموع، أمسكت بذراع والدها تبكي بحرقة:
_أنا آسفة يابابا..عارفة إنِّي غلطت، بس والله هوَّ اللي عصَّبني، كنت عايزة أضايقه..بس معرفش قولت كدا إزاي، والله طلعت منِّي من عصبيتي واللي قاله.
نظر إليها أرسلان بحدَّةٍ صامتة، وأردف بصوتٍ مجروحٍ أكثر منه غاضبًا:
_تضايقيه! إنتي مجنونة، في واحدة عاقلة تقول اللي قلتيه دا؟!
ألقت رأسها على صدره، تبكي كطفلةٍ فقدت توازنها:
_أنا بحبُّه أوي يابابا..بس هوَّ بيضايقني، دايمًا شايفني تافهة، وإنِّي ماأستهلوش..يمكن علشان كده قلت اللي قلتُه.
رفع أرسلان يده يمسح على شعرها بهدوءٍ مشوبٍ بالحسرة، وقال بصوتٍ منخفض:
_يوسف قالِّك كده؟
هزَّت رأسها بالإيجاب، وأشارت نحو الخارج:
_اسأل بلال، هوَّ سمعه وهوَّ بيقولها.
تراجع أرسلان ببطء، نظراته غامت بمزيجٍ من القلق والضياع، ثم قال بحسمٍ أخير:
_ إنتي عايزاه ولَّا لأ ياضي، سيبك من اللي بيقوله، المهمّ إنتي هتقدري تعيشي معاه؟
فركت كفَّيها تنظر للأرض وصمتت، اقتربت غرام تربت على كتفه:
_سبهالي ياأرسلان، ولو هيَّ مش عايزة يوسف خلاص، مفيش راجل غيره يعني..
دقَّق النظر بأعين ابنته:
_يوسف راجل منكرش دا، بس مش عايز بسببكم يحصل مشاكل بينَّا، إنتي موافقة عليه..وزي ماقولت لك، كلامه كلُّه لأسباب عمِّك مش عايز يتكلِّم فيها..
استدارت غرام إليه وأردفت:
_وافرض هوَّ رافض الجوازة، أو فيه حد في حياته؟
التفتت إليها ضي سريعًا تهزُّ رأسها تنتظر ردَّ والدها بلهفة:
_مفيش حاجة من دي ياغرام، قالها وخرج بينما سحبت غرام كفَّ ابنتها وأغلقت الباب..
_أنا مش هحاسبك على اللي حصل من تهوِّرك، بس إنتي بتحبِّي يوسف فعلًا، وموافقة عليه؟
انسابت دموعها رغمًا عنها تهزُّ كتفها بضياع:
_بحبُّه بس خايفة ياماما، خايفة يكون حد في حياته علشان كدا رافض الجواز.
ربتت غرام على كتفها ونفت حديثها:
_لا مفيش حد، أنا بس حبِّيت أطَّمن من بابا، بلال قالِّي مفيش حد ريَّحي نفسك..
احتضنت وجهها ونظرت لداخل عينيها:
_عارفة إنِّك مابتحبيش اللي يتحكِّم فيكي، بس الراجل بيحبِّ الستِّ الحنيِّنة اللي تضحك في وشُّه وتقولُّه حاضر، ومش معنى كدا تلغي شخصيِّتك، المهمِّ متكونيش الندِّ بالند، طريقتك غلط معاه، أنتوا مش نازلين مصارعة مين اللي هيكسب، هوَّ لو اتعصَّب ابعدي متردِّيش عليه، طيب عارفة بيقول لباباكي إيه؟.دي عايزة مدرِّب قرود، وصدَّقيني يوسف كويس، وحنيِّن وبشطارتك هتخلِّيه يحبِّك، دا لو مش بيحبِّك أصلًا..قالتها غرام وخرجت..
بينما بقيت ضي واقفة مكانها، تشعر أنَّ الكلمات التي قالتها والدتها صارت جدارًا يفصلها عن الرجل الذي كانت تحلم به..جدارًا من الوجع والندم..
اتَّجهت إلى هاتفها...لحظات وردَّ عليها:
_عايزة إيه ياعروسة الهنا..إيه أجبلك هدية.
_لازم نتكلِّم.
