![]() |
رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الخامس والعشرون بقلم فاطيما يوسف
حبيبتي عنيدةٌ؛ بل وقويّةٌ كأنّما خُلقَت من وهجِ النّارِ وعزمِ الجبالِ، ولكنني أعشقُ عنادَها كما يعشقُ البحرُ صراعَ الرياحِ على وجهِ موجهِ العاتي، فـفي تحدّيها أجدُ رجولتي تتصارع مع شراستها، وفي صمتِها تشتعلُ رغبةُ الانتصارِ في صدري فأقترب منها وأنهل من عسلها الصافي، وكلّما خاصمتني بعينيها خضتُ حربَ الهوى طائعًا منتشيًا بتمرّدِها الطاغي، فهي أنثاي الّتي لا تخضع، وأنا عاشقُها الّذي لا يملُّ من مروادتها مهما طال الزمانِ .
ـ كيفك يا "كوكي" والله ما ليكِ عليا حلفان اتوَحَشتك كَتير قوي، بقى اكده تسافري بلدكم وتقعدي فيها شهرين بحالهم وتهمليني محتاسة مع فيروز وحدي؟!
وتابعت بنبرة ماكرة وهي تمط شفتيها وتصطنع الحزن:
ـ هتصدقي الدنيا من غيرك كانت عفشة واصل، لااااا الصعيد ومصر كلاتها ضلمو من غير وجودك فيها يا زينة البنات انتِ.
ثم اقتربت منها وبادرتها بالاحضان وتابعت أمام أعين ذاك الـ"ماهر" الذي يجلس يشاهد ما يحدث باستمتاع لتلك الشقية الماهرة:
ـ كنت حاسة بوحدة من غيرك يا غالية والله ، ملقياش حد أتخانَق وياه، ولا لاقية حد كل يوم والتاني يحـ.ـرق لي دمي ويبوظ لي أعصابي، بس الحمد لله على رجعتك بالسلامة.
كانت "كاريمان" تقف مذهولة من استقبال "رحمة" لها وكلماتها التي جعلتها تشعر بالرهبة منها، فهذه ليست طبيعتها:
ـ والله حقيقي اشتقتي لا إلي يا "أم فيروز"! عن جد ما مصدقة حالي بالمرة، كنت عم قول ارتاحتي من طلعتي واني فليت من هون .
ضمت شفتيها للأمام وهي ترسل لها قبلة جعلت "ماهر" اغتاظ من حركتها تلك، فهو قد حذرها كثيرا من تلك الحركة، وأن تفعلها خارج غرفة نومهم، فنظرت إليه تلك الماكرة بعين ونصف وجدته يرفع حاجبه بغيظ وهو ينظر لها بعينين نارية، ولكنها أرسلت إليه نفس القبلة، وهي تمد شفتيها المكتنزتين بالحمرة للأمام مما جعله اغتاظ أكثر من ذي قبل وتوعد لها، ثم أعادت نظرها إلى "كوكي" ورددت:
ـ وه، عاد! دي البيت كان مضلم من غيرك، ملقياش حد أناكفه ولا أتخانَق وياه من يوم فوتك الغالية، تعالي في حضن أختك يا قلب أختك.
ثم مدت يدها وجذبتها إلى أحضانها وهي تنظر إلى "ماهر" الذي يشاهد حركاتها باندهاش وهتفت بجانب أذنها:
ـ على فكرة ريحة البرفان اللي هتحطيها داي مش حلوة خالص، مش أني ست قفلتني ابقي غيريها، عفشة، عفشة مفيش كلام .
اتسعت مقلتاي "كوكي" لتقول بدون قصد:
ـ والله ما عجبتكيش! "ماهر" أهداني إياها لما طلبت منه يعرفني أحسن نوع برفيوم هنا بمصر، وخبرني إنها من أفضل الأنواع هون بمصر، وخبرني انك هتستخدميها كمان .
كان متصنتا إلى حديثهم وهو يدعي الانشغال بعمله على الحاسوب، وحينما سمع حوراهم ورد شقيقته عليها تيقن من حدوث معركة شديدة بينه وبين "رحمة" فهيأ حاله استعدادا لتقديم دفوعاته أمامها وقلب الحوار عليها كما مرة، رفعت "رحمة" حاجبها وهي توزع نظراتها بينها وبينه:
ـ يا حنين، أصله كريم وشهم وجدع على الآخر ، ومهيفوتش حد محتاج حاجة واصل غير لما يعملها له، أو يجيبها له، بيهتم بكل القوارير الأنثوية إلا قارورة واحدة بس، اللي مرزية معاه في البيت .
كان يريد أن يضحك على حديثها ولكنه ظل مدعي اللامبالاة وكأنه لا يتابع حديثهم، لتنطق الأخرى وهي تعزيها في والدها:
ـ صحيح "رحمة"، البقاء لله في والدك، ان شاء الله ما يعزيكم حدا ابدا مرة تانية، معلش اتأخرت في تعزيتي، بس ماتآخذنيش ما كنت موجودة.
انقلب وجه "رحمة" إلى حزن حقيقي، حينما ذكرتها بفقدان والدها وهتفت بنبرة هادئة للغاية على عكس طبيعتها:
ـ الدوام لله ، ربنا يرحمك يا ابوي وينور قبرك يارب.
نظروا جميعاً خلفهم وهم ينظرون إلى ركض الصغيرة وهي تفتح ذراعيها ،وتهليلها لقدوم "كوكي" فهي قد أحبتها وتعلقت بها بشدة،
ما إن وصلت حتى ارتمت في أحضانها عمتها الحانية وهي تردد :
ـ "كوكي" حبيبتي حمد لله على السلامة اتوَحَشتك كَتير، طولتي الغيبة علي المرة دي، "روزي" زعلانة منك خالص.
