رواية قلب السلطة الفصل الثالث والعشرون
في ركنٍ مُعتم من القاعة، حيث تنسحب الأضواء رويدًا وتتمدّد الظلال كستارٍ رحيم،
كانت "نيرفانا" متكوّمة خلف إحدى الستائر المخملية الثقيلة، تضمّ جسدها إلى صدرها كطفلةٍ خائفة.
عيناها الواسعتان تجولان في الفراغ، تحاولان الإمساك بخيطٍ من الأمان، لكن لا شيء هناك...
لا شيء إلا نبضٌ يتسارع، ودمعة تتردّد على حافة الجفن، تأبى أن تسقط.
همست لنفسها، كأنّها تستحضر شجاعةً لم تكتمل:
– أنا مش وعد بابا يلفّه زي ما يحب... أنا مش لعبته.
أخرجت من حقيبتها الصغيرة هاتفها، كأنّها تُخرج اعترافًا لم يعد يحتمل التأجيل،
راحت أناملها المرتعشة تتلمّس الشاشة، حتى استقرّت على اسمٍ بعينه،
ضغطت عليه، ثم أغمضت عينيها.
رنّ الهاتف مرة... مرتين... حتى جاءها صوته:
– أيوه يا نيرفانا؟! إنتي فين؟ صوتك غريب.
شهقت شهقة قصيرة، ثم همست بصوتٍ مشحون:
– تعالى... تعالى دلوقتي، لو بتحبّني.
– دلوقتي؟! ده فرح أبوكي...
قاطعته، ونبرتها هذه المرة لم تكن مستجدية، بل صادقة حدّ الوجع:
– أنا مش قادرة أكمّل الليلة لوحدي... أنا مخنوقة. مش عايزة أكون هنا.
ساد الصمت لحظة، ثم جاءها صوته حازمًا، وفيه رجفة دفء:
– تمام... هستنّاك برّه. مش هقرّب، مش هدخل، بس مش هسيبك تضيعي.
أغلقت الهاتف ببطء، كأنّها تغلق بابًا على خوفٍ قديم.
مسحت دمعتها، وعدّلت وقفتها، ثم أزاحت الستارة قليلًا،
وراحت تتسلل بخفة، كما تتسلل فكرة مجنونة في لحظة عاقلة.
لكنها لم تكن تدري...
أن أحدهم كان يراها،
وأن ظلًا ثقيل الخطى بدأ يقترب منها بثبات.
---
💠 قلب السلطة – (ظلُّ لا يُخطئ الهدف)
بقلم: مروه البطراوى 💜
خرجت "نيرفانا" من خلف الستارة بخطى مرتعشة، كأنّها تتحسّس طريقها في نفقٍ ضيّق لا تعرف إن كان في آخره ضوء، أم هاوية.
كان الهواء أثقل مما ينبغي، والممر الذي تمرّ به خلف أعمدة الزينة والمرايا، لا يخلو من الصمت...
ذلك الصمت المخادع الذي يسبق العاصفة.
لم تكن تلتفت، لكن قلبها كان ينبض كما لو أنّ شيئًا ما يزحف خلفها.
وفي اللحظة التي كادت تقترب فيها من باب جانبي يؤدي إلى ساحة الانتظار الخلفي،
جاءها الصوت...
صوتٌ لم تخطئه يومًا.
– على فين يا نيرفانا؟
تجمّدت في مكانها.
لم تلتفت.
الهواء من حولها انقبض، وكأنّه يعاقبها على التفكير في الهرب.
أعادت ترتيب ملامحها، وبلعت ريقها، قبل أن تستدير ببطء، لتواجه صاحب الصوت.
كان "شامل".
يقف بثباتٍ كأنّه خرج من جدار القاعة، يديه في جيبيه، وابتسامة باهتة ترتسم على وجهه... تلك الابتسامة التي تعرفها جيدًا، وتكرهها أكثر.
قالت، تحاول أن تبدو هادئة:
– مش شايفة إن في حاجة تخصّك تسألني فيها.
اقترب منها خطوة، لم تزل يده في جيبه، لكن صوته انخفض:
– طالما اللي بتعمليه ممكن يكسّر أبوكي... يبقى يخصّني.
ابتسمت نيرفانا بسخرية، وعيناها تلمعان بتحدٍّ حزين:
– أبويا؟! أبويا اللي مابقاش يعرف عني غير اسمي؟! اللي عاملني ورقة من أوراق شغله؟
– اللي أنتِ بتقولي عليه ده... هو الراجل اللي عملك نيرفانا اللي واقفة هنا.