نظر من نافذة سيارته وأجابها:
_مفيش بينَّا كلام، والحمد لله هنكسر قلَّة وراكي.
_اسمعني..صرخت بها وهي تبكي:
_إنتَ عصَّبتني، عارفة إنِّي غلطت، بس إنتَ مستفز.
أغلق الهاتف دون أن يستمع إليها..
القت الهاتف تصرخ
_ماشي يايوسف..!
مساء اليوم التالي..
توقَّف إلياس أمام المرآة يهندم ثيابه، أغلق أزرار قميصه الأخير بتمهُّل، ثم ارتدى ساعته ونظر إلى ميرال عبر انعكاس المرآة:
_ماجهزتيش ليه ياحبيبتي؟
اقتربت منه ببطء، بملامح تحمل اضطرابًا:
_تفتكر اللي بنعمله دا صح ياإلياس؟ أنا..أنا خايفة من ردِّة فعله، الولد بقى راجل، ينفع نجوِّزه غصب عنُّه وبالطريقة دي؟
استدار نحوها، واحتضن وجهها بهدوء وطبع قبلةً مطوَّلةً على جبينها:
_ميرو حبيبتي..اجهزي، زمان المأذون على وصول، يوسف سبيه عليَّا متخافيش.
هزَّت رأسها بخفوت وهي تقول:
_طيب، افرض مرجعش؟ من امبارح ماشفناهوش..وأنا قلبي مش مطمِّن.
ابتسم بخفَّة وهو يطوِّق خصرها، واتَّجه إلى خزانة الملابس، ظلَّ يقلِّب فيها إلى أن أخرج منها فستانًا أزرق، رفعه أمامها يقيِّمه بعينٍ فاحصة ثم قال:
_حلو دا، يالّّه غيَّري..يوسف جاي، كلِّمته من شوية، قالي نصِّ ساعة وراجع..مجاش من إمبارح كان عنده تدريب مع دكتور محي، وبيقولِّي الولد بيتطوَّر..الحمد لله، ذكي وبيتعلِّم بسرعة، له مستقبل حلو.
نظرت إليه بعينٍ دامعة:
_عارفة دا...بس لمَّا يعرف إنِّ النهاردة كتب كتابه، وإنَّك حطِّيته قدَّام الأمر الواقع..هيرفض، يمكن يعند أكتر.
اقترب منها، وقبَّل رأسها مرَّةً أخرى وهمس بابتسامةٍ هادئة:
_متخافيش..جوزك عامل حسابه لكلِّ حاجة.
تراجعت خطوةً وهي تهمس:
_خايفة نكون بنضيّّعه ياإلياس... يوسف مبقاش صغير.
تنهَّد بعمق وأشار إليها برفق:
_يالَّه حبيبتي، ادخلي غيَّري، أنا هسبقك على بيت أرسلان..أشوف المجنونة التانية.
أمسكته من ذراعه بخفَّة:
_إنتَ مااتكلِّمتش معاها؟
هزّّ رأسه مبتسمًا:
_أه حبيبتي، اتكلِّمت..بس أهي مجنونة زيك، دايبة في الواد وبتدلَّع.
ابتسمت رغم قلقها ولكزته برقَّة:
_هوَّ إنتَ هتلاقي واحدة تحبِّ جوزها قدِّي؟
ضحك بخفوت وقال وهو يطالعها بعيونٍ عاشقة:
_تؤ...ولا هتلاقي راجل يحبِّ مراته زيي، تنكري؟
اقتربت أكثر، حاوطت خصره ودفنت وجهها في صدره:
_لا طبعًا..بس نفسي ماما وبابا يكونوا هنا، وحشوني أوي، كنت عايزة يحضروا كتب الكتاب.
ربت على ظهرها وقال:
_بعد شهر إن شاء الله، إسلام قالِّي كده..ملك بتنهي رسالتها وماما قالت نستنَّاهم الشهر دا..
بعد قليل بمنزل أرسلان..
توقَّف يوسف على عتبة الباب، يحمل حقيبةً صغيرة، وعيناه تلمعان بابتسامةٍ خبيثة:
_فين أختك يابلال؟ جايب لها هدية الخطوبة.
أشار له بالدخول.
دلف لتقع عيناه على يزن وإلياس بالداخل، ضيَّق عينيه قليلًا وهو يُلقي السلام.
