رواية قلب السلطة الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم مروة البطراوي


 رواية قلب السلطة الفصل الرابع والعشرون 


كانت "نيرفانا" لا تزال في مكانها، لكن شيئًا ما بداخلها تغيّر... تغيّر بعنفٍ لا يُرى بالعين، بل يُحسّ في اضطراب أنفاسها، في ارتجاف يدها فوق حافة الكوب الذي برد تمامًا، دون أن تتنبه لذلك.
لم تكن تجلس على أريكة، بل على شفير هاوية، تنظر إلى قاعٍ من الخداع لم تكن تدري بوجوده... كل شيء تهدّم، أو هكذا خُيّل لها.

رفعت رأسها ببطء نحو "شامل"، ثم إلى "يقين"، وكأنها تبحث بين ملامحهما عن كذبة تُعيدها إلى وهمها القديم.
لكن لا كذبة هنا...
بل صدقٌ موجع، نُزع عنه الغلاف، وأُجبرَت على ابتلاعه دفعةً واحدة.

قالت أخيرًا، بصوت لا يشبه صوتها:

ــ أنــا مش فاهمة... ليه دلوقتي؟ ليه سكتّوا طول المدة دي؟

نظرت إليها "يقين" بعينين تمتلئان بالشفقة والندم، ثم قالت:

ــ لأننا خفنا... خفنا من رائد، ومن ردّ فعلك، ومن كل حاجة. بس دلوقتي... خلاص، مابقاش في مفر.

قاطعها "شامل"، وقد نهض واقفًا، يتقدم ببطء نحو "نيرفانا":

ــ اللي جاي أصعب، بس لازم تعرفي.
الموضوع ما انتهيش عند "أوس"، ولا حتى عند أمك.
رائد مخبّي حاجات كتير... أكتر من اللي تتخيّليه.

رمشت "نيرفانا" بعينين مثقلتين، وسؤال مرعب خرج منها كأنفاسٍ مجروحة:

ــ لسه في إيه تاني؟!

اقتربت "يقين"، وضعت يدها فوق يد "نيرفانا" المرتجفة، وقالت بنبرة خافتة:

ــ في شخص... كان طول الوقت في الصورة، بس إنتِ مش شايفة.
حدّ... لو عرفتي هو مين، مش هتقدري تسامحي، لا رائد، ولا نفسك.

تجمّد الزمن في تلك اللحظة، وانكمش الضوء، وصار الهواء ثقيلًا لا يُستنشَق.
"نيرفانا" لم تجب، فقط ظلّت تنظر، بعينين منطفئتين، كأنها تنتظر ما هو أسوأ... وما هو آتٍ بالفعل.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

ساد صمتٌ ثقيل، كأن الجدران نفسها تشهق من وقع ما قيل، وما لم يُقال بعد. كانت "نيرفانا" تفتح فمها لتسأل، لكن "يقين" سبقتها، همست بصوتٍ يكاد لا يُسمع:

ــ الشخص ده... هو اللي سلّم "أوس".

ارتجفت الجملة في الهواء كضربة سيف.
ضاقت عينا "نيرفانا" بذهول، ثم نطقت بالكلمة المرتجفة:

ــ سلّمه؟!

أومأت "يقين" برأسها، وتابعت:

ــ بلغ عنه... بمعلومة خلتهم يقبضوا عليه، ووقتها اختفى فجأة من حياتك، ومن كل حاجة.
وإحنا ساعتها افتكرناها غلطة، أو قرار من رائد، لكن الحقيقة... الحقيقة كانت أبشع.

قال "شامل" بنبرة قاتمة:

ــ اللي سلّمه، مش رائد.

التفتت "نيرفانا" نحوه ببطء، عيناها تلمعان بوميض غامض بين الدموع والغضب:

ــ مش بابا؟!

أكملت "يقين"، وقد التمعت عيناها بالدموع:

ــ لأ... كان عمّي صابر.

اتسعت عينا "نيرفانا" كأنّ أحدهم صفعها بقوة. لم تتحرك، لم تتنفس، فقط ظلت تحدّق فيهما كأنها تسمع أسماءً غريبة، لا أسماء لحمها ودمها.

ــ عمّك صابر؟!
إزاي؟ ليه؟!

قال "شامل" بوضوحٍ قاتم:

ــ لأنه كان عايز ياخد مكان رائد، وكان شايف إن أوس خطر عليه.
فاكر لما رائد اتخانق معاه من سنتين؟ وقتها سحب منه كل صلاحياته، بعد ما اكتشف اللي حصل.هز عارف انك الوريثة لكل ده و هدفه انك تنتهي و متبقيش موجودة 

ــ بس... بس بابا عمره ما قال...!