هزّت رأسها، وقد انكسر الحزن في صوتها إلى دموع غير مرئية:
– أنا اللي عملت نفسي... لو كنت استنيته، كان زماني اتشطبت من الحكاية من أولها.
مدّ "شامل" يده فجأة، وأمسك بذراعها بخفة، لكن بصرامة:
– إنتي مش ماشية، فاهمة؟! إنتي هتروحي الكوشة دلوقتي، وهتضحكي، وهتخلي الكل يشوف إن نيرفانا بخير... مش محتاجة حد.
سحبَت ذراعها منه بعنف، ونفرت دمعة أخيرًا من عينها، رغم محاولتها للتماسك.
قالت وهي ترتجف:
– أنا مش هكمّل الليلة دي... ومش هسمح لحدّ يقرّر لي أنا هضحك إمتى.
ثم تراجعت خطوة، وعيناها تبحثان عن الخلاص.
صوت رسالة دخل هاتفها...
نظرت إلى الشاشة...
"وصلت. مستنيك، متخافيش."
رفعت عينيها مجددًا نحو "شامل"، ثم قالت بنبرة قاطعة:
– أنا مش بتاعت أوامر... وده آخر مرّة حد يحاول يوقفني.
ثم استدارت بسرعة، قبل أن يسمعها تتمتم، دون أن تنظر خلفها:
– حتى لو كان انت.
وظلّ "شامل" واقفًا في مكانه، لا يتحرّك،
لكن عينيه كانت تقولان:
"دي مش نهاية المشهد... ده بداية كل حاجة."
💠 قلب السلطة – (نقطة الغليان)
بقلم: مروه البطراوى 💜
كان "رائد" ما يزال واقفًا في موضعه قرب طاولة الكوشة، يوزّع ابتساماتٍ معدنية على الوجوه العابرة،
لكن الداخل... كان يغلي.
كلمات "ليلى" عن "يقين" وقلقها لم تفارقه.
ذلك النوع من القلق الذي لا يجيء من فراغ.
ثم جاءت اللحظة التي سقط فيها القناع.
اقترب منه أحد الحراس الشخصيين، همس في أذنه بكلمة واحدة:
– "البنت مش ف القاعة."
توقّف الزمن لثانية.
رمش "رائد" بعينيه مرتين، كأنّه يحاول التأكد من أنه فهم الكلمة صح.
ثم قال بهدوء مُزيّف:
– مش موجودة... يعني إيه؟
أجابه الرجل بنبرة منخفضة:
– دُورنا في كل الزوايا، الستائر، الحمّام، الكوريدور اللي ورا، حتى باب القاعة الخلفي مفتوح... والتسجيلات بتتراجع. بس الظاهر إنها خرجت.
صمت "رائد" للحظة.
صمتٌ عميق، مرعب،
ثم مرّر يده على وجهه ببطء، كأنّه يكتم نيرانًا تتفجّر تحت جلده.
قال بصوتٍ خافت لكنه حادّ:
– من إمتى؟
– من حوالي خمس دقايق...
تلفّت "رائد" حوله، بعينٍ حادّة تمشط الحضور.
ثم قال بصوتٍ مشبّع بالحنق:
– فين شامل؟
– كان موجود قريب الباب... وبعدين اختفى هو كمان.
ضحك "رائد"... ضحكة قصيرة، لكنها أقرب للطعن.
– تمام... كده الصورة بتكمل.
أشار بإصبعه نحو الحارس:
– هات ليا تلاتة من الشباب اللي برا، وراجعولي الكاميرات فورًا... مش عايز أستنى تقرير، أنا عايز أشوف بنفسي.
ثم انصرف بخطوات سريعة نحو غرفة المراقبة.
لكنه قبل أن يبتعد، لمح "يقين" واقفة على بُعد خطوات، تنظر نحوه نظرة لم تفهمها الناس، لكنّه قرأها جيدًا...
كانت تقول:
"كنت عارفة... بس انت صمّمت تصدق اللي ريّحك."
التفت عنها، وواصل السير.
كل شيء كان يبدو مرتبًا.
إلى أن تجرأت ابنته... وهربت.