رفع إلياس رأسه يتطلَّع إليه:
_معدِّتش على البيت ولَّا إيه؟
تجوَّل يوسف بعينيه في أرجاء المنزل، ثم سأل:
_لأ، فين عمُّو، مش باين ليه؟
تحرَّك بعدما ناداه بلال الذي دخل إلى أخته ليخبرها بوجوده.
لكن صوت إلياس أوقفه:
_رايح فين؟
أشار للأعلى بثقةٍ مستفزة:
_دقيقة وراجع..رايح أبارك للعروسة.
تحرَّك صاعدًا الدرج، بينما التفت إلياس نحو بلال متسائلًا:
_هوَّ عرف حاجة؟
هزَّ بلال كتفيه وقال بقلق:
_والله ماقلت له حاجة، تليفوني مقفول من الصبح، وأنا كان عندي سكاشن كتيرة.
في الأعلى...
طرق يوسف على باب غرفتها، ثم دلف بعد أن سمح له الصوت الناعم بالدخول.
دخل بخطواتٍ باردة، رفع كيسًا أمامه وقال بسخريَّةٍ هادئة:
_جبتلك فستان خطوبتك ياعروسة..
بما إنِّي كبير العيلة..كان لازم أشارك العريس فرحته وأوفَّر عليه تمن الفستان.
نظرت إليه بثباتٍ وهي تقترب منه حتى اختلطت أنفاسهما.
مدَّت يدها وانتزعت الفستان من بين أصابعه، وقالت بابتسامةٍ متماسكة تخفي ارتجافها:
_هلبسه يايوسف..هديِّتك غالية، ولازم تتلبس للغالي.
رفع حاجبه بسخريَّة صريحة:
_أخيرًا...هكسر وراكي قلَّة..
أحسن حاجة في الموضوع دا إنِّي هرتاح منِّك.
_واضح إنَّك فعلاً مبسوط إنَّي هتخطب!
قالتها بحدَّة، بينما هو دار بنظره في الغرفة متجنِّبًا عينيها:
_مش فارق معايا..أهمِّ حاجة إنِّك سعيدة.
اقتربت خطوة حتى اختلطت أنفاسهما:
_سعيدة طبعًا...
تجمَّدت نظراته للحظة، وارتبكت أنفاسه، ثم تنحنح وهزَّ كتفيه متظاهرًا بالَّلامبالاة:
_مبروك يا بنت عمي.
الفستان دا هيخليكي تعرفي قد إيه أنا... سعيد لجوازك.
ألقت الفستان بعصبيَّة على الفراش وحدجته بغضب:
_شكرًا...ومتخافش، هلبسه.. قالتها وتراجعت بعدما سيطرت رائحته عليها
ابتسم نصف ابتسامة، واقترب منها ببطءٍ حتى شعرت بحرارة أنفاسه تلسع جانب وجهها، وهمس بصوتٍ خفيضٍ مشبعًا بالتحدِّي:
_عارف..علشان كده اخترته باللون اللي بحبُّه.
تجمَّدت لثوانٍ، تكافح لتُبقي ملامحها ثابتة، ثم فجأةً انطلقت منها ضحكةً صاخبة، عندما ادركت انه لم يعلم بأنه العريس، رفعت كفَّيها تتلاعب بزرِّ قميصه وقالت بنغمةٍ متحدِّية:
_وأنا كمان جبتلك بدلتك ياحبيبي.
انعقد حاجباه في سخريَّةٍ قاسية، وانحنى قليلًا نحوها قائلاً بنبرةٍ لاذعة:
_حبِّك صرصار مجاري..مابحبِّش كلمة "حبيبي"، أنتوا مصدَّقين نفسكم؟
اخترقت كلماته صدرها كخنجرٍ بارد، شعرت بالهواء يُسحب من حولها، ومع ذلك رفعت رأسها بعناد، تحدِّق في عينيه المشتعلتين وهمست بصوتٍ مرتجفٍ لكنَّه جريئ:
_لا حبيبي يايوسف...مصدَّقة جدًّا.
