رواية قلب السلطة الفصل الخامس والعشرون
في اللحظة التي انفرج فيها الباب، اندفعت نسمة باردة إلى الداخل، تحمل معها شيئًا من رهبة المجهول. حدّقت سميحة في وجه الطارق، تتأمل ملامحه التي لم تكن غريبة تمامًا، لكنها اليوم بدت مثقلة بظلّ ما جاء يحمله.
لم ينبس بكلمة أول الأمر، وكأن الكلمات علقت في حلقه، لكن عينيه كانتا كفيلتين بإشعال ألف سؤال في قلبها.
- "خير يا بني؟" سألت بصوت مرتجف، وهي تمسك حافة الباب بقبضة توشك أن تخونها.
تحرّك الرجل خطوة للأمام، رمق الأب الجالس في الداخل، ثم عاد ببصره إليها، وقال بنبرة حاسمة:
- "أنا... جاي من عند أوس."
شهقت سميحة، وانقبض قلبها:
- "أوس؟ مالُه؟!"
لم يتركها تنتظر، وكأنه يخشى أن يخذله لسانه إن تأخر:
- "أوس اتقبض عليه... من ساعة."
كأن الكلمات سقطت في المطبخ كحجر ضخم في بركة راكدة، فاهتز كل شيء. سميحة تجمدت في مكانها، يديها ترتعشان وهي تردّد:
- "اتقبض... عليه؟!"
الأب نهض ببطء، وصوته يخرج خشنًا:
- "اتقبض عليه ليه؟!"
أجاب الرجل وهو يشيح بوجهه عن عينيهما:
- "بيقولوا لاقوه في مكان... حصلت فيه جريمة. والشرطة شاكة فيه."
ارتطم ظهر سميحة بحافة الباب، وكأن قوتها انسحبت دفعة واحدة، فيما الأب تقدّم خطوة، يضغط بأسنانه:
- "والجريمة دي... إيه؟"
تردّد الرجل لحظة، ثم قال بصوتٍ منخفض، لكنه اخترق الهواء كالسيف:
- "قتل."
ساد الصمت، حتى أن أنفاسهم بدت ثقيلة، وكل ما في المكان بدا وكأنه توقف عن الحركة... سوى قلب أمّ انكسر، وأبٍ شعر أن الأرض انزلقت من تحته.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت سميحة تجلس على الكرسي الخشبي قرب الحائط، عيناها معلقتان في الفراغ، كأنها فقدت القدرة على الرؤية أو السمع. أصابعها تعبث بطرف مئزرها دون وعي، بينما الأب يذرع الغرفة جيئة وذهابًا، خطواته ثقيلة كأنها تطرق على قلبها مع كل حركة.
قال بصوت مبحوح من الغضب المكبوت:
- مش هقعد هنا... أنا رايح القسم دلوقتي.
رفعت سميحة عينيها إليه، دموعها لم تسقط بعد لكنها تحاصر جفنيها:
- وتفتكر هيقولولك إيه؟! هيقولوا متورط وخلاص... ده إحنا غلابة يا حاج.
توقف عن الحركة، التفت إليها بعينين يشتعل فيهما الغضب والخذلان معًا:
- أوس ابني، وأنا عارفه... عمري ما شفت منه حاجة وحشة.
من خلف الباب، جاء صوت الجار الذي أحضر الخبر، وكأنه لم يكتفِ بما قاله:
- يا حاج... خلي بالك، أنا سمعت إن الموضوع كبير... وناس تقيلة داخلة فيه.
اقتربت سميحة من زوجها، تمسكت بذراعه برجاء:
- بلاش تتهور... إحنا مش ناقصين مصيبة تانية.
لكن الأب انتزع ذراعه منها، صوته أصبح أكثر حدة:
- لو سكتنا... هنسيبهم يدفنوا ابني حي.
لم تحتمل سميحة، فجلست على الأرض، ووجهها بين يديها، بينما الرجل يفتح الباب بعنف ويخرج، تاركًا خلفه صمتًا يختلط بارتعاش أنفاسها... وصدى كلمة واحدة تدوي في رأسها:
"قتل".
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في المساء، كان البيت غارقًا في هدوء ثقيل، لكن عقل "ليلى" كان كخلية نحل مجنونة. جلست في غرفة المكتب الصغيرة، وأمامها درج مفتوح، تفحص أوراقًا قديمة ودفاتر صفراء الأطراف.