---
💠 قلب السلطة – (ضد الزمن)
بقلم: مروه البطراوى 💜
كانت الساعة تقترب من العاشرة والنصف مساءً، والقاعة بدأت تفقد ضجيجها المعتاد،
لكن داخل غرفة المراقبة...
كان الصمت من نوعٍ آخر.
جلس "رائد" أمام الشاشات، يتابع تسجيلات الكاميرات بنفسه،
عيناه لا ترمش، وأنفاسه متقطعة كأنّ صدره يزن كلّ دقيقة ضاعت منه.
إلى جواره، وقفت "يقين" بصمت، نظراتها تنتقل بين الشاشة وبين وجهه،
ترصد ردود فعله، وتحاول أن تُبقيه على خيط التماسك الأخير.
فجأة، أوقف التسجيل عند لقطة معيّنة.
"نيرفانا" تظهر وهي تنسحب من القاعة عبر باب جانبي،
تمشي وحدها، رأسها منخفض، لا تتحدث مع أحد...
ثم تُغلق الباب خلفها وتختفي عن الكاميرا.
قال رائد، ونبرته كأنها خرجت من فم مغلق:
– فيه حد كان بيستناها.
قالت "يقين" دون تردّد:
– هو شامل.
التفت إليها، وسأل بعينين ضاقتا كأنّهما تتلمسان الحقيقة:
– عارفة؟
– لا. بس حاسة. نظراته طول اليوم كانت مركزة عليها أكتر من اللازم...
ولما سألتها عنّه مرة، سكتت. السكوت اللي بيخبّي حاجة.
ضغط "رائد" على زر الاتصال، وأعطى أوامر سريعة:
– أقرب كاميرا في الجراج، عايز شريط العشر دقايق اللي بعد خروجها...
وخلّوا عربية الأمن تتحرك من بوابة 3 فورًا، حدّ يراقب الطريق اللي بيطلع على المخرج الخلفي.
نظر إلى "يقين"، ثم قال بنبرة أقل حدّة:
– هتيجي معايا.
رفعت حاجبيها بدهشة:
– أنا؟!
– آه... إنتي الوحيدة اللي بتفهم هي بتفكر إزاي.
ولو فعلاً اختارت تهرب... يبقى هي سايبة وراها خيط.
وإنتي أكتر واحدة ممكن تلقطه.
لم تردّ، لكنها لحقت بخطاه، وقلبها ينبض بإيقاع لم تعهده من قبل...
فـ"رائد"، رغم جبروته،
يعترف الآن – لأول مرة –
أن قلب بنته مش في جيبه.
**
في السيارة، كان "رائد" يتحدث في اللاسلكي، يُصدر أوامر مركّزة،
في حين جلست "يقين" تُقلّب أفكارها بسرعة.
قالت فجأة:
– لو كانت بتخطّط لهروب، أكيد أخدت معاها حاجة مهمة...
يعني مثلًا موبايلها؟ شنطتها؟ ولا خرجت بإيديها فاضية؟
قال السائق من المقعد الأمامي:
– الكاميرا بيّنت إنها شايلة شنطة صغيرة.
تنفست "يقين" بعمق:
– يبقى كانت مقرّرة.
يبقى الخوف مش اللي دفعها...
ده القرار.
غمغم "رائد"، وكأنه يُحدّث نفسه:
– وأنا سايب كل ده يحصل تحت عيني.
أغمض عينيه لحظة، ثم فتحهما بقوة:
– مش هسمح تنتهي زي أمّها.
نظرت إليه "يقين" بسرعة، وأرادت أن تسأله... لكنها تراجعت.
فاللحظة... ليست للحكايات القديمة،
بل للإنقاذ.
**
رنّ الهاتف في يد "رائد".
جاءه صوت من الحراسة:
– لقينا أثر للعربية... خرجت من البوابة الخلفية، واتجهت للطريق الزراعي. رقم العربية واضح.
لكن اللي سايقها... مش شامل.
شهق "رائد"، ثم قال:
– مين؟
– شاب صغير... اسمه "آدم حمدي".
نظر إلى "يقين"، التي تجمّدت في مكانها.
قالت ببطء:
– آدم...؟!
ده اللي كانت بتكلمه كتير الأيام اللي فاتت.
بس كانت بتقول إنه زميل، وإنه مجرد صديق.
صمتت.
ثم نظرت لرائد، وقالت بنبرة مختلفة:
– رائد... لو نيرفانا بتحب آدم...