توسَّعت عيناه بدهشةٍ حارقة، امتزجت بالذهول والحنق، وامتلأ صوته غضبًا وهو يقول:
_طيب احترمي الراجل اللي وقفتي قدَّامي بكلِّ بجاحة وسمعنا إنِّك موافقة...ولَّا يمكن كان قصدك تجرحي يوسف؟
لم تهتز، لم تبتعد، ظلَّت نظراتها تشتبك بعينيه رغم أنَّ كلماته كانت تشقُّ صدرها نصفين..
رفعت يدها وأشارت نحو الباب بجمود:
_اطلع برَّة...عايزة أجهز، كتب كتابي الليلة.
للحظةٍ واحدة فقط...
اهتزَّ قلبه، تلعثم النفس في صدره، ثم أخفى ارتباكه بابتسامةٍ متماسكةٍ وقال بفتور:
_مبروك..ولو عايزة أشهد على العقد، ماعنديش مانع.
_اطلع برَّة...
تمتمت بها بصوتٍ مبحوح، واستدارت توليه ظهرها، في حين ظلَّ واقفًا للحظة، يتأمَّل صمتها المتوتِّر..
ثم خرج، يجرُّ خلفه بقايا قلبٍ لم يعترف يومًا بالحب.
خرج مسرعًا، كأنَّ الهواء يختنق معه..لا يريد أن يرى أحدًا، لا يريد أن يسمع أحدًا، كلُّ مابداخله يصرخ وهو صامت..كانت خطواته تسبق أنفاسه حتى وصل إلى المنزل، فتح الباب بعنف وكأنَّه يُفرغ غليانه في المقبض..
قابلته شمس، وجهها يشعُّ فرحًا، تركض نحوه كطفلةٍ وجدت أباها بعد غياب، رمت نفسها بين ذراعيه وقبَّلته:
أحسن عريس ده ولَّا إيه؟
تجمَّد للحظة..حاوطها بذراعيه بإنهاك، لا يملك الرد كأنَّ طاقته نفذت، ثم تحرَّك نحو الداخل.
نزلت ميرال من أعلى، تنادي على ابنتها، لكنَّها توقَّفت حين رأته واقفًا في البهو، نظراته مرهقة ووجهه شاحب.
حبيبي، إنتَ جيت؟
رفع حاجبه ساخرًا، يخفي تحت ابتسامته المرَّة ألف ألمًا:
لأ لسه مجتش ياماما..إيه الشياكة دي؟
ثم ابتسم ابتسامةً ساخرة وهو يهزُّ رأسه:
آه نسيت، رايحين فرح بنت عمِّي.
اقتربت منه ميرال تمسِّد على كتفه بحنان:
حضَّري الحمَّام لأخوكي ياشمس علشان مانتأخَّرش.
تحرَّك خطوتين ثم قال بصوتٍ خافتٍ متعب:
مش رايح في حتَّة..تعبان وعايز أنام.
أمسكت بذراعه برفقٍ حازم:
يوسف..اجهز، المأذون على وصول، النهاردة هنكتب كتابك إنتَ وبنت عمَّك.
تجمَّد جسده، وشعر كأنَّ الزمن توقَّف..
وصوتها تردَّد داخله كصدى بعيد... «هنكتب كتابك».
ارتجف قلبه، والهواء ثقُل من حوله، وعقله لا يستوعب..
تراجع خطوة، عيناه تتسعانِ بذهول:
حضرتك...بتقولي إيه؟
ابتلعت ريقها، ومدَّت يدها نحوه تخشى ردَّة فعله:
يوسف..ممكن تسمعني بس؟
ضحك ضحكةً موجوعةً تشبه البكاء، ضرب كفَّيه ببعضهما بعنفٍ حتى احمرَّتا:
_كتب كتابي!! كتب كتابي أنا؟!
راح يردِّدها كالمجنون، يدور حول نفسه، كأنَّ الأرض تهتزُّ تحته..
ثم فجأة توقَّف، يحدِّق بوجه أمِّه بعينين دامعتين من الغضب المكبوت:
إيه الهزار البايخ ده ياماما؟! ده حتى لو عيِّل عنده عشر سنين مش هتعملوا فيه كده! حتى البنت..حتى البنت مش عملتوا فيها كده.
اقتربت منه ميرال بخوفٍ وارتباك:
يوسف حبيبي..