لم تكن تبحث عن شيء محدد، لكن ورقة مطوية بعناية في ملفٍ يحمل اسم "شجن" شدت انتباهها. فتحتها ببطء، لتجد إيصالًا مختومًا بتاريخ ليلة مقتل "شجن"... وموقّعًا باسم "صابر الذهبي".
ارتجفت أصابعها، وهي تتذكر بوضوح أن عم صابر كان في تلك الليلة "بحسب كلامه" في الفيوم.
لكن الإيصال يقول غير ذلك... كان في القاهرة، وفي نفس توقيت الحادث.
وضعت الورقة على الطاولة، وعيناها تتسعان كلما جمعت قطع الصورة:
- أوس، في السجن، فجأة و رائد ساعد في التخلص منه.
- عم صابر، الرجل الصامت، الذي يعرف عن رائد أكثر مما يقول، ودايمًا "بيظهر في الوقت الصح" ليداري على مصايب البيت.
- ورائد... الذي كان في تلك الليلة غامضًا، بحجة الاتفاق علي زواجهم .
همست لنفسها، وهي تحدق في الورقة كأنها تحمل دمًا لا حبرًا:
- معقول... هو اللي قتلها؟ وأوس بس كبش الفدا؟ وعم صابر هو اللي رتب كل حاجة علشان القصة تبان مقنعة؟
شهقت فجأة، عندما سمعت خطوات تقترب في الممر. بسرعة أغلقت الدرج، وأطفأت النور، وجلست في الظلام تتظاهر بأنها على الهاتف.
لكن قلبها كان يدق بعنف، ليس خوفًا من أن يراها أحد... بل من أنها بدأت ترى "رائد" بعيون جديدة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت الصالة مضاءة بنور أصفر خافت، والهواء يعبق برائحة القهوة التي لم تمسها "ليلى". جلست على طرف الأريكة، ظهرها مستقيم، ويديها متشابكتين كأنها تمسك أعصابها بين قبضتيها.
دخل "رائد" بخطوات واثقة، يخلع ساعته ويرميها على الطاولة بلا اكتراث.
- إيه يا عروسة، مستنّياني كده؟ شكلك ناوية تعملّي محكمة!
رفعت "ليلى" عينيها نحوه، نظرة حادة جعلته يتوقف قبل أن يجلس.
- محكمة؟... يمكن.
ابتسم بسخرية:
- خير يا ليلى، إيه الدراما دي؟
تنفست بعمق، ثم ألقت الكلمات كحجارة في وجهه:
- كنت فين ليلة ما "شجن" اتقتلت؟
تجمدت ملامحه لحظة، قبل أن يعود إلى ابتسامته الهادئة:
- مش فاهمة السؤال. إنتي عارفة كويس إني كنت في اجتماع معاكم هنا في البيت علشان نرتب لجوازنا
- اجتماع علشان ميبقاش عليك اي دليل .
اقترب منها ببطء، صوته منخفض لكن فيه حدة:
- إنتي بتلمّحي لإيه بالظبط؟
رفعت الورقة التي وجدتها في يدها، الإيصال بتوقيع "عم صابر" وتاريخ ليلة الحادث.
- ده... بيقول إن عم صابر كان في القاهرة في نفس الليلة. وإنت دايمًا بتخليه يلمّ وراك، مش كده؟
انحنى نحوها، وجهه على بُعد أنفاس منها، ونبرته تحولت لتهديد مكتوم:
- إوعي يا ليلى... إوعي تلعبي بالنار.
تراجعت خطوة، لكنها لم تُنزل عينيها عن عينيه:
- النار؟... يمكن أنا كنت عايشة فيها من أول يوم دخلت بيتك. بس دلوقتي... على الأقل بقيت شايفة اللهب.
ظل يحدق فيها، فابتسمت بمرارة وهي تضيف:
- أوس كبش فدا... وأنت المجرم اللي واقف بيتفرج.
صوت صمته كان أثقل من أي اعتراف. هو لم يقل كلمة... لكنها شعرت وكأنها سمعت الحقيقة كلها.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت الغرفه ثقيلة الصمت، إلا من صوت عقارب الساعة.
"ليلى" وقفت قرب الحائط، وورقة الإيصال في يدها كأنها سلاح.
دخل "رائد" وهو يفك أزرار قميصه، نظرة لامبالية في عينيه.