قاطعتها "يقين" بحزن:

ــ لأنه خاف عليكِ.
كان بيحاول يحميكي بطريقته، بس سكوته سمح للحقيقة إنها تبقى سلاح ضدك، بدل ما تبقى درع ليكي.

سحبت "نيرفانا" يدها من تحت يد "يقين"، ووقفت ببطء، وكأن الأرض صارت تهتز تحت قدميها.
تقدّمت نحو النافذة، نظرت إلى الخارج، لكن عينيها كانتا معلّقتين بداخلها، لا ترى شيئًا إلا الحطام.

ثم تمتمت بصوتٍ مكسور:

ــ يبقى أنا عشت جوّه متاهة... وكل الناس اللي حواليّ كانوا بيقطعوا السكة واحدة واحدة.
أمي ماتت، أوس اختفى، وأنا اللي فضلت... لوحدي.

اقترب "شامل" منها، صوته عاد رقيقًا هذه المرّة:

ــ إنتي مش لوحدِك، يا نيرفانا...
بس لازم تقرّري هتعملي إيه... لأن من اللحظة دي، ماعادش في رجعة.

استدارت إليه، نظرتها اختلفت... لم تعد نظرة فتاة مكسورة، بل امرأة على شفا قرار.
قالت بصوتٍ خافت لكن حاد:

ــ هاعرف كل حاجة... وهحاسب الكل.

ثم نظرت إلى "يقين" وسألتها بصوت كالرعد تحت الرماد:

ــ وعمّك فين دلوقتي؟

تبادلت "يقين" و"شامل" نظرة خاطفة، ثم قال "شامل":

ــ في بيته... من غير ما يعرف هو إننا قلنا لك.

ابتسمت "نيرفانا" ابتسامة صغيرة، مشوهة بالحزن، مشتعلة بالغضب، وقالت:

ــ كويس...
يبقى ده أنسب وقت أواجهه.

ثم مشت بخطى بطيئة نحو الباب، وكأنها تمشي نحو قَدَرِها.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
مشهد المواجهة - "سقوط الهيبة"

في ذلك المساء الرمادي، كانت السماء ملبّدة بالغيوم، وكأنها تعضُّ على أسرارٍ قديمة على وشك أن تنكشف.
توقّفت سيارة "نيرفانا" أمام بيت "صابر الذهبي"، ذلك البيت العتيق الذي طالما بدا لها كقلعة من صخر، يلوذ إليها الجميع طلبًا للحماية... لكنها الآن تقف أمامه لا كحَفيدةٍ، بل كقاضٍ ينزع الأقنعة.

نزلت من السيارة بخطًى ثابتة، وإن كان قلبها يشتعل كمرجل لا يهدأ.
طرقت الباب، لم تنتظر ردًا، بل دفعته ببطء، كان مواربًا كأن القدر نفسه كان ينتظرها.

دلفت إلى الداخل، فانبسط أمامها الصالون الواسع، حيث جلس "الحاج صابر" على كرسيه الخشبي المعتاد، يراقب شاشة التلفاز دون أن يراها.
وحين لمح ظلها، رفع رأسه، عبس في وجهها، وقال بجفاف:

ــ إنتي؟!
جاية من غير تليفون؟ ولا حتى سلام؟

وقفت أمامه، نظرتها مستقيمة كسيف، وقالت ببرود يشبه الجليد:

ــ مش جايه أسلّم... جايه أواجه.

رفع حاجبه بسخرية:

ــ تواجهيني؟ طب اقعدي الأول، وشربي مية، وبعدين نسمع المواجهة دي.

ــ لا، هاتسمعها وإنت واقف...
زي ما وقفت تتفرّج على الدنيا وهي بتتسرق منّي.

نهض "صابر" ببطء، نظر إليها بنظرة ثقيلة، وقال:

ــ على مهلك يا بنت رائد... لسانك بقى طويل، ولا إيه؟

اقتربت منه خطوة، لم ترفّ لها عين وهي تقول:

ــ لسان طويل؟ ولا قلب مجروح؟
اللي سلّم "أوس"... اللي بلّغ عنه... كان إنت.