قاطعها بصوتٍ أجش، كأنَّه يلفظ جرحًا لا يندمل:
بلا يوسف بلا زفت، أنا مش لعبة في إيد حد..مستحيل أتجوِّز، فاهمة؟ مستحيل! ولو أصرِّيتوا على اللي في دماغكم..هسيب البيت ومش هرجع.
قالها وهو يضرب المقعد بقدمه، ممَّا جعل جسد ميرال يرتعش، وصمتٌ ثقيل كأنَّه وقع فأسًا على قلبها التي لم تتخيَّل أنَّ قرارهما سيوقظ كلِّ ذلك الوجع في ابنها.
خرج صوتًا حادًّا من خلفه:
_ما تسيبه! قاعد ليه يالَّه الباب مفتوح.
استدار يوسف ببطء، يلتفت نحو والده الذي دلف لتوِّه، نظر إليه بعينين ممتلئتينِ بالخذلان، كأنَّه يرى شخصًا آخر لا يعرفه:
حضرتك موافق على كده، حتى بعد مااترفضت!! ترضاها لي يابابا؟
اقترب إلياس بخطواتٍ واثقةٍ، وقال بصوتٍ باردٍ كأنَّ حالته لا تعنيه:
المأذون جاي بعد ساعة...شوف عايز تعمل إيه، بدلتك فوق.
شعر يوسف كأنَّ الدم يغلي في عروقه، صوت والده يُشعل داخله كلَّ ماحاول إخماده من غضب..اقترب منه حتى أصبحا وجهًا لوجه، أعينهما في صراعٍ صامتٍ يشتعل الهواء بينهما:
_ليه حضرتك بتعمل كده، عايز تكرَّر إلياس وميرال تاني؟
ارتجف جفن إلياس، كأنَّ السهمَ أصابه في موضعٍ مؤلمٍ يعرفه جيِّدًا، فصرخ بانفعالٍ حاد:
_يوسف!
أشار إلى الأعلى بعصبيةٍ مكتومة:
بدلتك فوق ومش بغصبك على فكرة... لو مش عايز خلاص، اعتبر مفيش حاجة.
لكنَّ كلماته كانت جوفاء، يفضحها صوته المشدود.
قاطعهما دخول بلال فجأة،
عمُّو..بابا بيقول لحضرتك دكتور محي الدين وصل.
تسمَّرت عينا يوسف عليه، وتبدَّلت ملامحه بالدهشة:
_دكتور محي، جاي ليه؟
تحرَّك إلياس للخارج وقال بصوتٍ ثابت، وأردف بنبرة كمن يُعلن حكمًا لا رجعة فيه:
_ يحضر كتب كتابك، كان لازم أعزمه بعد الفضيحة اللي حضرتك عملتها في الكلية، متنساش انك بعد شهر هتكون دكتور رسمي.. قالها وهو يضغط على جرحه بقوة.. توقَّف عند الباب واستدار بنظراته الحادة كالنصل واكمل:
ومدير أمن الجامعة كمان...يبقى اطلع قولُّهم رجعت في كلامي، أصلي كنت عيِّل وبهزَّر.
قالها ببرودٍ تام، ثم تحرَّك بخطواتٍ هادئةٍ متَّزنة كأنَّه لم يُشعل لتوِّه حربًا داخل ابنه.
تشنَّجت عضلات يوسف، وقبض كفَّيه بعنف، وشعر بثقل انفاسه، كأن الهواء انسحب من حوله..رفع عينيه نحو والدته، وصوته يختنق بين الغضب والخذلان:
يعني حتى جبتوا رئيس الجامعة عشان تحطِّوني تحت الأمر الواقع!! بتجوُّزوني غصب عنِّي!! للدرجة دي وصلت بيكم تتحكِّموا في حياتي؟
لم تجبه ميرال، فقط دموعها انهمرت بصمتٍ حزينٍ كأنَّها اعتذارٌ مكتوم..
اقترب منها يوسف، ونطق بمرارةٍ هذه المرَّة أكثر وجعًا من أي غضب:
_بابا بيخطَّط لإيه ياماما؟
رفعت رأسها، ونظرت إليه بعينين غارقتين بالدموع:
يمكن... بيخطط يسعد أمك يوم واحد في حياتها، بس للأسف... السعادة أنا وهي مش متفقين
شعر بطعنةٍ في صدره، تراجع خطوةً وهو يهمس بمرارةٍ خافتة:
_ يسعدك..مصدَّقة نفسك؟.