انت مستعد تسمع ده؟
لم يجب.
كل ما فعله أنه زاد سرعة السيارة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
انطلقت السيارة تُعانق طريقًا يلفّه السكون، كأنّ الكون قد حبس أنفاسه أمام ما جرى. كان رائد جالسًا في المقعد الأمامي، يطالع الطريق بعينين جامدتين، بينما استقرّ الفراغ على قسمات وجهه، كأن عقله قد ابتُلع في دوامة الأسوأ.
أما يقين، فجلست إلى جواره وقد أكل القلق أطرافها. كانت يدها تعبث لا إراديًا بطرف الحقيبة الصغيرة التي في حجرها، بينما تومض في رأسها مشاهد متناثرة، أصوات متشابكة، ووجه نيرفانا يطفو فوق كل ذلك كصرخة خرساء.
قطعت الصمت أخيرًا بصوت خفيض متهدج:
– "أنا مش قادرة أستوعب اللي حصل... نيرفانا كانت بتضحك من شوية، كانت واقفة جنب الكوشة... لحظة واحدة بس، وبعدين اختفت؟! يعني إزاي؟!"
لم يجبها رائد، وإنما امتدت يده فجأة ليزيد من سرعة السيارة، كأن في داخله شيئًا يركض.
– "رائد، ردّ عليّ! مين آخر حد شافها؟! ماينفعش نسكت، ماينفعش نسوق كأننا بنهرب..."
قالها وهو يلتفت نحوها أخيرًا، بعينين تائهتين ومشاعر تكاد تتقافز من بين كلماته:
– "أنا مش سايق عشان أهرب، يقين... أنا سايق عشان ألحق... لو في حد ورا اللي حصل، يبقى لسه قريب، ولسه ممكن نوصله."
أطرقت يقين برأسها لحظة، ثم رفعت عينيها نحوه ببطء:
– "و... ليلى؟"
صمتٌ قصير خيّم عليهما، تبعه صوت رائد، هادئًا بقدر ما يُخفي من اضطراب:
– "ليلى؟"
قالها كمن يسمع الاسم لأول مرة. ثم تابع، بصوت منكسر:
– "يمكن تفتكر إننا مشينا وسابناها... بس أنا... مش قادر أفكر في حاجة دلوقتي غير بنتي. لو جرالها حاجة، يقين، أنا..."
قاطعته، وقد ارتعش صوتها:
– "رائد، أنا معاك... هنلاقيها... بس لازم نكون عقلانيين. لازم نرجع نسأل، نراجع الكاميرات، نشوف مين كان حواليها..."
أومأ برأسه ببطء، كأن صوتها أعاده إلى أرض الواقع.
– "عندك حق... مش وقت الذُعر، ده وقت الحساب."
ثم مدّ يده فجأة إلى هاتفه، وبدأ يُجري اتصالات متلاحقة، يبحث، يطلب الكاميرات، يضغط الأرقام بلا هوادة.
أما يقين، فظلّت تحدّق في النافذة، ووجهها مشدود، يعلوه مزيجٌ من الندم والخوف والحدس المرير، تُتمتم في سرها:
"ياربّ، ماتكونش دي بداية النهاية..."
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
السيارة تمضي تحت ظلال المساء المتأخرة، يقودها رائد، وبجانبه يقين. بالاضافه الي الثقل الذي أحدثه اتصال الخادمة معلّقًا بينهما كضباب خانق، فيما يسابق كلٌّ منهما قلبه المتسارع.
لم يكن رائد معتادًا على الارتباك. تعلّم مبكرًا كيف يُخفي ارتعاشة اليد، وضيق النفس، وسعار الذهن. لكنه الآن... الآن فقط، تهاوى اتزانه، كأنما طُعِن في خاصرته بكلمة واحدة: "نيرفانا مش موجودة."
لم يكن صوت الخادمة، ولا بكاؤها، ما أثار فيه هذا الاضطراب، بل الصمت الذي تلا عبارتها… الصمت الذي رآه ممتدًا، بلا نهاية، كهاوية مفتوحة تحت قدميه.
شدّ على المقود حتى ابيضّت مفاصله. رمق يقين من طرف عينه، ولم يقل شيئًا.
لكن يقين كانت تنظر إلى الأمام، لم تحرك رأسها نحوه، بل راحت تهمس كمن تكلم نفسها:
– «أنا قلتلها تخرج قبل الفرح بساعة... قالتلي هتكون جاهزة. سبتها في الأوضة بتضحك... كانت بتضحك، يا رائد...»