ارتبك الحاج صابر للحظة، لكنه أخفاها خلف ضحكة جوفاء:

ــ وده كلام مين؟ يقين؟ شامل؟
العيال اللي فاكرين نفسهم بيفهموا في كل حاجة؟

صرخت فجأة، بصوتٍ خرج من أعماقها:

ــ ده كلام الدم اللي بينزف من كل ركن في قلبي!
أمي ماتت بسببكم، أوس اختفى من حياتي بسبب وشايتك، وأنا اللي كنت فاكرة إنك الكبير اللي بيحمي!

قال بحدة:

ــ إنتي ما تعرفيش حاجة، وكل حاجة أنا عملتها كانت عشان مصلحة العيلة... عشان رائد ما يغرقش أكتر!

ــ لأ... إنت عملت كده عشان نفسك!
عشان الغِل اللي في قلبك من يوم ما أبوي سحب منك كل حاجة!
كنت عايز تنتقم، حتى لو ده هيكسرني أنا!

اقترب منها، وجهه صار مُحمّرًا، وصوته خشنًا:

ــ خُدِك غرورك زي أبوك!
نسيتي إنك لولا اسمي، ما حد كان شافك!

نظرت إليه، عينها تدمع لكن ملامحها لم تضعف، وقالت:

ــ أنا نسيت كل حاجة... إلا اللي إنت عملته.
اللي يبيع، ما يتنساش.
ولو أبويا غلط، فغلطه إنه سايبك عايش وسطنا لحد النهاردة.

ثم استدارت، وقبل أن تغادر، ألقت كلماتها الأخيرة:

ــ من اللحظة دي... إنت مايلزمكش اسمي، ولا يلزمني وجودك.
وربنا كبير... هيجيب لي حقي.

أغلقت الباب خلفها، وهي لا تسمع إلا صوت أنفاسها المتلاحقة، وارتجاف الأرض تحت قدميها.
لكنها كانت قد اتخذت القرار...
لن تعود كما كانت، ولن تسكت كما كانت.
هذه المرة... ستكشف كل ما خفي.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
في بيت "سميحة" - عند الفجر

جلست "سميحة" على الكنبة بجوار نافذة تطل على الساحة، تمسك بصورة "أوس" حين كان طفلًا في حضنها.
دموعها لا تنهمر، لكن عيناها مشقّقتان بحزن ناضج، فيه من الصبر ما يكفي لعقود، ومن الندم ما لا تقدر عليه الجبال.

قالت تخاطب الصورة: - كنت فاكرة إنك هتبقى سندي.. كنت شايلة في قلبي ليك دعوات.. كنت متأكدة إنك هتفتخر بيا في يوم من الأيام... بس انت اخترت غير كده.

دخلت جارتها "أم حسان"، بلهفة خافتة: - طمنيني يا سميحة، في جديد؟

أجابت دون أن ترفع عينها عن الصورة: - لا... بس قلبي واجعني. أول مرة أحس إن البيت فاضي فعلاً. مش من صوته.. من ريحته.

قالت "أم حسان" وهي تجلس قربها: - مش يمكن ربنا بيطهّره؟ مش يمكن دي كانت غلطة وهتصحّيه؟

ابتسمت "سميحة" بمرارة: - كنت دايمًا بدافع عنه.. وكنت بحس إني بعاقب نفسي علشانه. بس النهاردة... النهاردة حسّيت بالخوف منه.
(تتنهّد)
- بس برضه قلبي وجعني عليه... هو ابني يا أم حسان.

هزّت "أم حسان" رأسها بتفهّم، وساد بينهما صمت يشبه صلاة طويلة، لا تُقال بصوت، لكن تُسمعها الملائكة.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

مشهد المواجهة - "كلمات لم يُرِدها"

كانت نيرفانا قد عادت إلى منزلها، لا تزال ترتجف من أثر المواجهة، ورغم أنها أغلقت باب الغرفه خلفها، إلا أن ما دار لم يُغلَق في داخلها... كان يُدوّي في صدرها كما لو أن جدران البيت نفسها تُعيد ترديده.

لم تمضِ دقائق، حتى دوّى طرق الباب.
فتحت ، فوجدته... رائد.

فتحت ببطء.
وقف هناك، في ثيابه الداكنة، بوجهٍ متجمّد، لكن عيناه... لم تكذّبا القلق.

قال مباشرة، دون مقدّمات:

ــ زُرتي صابر؟!

رفعت حاجبيها، وقالت بنبرة متحدّية:

ــ آه... زرته.
وزي ما توقّعت... ما كذّبش، ولا حتى حاول يبرّر.