- خير؟ إيه الجو ده؟
قالت بصوت ثابت رغم الارتعاش الخفي:
- كنت فين ليلة ما شجن اتقتلت؟
توقف لحظة، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة بلا روح:
- سؤال غريب... ليه؟
- لأن كل الطرق بتوصللك. وأوس... مش هو القاتل. عم صابر اشتغل عشانك.
اقترب منها ببطء، كل خطوة منه تلتهم المسافة:
- إنتي بتتهميني بالقتل يا ليلى؟
- أنا بقول اللي شايفاه... واللي حساه.
فجأة، أمسكها من ذراعها بقوة، الورقة سقطت من يدها على الأرض.
- شوفي... أنا ممكن أضحك معاكي، أطنش كلامك... بس أول ما توصّلي للخط الأحمر، هتدفعي التمن.
- التمن؟ أنت فاكرني هسكت؟
صفعها بقسوة جعلت رأسها يرتد للحائط، ثم أمسك بوجهها بقوة حتى شعرت أن أصابعه تخترق جلدها.
- هتسكتِ... غصب عنك. وهتعرفي مكانك في البيت ده إزاي.
حاولت أن تتفلت، لكنه شدها نحوه بعنف، صوته منخفض لكنه حاد كالسكين:
- اللي بيشوف النار... بيتحرق.
انقطع صوتهما، وبقيت الغرفة تمتلئ بصوت أنفاسها المضطربة، بينما هو يفرض سطوته بلا كلمة أخرى.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
لم تكن آلام الجسد هي ما يعصف بروحها، بل ذاك الانتهاك السافر لحدودها، ذلك الجرح الخفي الذي ينهشها من الداخل، كوحشٍ يتغذّى على الخوف والمهانة. حاولت أن تتفلّت كما الماء من بين الأصابع، لكن قبضته كانت أثقل من جدران السجن.
قالها "رائد" وهو يلهث، يلتقط أنفاسه المشتعلة:
ـ "لأ... مش معقول!"
ابتسم ابتسامة معوجّة، عيناها لم تريا فيها إلا الازدراء، وقال بلهجةٍ ملوثة بالسخرية:
ـ "بتهربي؟ ليه بس؟! طب ده ينفع بذمتك؟! أهل البيت يقولوا علينا إيه؟"
ارتجف صوت "ليلى"، وقد تكسّر تحت ثقل القهر:
ـ "أنا... أنا عايزة ماما!"
قهقه، وانحنى عليها كمن يطعن الكرامة قبل الجسد:
ـ "إيه! عايزة ماما دلوقتي؟! فين وقتك ده؟"
وحين حاولت إبعاده، ثبّت كتفيها بعنف، وقال بصوتٍ يخالطه الضحك:
ـ "هدي أعصابك... هاجبلك ماما، حاضر... بس الأول، بطّلي عصبيتك."
زمجرت، وهمهمت كأنها تكتم عواء روحها الجريحة، فازداد استفزازه، وألقى كلمات تقطر تهديدًا:
ـ "كده تبدأيها معايا بالغدر يا ليلى؟"
رفعت رأسها، رمقته بنظرة مقت دامية:
ـ "إنت لسه شوفت غدر؟! أنا هفضحك في كل حتة... ورحِمة أبويا، ما هارتاح غير لما أشوفك معدوم... يا قاتل!"انت اللي قتلت شحن ظليقتك و لفقت التهمة لأوس.
ضحك ببرود، ثم انحنى يهمس:
ـ "لو معاكِ دليل... أنا بنفسي هاروح معاكي وأعترف. لكن لو الكلام خرج من غير دليل... حسابي مش هيبقى معاكي، هيبقى مع أهلك... كلكم."
تجمّدت أطرافها، وشعرت ببرودة تتسلّل إلى عظامها، كأنها ترى حبلًا يلتف حول عنقها وعنق من تحب.
اقترب أكثر، همس بصوت منخفض لكن نبرته كانت كالصفعة:
ـ "إنتي لو روّحتي آخر الدنيا... برده هاجيبك."
لم تجد ما تقول، أطبقت شفتيها، وحاولت إخفاء ارتجاف يديها، وهو يتراجع ببطء، يتركها وسط فراغ أثقل من قبضته، ويغادر الغرفة دون أن يلتفت.