قبل أن ترد، دخلت غادة، بجوار مربية أطفالها، وجهها مشرقًا بالفرحة:
ده إيه العريس القمر ده ياولاد؟
ابتسم يوسف، ابتسامةً متكلِّفة تُخفي نزيفًا داخليًّا، وانحنى يقبِّل رأسها بلطف:
أهلًا عمِّتو...مفيش قمر غيرك..بعد إذنكم، هطلع أجهز لكتب الكتاب... علشان أسعد ماما وبابا.
قالها بنبرةٍ هادئةٍ مليئةٍ بالوجع، ثم صعد الدرج بخطواتٍ ثابتةٍ تخفي وراءها زلزلة قلبٍ مكسور.
تابعته غادة بعينين متسائلتين:
إيه اللي حصل؟
أشارت لها ميرال بصوتٍ مبحوحٍ:
تعالي..تعالي أحكيلك.
بعد قليل دلف الى منزل عمه، طاولة موضوعة بأحد اركان الحديقة تزين، يبدو انها لعقد قرانه.. لوى فمه ساخرًا، من يصدق ان والده اجبره على الزواج، كالطفل المعاقب
دلف للداخل، سحبه بلال قبل الوصول اليهم
_معرفش ايه اللي بيحصل، بس صدقني دا احسن قرار للكل، سمعت حوار النهاردة من بابا وعمو عايز احكي لك عنه
_ بلال مش رايق لك.. قاطعهم دخول اسر وهو يطلق صفيرا
_مبروك ياعريس
بينما نظرت اليه رولا:
_بقى دا يكون كتب كتاب يوسف الشافعي.. تؤ تؤ ياجو
_امشي يابت تأتأي بعيد عني الحكاية مش نقصاكي
ربت اسر على كتفها يشير اليها بالدخول، بينما ارتفعت ضحكات بلال يحاوط جسده
_ بس ياجودعان، دا لو انطلق محدش هبقدر عليه
دفعه بغضب
_ بوظت البدلة يامتخلف، ابويا دافع فيها دم قلبه
غمز بلال
_ والله انضفت يابن الياس وبقيت تلبس بدل متجوزين
_الله يخربيت ملافظك، مش يمكن اختك تموت وانا لسة عازب
دفعه بلال للداخل يضحك عليه..
طرقات على باب الغرفة أيقظتها من شرودها، ثم جاء الصوت المرح من الخارج:
_يا ولاد بلدنا يوم الخميس هكتب كتابي وأبقى عريس!
فتحت الباب وهي تشهق حين وقعت عيناها على ضي ترتدي فستانًا أسود، ضيق الخصر، مزينًا بفصوص اللؤلؤ الأبيض ينساب على جسدها بأناقةٍ مثيرة.
صرخت وهي تضع يدها على رأسها:
_يخرب بيتك يا ضي! إيه اللي انتي لابساه دا؟!
ضحكت ضي بخفة وهي تدور أمام المرآة:
_إيه فستان أخوكي، هو اللي جايبه.
ضربتها على كتفها بخفة:
_يا دي الليلة اللي مش معدّية عليكم انتوا الاتنين!
اقتربت منها تربت على ظهرها:
_حبيبتي، أقسم بالله أمي ممكن توقع من طولها، بلاها الفستان دا.. حرام عليكي!
لكن ضي أمسكت أحمر الشفاه، وقالت ببرود:
_دا اللي هيتلبس يا شمس، وخفّي عن دماغي بقى.
في تلك اللحظة دلفت رولا، توقفت للحظة، ثم اقتربت بخبثٍ ظاهر في ابتسامتها:
_حلو.. موضة جديدة الفستان الأسود دا... شكلي هعمل زيه.
رمقتها ضي نظرة جانبية ثم ابتسمت وهي تنظر للفستان قائلة:
_أي حاجة حبيبك يجبها لازم تقبلي بيها.
_حبيبك!؟
قالتها رولا بتهكمٍ واضح.
لم تعرها ضي أي اهتمام، واكتفت بإكمال ما تفعله.
دلفت غرام فجأة وهي تنادي:
_يلا يا حبيبتي علـ...
لكنها توقفت فجأة، وملامحها انقلبت وهي ترى ابنتها بذلك الفستان.