تقدم خطوة، لكنها وضعت يدها على الباب لتمنعه:

ــ متقربش، خلّيك واقف هنا.

زفر بقوة، أزاح كفّه في الهواء، وقال بصوتٍ حاد:

ــ ليه عملتي كده؟!
عارفة إنك كنتِ ممكن تتأذي؟ الراجل ده مش سهل يا نيرفانا!

ضحكت بسخرية، وعيونها تلمع بالغضب:

ــ بس يبان إن سهل أوي إنه يخلّص على الناس اللي بتحبني!
خلص على أوس، وراضيته بإسكاته. خلص على أمي، وسكتّ أنت.

قال بصوت منخفض، كأن الكلمة تؤلمه:

ــ سكوتي كان حماية.

صرخت فجأة:

ــ لأ... سكوتك كان خيانة!
أنا طول عمري واقفة جنبك، حتى وإنت بتوجّعني.
وإنت... كنت شايفني نقطة ضعف، مش بنتك.

تغيّرت ملامحه، تقطّب جبينه، واقترب ببطء، ونبرته هدأت لكنها ازدادت ثِقلاً:

ــ أنا مش شايفك نقطة ضعف... أنا خايف عليكِ أكتر ما تتخيّلي.
الناس دي بتاكل اللي بيخرج من دوايرهم.
أنا... أنا كنت بدافع بطريقتي.

نظرت إليه، صوتها ارتجف:

ــ بس طريقتك حرقتني...
خليتني أعيش في كذبة.
كنت بتسيبهم يتحكّموا فيا، وأنا فاكرة نفسي حرة.

ثم تمتمت وهي تنظر إليه بعينين غارقتين في الحزن:

ــ كنت أحتاجك تبقى سند... مش حاكم.

ساد الصمت لحظة، قبل أن يمدّ رائد يده، يضعها على حافة الباب، وقال بصوتٍ مكسور:

ــ نيرفانا...
أنا مستعد أصلّح اللي باقي.

أجابت وهي تغلق الباب برفق، لكن بثبات:

ــ اللي باقي... لازم يتصلّح من برّه الباب، مش جواه.

ثم أغلقت الباب في وجهه، لكنها ظلت خلفه... تضع ظهرها على الخشب، تهمس دون صوت:
ليه لما بتحاول تحميني... بتكسرني أكتر؟

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

بين جدران جديدة، وقلوب لم تُرمم بعد... 

خرجت "ليلى" من غرفة الملابس بخطوات هادئة، وكأنها تسير وسط حقل من الألغام... كلّ حركة محسوبة، كل نفسٍ مخنوق. كان الساتان الأزرق يحتضن جسدها كما لم يفعل حضن من قبل، ناعمٌ وخفيف، لكنه أثقل من الرصاص على قلبها.

رفع "رائد" عينيه، فشاهدها... ولم يتكلّم.

وقف، اقترب خطوة، ثم توقف... نظر إليها كما لو أنه يراها للمرة الأولى، ليس بجسدها، بل بترددها، بصمتها، بذلك الخوف الذي يتخفى تحت ملامح امرأة تحاول أن تكون قوية.

قال بهدوء يشبه الرجاء:

ــ مش لازم يحصل حاجة الليلة دي... أنا بس كنت محتاج نحس إننا بدأنا، حتى لو البداية صامتة.

لم تجبه، لكنها لم تبتعد.

أكمل بصوتٍ منخفض، دون أن يلمسها:

ــ كل ليلة كنت بنام بعيد عنك، كنت بحس إن في حرب بينا، ومحدش فينا ناوي يسلّم.
بس النهارده... أنا جاى أرفع الراية، مش عشان انهزمت، عشان تعبت.

رفّت جفنها، وكأن قلبها تعثّر بكلماته.

ــ وإنتي؟
جاهزة تقفلي الحرب؟ ولا لسه شايلة السلاح تحت الوسادة؟

أجابت همسًا، بصوتٍ يكاد لا يُسمع:

ــ أنا مش حابة الحرب... بس خايفة من السلام.

اقترب خطوة أخرى، رفع يده نحو خدها، لكنه لم يلمسه... اكتفى بالإيماءة:

ــ طب نعمل هدنة.
ننام جنب بعض... مش كزوج وزوجة، كناس بتحاول تكون طبيعية... بعد كتير مش طبيعي.