وبقيت هي، وحدها، تتنفس بصعوبة، تحدّق في الجدار، كأن لون الطلاء تغيّر، وكأن هذا المكان لم يعد بيتًا... بل قفصًا لا ترى له بابًا.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
مواجهة ليلى ورائد
كانت الكلمات الأخيرة منه مثل رصاصات فارغة، تصدر ضجيجًا ولا تخترق شيئًا.
خرجت من الغرفة بخطوات متسارعة، وارتجاف لم يعد يخفيه أي كبرياء.
وفي الممر، وقفت للحظة، تسند ظهرها إلى الحائط، تتنفس بعنف، وعيناها تشتعلان بدموع الغضب.
همست لنفسها، وكأنها توقّع على عهد داخلي:
ـ مش هسامحه... أبدًا.
ثم مضت، تاركة وراءها بابًا نصف مفتوح، وصوت ضحكته يتردد في الفراغ كجرس جنازة.
---
بعد ساعات
مرّت ساعات ثقيلة، لم تتغير فيها الشمس ولا تغير الهواء، لكن شيئًا في ليلى انطفأ.
لم تعد تلك التي خرجت منذ قليل تتوعد وتقاوم، بل عادت وكأنها شخص آخر؛ ملامحها صارت أهدأ... لكن الهدوء كان مثل سطح ماء يخفي تحته قاعًا عميقًا من العتمة.
انكمشت تحت ذراعيه كما تنكمش زهرة وُئدت قبل أن تتفتح...
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في الممر الضيق، خرجت "ليلى" بخطوات متثاقلة، كأن كل خطوة تجر خلفها ظلًّا أثقل من جسدها.
كانت عيناها نصف مغمضتين، لا تفرّقان بين الجدار والباب، ولا بين الضوء والظل. الأصوات حولها امتزجت في ضوضاء باهتة؛ خشخشة الستائر، صرير الأرضية، وكأن البيت نفسه يتنفس ببطء ثقيل.
حين بلغت منتصف الممر، توقفت. لم تعرف إن كانت تبحث عن غرفتها، أو مخرج، أو مجرد مكان تختبئ فيه من عينيه.
استندت إلى الحائط، وانزلقت حتى جلست على الأرض، وضمّت ركبتيها إلى صدرها.
انفجرت دموعها في صمت، دموع ثقيلة، بلا شهقة ولا صراخ، لكنها تحمل في كل قطرة منها اعترافًا بالفقد.
بقيت هكذا حتى بردت أصابعها، ثم مسحت وجهها بكفيها المرتجفتين.
رفعت رأسها ببطء، وفي عينيها بريق خافت، كجمر تحت الرماد.
همست، بصوتٍ متكسّر لكنه يقطع السكون كخيط من نار:
ـ أنا لسه هنا... ولسه عايشة.
مش عشان أسامحك... عشان أدفنك بإيدي.
ثم نهضت، بخطوات بطيئة، لكن كل خطوة كانت تُعيد لها جزءًا من ثقلها الذي سُلب.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
بعد أن أغلقت "ليلى" الباب خلفها، ظل "رائد" جالسًا على حافة السرير، يحدق في الفراغ.
لم يكن الصوت الذي يملأ أذنيه هو وقع خطواتها وهي تبتعد، بل الصدى الثقيل لصمتها الأخير، صمتٌ كان أشد إيلامًا من أي كلمة.
مرت لحظات لم يعرف إن كانت دقائق أو ساعات، ثم وجد نفسه واقفًا، يسير في أروقة البيت بلا وعي.
الأبواب متشابهة، الجدران جامدة، وكل خطوة كأنها تُعيده إلى النقطة نفسها.
حتى توقف عند باب قديم في آخر الممر، لم يذكر أنه رآه من قبل.
فتحه، فإذا به أمام فسحة واسعة من العتمة... لم تكن غرفة، بل فراغٌ غامض، كأن الأرض ابتلعت ما كان هنا، تاركةً هواءً ساكنًا ورائحة تراب قديم.
خطا داخله، وكلما تقدم شعر أن الصمت يلتهم أنفاسه.
وقف أخيرًا، وكأنما وصل إلى قلب الفراغ، حيث لا جدار ولا سقف، فقط إحساس بالوقوف على حافة هاوية لا تُرى.
همس لنفسه، صوته بالكاد يخرج:
ـ "هو دا؟ دا اللي كنت بدوّر عليه؟ سكون؟ فراغ؟ ولا حتى ريحة بشر؟"
ارتد صدى كلماته، باهتًا، ليعيد عليه خيبته:
ـ "ولا حتى ريحة بشر..."