احتضنتها "كوكي" برعاية وحب شديد وهي تقبلها بكل انش بوجهها ورددت بحنو:
ـ والله انتِ كمان يا بنوتة صغيرة ، اتوحشت ريحتك وضمتك، وكلامك، وصوتك، لاتزعلي مني حبيبتي كان لازم شوف الماما واطمن عليها وهلا رجعت لك يا أحلى بنت بهاد الكون كله، يالا احكي لي؛ شنو أخبارك، وحضانتك، وشنو مشان الرسم اوعي تكوني اتوقفتي وهملتي فيه.
هنا نظرت الطفلة إلى والدتها وارسلت إليها قبلة على بساط يديها وهي تخبرها:
ـ لا، اطمني يا "كوكي" مامي كانت بترسم معاي كل يوم والتاني ، علمتني أرسم حاجات كَتيرة قوي، علمتني أرسم فيل بزلومة، وأرسم وردة وعربية، وبيت كَبير كيف بيتنا دي، وكمان مامي طلعت هترسم حلو قوي.
ثم سحبتها الطفلة من يدها إلى داخل غرفة الرسم التي خصصوها لها:
ـ تعالي معايا هوريكي رسماتي الجميلة اني ومامي، وهوريكي الألوان الجَديدة اللي بابي جبهالي، واللعب كمان الجَديدة .
انطلقت معها "كوكي" فنظرت "رحمة" إلى "ماهر" نظرات غير مفهومة له، ثم تركته وصعدت إلى غرفتها مما جعله ترك الحاسوب واستراح بجلسته على الأريكة وفرد ذراعيه وهو ينظر إلى أثرها مرددا وهو يحك ذقنه :
ـ باينها ليلة مفايتاش ، استعنا على الشقى بالله.
مكث بضع دقائق ثم قام من مكانه وصعد إليها، وجدها تقف أمام المرآة تضع كريم الترطيب على وجهها، اقترب منها واحتضنها، ثم مد يده إلى المنشفة الملتفة حول رأسها ونزعها عنها ورماها أرضاً، فاقترب من أذنها وهمس:
ـ ريحتك زينة قوي يا رحمتي، تجنن هوستني.
حركت رأسها بين يديه التي تدلك رقبتها وهي تغمض عينيها محاولة ألا تتأثر وهمست :
ـ اه، علشان اكده هتحب تشمها على كل الستات يا حنين، يا ابو قلب طيب .
فهم ما ترمي إليه فأدارها إليه وما زال يدلك رقبتها برقة وهي تحاول أن لا تتأثر بحركاته، فرفع وجهها إليه وثبت عينيها لتستقر بجوف عينيه ليقول بمكر :
ـ وماله الإنسان لازمن يهادي الناس اللي هتقف جاره باللي هيحتاجوه، وهي اهنه غريبة ومتعرِفش حاجة وعلشان اكده اختارت لها حاجة حلوة على ذوقك .
استفزها بطريقته ولكنها فهمت أنها شقيقته فحاولت أن تهدأ أعصابها لتقول بما جعله نظر إليها بإعجاب شديد:
ـ وماله يا حبيبي، المؤمنون إخوة، وأنت قلبك كَبير وهتساعد المحتاجين، وخصوصي الجنس الناعم، ربنا معاك مهمة صعيبة قوي يا روحي .
جذب خصلات شعرها يلويها بين أصابعه وهو يداعبها بدهاء:
ـ الصغنن اللي كل ما يكبر يحلى، وعقلك بقى كَبير انتِ كمان يا رحمتي، ومبقتيش تغيري الحمد لله على نعمة العقل، على اكده بقى الواحد يجدد مع الجنس الناعم، وحبيبي بقى عقله متفهم وكمان ليا شرعا مثنى وثلاث ورباع، تسلمي لي على الكادووو داي عاد .
استطاع ذاك الماكر إثارة حنقها بدلا من أن تحاول غيظه إلا أنه بدل الأدوار ليُكمل هو حينما رأى النيران تخرج من عينيها:
ـ وكمان أني راجل قادر ماديا وبدنياً فليه الواحد مياخدش حقه اللي شرع ربنا عطاه له.
لم تتحمل فدفعته في صدره لتنطق بتحذير:
ـ طب يمين بالله يا "ماهر" أخلِص عليكم وأطلع في برنامج خلف الأسوار على حسكم، انت ايه البجاحة والقدرة اللي انت فيها دي؟
وتابعت وهي تذرف دموع وجعٍ حقيقي من عينيها مما جعله رق قلبه لها على الفور:
ـ انت هتستقوي علي بقى وتقول يتيمة وملهاش أب علشان أبوي مات، وعارف إني مهقدرش عليك .
احتضن وجهها بين كفاي يديه وهو يداعبها:
ـ طب ليه النكد دي يابت "سلطان" الله يرحمه، اني ههزِر وياكِ يا عيوطة.
وأكمل كي يجعلها تبتسم وهو يسحبها نت يديها ويجلسان على تختهم وما زالت يديه تحتضن كلتا يديها :
ـ بذمتك الراجل اللي يتجوَز مرة يفكِر يعملها تاني؟ دي توبقى امه داعية عليه في ليلة قدر ، فما بالك إنتِ لما يكون الراجل دي مرته "رحمة سلطان المهدي".
نظرت إليه بأعين ونصف وهتفت بحدة:
ـ ومالها "رحمة" إن شاء الله معحباش الباشا دلوك ولا مبقيتش على مزاجك؟
اقترب منها وهو يداعب وجنتها بسبابته صعوداً وهبوطاً بتلك الحركة التي تثيرها منه وتجعل جسدها يتفكك أمامه وهو يجيبها بعيناي لامعتين بعشق عنيدته:
ـ مالها ايه... دي مالها ومالها كماني يا صغنن .