تقدمت خطوة وقالت بنبرةٍ تجمع بين الصدمة والغضب:
_مش هتكلم... مش هتنزلي كده، وخليكي هنا، مش مستعدة أُجلط أبوكي وعمك، يلا يا بنات!
_بس العريس اللي جابه يا ماما!
_البسي فستان غيره، يا أما مفيش نزول يا بنت أرسلان... واخبطي دماغك في الحيطة.
تجمدت ضي للحظة، ثم قالت بصوتٍ خافتٍ متماسك:
_أحسن برضو... مش نازلة.
رمقتها غرام بصمتٍ حاد، ثم أغلقت الباب خلفها دون كلمة.
جلست ضي على حافة السرير، تسحب أنفاسها ببطء، ووجهها يخلو من أي تعبير.
همست لنفسها بمرارةٍ وابتسامةٍ واهنة:
_كده أحسن... علشان ما يقولش هموت عليه. والله ما أنا مغيرها... ومش نازلة.
بعد قليل، تجمع الجميع حول طاولة المأذون.
تجوّل المأذون النظر بينهم وسأل بصوته الجاد:
_أين العروس؟
همس يوسف بخفوتٍ وهو ينظر إلى الفراغ:
_يا رب تكون هربت...
ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة، ثم أمال بجسده إلى جوار من بجانبه:
_في وشك برضو؟
رفع الآخر حاجبه قائلًا بسخرية خفيفة:
_هو انت عدوي؟
_يمكن...
ثم استدار إليه يوسف وقال بجديةٍ مبطّنة بالوجع:
_أنا قولت من إحساسي مش أكتر... وحضرتك فاهم كلامي.
ضغط أرسلان على قدمه بحدةٍ خفية، وهو يومئ نحو أستاذ الجامعة الجالس بجانبه:
_اعقل، فيه ناس غريبة موجودة.
لكن صوت المأذون قطع همسهم وهو يعلن موافقة العروس من الطابق العلوي.
انحنى يوسف نحو والده هامسًا بحدةٍ مغلّفة بالمرارة:
_هي بنت أخوك منزلتش ليه؟ انتوا رابطينها فوق ولا إيه؟
لم يُجبه، فالتفت على صوت المأذون وهو يتمم مراسم الزفاف، ليعلن عن اتمام الزواج
مدّ بلال الدفتر نحوه مبتسمًا وهو يقول:
_امضي يا ابن العم، بس امضي بضمير... علشان الجوازة تتبارك.
نزع يوسف الدفتر من يده بصمت، أمسك القلم للحظات، وعيناه تتجولان بين الحضور، ثم استقرت على والدته، التي ما إن قابلت نظراته حتى سحبت بصرها بعيدًا
انحنى يوسف وكتب أول حرفين فقط من اسمه، (يو)... ثم دفع الدفتر أمام أرسلان المنشغل بالحديث مع إلياس.
رفع أرسلان الدفتر ليمرره إلى المأذون، لكن عينيه وقعتا على الاسم الناقص، فاقترب من يوسف وهمس بجواره:
_هنهزر يا ابن إلياس؟ الناس بتبص علينا.
ابتسم يوسف ابتسامةً جامدة وهو يرد بهدوءٍ يقطر سخرية:
_ابنك قالي امضي بضمير، فكتبت نص اسمي... وحضرتك فاهم الباقي يا أبو العروسة.
وضع إلياس الدفتر أمامه بحدةٍ واضحة:
_ده مش هزار يا يوسف.
قاطعهما صوت المأذون الرسمي:
_بصمة العروس والعريس كمان مع الإمضاء.
ضحك يوسف ضحكة قصيرة موجعة، وقال بتهكمٍ مرير:
علشان تعرفوا إنها جريمة بس.... هو فيه حد بيبصم غير في الجواز والجرائم؟
يوسف
نطقها إلياس بتحذير مكتوم، لكنه لم يمنعه من سحب القلم والنظر إلى اسم "في" بجوار اسمه الناقص... لا يعلم لماذا شعر بالاختناق وقتها، كأن الحروف تضغط على صدره.
لحظة واحدة، ودون اسمه بارتعاش واضح وارتجاف في أنامله، ليعلن المأذون بعد لحظات:
بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
انتهت المباركات، وتعالت الزغاريد من الأعلى.