أغلق عينيه، فأحس بجسده ينتفض، وكأن شيئًا يتسرّب منه... لا دم، ولا عرق، بل جزء من روحه.
كان الفراغ هذا بئرًا لا يروي، بل يمتص ما تبقى من إرادة.
لكن وسط الصمت، سمع همسًا خافتًا، لا يدري أهو من داخله أم من بعيد:
ـ "ارجع... ما تسيبش نفسك للمكان دا. دا مش خلاصك."
فتح عينيه، التفت، لا أحد.
شعر أن الصوت كان صدى لجزء منه لم يمت بعد.
ابتعد خطوة، فارتجّت الأرض تحت قدميه، وكأن العتمة ترفض أن تطلق سراحه.
فصاح متحديًا:
ـ "أنا مش هقع! حتى لو الطريق قدامي ظلمة، أنا هكمّل!"
وعندها، تسرّب خيط ضوء ضعيف من شق في الجدار البعيد... لا يكاد يُرى، لكنه كان كافيًا ليذكّره أن الخروج ممكن.
اقترب منه، وفي عينيه بريق عناد جديد، وهو يتمتم:
ـ "يمكن النور مش جاي من برّه... يمكن طالع من جوّه."
وخطا، لا بضعف المنهزم، بل بقوة من قرر أن يصنع طريقه وسط العتمة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كان الجو ثقيلًا، والهواء متيبسًا، كأن الجدران تحبس أنفاسه. الضوء المتسلل من النوافذ المغلقة لم يكن سوى شرائط باهتة تتكسّر على الأرض، وتختلط بالظلال التي بدت وكأنها تتمدد ببطء نحو كل زاوية.
كانت "ليلى" تحاول أن تنسل من بين ذراعيه، حركتها حذرة، كمن يهرب من فخ. لكن يقظة "رائد" جاءت فجأة، كوثبة حيوان يفترس في الحلم قبل أن يفيق.
ـ "إيه ده؟ إنتي صحيتي يا حبيبتي؟" صوته كان غائمًا، نصفه من النوم ونصفه الآخر من شيء أعمق... شيء بارد.
حاول أن يفتح عينيه المتورمتين، بينما جسده يثقل عليها كظل لا يريد أن ينزاح.
تنفست "ليلى" بعمق، لكن صوتها كان جافًا:
ـ "إوعي إيديك... عايزة أقوم."
شيء في نبرتها أيقظه تمامًا، فجلس، ينظر إليها وكأنه يقيس المسافة بينهما:
ـ "هتروحي فين بس؟ الساعة كام؟"
تمطى، وكاد يعود لغفوته، لكن عينيه ظلّتا تراقبانها.
استدارت نحوه بحدة:
ـ "بقولك إوعي بقى... إيه القرف ده؟"
ارتسمت على وجهه ابتسامة مائلة، خالية من الدفء:
ـ "قرف؟ هو ده حضن جوزك بقى قرف؟ مش حتى صباح الخير؟"
ثم جذبها، وقبّل خدها قبلة كأنها وسم.
لمعت عيناها بحدّة، وهي ترد:
ـ "إنت مش إنسان. ولا راجل. مافيش راجل يقبل واحدة تكون مغصوبة عليه."
ضحك "رائد" ضحكة قصيرة، لكنها كانت كافية لكسر ما تبقى من المسافة بين الإهانة والاستخفاف.
ـ "بعد اللي حصل إمبارح، ولسه بتشكي؟ تحبي نصطبح عشان تتأكدي؟"
انفجرت "ليلى" بغضب مكتوم تحول إلى جملة كالسكين:
ـ "إنت حيوان. واغتصبتني. واللي عملته ده جريمة تستحق الإعدام. أول ما أخرج من هنا هبلّغ عنك."
ضحك مرة أخرى، لكن ضحكته هذه المرة كانت كصدى أجوف، ينعكس من جدران الغرفة المغلقة:
ـ "هتروحي تقوليلهم جوزي اغتصبني؟"
ضحك حتى دمعت عيناه، لكن الدموع لم تكن دفئًا، بل شيئًا أشبه بالملح على جرح.
صرخت "ليلى":
ـ "إنت مش جوزي!"