زمت شفتيها وانفرج ثغرها بدهشة فاختطف قبلة بجانب شفتيها وأكمل:
ـ بلاش تزومي اكده عاد، أني اقصد إنك جميلة جمال مش عادي، شرسة لدرجة بتخليني أعافر وياكِ حتى في أسعد لحظاتنا الخاصة، مبهرة بشقاوتك لدرجة إنك تخلي الخط بقوته وصلابته بينهج من متعته وياكِ، إنتي روحي، وبنتي الأولى، وبنت قلب "ماهر البنان" ، كيف هيحس الأحاسيس داي كلاتها وياكي وانتِ هتديني الحب والعشق والأحاسيس المختلفة كلاتها اللي متقدِرش ألف ست تديهملي .
اعتلى صدرها صعوداً وهبوطاً وهي تتنفس بصعوبة من فرط إحساسها، فهو رجلها الاول الذي يستطيع إدخالها عالم حالم جميل بأحاسيس تجعل جسدها كأنثى ينهار بين يديه بل ويطلب بالمزيد والمزيد، فتاها القوي، جياش العواطف والمشاعر، يعطيها وهي بين يديه من الحب والرومانسية ما يداعب قلبها و روحها، يعطيها لدرجة انها حينما تكون في أحضانه تشعر وكأنها تطير في السحاب وتجلس بين النجوم واللامعة والأقمار المنيرة،
والآن بكلماته وهمساتها جعلتها هي من بادرت باقترابه وكل مرة تريد أن تفاتحه وتواجهه ينسيها بجاذبيته لها حتى عنوانها وهو القوة والشراسة وتصبح كالقط الوديع بين يديه،
حتى أكمل هو حينما قرأ رغبتها باقترابه في عينيها:
ـ وبعدين متقوليش يتيمة داي تاني، أنا أبوكِ وأخوكِ وابنك وكل حاجة بالنسبة لك، أنا الحامي ليكِ من الوحش حتى يا رحمتي .
سألته بنعومة وهي تستغرب حالها في قربه :
ـ هو انت ازاي بتقدر تسحبني اكده ناحيتك وكانك مغناطيس هتشدني لجوة قلبك وعقلك وتنسيني اسمي ونفسي، لاااه هتنسيني كلي؟
باغتها بقبلة حانية من وجنتيها، ناعمة جعلتها تتنفس بصعوبة وهو يجيبها بما جعلها ارتمت داخل أحضانه وبادرت بتقبيله بشغف:
ـ علشان هعشقك بصدق ودفا وحب وإحساس نابعين من جوة القلب، والراجل اللي هيعشق مرَته هيديها كل اللي هتحتاجه من عواطف ببذخ، وأني كمان هحس وياكي إني مش عايز أسيبك، هحس إني هخرج من جنتي على الأرض وأرجع للواقع اللي مفيهوش اي أحاسيس ولا مشاعر.
ثم جذبها من رأسها بعنف وتابع بإحساس مفرط:
ـ قربي مني يا رحمتي مقادرش أتحمَل ولا كلمة تاني.
واقترب العاشقان، الشرسان، المتمردان على كل القواعد التي تجوز ولا تجوز، كل منهما بادر بمشاعره التي تسحب الآخر إلى عالمهم الخاص المختلف، عالم "ماهر البنان" ورحمته الشرسة،
بعد مرور وقتا ليس بالقليل كانت مستقرة في أحضانه تتربع على صدره ويحيطها بيديه وهو يتناول سيجاره بانتشاء، وهي تقص عليه قضية "آدم" فردد هو :
ـ طب وانتِ الخطوات اللي عِملتيها ايه اليومين اللي فاتوا دول؟
قدامك خيطين البت اللي عيملت اكده، وكاميرات المراقبة اللي في الفندق ببساطة جدآ هتبين اللي البنت عِملته ، وإذن من النيابة و "مكة" تروح حداه المكتب وتتفق وياه انها هتطلق من جوزها، وتجرَه في الكلام وتصور لقاها وياها صوت وصورة ، وفي خيط تالت بقى ما لكيش صالح بيه؛ وهو الواد دي طالما هرب برة مصر قبل اكده كيف ما هي خبرتك عنيه، يُبقى وراه بلاوي فسيبي العبد لله يطلع لك البلاوي داي، وفي خلال يومين اتنين هجيب لك الملف بتاعه وأبدعي يا رحمتي،
ثم غمز بإحدى عينيه لها وهتف :
ـ ودي اعتبريها كادوو، اعتذار مني لأي حاجة مزعلاكي ومخلياكي متغيرة وياي، واني والله مظلوم من تفكيرك، وعارف ان انتِ عارفة ان أني مظلوم.
نظرت إليه بشك لتقول:
ـ واه! ايه الألغاز اللي هتتحدت بيها داي عاد؟ مظلوم وظالم إيه ،وهتتحدت عن ايه بالظبط؟
جذبها لأحضانه مرة أخرى وقال:
ـ لاه متاخديش في بالك، وتعالى هعمل لك مساج رايق يروق أعصابك علشان تشتِغلي في القضية داي بضمير وتنقذي ما يمكن إنقاذه.
********
يا حضرة العمدة الحق "سليم" الصغير فتح دماغ عيل صغير وهو راجع من المدرسة والبلد كلاتها مقلوبة، هيقولوا ولد العمدة هيستقوى على الناس وهيتقاتـ.ــل ويا العيال اللصغيرة .
انتفض "عمران" من مكانه غير مصدّقٍ لما سمعه، ولا لما اقترفه ابنه، وارتجف قلب "سكون" حتى كاد يسقط بين قدميها خوفًا على ولدها، هرع الاثنان مسرعين نحو الخارج ليتبيّنا ما حدث، وما إن تجاوزا العتبة حتى أبصرَا عند البوابة أمَّ الطفل، تحتضنه بين ذراعيها، وقد لفّت رأسه بقطعة قماشٍ غارقةٍ بالدماء، وهي تصرخ بأعلى صوتها، ترتجف حنجرتها من شدّة الفزع، ودم ولدها يتساقط على كفّيها كالجمرات، وهي تُصيح بعلو صوتها:
ـ افتح يا عمدة حرام عليكم اللي ابنك عيملَه في ابني، هيستقوى عليه وهيقول لَه؛ ابوي العمدة وهموتك بيدي، وخبطه بدبشاية كَبيرة فتح لَه دماغَه، هو علشان بقيت العمدة هتخلي عيالك تستقوى على عيالنا! حرام عليكم اني ما حدايش غيرَه وهو يتيم الأب.