أومأت برأسها، دون أن ترفع عينيها.
مشيا معًا نحو السرير، هو على يمينه، وهي على يساره.
الوسادة بينهما بدت وكأنها حدّ فاصل بين عالمين... لكنه لم يكن حاجزًا، بل وعدًا بأن الغد... قد يحمل بداية مختلفة.

أطفأ المصباح.
غمر الظلام الغرفة، لكن صدريهما ظل ينبض بذلك الضوء الخفي... ضوء الأمل في هدنة لا تمزقها الكبرياء.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

كابوس ليلى]

تجمّدت "ليلى" في مكانها، تتلفت حولها بخوفٍ بدائي، ثم شهقت شهقة مختنقة، كادت تسقط أرضًا لولا يد "رائد" التي امتدت تلقائيًّا وأمسكت بها من مرفقها.

كان الباب الخشبي مواربًا، ومن خلفه طلع وجه "عم صابر" بملامح أكثر قسوة من المعتاد، كأن الظل نفسه ينفر منه. اقترب بخطواتٍ بطيئة، ملامحه مشوّهة بحدة الغضب وشيء من السخرية.

- "واضح إن الزمن اتشقلب..." قالها بصوتٍ أجوف، كأن صدى بعيد، "وبقينا بندخل بيوت ما تخصناش، ونرفع صوتنا على أصحابها كمان!"

رائد لم يتحرك. نظرته كانت جامدة، صوته خرج من فمه وكأنه لا ينتمي إليه:

- "البيت ده مش بتاعك... البيت ده أنا اشتريته... وإنت عارف كويس..."

ضحك صابر، ضحكة بلا روح، كأنها تنفجر داخل جمجمة ليلى لا في الواقع، ثم قال:

- "بس البنت... البنت اللي معاك... بنت مين يا رائد؟!"

تحاول ليلى أن تتكلم، لكنها تجد صوتها محبوسًا، لا يخرج. شفتيها تتحرك، لكن لا صوت، لا كلمات... ثم فجأة، تسمع نفسها تصرخ:

- "أنا جاية بمزاجي... محدش غصبني!"

لكن صوتها خرج وكأنه ليس منها. كأنه صدى من مكان بعيد جدًا... صوتها مخنوق... مُشوَّه.

- "ده الجيل الجديد؟!" يقول صابر، ثم يتحول وجهه ببطء إلى وجه آخر... وجه "أمها"، ثم إلى وجه "مهاب"، ثم إلى وجه "ليلى" نفسها... نفس ملامحها، نفس العيون، لكنها مشوّهة، خالية من الحياة.

ثم يهمس الجميع في نفس واحد:

- "انتي اللي هتجيبي نهايتنا..."

البيت من حولها بدأ ينهار... الجدران تتشقّق، الأرض تتهاوى... و"رائد" يختفي فجأة، لا يبقى سوى صابر - الذي اقترب منها، وضع يده على كتفها، وهمس:

- "نهايتك... قربِت."

استيقظت ليلى بفزع، شهقت وهي ترفع رأسها فجأة من الوسادة. قطرات من العرق كانت تبلّل جبهتها، وقلبها يدق بعنف كأن أحدًا كان يركض داخله.

نظرت حولها... غرفة الضيافة... هدوء غريب... لا صابر، لا رائد، لا صراخ... فقط الشمس تتسلل بخجل من بين الستائر.

وضعت يدها على صدرها، ثم همست:

- "كان... حلم؟!"

نهضت ببطء، سارت نحو المرآة، رأت وجهها الشاحب، عيناها منتفختان من البكاء، فتمتمت:

- "بس... ليه حاساه حقيقي كده؟! كل حاجة كانت واضحة... كل كلمة كنت سامعاها..."
*******★**
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
[ليلة الصراخ - بعد منتصف الليل]

صرخةٌ مفزعة شقّت سكون الليل، صوت أنثوي مذعور، مبحوح من شدة الفزع، ارتد صداه بين جدران البيت كأنه ضربة رعد فوق أرض مشبعة بالخوف.

اندفعت "يقين" و"نيرفانا" بسرعة من ممر الطابق العلوي، ووجوههما مرعوبة، حتى توقفتا عند باب غرفة الضيافة حيث كانت "ليلى" قد جلست على السرير، تتنفس بصعوبة، شعرها مبلل بالعرق، وعيناها جاحظتان كأنها خرجت للتو من قاع جحيم.

- نيرفانا (بفزع):
"يا نهار أبيض! مس ليلى؟! إنتي كويسة؟!"