اقترب منه ظل ابتسامة باردة، وهو يتمتم:
ـ "خلاص، كفاية كده. يلا قومي خدي شاور، وأنا هاطلب الفطار."
قبّلها قبلة سريعة، ثم قام بخفة، كأن الأمر لم يكن أكثر من بداية نهار جديد.
تحركت هي مبتعدة بسرعة، تشد ردائها حولها كدرع، قبل أن تختفي في الحمام ويغلق الباب خلفها بإحكام.
وقف "رائد" للحظة، ينظر للنافذة المغلقة، قبل أن يرفع سماعة الهاتف، صوته هادئ لكنه حاد:
ـ "صباح النور يا دادة. طلعي الفطار ليّ أنا ومدام ليلى... وقهوتي دلوقتي. وبعتوا حد يوضب الأوضة."
حين أنهى المكالمة، كان الصمت قد عاد يملأ الغرفة، ومعه ظل شعاع باهت يتسرب من تحت باب الحمام، كما لو أن النور نفسه يحاول الهروب.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كان الجو ثقيلًا في الغرفة، حتى الهواء بدا وكأنه يتحرك ببطء، مثقلاً بما لا يُقال. لم يكن هناك سوى الضوء الباهت المتسلل من فتحة صغيرة في الستارة، يرسم خطًا شاحبًا على أرضية باردة.
كانت "ليلى" تجلس على طرف الفراش، عباءتها مرمية بجانبها، رأسها منحني، تحاول أن تستجمع بقايا نفسها. لكن وقع خطوات "رائد" عند الباب جعل قلبها يقفز في صدرها، قبل أن يطل برأسه، ساكن الملامح، بارد العينين.
ـ "إيه؟ هو أنا لسه بدق؟ الباب كان مفتوح."
دخل دون استئذان، يغلق الباب خلفه ببطء وكأنه يضع حاجزًا جديدًا بينها وبين العالم.
ـ "أمك تحت... والدادة بتقول لو تحبي أطلّعها."
رفعت رأسها ببطء، عينيها ضيقتين كمن يحاول أن يفهم فخًا جديدًا، وصوتها خرج حادًا رغم ارتعاشة شفتيها:
ـ "مش هتطلع... أنا هنزللها."
ابتسم ابتسامة جانبية، لكنها لم تصل إلى عينيه:
ـ "براحتك... بس ياريت تفطري الأول. الفطار جوا... كنت جعان، فبدأت من غيرك."
اقترب منها خطوة، كأن المسافة لا تعني شيئًا، ثم أضاف بصوت منخفض:
ـ "خدي شاور وانزلي... وأنا هسلّم على حماتي العزيزة."
استدار، وفتح الباب ليخرج، لكن قبل أن يخطو، ألقت عليه كلماتها كطعنة:
ـ "إنت فاكر إنك كده بتكسرني؟"
لم يلتفت، واكتفى بضحكة قصيرة، ثم خرج وأغلق الباب وراءه.
ظلت واقفة للحظة، تلتقط أنفاسها، قبل أن تنهار جالسة على الفراش، تشد الرداء حولها وكأنه خط الدفاع الأخير. شعرت أن الجدران تضيق، وأن الضوء الباهت عند حافة الستارة هو الشيء الوحيد الذي يذكرها بأن هناك عالمًا خارج هذه الغرفة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كان الصباح دافئًا، والنور يتسلل من بين الستائر في خطوط هادئة تلامس الأرض. جلست "نيرفانا" على طرف السرير، شعرها ينسدل على كتفيها كستارٍ يحجب نصف ملامحها، وفي يدها الهاتف تداعب شاشته بأصابعها، كأنها تحاول استدعاء اسم واحد فقط ليضيء أمامها.
وأخيرًا... اهتز الهاتف.
ابتسمت ابتسامة صغيرة، ورفعت الجهاز إلى أذنها:
- "أوسو... حبيبي."
لكن صوته جاء هذه المرة مختلفًا... خافتًا، مترددًا، كأنه يمشي على حافة جملة لا يريد أن يسقط منها:
- "صباح الخير يا نيرفانا."
ضحكت بخفة، تحاول أن تذيب هذا الثقل بينهما:
- "وحشتني أوي... إنت فين؟"
صمت لثوانٍ، حتى كادت تسمع أنفاسه تتكسر، ثم قال:
- "كنت... كنت هاجي أشوفك."
ارتفعت نبرتها بحماس طفولي:
- "طب يلا! أنا مستنياك."