جلس يوسف وكأنه يجلس على جمرات من نيران، يتنفس بصعوبة، يحاول أن يبدو ثابتا أمام أعينهم جميعا.
اقتربت میرال و جلست بجواره، نظرت إلى زوجها الذي يتحدث مع اسحاق وأستاذ يوسف، ثم
عادت بنظرها إلى ابنها.
الأم الطبيعية المفروض النهاردة أسعد يوم في حياتها.
رفع نظره إليها بعينين خامدتين فقالت بنبرة حانية حزينة
بس انت كسرت الفرحة دي يا يوسف.
ادار وجهه عنها وقال بجمود قاتل:
عملت اللي حضراتكوا عايزينه.... محتاجين مني ايه تاني ؟
تنهدت بوجه وهي تهمس:
اشوف ضحكتك يا يوسف... فيه شاب في الدنيا يكتب كتابه النهاردة ويبقى كده؟
انحنى بجسده ينظر الداخل عيناها
لم يجبها، فقط ظل ينظر إلى الفراغ، يبتسم بسخرية حزينة
لو اتكلمت هنز على بجد، وهيبقى الفس يوم في حياتك فعلا
قوم اطلع لعروستك بارك لها
اقترب الياس بعدما فهم نظرات ابنه وحركة شفايفة
ضرب على ساقيه بخفة وقال
حاضر فيه حاجة ثانية مطلوبة مني، ولا أوامر الباشا خلصت
استدار المغادرة، ولكنه توقف وقال
غربية ما طلبتش حفيد يعني عادي ممكن اجيب وانا نازل
ابتسم الباس رغما عنه واقترب منه يحاوط اكتافه
لا دي لسة همسك نفسي لحد ما العملك فرح
قول والمصحف
رغما عنه افلت ضحكة .. ثم صمت ولمعت عيناه بالدموع
مبروك حبيبي بالرفاء والبنين
قالها وهو يضمه ثم همس بجوار اذنه
ابول طلع اذكى منك يابن الياس، وهدمت مخططاتك كلها
تراجع بجسده يمسد على ظهره
مذاكرتك وقعت في ايدي بالغلط
انا بس عايز اثبت لك انك غلط
استدار یوسف سريعا وقال
هروح ابارك لعروستي، واتمنى انا اطلع غلط يا باشا.. توقف واستدار اليه
بس لو حضرتك طلعت غلط صدقني هتخسرني للابد
قالها وصعد للاعلى
استمعت إلى طرق خفيف على باب غرفتها اسرعت تمسح دموعها و دلفت إلى الداخل تسمح
تربك قلبها رغم كل شيء.
بالدخول، وما هي إلا لحظة حتى كان يقف أمامها بطوله المهيب، وابتسامته اللاعوب التي
لا تعلم لماذا ابتسمت دون إرادتها.
خيرة
الله، قالولي تحت إنك اتجوزت، جيت أدور على مراتي.. شوفتيها؟
قالها وهو يقترب بخطواته الواثقة، فارتسمت على شفتيها ضحكة ناعمة رغم دموعها.
اقترب حتى لم يعد بينهما سوى أنفاس متشابكة.
طيب ما مراتي حلوة أهي وبتضحك.. أومال ليه عاملة معايا عسكري المرور؟
زعلانة منك على فكرة.
امم... انتي كمان اللي زعلانة.
مبروك يا بنت عمي
دقت أخر خطوة تفصلهما ورفعت رأسها تنظر لعيناه بتحدي
وفوزت بالتحدي يابن عمي مش قولت لك هتخسر قدامي
اووووووه. كدا فهمت اللعبة
انحنى يهمس بجوار اذنها حتى لامست شفتيه وجنتيها
انتي اللي دخلني جحيم ابن عمك خليكي قد التحدي بس مترجعيش لبكي"
رفعت رأسها وتقابلت العيون بحديث عجزت الألسن عن نطقه، ثم رفعت نفسها بجرأة تحاوط
عنقه وطبعت قبلة بجوار شفتيه
وأول تحدي في جحيم ابن عمي
لأول مرة لمست شفتيها جلده... ليتعمق بعيناها بتحدي.. ثم نزل ينظر إلى ارتجاف شفتيها ... ونحنى .......