تراجعت "ليلى" للخلف، وضغطت بيديها على وجهها المرتجف، وهمست:

- "كان... كان واقف هنا... في نص الأوضة... بيزعقلي... قالّي إني هجيب نهايتك!"

تبادلت "نيرفانا" و"يقين" نظرة قلقة، ثم تحركت "يقين" فورًا ودخلت الغرفة، جلست بجانب "ليلى" واحتضنت كتفيها برفق.

- يقين (بهدوء حذر):
"هشش، هدي يا حبيبتي... ده كان كابوس... مجرد كابوس يا ليلى."

- ليلى (برعب):
"كان حقيقي... كنت حاسة بإيده على كتفي... وصوته... نفس صوته!"

- نيرفانا (وهي تجلس على طرف السرير):
"إنتي حلمتي بعم صابر، مش كده؟"

أومأت ليلى بصمت، ثم قالت بصوت يكاد يُسمع:

- "بس كل حاجة كانت زي الحقيقة... كأني رجعت هناك... في اليوم ده... وهو بيقوللي إن نهايتي قربت."

ظلت "يقين" صامتة لوهلة، ثم قالت بصوتٍ ثابت لكن مموّه:

- "أحيانًا دماغنا بتلعب بين الحقيقة والوجع... بس ده مكان آمن، وإنتي وسط ناس بتحبك."

نهضت نيرفانا، وأحضرت كوب ماء، ثم ناولت ليلى إياه.

- نيرفانا:
"اشربي، وحاولي ترجعي تنامي شوية... بابا هيرجع الصبح بدري، وهيبقى هنا معاكي."

لكن "نيرفانا" لم تستطع إخفاء القلق اللي اتسرب لعينيها، وهي تراقب عمتها "يقين" التي بدت شاردة، كأن عقلها في مكانٍ آخر.

حين خرجت نيرفانا من الغرفة بعد قليل، اقتربت منها "يقين" وهمست لها بنبرةٍ توحي بالكتمان:

- "ما تقوليش لليلى على حاجة دلوقتي... الكابوس ده ممكن يكون مجرد خوف من اللي فات... أو نذير بحاجات جاية."

- نيرفانا (بقلق متزايد):
"عمتو ... إنتي بتخوفيني."

- يقين:
"أنا خايفة فعلًا... بس لسه في وقت نلحق نفسنا."

ثم استدارت بخطواتٍ حذرة نحو غرفتها، تُغلق الباب خلفها بصمت، تاركة نيرفانا تقف وحدها في الرواق، تحدّق في العتمة، بينما لا تزال صدى الصرخة يتردد في أذنيها.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

رائد الذهبي - [الصباح التالي للكابوس]

ما تزال الأسرار تتمدد على الأرائك، تندسّ خلف الستائر، وتتنفس معهم الهواء نفسه، لكن لا أحد يجرؤ أن يشير إليها.

لم تكن ليلةً عادية...
كانت كابوسًا له ملمس الحقيقة.
ظلالٌ سوداء تشقّقت منها أعين متربصة، وأصواتٌ هاربة من أعماق الماضي، كلها انصهرت في رأس "ليلى"، وذابت على وسادتها.

استيقظ "رائد" باكرًا.
كأن النوم كان طيفًا عابرًا، نَفَسًا قصيرًا قطعه صوت صرخةٍ منتصف الليل، ثم لم يعد بعدها أمان.

نهض من سريره بهدوء، ألقى نظرة على "ليلى" التي كانت ممددة تحت الغطاء، ظهرها نحوه، أنفاسها متقطعة، وإن حاولت أن تبدو غافية.

لم يُقاطع صمتها.
لم يُنادِها.
تراجع خطوة، كأنه خاف أن يوقظ وجعًا لم يهدأ بعد.

غادر الغرفة ببطء، ووقف في الصالة، حيث تتسلل خيوط الشمس من النافذة كأنها تُفتش المكان بحثًا عن الحقيقة.

جلس على الأريكة، وكفّاه تطوق فنجان القهوة الذي برد قبل أن يبدأ، تمامًا كالعلاقة التي لم تُمنَح فرصة التوهج.

رنّ الهاتف.

"مهاب".

زفر ببطء...
ثم أجاب بصوتٍ خافت:

- "أيوه، يا مهاب."

جاءه الصوت على الطرف الآخر، مترددًا ومحسوب النبرة:

- "صباح الخير يا رائد... أنا آسف على الإزعاج، بس... كنت عايز أطمن على ليلى."