توقّف "عمران" مذهولًا، وعيناه تتشبّثان بالطفل الغارق في دمائه، المرتجف كعصفورٍ مبتلٍّ في قبضة الخوف، بين يدي أمّه التي تكاد تفيض روحها من الهلع، اقترب سريعاً وانتزع الطفل من بين ذراعيها برفقٍ، محاولًا تهدئتها وهو يفحص جرحه بعينٍ مرتجفة وصوتٍ حازمٍ مشوبٍ بالرأفة:
ـ اهدي يا حاجة الولد هيبقى زين بإذن الله، تعالي يا داكتورة "سكون" شوفي الواد جراله ايه واعملي لَه اللازم.
أسرعت "سكون" بخطى مضطربة، وجلبت حقيبة الإسعافات المنزلية، ثم حملت الطفل الصغير، وأسندته على الأريكة لتداوي جـ.ــرحه النازف، كان الجرح عميقًا يستدعي خياطة عاجلة، فيما كانت أمه تصـ.ـرخ وتلطـ.ــم خديها وتنتزع خصلات شعرها، تنظر إلى صغيرها والدم يسيل كأنه عتاب الحياة لها، الطفل يرتجف بين يدي الغفير المتمسك به، وصدره يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة، بينما "سكون" تحاول أن تخيط جرحه ويدها ترتجف كأنها تخيط في قلبها لا في جسده:
ـ معلَش يا حبيبي ما تقلقش مش هوجعك، أني حطيت لك مخدر، اهدى يا حبيبي هتبقى زين وعال العال .
لم يشعر الطفل بشيء مما كانت تفعله "سكون"، غير أنّ دموعه كانت تفيض خوفًا، وصدره الصغير يرتجف كعصفورٍ مبتلٍّ في ليلة شتاءٍ قاسية، يحدّق في الدم المتسلّل على وجهه كأنه لا يصدق أنه ينـ.ــزف، فـكان جسده النحيف لا يقوى على احتمال ما ناله من ضربات "سليم"، فبنيانه الضعيف انهار أمام قسوةٍ فاقت إدراك الطفولة،
وحين فرغت "سكون"من تضميد جراحه، جاء "عمران" ممسكًا بـ"سليم" الذي كان يقف مضطربًا أمام والده، وجسده يرتعش من الخوف، بينما عيون والده تكاد تشتعل شررًا وهي تستجوبه بصمتٍ مرعب:
ـ احكي اللي حصل بالظبط، كيف تعمل في زَميلك تكده وانت لساتك في سنة أولى ابتدائي، وأول سبوع في المدرسة؟!
ولو كذبت علي في أي حاجة يمين بعظيم يا "سليم" لهربطك في الشجرة داي وهخلي عيال الكفر كلاتهم يتفرجوا عليك.
لم تحتمل "سكون" حدة حديث "عمران" مع "سليم"، فاقتربت بخطواتٍ سريعة، وجذبت ابنها إلى صدرها، تحتضنه بقوةٍ كأنها تخشى أن تسرقه الدنيا منها، تحاول تهدئته من رجفة الخوف التي تسري في جسده كخيط بردٍ يتسلل إلى العظام، وهمست لـ"عمران" بصوتٍ متهدّج:
ـ بالراحة على الولد يا " عمران" مرعوب من طريقتك وياه، اسأله بهدوء، وما تهددهوش علشان يحكي اللي حوصل، هو كمان هدومه متقطعة اهي وشكله انضرب كمان يا حبة عيني.
ضحك "عمران" بسخريةٍ مُرَّة، وضرب كفًّا بكفٍّ في استنكارٍ واضحٍ من حديث "سكون"، والمشهد كله أمام أعين الناس، إذ كانت المرأة مصمّمة على أن تنتزع حقّ ولدها، وتُصرّ أن ينال ابنهم الجزاء نفسه الذي ناله ابنها:
ـ ما تدخليش لو سمحتي يا داكتورة بيني وبين الولد، شايفاني هضـ.ــرُبه بالنـ.ــار عاد؟
هدر بها "عمران" بتلك الكلمات وهو يُرسل إليها نظراتٍ كالجمر المتّقد، ثم عاد ببصره نحو ابنه، والغلظة تعلو صوته وهو يأمره:
ـ احكي يا واد ايه اللي حصل بالظبط من غير ما تكذب يا "سليم" ؟
نطق "سليم" وهو يحكى بلسان بيرجف يحاول تبرئة حاله ببراءة وكأن شيئاً لم يكن:
ـ هو اللي اتشاكل وياي الاول يا ابوي، وخد القلم بتاعي كسره قدام العيال كلاتها، واسالهم هيشهدوا معاي إنه عيمل اكده واصل .
اتفقت كلمات الصغار جميعًا مع ما قاله "سليم"، إلا طفلًا واحدًا تقدّم بخطواتٍ متردّدة نحو "عمران"، وقال بصوتٍ خافتٍ يغشاه الأدب والرهبة، وهو يحكي ما رآه من وجهة نظره:
ـ الكلام اللي قالوه حُصل يا حضرة العمدة، لكن النهاردة بس، وعلشان "سليم" كل يوم يعاير "نجاح" إنه بوه العمدة، وهيحكم البلد كلاتها، وانك زَميل المأمور، ولو هو عيمل حاجة زعلتَه هيخلي المأمور يروح يقبض عليه في بيتَه، وكل يوم هيتريق عليه، وعلى لبسَه وهيقول له؛ انت لابس خلاقين، و"نجاح" يقعد يعيط لأن بوه ميت، وأمَه هي اللي هتربيه، وكل يوم "سليم" هيستقوى عليه إن بوه العمدة.