لم يُجب. فقط عضّ شفته السفلى، وشعر أن الهواء صار كثيفًا، عسير المرور في صدره.
– «أنا غلطانة... غلطانة إني ما خدتش بالي من تفاصيل صغيرة... لبسها، سكوتها طول اليوم، إلحاحها تشوف قبر مامتها...»
هنا، انفرج صوته أخيرًا، حادًا، ساخطًا:
– «كان فيه حد في الفرح مراقبها؟ حد غريب؟»
هزّت رأسها نفيًا وهي تعض على أطراف أناملها:
– «معرفش، أنا كنت بين الحريم، والمكان زحمة... بس نيرفانا مبتروحش بعيد لوحدها، ودي أول مرة تختفي كده...»
سادت لحظة ثقيلة أخرى.
ثم قال، بصوت متهدّج:
– «لو جرالها حاجة...»
شهقت يقين دون قصد، كأنها استشعرت ظله ينهار فوق المقود:
– «ما تقولش كده، نيرفانا هترجع، هتظهر. دي طفلة مش ممكن تتوه كده فجأة... مش ممكن، صح؟»
لكن السؤال الأخير لم يكن لها. كان له... يحاول أن يصدق.
مدّ يده إلى هاتفه وضغط زر الاتصال، صوته مسموع، متوتر:
– «زياد، جهّز كل الكاميرات في المنطقة حوالين الفرح. عايز تسجيلات من أول اليوم. ابعت حد للفيلا كمان، يشوف آخر مرّة ظهرت فيها نيرفانا. وسيبلي عليّ الحرس عند باب القاعة... والبوابين... كلهم. عايز أسمع منهم، كلمة بكلمة. فاهم؟»
أنهى المكالمة، ووضع الهاتف على ساقه، ثم أغلق عينيه لحظة، يحاول كبح العاصفة التي تعربد داخله.
همست يقين، بصوت خافت، كأنها تفتح له نافذة ضوء:
– «أنا مش هسيبك تدور لوحدك. إحنا هنلاقيها، سوا.»
رمقها بنظرة طويلة، امتزج فيها الامتنان بالحزن، ثم أدار رأسه إلى الطريق مجددًا.
– «مافيش وقت للكلام يا يقين. لو حد أذاها... هخليه يدفع التمن.»
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
"قرار بين اتنين"
في لحظةٍ باغت فيها السكونَ قلقٌ مكتوم، ترجل رائد من السيارة، وقد توقفت العجلات عند أطراف ذلك الحي العتيق، بعد أن تلقّى اتصالًا قصيرًا من رقم مجهول، لم يسمع فيه إلا أنينًا خافتًا وصوتًا متهدجًا يهمس باسمه:
«بابا... أنا تعبانة...»
جمد الدم في عروقه، وتسارعت ضربات قلبه حتى خُيّل له أن السيارة بأكملها تهتز تحت وطأتها. التفت إلى يقين الجالسة بجواره، عيناه تومضان بخليط من الخوف والرجاء.
– "يقين، ادعي بس إنها تكون هي... ادعي تكون نيرفانا."
أومأت يقين بصمت، عيناها تغصّان بدموع لم تُذرف بعد.
ترجّل رائد واتّجه صوب المبنى الذي أُرسل له موقعه عبر رسالة، وقلبه يقرع صدره كطبل حرب. وما إن صعد السلالم القديمة حتى التقط أنفاسًا مرتعشة عند الباب المهترئ في الطابق الثالث، طرقه بيده مرتين، ثم دفعه دون أن ينتظر.
وهناك... وجدها.
نيرفانا، تجلس على الأرض، جسدها النحيل ملتصق بالحائط، عيناها ذابلتان، شفتاها متشققتان من الجفاف، وثوبها الأبيض ملطخ ببقع الغبار والقلق كل هذا بعد ما تركها ادم خشية من أن يحدث فيه مثل ما حل باوس . رفعت رأسها ببطء، ولما رأته... شهقت شهقة قصيرة وابتسمت بدمعةٍ واحدة:
– "بابا؟..."
أسرع نحوها، احتواها بين ذراعيه كما لو كان يحاول أن يخفيها داخل قلبه، لا صدره.