ترددت تنهيدته في أذنها، فانعقد حاجباها:
- "مالك؟"
رد بصوت منخفض:
- "ولا حاجة... هقولك لما أشوفك."
وقبل أن تستوعب، انقطع الاتصال. نظرت إلى الهاتف، وكأنها تنتظر أن يضيء مجددًا... لكن لا شيء. حاولت الاتصال، فوجدته مغلقًا.
انكمش قلبها، إحساس غامض زحف في صدرها، كأن دفء الصباح بدأ يتراجع خطوة خطوة، تاركًا خلفه ظلًا باردًا.
وقبل أن تفكر أكثر، دوّى طرق على الباب... طرق ثقيل، يضرب أعصابها كما يضرب الريح نافذة مغلقة.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
تجمدت "نيرفانا" في مكانها، عيناها معلقتان بالباب، وأنفاسها تتسارع على نحو لم تفهم له سببًا.
ارتفع الطرق مرة أخرى، أبطأ هذه المرة، لكنه أعمق... كأنه يأتي من قلب البيت نفسه.
نهضت مترددة، قدماها تلامسان الأرض بخفة، كأنها تخشى أن تسمع الأرض وقع خطواتها. مدت يدها نحو المقبض، ثم توقفت لحظة، تنصت... لا أصوات أخرى.
فتحت الباب قليلًا، فوجدت "الدادة" واقفة، ملامحها تحمل ذلك المزيج المربك بين الحذر والحرص.
قالت بصوت منخفض:
- "في حد تحت... بيقول إنه مستنيك."
ارتبك قلب "نيرفانا":
- "مين؟"
ترددت "الدادة" لحظة قبل أن تجيب:
- "أوس بيه."
اتسعت عيناها، لكن فرحتها لم تكتمل، فقد رأت في عيني "الدادة" ظلًا من قلقٍ لم تفهمه.
قالت بسرعة:
- "طب دخليه الصالون... أنا جاية حالًا."
أغلقت الباب خلفها، وألقت نظرة سريعة إلى المرآة. كان قلبها يخفق بإيقاع أسرع من أن تحتمله، وفي عقلها تتزاحم الأسئلة: لماذا صوته كان مترددًا؟ ولماذا جاء فجأة؟
وبينما ترتب شعرها وتعدل من ملابسها، لمحت من الشباك لمحة من الحديقة الخلفية... حيث كان "أوس" جالسًا على المقعد الخشبي، ينظر في الأرض، كتفيه منحنين، وكأنه يحمل فوقهما وزنًا لا تراه.
ابتلعت ريقها، وشعرت أن هذا اللقاء لن يكون مثل كل المرات...
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
بعد أن أغلق "رائد" الباب خلفه، ظل الصمت يثقل الغرفة للحظات. جلست "ليلى" بلا حراك، أناملها تشد الرداء حول جسدها، كأنها تحاول حجب رعشةٍ لا تعرف مصدرها.
نهضت ببطء، كمن ينجذب إلى شيءٍ لا يريده، وتوجهت نحو النافذة النصف مغلقة. أزاحت الستارة قليلًا، فاندفع إليها الضوء الباهت كجرحٍ جديد يلسع العين قبل القلب.
ومن هناك... رأت الحديقة الخلفية.
كان "أوس" جالسًا على المقعد الخشبي، مائلًا بجسده نحو "نيرفانا" التي اقتربت منه بخطواتٍ هادئة، كأنها تمشي فوق سرٍ لا يجب أن يُكتشف.
انعقد حاجبا "ليلى"، وارتجف جفنها، ثم قبضت على طرف الستارة بقوة حتى توردت مفاصل أصابعها.
همست، بصوتٍ بالكاد يسمع، لكنه مشحون بالدهشة والمرارة معًا:
- "إزاي ده حصل؟... أوس كان محبوس... يا إمّا رائد خرّجه... يا إمّا هو هرب وعنده الجرأة إنه يجي هنا!"
أعادت الستارة إلى مكانها بعنفٍ خافت، وأدارت ظهرها للنافذة، لكن عينيها ظلتا تتوهجان بمزيج ثقيل من الغضب والخوف... وربما الغيرة التي حاولت دفنها، وهي تتساءل في أعماقها:
- "ولو رائد هو اللي ساعده... ليه؟"
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
أعادت "ليلى" الستارة إلى مكانها بعنفٍ خافت، ثم جلست على حافة السرير، كأنها تحاول لملمة أنفاسها التي تناثرت مع ما رأت.