صمت رائد لحظة.
جفّت في فمه الكلمات، ثم قال باقتضاب:

- "هي بخير... مرت بكابوس امبارح، بس نامت بعد ما هديت شوية."

- "كابوس؟!"
ارتبك مهاب، فابتلع توتره وسأل:
- "يعني... هي مش حكتلي أي حاجة قبل الجواز، وكنت حاسس إن في حاجة مضايقاها... بس قلت أسيب لها مساحتها."

- "وهتفضل محتاجة المساحة، يا مهاب."
قالها "رائد" دون هجوم، ودون نبرة دفاع... مجرد حقيقة نُطقت بصوت خافت.

- "تمام... بلغها بس إن أنا تحت أمرها في أي وقت."

- "هقولها."

أنهى المكالمة، دون مجاملة، دون شعارات.

عاد إلى فنجانه البارد، وارتشف منه بصمت.

ثم مال برأسه إلى الخلف، وحدّق في السقف.

لم يُرد أن يوقظ "ليلى"، ولم يدرِ إن كانت بحاجة لمن يوقظها، أو تبقى وحدها تتصالح مع ما رآه قلبها أكثر مما رآته عيناها.

سمع صوت حركة خفيفة من الغرفة.
لم يلتفت.

ترك لها المساحة، كما ترك لنفسه سؤالًا لم يفارقه منذ الليلة الماضية:

"هو أنا كنت جنبها فعلًا... ولا كنت واحد من أشباح الحلم؟"

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

[كابوس جديد - ليلى]

"مبروك يا عروسة!"

كان صوته كإبرة ملوثة تنغرس في أذنها، مملوءًا بامتلاك لا رحمة فيه.
اقترب منها، طبع قبلة قسرية على خدها المرتجف، فانتفضت كأنها استيقظت من كابوس... داخل كابوس.

ضحك ضحكة فارغة، ثم تمتم بتهكم:

- راجعلك تاني... خمس دقايق بس.

أصابعه حفرت في فكها، كأنها لا شيء.

مضى إلى الحمام.

"ليلى" جلست، تلتقط أنفاسها. يداها ترتجفان.
هل ما حدث حقيقي؟ أم امتداد لهذيان البارحة؟

نظرت إلى ذراعيها، كأنها تبحث عن أثر قيد لم تَرَه... لكنه يُوجِعها.

همست:

- ده مش بجد... أنا كنت نايمة...

لكن الصوت... اللمسة... نظرة التهكم لا تزال حيّة.

دفعت باب الغرفة، مرّت بجانب الحمام.
صوت الماء يملأ الأرجاء.

تشهق.

"هو هنا؟!"

تندفع نحو باب الشقة، تشد المقبض... لكنه لا ينفتح.

ثم... خطوات تقترب.

صوت خلفها:

- كنت فاكرك أذكى من كده يا ليلى...

تستدير ببطء.

هو يقف أمامها، ليس لحمًا ودمًا... بل صورة صنعتها مخاوفها.

همست:

- لو لمستني... هصرّخ.

ابتسم:

- الناس مش هتصدقك... الناس بتحب حكاية الراجل، مش صرخة الست.

أغمضت عينيها. تنكر الواقع.

- نايمة... أنا نايمة...

لكنه يقترب.

تنهار أرضًا.

ثم...

تفتح عينيها.

ضوء الصباح يتسلّل.
الستائر تتحرّك.
ورائد... ليس هنا.

تضع يدها على صدرها. تتنفس ببطء.

كابوس جديد.

لكنها تعرف:
هذا الحلم قال الحقيقة... بطريقته.

- لازم أخرج... قبل ما الكابوس يبقى واقع.

---
مع انبلاج الفجر، كانت "نيرفانا" جالسة في حديقة المنزل، تلفّ كتفيها بوشاح خفيف، وعيناها تحدّقان في الأفق الملبّد بغيوم خفيفة، كأنها تبحث عن يقين ضائع بين سكون الطبيعة وضجيج قلبها. لم تكن تنام، بل كانت تراقب الضوء يتسلل إلى عتمة روحها، حاملةً بين أنفاسها آثار ما حدث.
قطع الصمت وقع خطوات مترددة... التفتت فإذا بـ"رائد" يقف خلفها، يحمل كوباً من الشاي، وملامحه غارقة في قلق دفين.
قال بهدوء:
- بردانة؟
أومأت دون كلام، فتقدّم وجلس بجوارها، يمدّ الكوب إليها... ولمّا لم تأخذه، قال:
- أنا جنبك، مهما حصل.

قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
[صباحٌ بطعم المرارة - ليلى ورائد]

أعدّت "ليلى" فنجان القهوة ببطء، كما لو أنها تصنع طقوسًا لتحمي نفسها من التصدّع.
خطواتها على البلاط كانت خفيفة، لكنها ثابتة، كأنها تختبر من جديد وجودها في هذا البيت، في هذا الزواج، في هذه الحياة.

كانت قد غيّرت ملابسها، جمعت شعرها في عقدة مرتخية، لكنها لم تغير في ملامحها شيئًا؛ التعبُ لا يُخفيه المكياج، ولا يجمّله الهدوء الزائف.

جلست إلى الطاولة الصغيرة.

دقائق، ودخل رائد، بشعرٍ منكوش وملامح لم تغادرها الصمت.
نظر نحوها، ثم إلى الكرسي المقابل. جلس.

قالت بهدوء دون أن ترفَع رأسها:

- عملت قهوة زيادة... لو عايز.

ردّ بعد لحظة:

- شكرًا.

تناول الفنجان، ارتشف منه، وابتلع الصمت معه.

مرت لحظة طويلة... أطول مما تسمح به الأعصاب.

نظرت إليه أخيرًا، نظرة قصيرة، مترددة، لكنها مباشرة.

قالت بنبرة حاولت أن تجعلها طبيعية:

- نمت كويس؟

لم يجب فورًا. ثم قال:

- مش قوي.
وانتي؟

هزّت كتفيها.

- مش فاكرة.

ثم صمتت، وهي تشعر بالمرارة تلسع حلقها، ليست من القهوة... بل من ذكرى الحلم.

هو ينظر إليها، كأن في عينيه سؤالًا لا يُقال.
كأنّه يشعر أنها ليست بخير، لكن شيئًا بداخله يُقيده عن السؤال.

قال أخيرًا:

- لو محتاجة تخرجي شوية... ممكن تخرج مع يقين.

رفعت حاجبيها قليلاً، بتفاجؤ غير معلن.

- يقين؟
هوّ إحنا لسه بنعمل زيارات اجتماعية وإحنا مش عارفين إحنا مين أصلاً؟

تنفّس ببطء، وضع الفنجان، وقال:

- يمكن لو خرجتي، الكتمة اللي بيننا تقلّ.
مش لازم تقوليلي حاجة، أنا بس... حاسس إنك مش مرتاحة.

قالتها دون أن تنظر إليه:

- حاسس؟
ولا شُفت ده في حلم؟

لم يجب. لكن عينيه ضاقتا للحظة، كأنه فهم.

نهضت، تناولت مفاتيحها من على الرف.

- أنا هخرج فعلاً... بس مش علشان الكتمة، ولا علشان يقين.
أنا محتاجة أفتكر نفسي... قبل ما تضيع مني خالص.

ثم مضت نحو الباب.

توقّف هو لحظة، قبل أن يقول:

- ليلى...

توقفت، دون أن تلتفت.

قال:

- لو في حاجة... قوليلي.

أجابت بصوتٍ خافت، لكنه حاد:

- لو في حاجة، مش لازم أقولها... المفروض تحسّها.

وخرجت.

وترَكته مع القهوة التي فقدت حرارتها، ومع أسئلة لا يعرف إن كانت لها إجابات... أو إن كانت تستحقها.

---
في الصباح التالي، تسلّل خيط الضوء من بين فتحات الشباك، ليعلن عن قدوم يومٍ جديد، لكنه لم يحمل معه الطمأنينة هذه المرة، بل ثقلاً في الأرواح، وهمّاً لا يُحدّ. كانت سميحة قد قضت ليلتها ساهرةً، جالسة عند طرف فراشها، كأن النوم نفاها من مملكته. لم تذق طعماً للراحة، فقد ظلت تفكر في أوس... في ضياعه... وفي المجهول الذي بات يتربص به.

نزلت الدرج بصمت، كأن كل خطوة منها تجرّ خلفها ذيول الخيبة، وفي عينيها بريقٌ خافت، ليس بريق أمل، بل بقايا دموع لم تجد متنفساً بعد.

جلست إلى جوار الطاولة الخشبية الصغيرة في المطبخ، تضع رأسها بين يديها، وكأنها تحاول أن تُسكت الضجيج داخلاً. دخل والد أوس، يسحب كرسياً ويجلس، دون أن يتبادل معها النظرات.

قالت بصوتٍ مخنوق:


تعليقات