– "أنا جيت... خلاص يا نيرفانا، خلاص يا قلب أبوكي... مافيش حاجة هتوجعك تاني، أنا هنا."
خرجت يقين من السيارة على عجل عندما لمحتهما من بعيد، وجثت إلى جوار نيرفانا، تمسح على شعرها برفق:
– "الحمد لله، كنتِ فين يا روحي؟ إحنا هنروح سوا، خلاص، كل حاجة هتتصلّح."
**
بعد دقائق، وبينما كانت نيرفانا تلتقط أنفاسها في المقعد الخلفي، التفت رائد إلى يقين بنبرة حاسمة:
– "محتاج ليلى... لازم تيجي تشوف ده بعينها."
– "ليلى؟ ده فرحها النهارده يا رائد..."
– "وإحنا بندفن بنتنا بالحياة. مش هينفع أكمل من غيرها."
مدّ يده إلى الهاتف، واتصل بشامل.
**
المشهد التالي: في قلب الفرح
بين أضواءٍ راقصة وضحكاتٍ خاوية، كانت ليلى تقف كتمثال مشدود الأعصاب، تنظر إلى الحضور بعينين جافتين. شعرت بأن شيئًا ما لا يسير كما يجب، أن قلبها لا يرقص كما يُفترض أن يحدث في ليلة كهذه.
ثم شقّت الصالةَ خطواتٌ حازمة، وظهرت ملامح شامل على الباب، مشوشةً تحت ضوء الثريات.
اقترب منها، وهمس بصوت لا يسمعه سواها:
– "نيرفانا اتلقَت... رائد لقاها، وهي محتاجة ليكي دلوقتي."
شهقت ليلى، وارتجف جسدها كأن التيار صعقها.
– "فين؟"
– "في العربية، مستنياكي. تعالي."
رمقت عريسها بنظرةٍ أخيرة، لا تحمل وداعًا بقدر ما تحمل اعتذارًا. ثم نزعت الحُليّ من يديها كأنها تتخفف من كل شيء، وركضت.
**
عودة السيارة
فتحت ليلى الباب الخلفي، ورأت نيرفانا تحتضن نفسها كطائر مكسور. جلست إلى جوارها، احتضنتها، وهمست:
– "أنا هنا... مش هسيبك تاني."
همست نيرفانا وهي ترتجف:
– "كنت عارفة إنك هتيجي..."
في المرآة الأمامية، التقت عينا رائد بعيني ليلى. لم يتبادلا كلمة، لكن شيئًا أكبر من كل الكلمات مرّ بينهما.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
"يقين وسؤالٌ لا يحتمل التأجيل"
في صبيحة اليوم الخامس، بعد أن عادت نيرفانا إلى بيتها، كانت الشقة لا تزال مغمورة بسكون ثقيل، أشبه بما يخلفه العاصف بعد انحساره. الضوء المتسلل من خلف الستائر لم يُبدد ذلك الحزن الهادئ المتربص على الوجوه، لكنه كشف عن التعب المترسّب في أعين الجميع.
خرجت يقين من غرفتها، وقد بدا عليها أنها لم تنم جيدًا، ربما ليلتها الخامسة دون راحةٍ تُذكر، وكأن سؤالًا واحدًا يتناسل في صدرها، لا يمنحها لحظة هدوء.
وقفت على عتبة غرفة نيرفانا، وطرقت الباب برقة.
خرج صوت نيرفانا من الداخل، واهنًا:
ـ "ادخلي يا يقين..."
فتحت يقين الباب، وتقدّمت في خطواتٍ متوجسة. كانت نيرفانا جالسة على طرف السرير، ترتدي منامتها الزرقاء، وشعرها منسدل على كتفيها كأنفاسها المثقلة بالوجع.
جلست يقين قبالتها، وأطرقت لحظة قبل أن تهمس:
ـ "ينفع أسألك سؤال؟"
رفعت نيرفانا عينيها إليها، دون غضبٍ ولا تجهّم، فقط نظرة فارغة من أي ضوء.
ـ "اسألي..."
همست يقين، وصوتها ينطوي على شيء من الرجاء:
ـ "هو إنتي... من إمتى تعرفي آدم؟"
توتر وجه نيرفانا قليلًا، ثم أدارت وجهها للنافذة كأنها تهرب من الجواب، لكنها نطقت بعد لحظة صمت:
ـ "من يوم ما بعدني بابا عن أوس، ومن يوم ما أمي ماتت..."