كانت دقات قلبها تتسارع، حتى خُيّل إليها أنها تسمعها تتردد في جدران الغرفة.
وفي الخارج، كان كل شيء يبدو هادئًا... هدوء ما قبل العاصفة.
لم تكن تدري أن على بُعد أمتار قليلة، كانت سيارة "شامل" تشق طريقها نحو نفس البيت، حاملةً غضبًا من نوعٍ آخر.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت شمس الظهيرة تتسلل بخجل من نوافذ الطابق الأرضي، تلقي بخيوطها الدافئة على الصالة الفسيحة. خطوات "ليلى" وهي تنزل السلم كانت مترددة، كأن كل درجة تحمل ثقل أفكارها. ما زالت حرارة اللحظة التي رأت فيها "أوس" في الحديقة تشتعل في رأسها، لكن قلبها كان يسرع حين لمح وجه أمها في الأسفل.
ـ ماما!
انطلقت نحو "نيفين" وارتمت في حضنها بقوة، تحتضنها وكأنها تخشى أن يختفي هذا الأمان في أي لحظة.
ـ روحي... قلبي يا أحلى عروسة، عاملة إيه يا حبيبتي؟
مسحت "نيفين" على شعرها بحنان، بينما "ليلى" تحاول أن تبتلع الغصة.
ـ كويسة يا ماما... إنتي وحشتيني.
ابتسمت "نيفين" نصف ابتسامة، لكن عينيها كانت تمسح ملامح ابنتها بحثًا عن شيء لم تُصرح به. قبل أن تكمل، ظهرت "يقين" تبتسم وتلقي مزحة، لكن "ليلى" بالكاد التفتت، كأن حضورها أربكها للحظة.
ـ ليلى، مالك؟ صوت "نيفين" خفيض لكن حاد.
ـ مفيش يا ماما... أنا بس تعبانة شوية.
كانت تحاول أن تحجب عن أمها أي ارتجاف في صوتها، لكن "نيفين" شعرت أن وراء التعب كلامًا أكبر. لم تجد وقتًا للسؤال أكثر، لأن صوت "رائد" ارتفع من مدخل الصالة:
ـ أهلاً أهلاً... البيت منوّر يا نيفين هانم!
دخل بخطوات واثقة، ابتسامة واسعة تخفي شيئًا في عينيه. صافح "نيفين" بحرارة، يبالغ في الترحيب وكأنه يضع إطارًا لصورة عائلية مثالية أمام الجميع.
ـ ما شاء الله عليكم... ربنا يسعدكم.
ـ ده من ذوقك، ردّت "نيفين"، بينما نظرة "ليلى" تحاول أن تفكك ما وراء هذا الترحيب.
جلسوا معًا، لكن الجو كان مشوبًا بتوتر خفي. دعاهم "رائد" للغداء بإلحاح، وكأن الأمر قرار لا يقبل الرفض، فيما "ليلى" تبتسم وتطلب من أمها أن تبقى، لكن ابتسامتها كانت أشبه بقناع.
في داخلها، لم تكن تفكر في الطعام، بل في الحديقة بالخارج... وفي أوس.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في الداخل، كانت "ليلى" ما تزال تحاول أن تتجاهل صورة "أوس" و"نيرفانا" وهي محفورة في رأسها، بينما "رائد" يتظاهر بالمرح وهو يلح على "نيفين" لتبقى للغداء. الهواء كان أثقل مما تحتمله، والابتسامات تتقشر من على الوجوه كطلاء قديم.
وفي نفس الوقت، على بُعد أمتار، في ركنٍ هادئ من الطريق المؤدي إلى حيّ "القطامية هايتس"، كانت أنفاس "شامل" تتقطع على إيقاع صوت المحرك. يده تقبض على عجلة القيادة بقوة حتى ابيضت مفاصل أصابعه، والهاتف ملتصق بأذنه.
- خلاص يا يقين، أنا وصلت... دقيقة واحدة.
صمت لحظة، وكأن الكلمات التالية كانت عالقة في حلقه.
- هو رائد عندك؟... طيب. أنا رايحله دلوقتي.
أغلق المكالمة قبل أن ترد، وألقى الهاتف على المقعد المجاور وكأنه يتخلص من حمل ثقيل.