اتّسعت عينا "عمران" في دهشةٍ وذهول، كأنّ الصدمة سلبت منه النطق لحظةً، ثم التفت نحو "سليم" بنظراتٍ حادّةٍ تشعل الهواء حوله، قبل أن يوجّه بصره إلى الصبية الواقفين وسأل بصوتٍ جهوريٍّ يقطر غضبًا:
ـ الكلام اللي هيقولَه صاحبكم دي هيحصُل يا ولاد ؟
نظر الأولاد جميعهم أرضا وهم يرددون :
ـ حُصل يا عمدة، أصلا "سليم" كل يوم يقف في الفصل ويستقوى علينا إن بوه العمدة ويتباهى باكده، واحنا نضحك عليك وعلى دماغه.
حول "عمران" أنظاره إلى "سليم" وسأله بنظرات حارقه:
ـ الكلام دي حُصل يا "سَليم" ، انت هتستقوى على اصحابك، واستقويت على زَميلك اليتيم وكل يوم هتعايرَه بالهدوم اللي هيلبسها وانه يتيم؟
خفض "سليم" رأسه إلى الأرض، وقد تجمّدت الكلمات في حلقه كأنها شوكٌ لا يُبتلع، فهو يعلم أنّ الكذب عند أبيه جريمة لا تُغتفر، وأنّ نظرة واحدة من "عمران" كفيلة بأن تُخرس لسانه، كانت "سكون" تضمّ ابنها بذراعين مرتجفتين، والخوف يعصف بقلبها كلما ازداد بريق الغضب في عيني زوجها،
وفجأة، كالصاعقة التي تشقّ السماء، انتزع "عمران" ولده من حضنها، وصفعه صفعةً مدوّية أمام الجميع، فارتجّ المكان بصوتها، وشهقت "سكون" بذهولٍ ودموعها تتساقط بلا صوت، كأنّ قلبها هو من بكى لا عيناها،
كانت الصدمة تُكفّن أنفاسها، والوجع يلتهمها بصمتٍ موجعٍ، قبل أن يزمجر "عمران" بصوتٍ يقطّع السكون:
ـ اتفضل اعتذر لزَميلك حالا قدام اصحابك كلاتهم، و حِب على راسَه، واعترف ان انت غلطان في حقه وانك ما هتعملش اكده تاني.
خفض "سليم" رأسه، وعيناه تائهتان في الأرض، تتنازع داخله طفولةٌ مكسورة وكِبرياءٌ صغير يرفض الانحناء، فعجز عن الاقتراب من زميله أو النطق بكلمة اعتذار، كان "عمران" واقفًا كالجبل، لا تلين ملامحه ولا تهدأ نيرانه، بينما "سكون" تتشبّث بابنها بقوةٍ يائسة، تبكي بحرقةٍ مكتومة، كأنّها تحاول أن تغسل بدموعها الإهانة التي طـ.ــعنت قلبها قبل كرامتها،
لكنّ "عمران" لم يرقّ، فمدّ يده بعـ.ــنفٍ وانتزع "سليم" من بين ذراعيها، يهزّه من كتفيه بعنــ.ــفٍ كمن يحاول أن يوقظ ضميره من سباته، وصوته يعلو كالرعد في سماءٍ غاضبة:
ـ كانك مش راجل إياك هتداري في حضن امك وما هتعتذرش عن غلطك عاد؟!
لازمن تتعلَم ان الاعتذار عن الغلط من شيم الرجال، وأني مش هقولك انك ولد العمدة؛ لاااه هقول؛ إنك ولد "عمران سلطان المهدي" اللي عمرَه ما استجوى على حد أبدا، ولا هيعملها ولازمت تعتذر يا "سَليم" ، يا اما هخلي أيامك اللي جاية ولياليك طين.
بكى "سليم" وهو ينظر أرضا لينطق بلسان ثقيل:
ـ مقادرش يا ابوي.
صمم "عمران" على أن يعتذر لزميله ويقبله من رأسه:
ـ اعتذر عن غلطك الشين يا "سَليم" لأن اللي عِملته ما يرضيش رب ولا عبد، واتعوَد من صغرك انك ما تستقواش على حد ابدا مهما كان، وان ما اعتذرتش هتتسحل مني قدام أصحابك دول كلاتهم، وهخليك تسح دم زي ما استقويت على زميلك وخليتَه ينزف الدم دي كلاته .
هنا تحدثت "سكون" وهي تطلب من "عمران" بخوف :
ـ أرجوك يا "عمران" سيبَه دلوك هفهمه وهخليه يروح لـ"نجاح" لحد دارَه واني هروح وياه، ويعتذر له ويبوس راسه كمان، بس سيبني افهمه لحالنا ان اللي عِيملَه غلط من غير زعيق وعلو صوت وإهانة ليه قدام الخلق.
هنا بلغ "عمران" ذروة الغضب، فاحتقن وجهه وتفجّـ.ـر صوته في المكان كالبركان، يهدر بحدةٍ تكشف عمق الصدمة التي سكنت صدره، وهو يصرخ في ابنه وملامحه تتلوّى بين الخيبة والقهر مما فعله وصدمه:
ـ لما اكون بتكلَم ما تنطقيش نهائي، ولو سمحتي ادخلي على دارك وما لكيش صالح عاد باللي هيُحصُل، الواد ولدي مش عايز اكتر في الكلام اكتر من اكده واصل.