قالت يقين ببطء:
ـ "يعني مش من زمان؟"
ـ "لأ... مش من سنين زي ما انتي فاكرة. هو كان أول حد خد باله مني وأنا مش شايفة في الدنيا حد... بابا سابني، وعمري ما حسّيت إني لوحدي زي ما حسّيت ساعتها. آدم جه فجأة... وساب فيا علامة."
قالت يقين بلهجة حائرة، فيها شيء من الغيرة، وشيء من الخوف:
ـ "يعني كان بيحبك؟"
ضحكت نيرفانا ضحكة باهتة، لا حياة فيها، وقالت:
ـ "كنت حاسة و قلتي لبابا .. صح؟"
أومأت يقين برأسها، وقالت بخفوت:
ـ "كنت... وأنا اللي بلغته لما حسيت إن في حاجة مش تمام..."
التفتت نيرفانا نحوها، ونظرتها تحمل شيئًا من الامتنان الذي لم يُنطق به:
ـ "مكنتش لوحدي وقتها... وده كفاية. بس يا يقين، آدم... كان كل حاجة، وبقى لا حاجة."
صمتت يقين، لكن قلبها ظل يصرخ بأسئلة لم تجد لها مخرجًا.
ثم سألت فجأة:
ـ "ونفسك ترجعي له؟"
ردّت نيرفانا، وهي تعض على شفتها السفلى، تحبس شيئًا من الألم:
ـ "نفسي أرجع لنفسي الأول... وبعد كده كل حاجة تتحل."
ثم أمالت رأسها على الوسادة، وقالت بصوت خافت:
ـ "سيبيني شوية... عايزة أرتاح."
وقفت يقين، وهمّت بالخروج، لكنها قبل أن تفتح الباب، التفتت ونظرت إلى نيرفانا نظرة طويلة، نظرة تحمل في طياتها خوف الصديقة، وغيرة الأنثى، ودهشة الطفلة التي وجدت قلبًا آخر ينبض قرب ما ظنت أنه لها.
ثم خرجت... وظل السكون مخيّمًا، لكن داخله كان يمور بعواصف مؤجلة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
"بين جدران جديدة، وقلوب لم تُرمم بعد"
لم يكن الليل هادئًا، بل كان مترعًا بتلك الرجفة الخفية التي تسكن القلوب في لحظات الولادة الجديدة. خمس ليالٍ مرّت، منذ عادت نيرفانا إلى حضنها، لم تتفوّه بكثير، ولم تشِ عيناها بكل ما اختزنته من وجع، لكن عودتها وحدها كانت كافية لتُربك الذاكرة، وتعيد ترتيب الحكاية من جديد.
ليلى كانت تقف أمام المرآة، تخلع قرطها ببطء، كأنها تنزع عنها بقايا امرأةٍ لا تعرفها. ارتدت منامةً بسيطة، من الساتان الأزرق الناعم، وشعرها مربوط ربطة غير محكمة، كأنها لا تزال غير مستعدة... أو ربما خائفة من أن تستعد.
أما رائد، فكان يجلس على طرف السرير الجديد، يداه متشابكتان، ونظراته تائهة في السقف الأبيض. بدا وكأن بينه وبين نفسه جدالٌ لم يُحسم بعد. سمع وقع خطواتها، فالتفت ببطء، ونظر إليها مطولًا.
قال بنبرة منخفضة:
ــ "أول ليلة في أوضتنا... بس قلبي مش مطمن، مش علشانك... علشان اللي بينا ولسه متقالش."
نظرت إليه، ثم تقدّمت ببطء وجلست على الكرسي المقابل له، عينيها لا تفارقان عينيه.
قالت بصوت خافت:
ــ "أنا كمان حاسة بغُربة... مش من المكان... من الوجع اللي ساكن بينا ومابيروحش."
تنهد رائد، ثم رفع عينيه إليها وقال:
ــ "كنتي بتقوليلي إنك عايزة بيت أمان... وأنا وعدتك بيه. بس أمانك مش في الحيطان، أمانك في اللي بينا... وفي اللي في حضننا دلوقتي. نيرفانا رجعت، بس ما رجعتش زي ما كانت."
سقطت دمعة من عين ليلى، مسحتها بسرعة، وقالت:
ــ "من يوم ما بعتها عن أوس، وهي ساكتة... بس عينها بتحكي. أنا عارفة إنك عملت كده علشانها، بس قلبها مش قادر يصدق."