تجمّدت "سكون" في مكانها، مبهوتة من هيئة "عمران" وصوته المجلجل أمام الناس، فهذه أوّل مرةٍ تراها منه، وأدركت أن ما يفعله ليس بطبيعته، بل هو غضب شديد بسبب فعلة ابنهم ، كانت تعرف أن "عمران" لا يطيق الظلم، وأن كرامته تُجرَح حين يمدّ أحدهم يده على ضعيفٍ لا حول له،
فنظرت إلى "سليم"، الطفل الذي لم يدرك بعد أنّ قوّته ليست في الضـ.ــرب بل في الرحمة، فاقتربت منه بخطواتٍ هادئة، وجلست إلى مستواه، كأنها تحاول أن تجمع شتاته وتُطفئ النيـ.ــران المشتعلة في صدر أبيه،
ربتت على ظهره بحنانٍ أمٍّ تحاول أن تداوي بالكفّ ما جرحه القسوة، وهمست له بصوتٍ خافتٍ :
ـ اعتذر لزَميلك يا "سَليم" علشان اللي انت عميلته غلط كَبير، وما كانش ينفع تُضـ.ـرب زَميلك وتعوَرَه لحد ما ينزف الدم دي كلاته، اعتذر يا ولدي وبزيادانا فضايح قدام الخلق عاد،انت جميل يا "سَليم" ومعترف بغلطك وعلشان اكده هتعتذر عن اللي عميلته يلا يا ولدي .
اقترب "سليم" من زميله بخطواتٍ متردّدة، كأنّ الأرض ترفض أن تحمله من ثقل الخجل، وتمتم باعتذارٍ خافتٍ بالكاد يُسمع، لكنّ صوت "عِمران" دوّى صارمًا يجلجل في المكان:
ـ ارفع صوتك يا ولد، وخُد خطوة لقدّام، خليه يسمع اعتذارك زي ما سمع إهانتك، وحب على راسه دلوك.
ارتجف "سليم" وهو يقترب أكثر، كأنّ الخوف يمسك بأنفاسه، ثمّ رفع صوته بكل ما تبقّى فيه من قوّةٍ وحياء، وردّد اعتذاره أمام الجميع، ثم انحنى وقبّل رأس زميله وسط دهشة الحاضرين،
تنفّست المرأة الصابرة أمّ الطفل الصغير براحةٍ عميقة، كأنّ حملاً ثقيلاً أزيح عن صدرها، ونظرت إلى "العمدة" بنظرات امتنانٍ ممزوجةٍ بمرارةٍ مكتومة، ثمّ قالت بصوتٍ متهدّجٍ لكنه يحمل وقارًا وألمًا في آنٍ واحد:
ـ شكرا يا عمدة،انا عارفة إنهم عيال، وعارفة ان العيال هتطلع منيهم أكتر من اكده، لكن ولدك لو ما كانش اعتذر عن اللي عيمله مع ولدي كان هيمشي وهيقعد في الفصل وسط أصحابه وهو نفسيته متدمرة ومكسورة ، ومش بَعيد يكره المِدرسة وميروحهاش تاني، وأني محدايش غيره، ورايداه يتعلَم ويوبقى زين، لكن انت دلوك رفعت راسه قدام اصحابه، وكمان ما هتخليش "سَليم" يعمل اكده في حد تاني.
استأذنت المرأة ومضت، تاركة خلفها أثرًا من الحزن والسكينة، فيما أخذت "سكون" ابنها بين ذراعيها وصعدت به إلى الطابق العلوي، بينما كان "عِمران" لا يزال يتحدّث مع أمّ الطفل معتذرًا ومواسيًا،
في الداخل جلست "سكون" على طرف السرير، وضمت "سليم" إلى صدرها، كان يبكي بحرقةٍ مكتومة، كأنّ صوته الصغير يئن من وجعٍ أكبر من سنّه، فمسحت على شعره بحنانٍ أمٍ تُطفئ بنظرتها نيران الدنيا، وقالت له بصوتٍ هادئٍ يشبه النسيم بعد العاصفة:
ـ معلش يا "سَليم" ، معلش يا ولدي ما تزعلش من بوك اللي انت عميلته غلط بس حقك علي، ما تبكيش يا "سَليم" قلبي هيتقطع عليك.
سمع "عمران" كلماتها الأخيرة، فاستدار نحوها بعـ.ــنفٍ كأنّ الشرر يتطاير من عينيه، وزأر بصوتٍ هزّ أركان البيت:
ـ إنتِ كمان هتعتذري لَه، وهو غلطان، والغلط راكبَه من ساسه لراسه! دي دلعك فيهم يا هانم، دي اللي أني كنت هقول لك عليه، من كتر ما إنتِ قفلتي عليهم، وخليتيهم ما يتعاملوش مع البشر، وأول ما شطحوا نطحوا! ابنك هيستقوى على أصحابه، ومفكِّر حالَه ابن رئيس الجَمهورية، وهيستقوى على عيل يتيم غلبان، وهيتمقلت عليه قدّام أصحابه كلّاتهم في الفصل، وحضرتك قاعدة تراضي فيه بدل ما تدي له كلمتين في جنابه! أني مفاهمش إنتِ جرى لمخك إيه عاد؟ ومش مدركة حجم المصيبة اللي ابنك عميلها؟
تجمدت "سكون" في مكانها من شدّة صوته، وارتجف "سليم" في حضنها، أما أمّ عمران التي كانت تقف خلفه، فأسرعت نحوه تمسك بذراعه وهي تقول برجاءٍ وحنانٍ أمويٍّ حارق:
ـ اهدا يا "عمران"، الولد خلاص اتعلّم الدرس، ما تزودهاش يا ابني،العيال ياما هتعمل وانت ياما هتقاسي وياهم انت ما هتخلفش ملايكة، يا ولدي،بزيادك عاد الواد هيرجف في حضن أمه.
لكنّ "عمران" كان كبركانٍ يثور شدة فلم يتوقع يوماً أن يحدث ذلك الموقف من ابنه، فنطقت " سكون" وهي تشعر بالقهر على ابنها:
ـ هو إنت مش كفاية إنك زعقت لي قدّام الناس الغريبه تحت، وكسفتني قدّامهم، وخليتني ما ليش لازمة ومواعيش! ولا واخد بالك إن دي ابني زي ما هو ابنك بالظبط؟ ما كانش ينفع إن إنت تكسره وتقهره قدّام أصحابه! فيها إيه لو كنت أخدته يعتذر لصاحبه في البيت حداه، وكان هيعتذر عن غلطه برده، وما كانش هتكسر نفسه قدّامهم، ولا هتهينَه بالشكل دي، وهتخليه هو كمان مقلّته للعيال ولبانه في بقهم! واني ولادي ما يجرى لهمش اكده واصل!
وأكملت بما جعل "عمران" واقفا ينظر إليها بنيران مستعرة :
ـ وبعدين داي خناقة عيال عادي هتحُصُل في أي مدرسة ما بين العيال وبعضهم، ما كانش فيه داعي تكبِر الموضوع وتهين ولدي أكتر من اكده وياما هيُحصل بين العيال وبعضها.
فجأة، انفـ.ــجر "عمران" كما ينفـ.ــجر البركان بعد طول احتقان، صوته دوّى في أرجاء البيت كالرعد، وملامحه اشتعلت غضبًا لا يُوصف، فصرخ بعلوٍّ لم يعهده فيه أحد:
ـ أهدِي كيف؟! المرة الجايّـة هلاقي الباشا قاتـ.ــل قتـ.ــيل، علشان حضرتِك عامِلة تدلّعي فيه وما واخداش بالك من المَصيـبـة اللي هو عميلـها، وإنتِ المفروض ما تطبّطيش عليه من الأَساس.
لكن إنتِ السبب في اللي وصل له؛ العيال واحد شَخصيّـته ضعيفـة وما يقدِرش يعمل حاجـة من غير ما التّاني يوجّهُه، والتّاني ماشي يستقوَى على خلقِ "الله"، والتالتة لِسانُها طويل، واللي يكلمها تردّ له الكلمة عشرة.
وده كلّـه من دلعِك فيهم يا هانم، ومفكِّرة إنّك اكده هتحنّي عليهم وما تعرِفيش إنّك هتبوّظيهم بدلعك، وكلّ ما أجي أنصَح عِيل كلمة تِبعَديه وتِحوّشِيه عنّي كأني هاكُلهم .
ثم ضـ.ـرب بيده على الطاولة بعـ.ــنفٍ اهتزّ له المكان، والعرق تساقط من جبينه كأنّ النــ.ــار تتفـ.ــجّر داخله، ولأول مرة نظرت إليه "سكون" برعبٍ مكتوم، بينما أمّه وقفت مذهولة:
ـ اعملي حسابِك من النهاردة، العيال دي كل يوم هيجيلي تقرير عنيهم وعن يومهم، حذاري؛ يا "سكون" بعد اكده أجي أتكلَم مع حد فيهم وتدخلي بيناتنا، مش هسيبهم لما يضيعوا بسبب دلعِك لهم،
التربيـة مش اكده يا "هانم"، التربيـة شِدّة واسترخاء؛ لازم الأولاد يتعلَّموا الأدب والعطاء وعدم التكبّر وعدم التنمّر، التربيـة مش بس إن إحنا ناكلهم زين ونعلمهم زين ونلبّسهم زين؛ التربيـة قبل أي رفاهيـة في الحياة، خدي ولادِك واعلّميهم الأدب.
وفي تلك اللحظة، بدا "عمران" كالسيف المجرّد، لا يهاب شيئًا ولا يرى أمامه سوى خطأ يريد محوه، أما صوته فكان كصوت الريح العاتية التي لا تعرف رحمة، تُهدّد كل ساكنٍ في طريقها فهو لن يسمح بأن صغاره يستقوو على الضعيف:
ـ وقسما عظما الكلام ليكم انتوا التلاتة، لو حد اشتكى منكم تاني لا هتشوفوا وش عمركم ما شفتوه في حياتكم، الظاهر ان دلعي ليكم واني هعاملكم كيف ما تكونو اصحابي خلاكم تتفرعنوا على خلق الله.
أنهى صياحه وخرج من البيت كالعاصفة، يلهث غضبًا، ونفَسه يعلو ويهبط كأنّ النار تشتعل في صدره، لا يطيق حتى ظِلّ نفسه، ولا يريد أن يسمع صوتًا أو يرى وجهًا، خطواته كانت ثقيلة كأنها تضرب الأرض ضربًا، والهواء من حوله يشتعل بأنفاسه الساخنة،
أما "سكون"، فانهارت على الأرض وهي تحتضن ولديها بقوةٍ وكأنها تخشى أن يُنتزعوا منها، تبكي بحرقةٍ تجرح القلب، ودموعها تنهمر كالسيل وانتوت على أن تأخذهم وتذهب إلى بيت أبيها ولكن اقتربت منها "زينب" بخطواتٍ بطيئة، وصوتها يحمل كل الحنان والرجاء، تهمس لها وهي تمسح على كتفيها برفقٍ كنسمةٍ باردةٍ بعد لهيب:
ـ اهدي يا بتي، ما تكبّريش الموضوع، "عمران" غضبان، بس هيرجع ويهدى واللي حوصل من الوِلد شين، إوعى تكسري البيت وقت الغضب، أصل الكلمة اللي بتتقال في لحظة نار، ساعات بتحـ.ــرق العمر كلاته، وخروجك من البيت بالعيال هيكسر حاجة كَبيرة بينك وبين جوزك، وأني عارفة ولدي زين.
لكن "سكون" لم تُجب، فقط زاد بكاؤها، وعيناها تائهتان في الفراغ، بين جرح الكبرياء وخوف الأم، وبين قلبٍ يُحب وعقلٍ أرهقه الألم من هول ما حدث ولم تعتاده فتابعت "زينب" نصحها:
ـ وبعدين هو اني مش زي أمك بردو يابتي، ما تطلعيش شقتك النهاردة واقعدي وياي انتِ والعيال علشان ما تتخانقوش تاني، وكمان يا بتي لو حكِمتي أي حد على اللي حوصل هيقول لك؛ عيالَه وهيربيهم، وكمان متزعليش مني انتِ غلطتي وعليتي صوتك على جوزك ،ودي حكم العدل مش عشان ولدي والله .
ظلت تهدئها وأخذتها بين أحضانها الحنون تربت على ظهرها إلى أن هدأت واستكانت، وأخذت تحنو على الصغار وتهدهدهم وتلعب معهم فهم من بقوا لها ولا تستطيع العيش في المنزل بدونهم .
*******
ذهبت "كوكي" إلى مكتب "ماهر"، وبعد أن جلسا يتبادلان الحديث قليلًا عن أحوالها وسفرها، التمعت الدهشة في عينيها وسألته باستغرابٍ هادئٍ يحمل في طيّاته الفضول:
ـ شو مشان زوجتك حساها تتعامل معاي هادي الأيام بطريقة مختلفة، عم تسألني بجيب لبسي منين؟ بطريقة حنونة وكاني اختها وطريقتها اتبدلت 180 درجة أخي، صرت لا أفهم مرتك، هل هي طيبة ولا شريرة؟ هل هي مرة قوية ولا ضعيفة؟ ازاي هتتعامل ويا تقلباتها ازاي يا اخي
ضحك "ماهر" من كلام أخته عن "رحمة" وهو يقول لها:
ـ اتعوَدت على طبعها، بس صدقيني هي حنينة رغم شراستها اللي هتبينها في التعامل مع غيرها، وكمان هتعترف بغلطها بسهولة، وغير كل دي أني وهي هنعشق بعضنا كَتير فوق ما تتصوري، شفتي انتِ عشق أساطير زمان اللي دوشتيني بيهم؛ هو دي عشقي أني و "رحمة".
ابتسمت "كوكي" لحديثِ أخيها، وهي تصفِّقُ بيديها كالأطفالِ في لحظةِ فرحٍ بريئة، تتراقصُ الضحكةُ على شفتيها كما يتراقصُ الضوءُ على صفحةِ ماءٍ صافٍ:
ـ والله يا اخي انا شفت معاك انت وهي العجايب، شوي تتخانقوا، وشوي تتصالحوا، وشوي صوتكم يبقى عالي، وشوي صوتكم يبقى هادي، هو ده هاد عشق الأساطير اللي بلشت تحاكيني عنه! والله شو هذا العشق اللي مليان شراسة وتحدي؟
حرك "ماهر" رأسه بابتسامة على كلام أخته وهو يرد عليها بأريحية :
ـ هو كل العشق في وجهه نظرك دلع ومياصة بتوع شباب اليومين دول؟ اني وهي حالة خاصة، مختلفة ما هتلاقيش زييها واصل بين اي اتنين، وهو دي العشق اللي هيدوم لانه مختلف، في تجدد في العلاقة ما بيني وما بينها، وهي أخدت على طبعي واني أخدت على طبعها، ولا أني أقدِر استغنى عنيها، ولا هي كمان تقدر تستغنى عني، هتقولي ايه القط هيحب خنَاقه.
كانت تستمع له بإنصات شديد وهي معجبة بكلامه و ردُّه:
ـ جميل اخي والله اشتقت لاني احب وانحب، واشوف فارس الأحلام تبعي هيبقى عامل ازاي؟ بس هلا خبرني؛ هي بقت تتعامل وياي بعطف وصوتها ما بقى يعلى علي، وبقت تشاركني اللعب انا و"فيروز" ومختلفة هاد المرة معاي عن كل مرة، هاد المرة هتجنني وياها، مو فهمانة عليها اخي .
ضحك "ماهر" بصوت عالي وأعاد رأسه على كرسي مكتبه وهو يحرك القلم بين يديه باستمتاع وهو يخبرها بما صدمها:
ـ متستغربيش يا بابا، هي هديت من ناحيتك علشان عرفت إننا أخوات وعلشان اكده هتعاملك زين وبطلت غيرة وخناق ناحيتك .
اندهشت الأخرى وغر فاهها ونطقت بذهول:
ـ بلا والله! انتو التنين والله هتجننوني وهتخربطولي عقلي!
كيف عرفت وما واجهتك ولا واجهتني، وشو هالثبات الانفعالي انت واياها؟
أجابها باستمتاع وابتسامة رجولية زينت ثغره:
ـ هي مفكِرة حالها أذكى من الخط، أني اللي عرفتها بطريقتي انك نفسك أختى اللي هي ناسياها .
هتفت بذهول:
ـ ايه والله! كيف أخي والله ما انك سهل ابنوب؟
ضحك عالياً وردد من بين ضحكاته:
ـ علشان اني اللي وصلتها للناس اللي من خلالهم عرفت اسمك وانك اختي، وطبعا علشان هي عايزه تلاعبني وتخليني اشك في معاملتها الحلوة ليكي وانها مبقاش فارق لها، وان غيرتها ما بقتش موجودة، عايزة تردي لي القلم يعني ان اني خبيت عليها، وهي ما تعرِفش إن أني اللي ورا كل دي، فسايبها تتهنى شوية وتحس فعلاً إنها هتلاعبني وهتنتقم، وانها بتلعب بأعصابي، مرة تُبقى حلوة، ومرة تخاصمني، و مرة تصالحني، وبصراحة اني عاجبني اللعب معاها قوي ومستمتع كمان.
ضربت كف بكف ونطقت :
ـ والله أخي "ماهر" كلياتكن مسليين وأني عجبتني التمثيلية الخاصة فيكن، ومن هلا ورايح هحب مرت أخي واخدها في حضني على كيفي .