رائد نهض واقترب منها، جلس على ركبتيه أمامها، وضع كفه على يدها وقال:
ــ "أنا بعدت أوس عن نيرفانا علشان مصلحتها، مش علشان أخبي حاجة. الراجل ده كان هيضيعها، وهي لسه ما صدقت تخرج من الحفرة اللي وقعت فيها. أنا عايز أرجع لها عقلها، قبل ما ترجع لقلبها."
هزّت ليلى رأسها ببطء، وقالت:
ــ "وأنا... أنا عايزة أصدق إنك لسه زي ما عرفتك... قبل ما كل ده يحصل."
نظر في عينيها طويلًا، ثم قال بهدوء:
ــ "أنا اتغيرت، آه... بس لو كان التغيير ده عشان أحميكم، يبقى يسوى."
ثم نهض، مدّ يده إليها وقال:
ــ "تعالي... نبتدي من جديد. الليلة دي مش لازم تكون عادية. دي أول خطوة لينا بعد حرب طويلة."
أمسكت يده، وتبعت خطواته إلى السرير. جلست بجواره، ومال هو ليطفئ الأباجورة، فعمّت العتمة الخفيفة، ثم تمتم:
ــ "ليلى... مهما ضاع مننا، أنا ونيرفانا، عمري ما هسمح لك تضيعى مني."
همست وهي تضع رأسها على صدره:
ــ "ولا أنا هسمح ليك تنام وانت شايل كل دا لوحدك... إحنا بقينا إحنا."
وبين جدران تلك الغرفة الجديدة، تشارك الاثنان صمتًا دافئًا، لا يُشبه ما مرّ، بل كان ولادة ثانية، لا تخلو من الوجع... لكن فيها وعدٌ بأن القادم سيكون مختلفًا.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في صباح اليوم التالي...
كان ضوء النهار يتسلّل بهدوء إلى الصالة الواسعة، حيث جلست "نيرفانا" على الأريكة، تحتضن كوبًا من الشاي لم تبرد حرارته بقدر ما تجمّدت أفكارها. على الجانب الآخر، كانت "يقين" تتحرك في المكان بنفاد صبر، تنقل نظراتها بين "نيرفانا" و"شامل" وكأنها تبحث عن مخرج من التوتر الذي بدأ يتسلل إلى أوردتها كسمٍ بطيء.
قطع "شامل" الصمت بصوته الرصين، لكن نبرته حملت تلك الحِدّة التي لا تقبل مزاحًا:
ــ لازم نخلص الموضوع ده النهاردة.
توقفت "يقين" فجأة، التفتت إليه وقد ارتسم القلق على وجهها:
ــ تقصد إيه يا شامل؟
نظر إليها نظرة ثابتة جعلت الكلمات تنحبس في حلقها، ثم قال بهدوء لكنه مشحون بالجدية:
ــ لازم نواجه الحقيقة... إحنا وإنتم.
رفعت "نيرفانا" رأسها أخيرًا، عيناها متسعتان بانتباه، وقالت بنبرة حذرة:
ــ أنطي؟ إيه اللي بتقولوه ده؟
تبادل "شامل" و"يقين" نظرة سريعة، تلك النظرة التي تحمل قرارًا صعبًا تم اتخاذه أخيرًا. ثم تقدّمت "يقين" بخطوة، وجلست قبالة "نيرفانا"، تنفست بعمق، وقالت:
ــ في حاجات كتير يا نيرفانا كنتِ لازم تعرفيها من بدري، بس ماكانش وقتها. دلوقتي... بقى لازم.
نظرت إليها "نيرفانا" بحدة متصاعدة، وقالت بجفاف:
ــ لو في حاجة تخصني، قوليها دلوقتي... قبل ما أكتشفها بنفسي، وأنا بعرف أكتشف كويس.
أسرع "شامل" بالتدخل، قائلاً:
ــ الموضوع أكبر من مجرد ماضي... دي حقيقة بتغيّر كل حاجة، حتى نظرتك لأقرب الناس ليكي.
ابتلعت "نيرفانا" ريقها، وقلبها يقرع صدرها بعنف، ثم قالت بهدوء مشوب بالترقّب:
ــ طيب... سمعوني.
أخذت "يقين" نفسًا عميقًا، وصوتها خرج واهنًا في البداية، لكنها ما لبثت أن استجمعت قوتها:
